الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

نفس الأول ، لا شيئا غيره ، فالله سبحانه ، بحكم الصغرى صرف الوجود ، والصرف لا يتعدد ولا يتثنّى. فينتج أنّ الله سبحانه واحد لا يتثنّى ولا يتعدّد.

* * *

خرافة التثليث : الأب والابن وروح القدس

قلّما نجد عقيدة في العالم تعاني من الإبهام والغموض كما تعانى منها عقيدة التثليث في المسيحية.

إنّ كلمات المسيحيين في كتبهم الكلامية تحكي عن أنّ الاعتقاد بالتثليث من المسائل الأساسية التي تبنى عليها عقيدتهم ، ولا مناص لأي مسيحي من الاعتقاد به. وفي الوقت نفسه يعتقدون بأنّه من المسائل التعبدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي ، لأن التصورات البشرية لا تستطيع أن تصل إلى فهمه ، كما أن المقاييس التي تنبع من العالم المادي تمنع من إدراك حقيقة التثليث ، لأن حقيقته حسب زعمهم فوق المقاييس المادية.

هذا ومع تركيزهم على التثليث في جميع أدوارهم وعصورهم يعتبرون أنفسهم موحدين غير مشركين ، وأنّ الإله في عين كونه واحدا ثلاثة ، ومع كونه ثلاثة واحد أيضا. وقد عجزوا عن تفسير الجمع بين هذين النقيضين ، الذي تشهد بداهة العقل على بطلانه وأقصى ما عندهم ما يلي :

إنّ تجارب البشر مقصورة على المحدود ، فإذا قال الله بأنّ طبيعته غير محدودة تتألف من ثلاثة أشخاص ، لزم قبول ذلك ، إذ لا مجال للمناقشة في ذلك وإن لم يكن هناك أي مقياس لمعرفة معناه. بل يكفي في ذلك ورود الوحي به ، وأنّ هؤلاء الثلاثة يشكلون بصورة جماعية «الطبيعة الإلهية اللامحدودة» وكل واحد منهم في عين تشخصه وتميزه عن الآخرين ، ليس بمنفصل ولا متميز عنهم ، رغم أنه ليست بينهم أية شركة في الألوهية ، بل

٢١

كل واحد منهم إله مستقل بذاته ومالك بانفراده لكامل الألوهية ، فالأب مالك بانفراده لتمام الألوهية وكاملها ، من دون نقصان. والابن كذلك مالك بانفراده لتمام الألوهية ، وروح القدس هو أيضا مالك بانفراده لكمال الألوهية ، وأنّ الألوهية في كل واحد متحققة بتمامها دون نقصان.

هذه العبارات وما يشابهها توحي بأنهم يعتبرون مسألة التثليث فوق الاستدلال والبرهنة العقلية ، وأنها بالتالي «منطقة محرمة على العقل» ، فلا يصل إليها العقل بجناح الاستدلال. بل المستند في ذلك هو الوحي والنقل.

ويلاحظ عليه أولا : وجود التناقض الواضح في هذا التوجيه الذي تلوكه أشداق البطاركة ومن فوقهم أو دونهم من القسيسين. إذ من جانب يعرّفون كل واحد من الآلهة الثلاثة بأنه متشخص ومتميز عن البقية ، وفي الوقت نفسه يعتبرون الجميع واحدا حقيقة لا مجازا. أفيمكن الاعتقاد بشيء يضاد بداهة العقل ، فإنّ التميّز والتشخص آية التعدد ، والوحدة الحقيقية آية رفعهما ، فكيف يجتمعان؟.

وباختصار ، إن «البابا» وأنصاره وأعوانه لا مناص أمامهم إلّا الانسلاك في أحد الصفين التاليين : صف التوحيد وأنه لا إله إلّا إله واحد ، فيجب رفض التثليث ، أو صفّ الشرك والأخذ بالتثليث ورفض التوحيد. ولا يمكن الجمع بينهما.

ثانيا : إن عالم ما وراء الطبيعة وإن كان لا يقاس بالأمور المادية المألوفة ، لكن ليس معناه أنّ ذلك العالم فوضوي ، وغير خاضع للمعايير العقلية البحتة ، وذلك لأن هناك سلسلة من القضايا العقلية التي لا تقبل النقاش والجدل ، وعالم المادة وما وراءه بالنسبة إليها سيان ، ومسألة امتناع اجتماع النقيضين وامتناع ارتفاعهما واستحالة الدور والتسلسل وحاجة

٢٢

الممكن إلى العلة ، من تلك القواعد العامة السائدة على عالمي المادة والمعنى.

فإذا بطلت مسألة التثليث في ضوء العقل فلا مجال للاعتقاد بها. وأما الاستدلال عليها من طريق الأناجيل الرائجة فمردود بأنها ليست كتبا سماوية ، بل تدل طريقة كتابتها على أنها ألّفت بعد رفع المسيح إلى الله سبحانه أو بعد صلبه على زعم المسيحيين. والشاهد أنه وردت في آخر الأناجيل الأربعة كيفية صلبه ودفنه ثم عروجه إلى السماء.

ثالثا : إنهم يعرّفون الثالوث المقدس بقولهم : «الطبيعة الإلهية تتألف من ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر ، أى الأب والابن وروح القدس ، والأب هو خالق جميع الكائنات بواسطة الابن ، والابن هو الفادي ، وروح القدس هو المطهر. وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ، ذات رتبة واحدة وعمل واحد».

فنسأل : ما هو مقصودكم من الآلهة الثلاثة فإن لها صورتين لا تناسب أيّة واحدة منهما ساحته سبحانه :

١ ـ أن يكون لكل واحد من هذه الآلهة الثلاثة وجود مستقل عن الآخر بحيث يظهر كل واحد منها في تشخّص ووجود خاص ، ويكون لكل واحد من هذه الأقانيم أصل مستقل وشخصية خاصة متميزة عما سواها.

لكن هذا شبيه الشرك الجاهلي الذي كان سائدا في عصر الجاهلية وقد تجلى في النصرانية بصورة التثليث. وقد وافتك أدلة وحدانية الله سبحانه.

٢ ـ أن تكون الأقانيم الثلاثة موجودة بوجود واحد ، فيكون الإله هو المركب من هذه الأمور الثلاثة وهذا هو القول بالتركيب وسيوافيك أنه سبحانه بسيط غير مركب. لأن المركب يحتاج في تحققه إلى أجزائه ، والمحتاج ممكن غير واجب.

٢٣

هذه هي الإشكالات الأساسية المتوجهة إلى القول بالتثليث.

تسرّب خرافة التثليث إلى النصرانية

إنّ التاريخ البشري يرينا أنه طالما عمد بعض أتباع الأنبياء ـ بعد وفاة الأنبياء أو خلال غيابهم ـ إلى الشرك والوثنية ، تحت تأثير المضلين. وبذلك كانوا ينحرفون عن جادّة التوحيد الذي كان الهدف الأساسي والغاية القصوى لبعثهم. إنّ عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى (عليه‌السلام) ، أفضل نموذج لما ذكرناه ، وهو مما أثبته القرآن والتاريخ. وعلى هذا فلا داعي إلى العجب إذا رأينا تسرب خرافة التثليث إلى العقيدة النصرانية بعد ذهاب السيد المسيح (عليه‌السلام) وغيابه عن أتباعه.

إن تقادم الزمن رسّخ موضوع التثليث وعمّقه في قلوب النصارى وعقولهم ، بحيث لم يستطع أكبر مصلح مسيحي ـ أعني لوثر ـ الذي هذب العقائد المسيحية من كثير من الأساطير والخرافات ، وأسس المذهب البروتستانتي ، أن يبعد مذهبه عن هذه الخرافة.

إنّ القرآن الكريم يصرح بأن التثليث دخل النصرانية بعد رفع المسيح من المذاهب السابقة عليها ، حيث يقول تعالى : (وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ، ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (١).

لقد أثبتت الأبحاث التاريخية أنّ هذا التثليث كان في الديانة البرهمانية قبل ميلاد السيد المسيح بمئات السنين. فقد تجلى الرب الأزلي الأبدي لديهم في ثلاثة مظاهر وآلهة :

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٣٠.

٢٤

١ ـ براهما (الخالق).

٢ ـ فيشنو (الواقي).

٣ ـ سيفا (الهادم).

وقد تسربت من هذه الديانة البراهمانية إلى الديانة الهندوكية ، ويوضح الهندوس هذه الأمور الثلاثة في كتبهم الدينية على النحو التالي :

«براهما» هو المبتدئ بإيجاد الخلق ، وهو دائما الخالق اللاهوتي ، ويسمى بالأب.

«فيشنو» هو الواقي الذي يسمى عند الهندوكيين بالابن الذي جاء من قبل أبيه.

«سيفا» هو المفني الهادم المعيد للكون إلى سيرته الأولى.

وبذلك يظهر قوة ما ذكره الفيلسوف الفرنسي «غستاف لوبون» قال : «لقد واصلت المسيحية تطورها في القرون الخمسة الأولى من حياتها ، مع أخذ ما تيسر من المفاهيم الفلسفية والدينية اليونانية والشرقية ، وهكذا أصبحت خليطا من المعتقدات المصرية والإيرانية التي انتشرت في المناطق الأوروبية حوالي القرن الأول الميلادي ، فاعتنق الناس تثليثا جديدا مكونا من الأب والابن وروح القدس ، مكان التثليث القديم المكون من «نروبى تر» و «وزنون» و «نرو» (١).

القرآن ونفي التثليث

إنّ القرآن الكريم يذكر التثليث ويبطله بأوضح البراهين وأجلاها ، يقول : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ

__________________

(١) قصة الحضارة.

٢٥

صِدِّيقَةٌ ، كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) (١). وهذه الآية تبطل ألوهية المسيح وأمه ، التي كانت معرضا لهذه الفكرة الباطلة ، بحجة أن شأن المسيح شأن بقية الأنبياء وشأن الأم شأن بقية الناس ، يأكلان الطعام. فليس بين المسيح وأمه ، وبين غيرهما من الأنبياء والرسل وسائر الناس أي فرق وتفاوت ، فالكل كانوا يأكلون عند ما يجوعون ويتناولون الطعام كلما أحسوا بالحاجة إليه. وهذا العمل منضما إلى الحاجة إلى الطعام ، آية المخلوقية.

ولا يقتصر القرآن على هذا البرهان ، بل يستدل على نفي ألوهية المسيح بطريق آخر ، وهو قدرته سبحانه على إهلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا ، والقابل للهلاك لا يكون إلها واجب الوجود.

يقول سبحانه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢). وفي هذه الآية وردت ألوهية المسيح وأبطلت من طريق قدرته سبحانه على إهلاكه. ويظهر من سائر الآيات أنّ ألوهيته كانت مطروحة بصورة التثليث ، قال سبحانه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ، وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) (٣).

وعلى كل تقدير ، فقدرته سبحانه على إهلاك المسيح (عليه‌السلام) أدل دليل على كونه بشرا ضعيفا ، وعدم كونه إلها ، سواء أطرح بصورة التثليث أم غيره.

ثم إنّ القرآن الكريم كما يفنّد مزعمة كون عيسى بن مريم إلها ابنا لله في الآيات المتقدمة ، يرد استحالة الابن عليه تعالى أيضا على وجه الإطلاق

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٧٥.

(٢) سورة المائدة : الآية ١٧.

(٣) سورة المائدة : الآية ٧٣.

٢٦

سواء أكان عيسى هو الابن أو غيره ، بالبيانات التالية :

١ ـ إنّ حقيقة البنوة هو أن يجزّئ واحد من الموجودات الحيّة شيئا من نفسه ثم يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من الخواص والآثار ما كان يترتب على الأصل. كالحيوان يفصل من نفسه النطفة ثم يأخذ في تربيتها حتى تصير حيوانا. ومن المعلوم أنه محال في الله سبحانه ، لاستلزامه كونه سبحانه جسما ماديا له الحركة والزمان والمكان والتركب (١).

٢ ـ إنّه سبحانه ، لإطلاق ألوهيته وخالقيته وربوبيته على ما سواه ، يكون هو القائم بالنفس وغيره قائما به ، فكيف يمكن فرض شيء غيره يكون له من الذات والأوصاف والأحكام ما له سبحانه من غير افتقار إليه؟.

٣ ـ إن تجويز الاستيلاد عليه سبحانه يستلزم جواز الفعل التدريجي عليه وهو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة والحركة ، وهو خلف ، بل يقع ما شاء دفعة واحدة من غير مهلة ولا تدريج.

والدقة في الآيتين التاليتين تفيد كل ما ذكرنا ، قال سبحانه :

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ ، بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ* بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

فقوله : (سُبْحانَهُ) ، إشارة إلى الأمر الأول.

وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) ، إشارة إلى الأمر الثاني.

__________________

(١) ستوافيك أدلة استحالة كونه جسما أو جسمانيا وما يستتبعانه من الزمان والمكان والحركة.

(٢) سورة البقرة : الآيتان ١١٦ و ١١٧.

٢٧

وقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى ...) ، إشارة إلى الأمر الثالث (١).

إنّ القرآن الكريم يفند مزعمة «التثليث» ببراهين عقلية أخرى ، فمن أراد الوقوف على الآيات الواردة في هذا المجال وتفسيرها ، فليرجع إلى الموسوعات القرآنية (٢).

__________________

(١) لاحظ (الميزان) ، ج ٣ ، ص ٢٨٧.

(٢) لاحظ ما ذكره الأستاذ دام حفظه في موسوعته القرآنية (مفاهيم القرآن) ، ج ١ ، ص ٢٦٤ ـ ٢٧٢.

٢٨

التوحيد في الذات

(٢)

أحد : بسيط لا جزء له خارجا ولا ذهنا

قد عرفت أن التوحيد الذاتي يفسر بمعنيين : الأول : إنّه واحد لا مثل له ، والثاني : إنه أحد لا جزء له ، ويعبر عن الأول بالتوحيد الواحدي وعن الثاني بالتوحيد الأحدي وقد عرفت دلائل التوحيد بالمعنى الأول ، وإليك البحث في المعنى الثاني فنقول :

التركيب يتصور على قسمين :

الأول : التركيب الخارجي ، كتركيب الشّيء من أجزاء خارجيّة ، من عناصر مختلفة كالعناصر المعدنية والمركبات الكيميائية. وهذا القسم من التركيب مستحيل عليه سبحانه ، لأن الشيء المركب من مجموعة أجزاء ، محتاج في وجوده إليها ، والمحتاج إلى غيره معلول له ولا يوصف بوجوب الوجود والألوهية ، هذا.

مضافا إلى أنّ الأجزاء المؤلّفة للذات الإلهية ، إما أن تكون «واجبة الوجود» فيعود إلى تعدد الآلهة وتكثر واجب الوجود ، وقد فرغنا عن امتناعه أو تكون ممكنة الوجود ، وفي هذه الصورة تكون نفس تلك الأجزاء محتاجة إلى غيرها ، ويكون معنى هذا أنّ ما فرضناه «إلها واجب الوجود» معلول

٢٩

لأمور ممكنة هي في حدّ نفسها معلولة لموجود أعلى ، وهذا أمر محال.

الثاني : التركيب العقلي ، والمراد منه هو كون الشيء بسيطا خارجا ولكنه ينحلّ عند العقل إلى شيئين وهذا كالجنس والفصل وما يقوم مقامهما ، فإن وزان الجنس عند العقل غير وزان الفصل فواقع الإنسانية وإن كان شيئا واحدا في الخارج ، لكنّه ينحل في العقل إلى ما به الاشتراك وهو الحيوانية ، وما به الامتياز وهو الناطقية.

وهناك قسم آخر من التركيب العقلي أدق من تركب الشيء من جنسه وفصله ، وهو كون كل ممكن مركبا من وجود وماهية حتى اشتهر قولهم : «كل ممكن زوج تركيبي له ماهية ووجود». وهذه الكلمة لا تعني أنّ هناك شيئا يقابل الوجود وشيئا آخر يقابل الماهية ، بل ليس في الخارج إلّا شيء واحد وهو الوجود ، ولكن الماهية تبين مرتبته الوجودية كالجماد والنبات والحيوان وغيرها كما أن الوجود يحكي عن عينيته الخارجية التي تطرد العدم.

والتركيب في هذا القسم أدقّ من التركيب في القسم السابق أي تركب الشيء من جنسه وفصله ومع ذلك كله فهذا النوع من التركيب محال عليه سبحانه ، إذ لو كان له ماهية ، وشأن الماهية في حد ذاتها أن تكون عارية عن الوجود والعدم ، قابلة لعروضهما ، فعندئذ يطرح السؤال نفسه : ما هي العلّة التي أفاضت عليها الوجود؟ والمحتاج إلى شيء آخر يفيض الوجود على ماهيته يكون ممكنا لا واجبا. ولأجل ذلك ذهب الحكماء من الإلهيين إلى بساطة ذاته وتنزيهه عن أي تركيب خارجي أو عقلي وبالتالي كونه منزها عن الماهية.

ثم إنّ ما جاء في صدر سورة التوحيد يمكن أن يكون دالا على هذا النوع من التوحيد ، قال سبحانه :

٣٠

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) فهو يقصد ردّ التثليث التركيبي الذي تتبناه النصارى أو ما يماثل ذلك التركيب.

والدليل على ذلك هو أنّه لو كان المقصود من توصيفه ب «أحد» غير البساطة للزم التّكرار بلا جهة لتعقيبه ذلك بقوله في ذيل السورة : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فصدر السورة ناظر إلى التوحيد بمعنى البساطة ، كما أنّ ذيلها ناظر إلى التوحيد بمعنى نفي الشيء والنظير له ، ويتضح ذلك إذا وقفنا على أن السورة برمتها نزلت في رد عقائد المسيحيين ، وإن لم يرد ذكرهم بالاسم.

وبذلك تقف على قيمة كلمة قالها الإمام الطاهر علي بن الحسين السجاد (عليه‌السلام) : «إنّ الله عزوجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمّقون ، فأنزل الله عزوجل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، اللهُ الصَّمَدُ) والآيات من سورة الحديد ... إلى قوله : (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ، فمن رام ما وراء هنالك هلك (٢).

وهناك حديث بديع عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) يشير فيه إلى كلا التوحيدين أي كونه واحدا لا مثيل له ، وواحدا لا جزء له ، قال (عليه‌السلام) : وأمّا الوجهان اللّذان يثبتان فيه فقول القائل :

١ ـ هو واحد ليس له في الأشياء شبه.

٢ ـ إنّه عزوجل أحديّ المعنى : لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم» (٣).

__________________

(١) سورة الإخلاص : الآية ١.

(٢) توحيد الصدوق ، ص ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، طبعة الغفاري.

(٣) توحيد الصدوق ، ص ٨٣ ـ ٨٤. وهذه المفاهيم العالية الواردة في هذه الأحاديث آية كون العترة الطاهرة وارثة لعلوم النبي الأكرم وكونهم خلفاءه في الأرض.

٣١

ثم إن هناك قسما ثالثا من التركيب أوجد باختلاف الآراء منه فرقا ومناهج فكريه عديدة وهو زيادة صفاته على ذاته وهو ما نطرحه في القسم الثالث ـ التالي ـ من أقسام التوحيد.

* * *

٣٢

التوحيد في الصفات

(٣)

صفاته عين ذاته

اتّفق الإلهيون على كونه تعالى متصفا بصفات الكمال والجمال ، من العلم والقدرة والحياة وغيرها من الصفات الذاتيّة ، ولكنهم اختلفوا في كيفية إجرائها عليه سبحانه على أقوال :

الأول : نظرية المعتزلة

إنّ كيفية إجراء صفاته سبحانه على ذاته أوجد هوّة سحيقة بين المعتزلة والأشاعرة فمشايخ الاعتزال ـ لأجل حفظ توحيده سبحانه وتنزيهه عن التركيب من الذات والصفات ـ ذهبوا إلى أنّ ملاك إجراء هذه الصفات هو الذات وليست هناك أية واقعية للصفات سوى ذاته.

توضيحه : إنّ حقيقة نظرية المعتزلة هي نظرية نيابة الذات عن الصفات من دون أن يكون هناك صفة وذلك لأنهم رأوا أنّ الأمر في أوصافه سبحانه يدور بين محذورين :

أولهما : إنّا لو قلنا بأنّ له سبحانه صفات كالعلم ، وجب الاعتراف بأنّ هناك ذاتا وصفة ، لأنّ واقعية الصّفة هي مغايرتها للموصوف ، ولا يمكن أن

٣٣

يكون هنا صفة ولا تكون غير الموصوف ، فعندئذ يلزم التركّب فيه سبحانه من ذات وصفة ، وهو محال.

وثانيهما ـ إنّ نفي العلم والقدرة وسائر الصفات الكمالية عنه سبحانه يستلزم النقص في ذاته أولا ، ويكذّبه إتقان آثاره وأفعاله ثانيا.

فالمخلص والمفرّ من هذين المحذورين ، انتخاب نظرية النيابة ، وهي أن نقول بنيابة الذات مناب الصفات ، وإن لم يكن هناك واقعية للصفات وراء الذات.

هذا هو المشهور عن المعتزلة وممن صرح به منهم عبّاد بن سليمان قال : «هو عالم ، قادر ، حي ، ولا أثبت له علما ، ولا قدرة ولا حياة ولا أثبت سمعا ولا أثبت بصرا ، وأقول هو عالم لا بعلم ، وقادر لا بقدرة ، وحيّ لا بحياة ، وسميع لا بسمع ، وكذلك سائر ما يسمّى من الأسماء التي يسمّى بها» (١).

يلاحظ عليه ـ أولا : إنّه لم يتحقق أنّ ما ذكر من قضية النيابة رأي جميع المعتزلة بل إن هناك جماعة منهم يذهبون إلى ما هو المختار عند الإمامية من عينية صفاته مع ذاته بمعنى أنّ الذّات هي نفس العلم والقدرة والحياة لا أنها خالية عن الصفات تنوب منابها (٢).

وثانيا : إنّ المعتزلة يتصورون أنّ حقيقة الصفة ترجع إلى أمر زائد على الذات ، ولا يتصور كون الشيء وصفا مع كونه نفس الذات وعينها وما ذلك إلا لملاحظة الصفة في الموجودات الإمكانية فالعلم في الإنسان وصف وهو غير الذات ، كما أنّ القدرة كذلك ، فاتخذوه ضابطة كلية حتى في مقام

__________________

(١) مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ٢٢٥.

(٢) قد جمع الأستاذ دام حفظه كلمات المعتزلة في هذا المقام في محاضراته القيمة في الملل والنحل ، ج ٢ الفصل السادس عند البحث عن كون علمه زائدا على الذات أو لا.

٣٤

الذات الإلهية ، فجعلوا كون الشيء وصفا ملازما للزيادة وعارضا على الذات ، فوقعوا في محذور خاص وهو أنّ إثبات الصفات يستلزم تركب الذات من ذات ووصف أولا ، وخلو الذات عن الكمال ثانيا ، كما تقدم في كلامهم ، ولأجل رفع هذين المحذورين ذهبوا إلى نفي الصفات وقيام الذات منابها.

ولكنهم لو وقفوا على أنّ ما اتخذوه ضابطة (كون الصفة غير الذات) ليس ضابطة كلية وإنما يختص ببعض الموجودات الإمكانية ، لوقفوا على أنّ من الممكن أن تبلغ الذات في الكمال والجمال مرتبة عالية تكون نفس العلم والانكشاف ونفس القدرة والحياة ، ولم يدل دليل على أنّ الصفة في جميع المراتب عرض قائم بالذات بل لهذه الأوصاف عرض عريض ومراتب متفاوتة. ففي مرتبة يكون العلم عرضا ، كما في علمنا بالأشياء الخارجية ، وفي مرتبة يكون جوهرا كما في علمنا بأنفسنا ، وفي مرتبة يكون واجبا نفس الذات كما سيوافيك بيانه ، وعدم إطلاق الصفة على مثل هذا العلم لغة ، لا يضرنا لأن الحقائق لا تقتنص عن طريق اللّغة. ولو كان الداعي إلى القول بالنيابة هو التحفظ على التوحيد وبساطة الذات ، فالتوحيد ليس رهن القول بها فقط ، بل هو كما يحصل بها ، يحصل بالقول الآخر الذي يتضمن عينية الصفات والذات ، مع الاعتراف بواقعية الصفة فيها وبذلك يتميز عن القول بالنيابة.

الثاني : نظرية الأشاعرة

إنّ الأشاعرة ذهبت إلى وجود صفات كمالية زائدة على ذاته سبحانه مفهوما ومصداقا ، فلا تعدو صفاته صفات المخلوقين إلّا في القدم والحدوث فالصفات في الواجب والممكن زائدة على الذات غير أن صفات الأول قديمة وفي غيره حادثة.

٣٥

واستدل عليه الأشعري في «اللّمع» و «الابانة» بوجهين :

الوجه الأول ـ إنّ كونه سبحانه عالما بعلم ، لا يخلو عن صورتين :

١ ـ أن يكون عالما بنفسه.

٢ ـ أن يكون عالما بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه.

فإن كان الأول ، كانت نفسه علما ، ويستحيل أن يكون العلم عالما ، أو العالم علما. ومن المعلوم أنّ الله عالم. ومن قال إنّ علمه نفس ذاته ، لا يصح له أن يقول إنّه عالم ، فإذا بطل هذا الشق ، تعين الشق الثاني ، وهو أنه يعلم بعلم يستحيل أن يكون هو نفسه (١).

وصلب البرهان يرجع إلى أنّ واقعية الصفة هي البينونة ، فيجب أن يكون هناك ذات وعرض ، ينتزع من اتّصاف الذات بالعرض عنوان العالم والقادر. فالعالم من له العلم ، والقادر من له القدرة ، لا من ذاته نفسهما فيجب أن نفترض ذاتا غير الوصف.

يلاحظ عليه بأنّه لم يدل دليل على أنّ الصفة يجب أن تكون مغايرة للموصوف ، وإنما هو أمر سائد في الممكنات ، فإنّ العلم في الإنسان ليس ذاته ، بشهادة أنّه قد كان ، ولم يكن عالما ، ولكن يمكن أن تبلغ الذات في الكمال والجمال مرتبة تكون نفس العلم ونفس القدرة من دون أن يكون العلم أو القدرة زائدين عليها. والقول بأنّ واقعية الصفة مغايرتها للموصوف ما هو إلّا نتيجة ما اعتدنا عليه من ممارسة الممكنات العالمة والأنس بها ، فإنّ الصفة فيها عرض والموصوف معروض ، والعرض غير المعروض ولكن لا غرو في أن يكون هناك علم قائم بالذات ، وقدرة قائمة بنفسها من دون أن تكون عرضا. نعم ، تصور ذلك لمن يمارس الأمور الممكنة ولا يجرّد نفسه عن هذا المضيق أمر مشكل.

__________________

(١) اللمع ، ص ٣٠.

٣٦

وعلى ذلك فالعلم عرض في بعض مراتبه ، وغيره في المراتب العليا ، ومثله القدرة. وكون لفظ العالم موضوعا لمن يكون علمه غير ذاته لا يكون دليلا على أنّه سبحانه كذلك. فإذا قام الدليل على عينية صفاته لذاته كان إطلاق العالم عليه سبحانه بملاك غير إطلاقه على الممكنات.

الوجه الثاني ـ لو كان علمه سبحانه عين ذاته ، لصح أن نقول : «يا علم الله اغفر لي وارحمني» (١).

ويلاحظ عليه : إنّ الشيخ لم يشخّص محل البحث ، فإنّ القائل بالوحدة لا يقول بوحدة الذات والصفة مفهوما فإنّ ذلك باطل بالضرورة ، فإن ما يفهم من «لفظ الجلالة» غير ما يفهم من لفظ «العالم» وإنكار ذلك إنكار للبداهة ، بل القائل بالوحدة يقصد منها اتحاد واقعية العلم وواقعية ذاته ، وأنّ وجودا واحدا مع بساطته ووحدته ، مصداق لكلا المفهومين ، وليس ما يقابل لفظ الجلالة في الخارج مغايرا لما يقابل لفظ «العالم». وإنّ ساحة الحق جلّ وعلا منزهة عن فقد أية صفة كمالية في مرتبة الذات ، بل وجوده البحث البسيط ، نفس النعوت والأوصاف الكمالية ، غير أنها مع الذات متكثرة في المفهوم وواحدة بالهويّة والوجود.

وعلى كل تقدير فيرد على الأشعري أنّ القول بالزيادة يستلزم القول بتعدد القدماء بعدد الأوصاف الذاتية. فإذا كان المجوس قائلين بقديمين ، والنصارى بثلاثة ، فالقول بالزيادة لازمه القول بقدماء ثمانية ، أفهل يصح في منطق العقل الالتزام بذلك لأجل أن المتبادر من صيغة الفاعل زيادة المبدأ على الذات؟.

__________________

(١) الإبانة ، ص ١٠٨.

٣٧

الثالث : نظرية الإمامية : عينية الصفات والذات

هذه النظرية لا تعني نظرية النيابة ، فإن تلك مبنية على نفي العلم والقدرة عنه سبحانه ، غير أن ما يترقب منهما يترتب على ذاته سبحانه ، وقد اشتهر قول تلك الطائفة: «خذ الغايات واترك المبادي» ، فما هو المطلوب من العلم تقوم به الذات وإن لم يكن فيها علم ولا قدرة. أولئك هم المعروفون بنفاة الصفات ، وقد فروا من مضاعفات القول بالصّفة أعني التركب ، إلى نفي الصفات رأسا ، وهو أشبه بالفرار من المطر إلى تحت الميزاب.

وأما نظرية العينية فهي تعترف بوجود العلم والقدرة في مقام الذات ولكن تدّعي أن العرضية ليست أمرا لازما للعلم ، بل تارة يكون عرضا وأخرى يكون جوهرا كعلم النفس بذاتها ، وثالثة فوق العرض والجوهر فيكون واجبا قائما بنفسه ، فهذا يباين نظرية نفاة الصفات مباينة الشرق للغرب.

والدليل على العينية هو أنّ القول باتحاد ذاته سبحانه مع صفاته يوجب غناءه في العلم بما وراء ذاته عن غيره ، فيعلم بذاته كل الأشياء من دون حاجة إلى شيء وراء الذات وهذا بخلاف القول بالزيادة فإنه يستلزم افتقاره سبحانه في العلم بالأشياء وخلقه إياها إلى أمور خارجة عن ذاته ، فهو يعلم بالعلم الذي هو سوى ذاته ويخلق بالقدرة التي هي خارجة عن حقيقته ، ويحيا بحياة غير ذاته ، والواجب سبحانه منزه عن الاحتياج إلى غير ذاته ، فهو غني في ذاته وفعله عمن سواه ، والأشاعرة وإن كانوا قائلين بأزلية الصفات مع زيادتها على الذات ، لكن الأزلية لا تدفع الفقر والحاجة عنه ، لأن الملازمة غير العينية فكون ذاته سبحانه ملازمة لهذه الصفات المغايرة من الأزل غير كونها نفس هذه الصفات.

وباختصار ، إنّ كون الصفات عندهم غير الذات عين القول بحاجته في العلم والإيجاد إلى غير ذاته فإن نتيجة فصل الذات عن الصفات هي إنه

٣٨

يستعين في تحصيل العلم بعلم منفصل ، وفي الإيجاد بقدرة خارجة عن ذاته. وبالجملة إنّ التحرّز عن تعدد القدماء أولا ، وحاجته سبحانه في مقام الفعل إلى غير ذاته ثانيا ، يجرنا ـ مع الاعتراف بأنّ له سبحانه أوصافا من علم وقدرة وغيرهما ـ إلى القول بعينية الصفات والذات.

بساطة الذات وتعدد الصفات كيف يجتمعان

؟ لقد قادتنا البراهين السابقة إلى بساطة الذات الإلهية ، وخلوها عن أي نوع من أنواع التركيب العقلي الخارجي وهنا يطرح هذا السؤال نفسه وهو : كيف يجتمع تعدد الأسماء والصفات مع بساطة الذات؟ أليس يستلزم تعدد الصفات تركّب الذات الإلهية من صفات متعددة؟.

والجواب عن ذلك بوجهين :

الأول : إنّ السؤال إنما يتوجه إذا كان كل واحد من هذه الصفات يشكّل جزءا خاصا ، ويحتل موضعا معينا من ذاته سبحانه وحينئذ يمكن القول بأنه يستلزم التركيب في ذاته سبحانه. ولكن إذا قلنا بأنّ كل واحد من هذه الصفات يشكل تمام الذات برمتها وأسرها ، فحينئذ لا يبقى مجال لتصور التركيب في شأنه تعالى ، إذ لا يمتنع كون الشيء على درجة من الكمال يكون فيها كلّه علما ، وكلّه قدرة ، وكلّه حياة ، دون أن تظهر أية كثرة في ذاته. نعم ، لو كانت هناك كثرة ، فإنّما هي في عالم المفهوم دون الواقع الخارجي ، إذ عندئذ تكون ذاته سبحانه مصداق العلم ومطابقه ـ وفي الوقت نفسه ـ مصداق القدرة ومطابقها ، بلا مغايرة ولا تعدد.

ولتقريب هذا المعنى نشير إلى مثال في عالم الممكنات وهو أنّ الإنسان الخارجي بتمام وجوده مخلوق لله سبحانه وفي الوقت نفسه معلوم له سبحانه. فمجموع الوجود الخارجي ، كما هو مصداق لقولنا إنّه مخلوق لله ومطابق له ، مصداق ومطابق لقولنا إنّه معلوم لله ، من دون أن يخصّ جزء

٣٩

بكونه معلوما وجزء بكونه مخلوقا ، بل كله معلوم لله في عين كونه مخلوقا له ، وليست جهة المعلومية في الخارج غير جهة المخلوقية.

وباختصار ، يصح انتزاع المفاهيم الكثيرة من الواحد البسيط البحت ، وهذا على التقريب كالنّور ، فإنّ الإضاءة والحرارة من خواصّ النور ، وليست الأولى مختصة بناحية من وجوده والثانية بناحية أخرى منه ، بل النور بتمامه مضيء كما أنّه بتمامه حار. فالشيء الخارجي ، أعني النور ، مصداق لمفهومين ؛ المضيء والحار.

الثاني : إنّ وجوده سبحانه هو الكمال المطلق والوجود الأتم ، وأمّا انتزاع المفاهيم الكثيرة مثل العالم والقادر ، فإنما هو بالنظر إلى تجلياته المختلفة في العالم الإمكاني. فإن إتقان الفعل وظرافته دليل كونه قادرا ، كما أنّ الصنع على سنن معقدة آية كونه عالما بهذه السنن والنّظم ، وهكذا. فتجلّيه سبحانه على العالم بالشئون المختلفة صار سببا لانتزاع مفاهيم كثيرة منه ، هذا.

ولكنّ الجواب الأول أتقن وأنسب بالأسس التي قدمناها.

عينية الصفات والذات في النّصوص الإسلامية

إنّ عينية الصفات والذات مما قادنا إليه العقل وتظافرت عليه السنة عن سيد الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فهو سلام الله عليه أول من أصحر بالحقيقة وجهر بها في تلك العصور التي لم يكن فيها خبر عن نظرية المعتزلة (النيابة) ولا الأشاعرة (الزيادة).

قال أمير المؤمنين : «وكمال الإخلاص له نفي الصفات (الزائدة) عنه ، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة ، فمن وصف الله (أي بوصف زائد على ذاته) فقد قرنه (أي قرن

٤٠