الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

مناهج الاختيار

(٣)

الاختيار في مذهب الأمر بين الأمرين

إنّ أصحاب المناهج الفكرية ، في مسألة أفعال الإنسان ، اعتقدوا بأنّ الحق ينحصر في القول بالجبر أو التفويض وأنّه ليس هناك طريق ثالث يسلكه الإنسان الباحث ويحفظ أساس القول بهما. وقد عرفت أنّ الجنوح إلى الجبر في العصور الأولى كان لأجل التحفظ على التوحيد الأفعالي وأنّه لا خالق إلّا هو. كما أنّ الانحياز إلى التفويض كان لغاية التحفظ على عدله سبحانه فالأشاعرة جنحوا إلى الجبر حرصا على الأصل الأول ، والمعتزلة إلى الثاني حرصا على أصل العدل. وكلا الطرفين غفل عن نظرية ثالثة يوافقها العقل ويدعمها الكتاب والسّنّة وفيها الحفاظ على كل من أصل التوحيد والعدل ، مع نزاهتها ، عن مضاعفات القولين. فإنّ في القول بالجبر بطلان البعث والتكليف ، وفي القول بالتفويض الثنوية والشرك.

فهذه النظرية الثالثة ، جامعة وحافظة لما يتبناه الطرفان من الأصول وفي الوقت نفسه منزّهة عن التوالي والمفاسد. وهذا هو مذهب الأمر بين الأمرين الذي لم يزل أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) يحثون عليه ، من لدن حمي وطيس الجدال في أفعال الإنسان من حيث القضاء والقدر أو غيرهما. غير أنّ أكثر المتكلمين من السّنّة لم يقفوا على تلك النظرية بتاتا أو لم يتأمّلوا فيها. وقلّ فيهم من تأمل فيها وصرّح بصدقها كالإمام الرّازي في

٣٤١

تفسيره والشيخ عبده في رسالة التوحيد (١) ، فهما من قادة هذا المذاهب بين أهل السنة ، ولكن غيرهما بين جبري لا يرى للإنسان حرية واختيارا ، وتفويضي وقع في حبال الشرك. نعم ، قد انقرضت الطائفة الثانية بانقراض المعتزلة بالسيوف التي سلطت عليهم فلم يبق منهم ولا من آثارهم وكتبهم إلّا شيئا لا يذكر.

وأمّا حقيقة هذا المذهب فتتعين في ظل أمور : (٢).

الأول ـ الإمكان في الماهية غير الإمكان في الوجود

إنّ الإمكان تارة يقع وصفا للماهية وأخرى وصفا للوجود ، والمقصود منه في الأول تساوي ماهية الشيء بالنسبة إلى الوجود والعدم ، بمعنى أنها واقعة في مركز الدائرة ، فلا تخرج عنه إلى أحد الطرفين ، إلّا بعامل يخرجها عن حالة التساوي ويضفي عليها لزوم الاتصاف بأحدهما ، وهذا واضح.

وأمّا إذا وقعت وصفا للوجود بما هو وجود الذي يعبر عنه بالوجود الإمكاني ويعدّ فعلا للواجب ، فليس معنى إمكانه تساوي نسبته إلى الوجود والعدم ، لأن ثبوت الشيء لنفسه ضروري ، وسلبه عنه ممتنع فلا معنى لأن يقال إنّ نسبة الوجود إلى الوجود الإمكاني تساوي نسبته إلى العدم ، بل نسبة الوجود إليه ضرورية ونسبة العدم إليه ممتنعة.

بل معنى توصيف الوجود بالإمكان عبارة عن كونه قائما بالعلّة بجميع شئونه وخصوصياته.

فكلما وصف الوجود بما هو وجود عار عن الماهية ، وصادر عن العلّة الواجبة ، يراد منه التعلّق والقيام ، والصلة والارتباط لا التساوي. فافهم ذلك.

__________________

(١) سيوافيك نصوصهما في مطاف البحث.

(٢) وقد أوعزنا إليها في الأبحاث السابقة عند الردّ على نظرية الطائفتين من الأشاعرة والمفوّضة فلاحظ.

٣٤٢

الثاني ـ ما هو المراد من قيام المعلول بعلّته

إذا كان توصيف الوجود بالإمكان بمعنى قيامه بعلته ، يقع الكلام في حقيقة ذلك القيام وأنّه من أي نوع من أنواعه. فهل هو من قبيل قيام العرض بموضوعه أو الجوهر بمحله؟ ، أو أن قيامه بها يرجع إلى معنى دقيق ويشبه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي في المراحل الثلاث ، التصور والدلالة والتحقق؟. إليك البيان :

إذا قلت : سرت من البصرة إلى الكوفة ، فهناك معان اسمية هي السير والبصرة والكوفة ، ومعنى حرفي وهو كون السير مبدوءا من البصرة ومنتهيا إلى الكوفة. فالابتداء والانتهاء المفهومان من كلمتي «من» و «إلى» فاقدان للاستقلال في مجال التصور فلا يتصوران مستقلين ومنفكين عن تصور البصرة والكوفة ، وإلّا لعاد المعنى الحرفي معنى اسميا ، ولصار نظير قولنا : «الابتداء خير من الانتهاء».

وكذلك فاقدان للاستقلال في مجال الدلالة فلا يدلان على شيء إذا انفكتا عن مدخوليهما.

كما هما فاقدان للاستقلال في مقام التحقق والوجود ، فليس للابتداء الحرفي وجود مستقل منفك عن متعلقه ، كما ليس للانتهاء الحرفي وجود كذلك.

فالحافظ على المعنى الحرفي لا يتحقق إلّا بثبوت عدم الاستقلال له في المجالات الماضية ، وإلّا لخرج عن كونه معنى حرفيا.

وعلى ضوء ذلك يتبين وزان الوجود الإمكاني الذي به تتجلى الأشياء وتتحقق الماهيات ، وبه تصير الماهيات كالشجر والحيوان والإنسان من الأعيان الخارجية ، فإن وزانه إلى الواجب لا يعدو عن وزان المعنى الحرفي إلى الاسمي ، وذلك لأنّ الصادر من الواجب هو الوجود وهو لا يخلو من قسمين : إمّا واجب أو ممكن ، والأول خلف لكون المفروض معلوليته وصدوره عنه ، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه. فيتعين

٣٤٣

الثاني. وقد عرفت أنّ معنى الإمكان في الوجود غير الإمكان في الماهية وأنّ معناه في الأول كونه متعلقا بالعلّة وقائما بها بجميع شئونه وخصوصياته ، والإمكان نافذ فيه وراسخ في واقعه رسوخ الحياة في الموجود الحيّ ، وعند ذلك يكون الفقر الارتباط بالعلّة والقيام بها غير خارج عن واقع الوجود الإمكاني ويكون الفقر والربط نفس ذاته وعين واقعه ، وإلّا فلو كان في حاق الذات غنيا ثم عرض له الفقر يلزم الخلف ، وخروج الموجود الغني عن كونه غنيا ، إلى حيز الفقر والحاجة.

وعلى هذا الأصل ، لا يمكن إنكار صلة الوجودات الإمكانية بالله سبحانه ، من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وتبطل نظرية التفويض القائلة بانقطاع الصلة بين المبدأ والموجودات الإمكانية. وهذه الحقيقة صادقة في الفواعل الإلهية والعلل غير الطبيعية ففيها يصدق ما ذكرنا من الوزان والمكانة وأمّا العلل الطبيعية فصدق العلّة عليها من باب المجاز ، كما تقدم.

الثالث ـ وحدة حقيقة الوجود يلازم التأثير في جميع المراتب

قد وقع النزاع بين الفلاسفة في أنّ الوجود الواجب والوجود الإمكاني هل هما حقيقتان متباينتان بحيث لا صلة جامعة بينهما أبدا ، وأنّ إطلاق الوجود عليهما من باب إطلاق اللفظ الموضوع لمعنيين متباينين ، كالعين الموضوعة تارة للشمس وأخرى للذهب ، أو أنهما من مقولة واحدة يجمعهما قدر مشترك وهو الوجود وطرد العدم وما يفيد ذلك (١). وأنّ الوجود يطلق عليهما بوضع واحد وبمعنى مفرد ، وإطلاق المعنى الواحد على الشيئين يقتضي وجود قدر مشترك بينهما وإلّا يلزم انتزاع المعنى الواحد بما هو معنى واحد من الأشياء الكثيرة التي لا جهة وحدة بينها.

__________________

(١) وهذه العناوين ليست معرفات حقيقية بل هي عناوين مشيرة إلى حقيقة مجهولة فإنّ حقيقة الوجود لا يقدر الإنسان على دركها ، لأنّ أدوات المعرفة لا تتجاوز الذهن والذهنيات ، وهي لا تدرك الحقيقة الخارجية بل المفاهيم العارية عنها كمفهوم النار. وأما حقيقة الوجود فهي نفس العينية الخارجية ، فكيف يمكن أن تكون مدركة للذهن؟!.

٣٤٤

والحق هو الثاني ، لما عرفت من البرهان وعليه الحكماء غير المشائيين. وعلى ضوء هذا الأصل ، إذا كانت الحقيقة في مرتبة من المراتب ذات أثر خاص ، يجب أن يوجد ذلك الأثر في المراتب النازلة ، أخذا بوحدة الحقيقة ، نعم يكون الأثر من حيث الشدة والضعف ، تابعا للمؤثر من هذه الحيثية ، فالوجود الواجب بما أنّه أقوى وأشد ، يكون العلم والدرك والحياة والتأثير فيه مثله. والوجود الإمكاني بما أن الوجود فيه أضعف يكون أثره مثله. ولأجل ذلك ذهب الإلهيون إلى القول بسريان العلم والحياة والقدرة إلى جميع مراتب الوجود الإمكاني وقد أثبتوه بهذا البرهان وحكموا بصحته من طريق الكشف والشهود ، ويشهد الكتاب العزيز على صحة نظريتهم في مجال السريان العلمي والدركي إلى جميع مراتب الوجود حتى الجماد(١).

وعلى ضوء هذا الأصل ، تبطل نظرية الأشاعرة المخصصة للتأثير بالواجب سبحانه ، والسالبة له عن سائر المراتب زاعمة أنه مقتضى التوحيد الأفعالي ، مع أنه كما يتحقق بسلب التأثير عمّا سواه يتحقق بتخصيص التأثير الاستقلالي بالله سبحانه وإرجاع تأثير الوجود في المراتب الإمكانية إلى إذنه ومشيئته. والثاني هو المتعين لما عرفت من البرهان.

إذا وقفت على هذه الأصول تقف على النظرية الوسطى في المقام وأنه لا يمكن تصوير فعل العبد مستقلا عن الواجب ، غنيا عنه ، غير قائم به ، قضاء لكون الفعل وجودا إمكانيا ، والوجود الإمكاني حقيقته التعلق والصلة والربط. كما أنه لا يمكن إنكار دور العبد بل سائر العلل في آثارها قضاء لحكم الأصل الثالث من أنّ الوجود ، في أي مرتبة كان من المراتب لا يخلو عن تأثير ودخالة فيما يظهر منه من الآثار ، أو يقوم به من الأفعال. فالفعل مستند إلى الواجب من جهة ومستند إلى العبد من جهة أخرى. فليس الفعل

__________________

(١) وقد أوعزنا إلى الآيات الناظرة إلى سريان العلم وإن أردت التفصيل فلاحظ مفاهيم القرآن ، الجزء الأول ، ص ٢٠٧ ـ ٢٣٨.

٣٤٥

فعله سبحانه بحيث يكون منقطعا عن العبد بتاتا ويكون دوره دور المحل والظرف لظهور الفعل ، كما أنّه ليس فعل العبد فقط حتى يكون منقطعا عن الواجب ، قضاء بكون الفعل بل الفاعل ، أمرين ممكنين غير مستغنيين عن الواجب في آن من الآنات.

وفي هذه النظرية جمال التوحيد الأفعالي منزّها عن الجبر. كما أن فيها محاسن العدل منزّها عن مغبة الشرك والثنوية ، يدرك ذلك كل من أمعن النظر. وينطبق عليها قول الإمام أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «اليمين والشمال مضلّة ، والطريق الوسطى هي الجادّة عليها باقي الكتاب وآثار النبوّة» (١).

هذا إجمال النظرية حسب ما تسوق إليه البراهين الفلسفية ، ولكن رفع الستار عن وجهها يحتاج إلى تمثيل يحقق واقعية النظرية بشكل محسوس. وما ذكروا من الأمثلة يختلف حسب إدراك الممثل حقيقة هذه النظرية وإليك بعضها.

أ ـ الله فاعل بالتسبيب والعبد بالمباشرة

إنّ كثيرا من محققي الإمامية صوّروا هذه النظرية بما يوجبه هذا العنوان فجعلوا نسبة الفعل إلى الله نسبة تسبيبية ونسبته إلى العبد نسبة مباشرية بحجة أنّ الله سبحانه وهب الوجود والحياة والعلم والقدرة لعباده ، وجعلها في اختيارهم. وأنّ العبد هو الذي يصرف الموهوب في أي مورد شاء ، فينسب الفعل إليه سبحانه لأجل كونه معطي المبادي ومفيض الوجود والقدرة ، وإلى العبد لأنه الذي يصرفها في أي مورد شاء. والمثال الذي يبين حقيقة النظريات الثلاث في هذا المجال هو ما ذكره المحقق الخوئي في تعاليقه القيّمة على أجود التقريرات ، ومحاضراته الملقاة على تلاميذه وإليك خلاصة البيان ، قال :

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦.

٣٤٦

لو فرضنا شخصا مرتعش اليد فاقد القدرة ، فإذا ربط رجل بيده المرتعشة سيفا قاطعا وهو يعلم أنّ السيف المشدود في يده سيقع على آخر ويهلكه ، فإذا وقع السيف وقتل ، ينسب القتل إلى من ربط يده بالسيف دون صاحب اليد الذي كان مسلوب القدرة في حفظ يده.

ولو فرضنا أنّ رجلا أعطى سيفا لمن يملك حركة يده وتنفيذ إرادته فقتل هو به رجلا ، فالأمر على العكس ، فالقتل ينسب إلى المباشر دون من أعطى.

ولكن لو فرضنا شخصا مشلول اليد (لا مرتعشها) غير قادر على الحركة إلّا بإيصال رجل آخر التيار الكهربائي إليه ليبعث في عضلاته قوة ونشاطا بحيث يكون رأس السلك الكهربائي بيد الرجل بحيث لو رفع يده في آن انقطعت القوّة عن جسم هذا الشخص في الحال وأصبح عاجزا. فلو أوصل الرجل تلك القوّة إلى جسم هذا الشخص فذهب باختياره وقتل إنسانا والرجل يعلم بما فعله ، ففي مثل ذلك يستند الفعل إلى كل منهما ، أمّا إلى المباشر فلأنه قد فعل باختياره وإعمال قدرته ، وأمّا إلى الموصل فلأنه أقدره وأعطاه التمكن حتى في حال الفعل والاشتغال بالقتل ، وكان متمكنا من قطع القوة عنه في كل آن شاء وأراد.

فالجبري يمثل فعل العبد بالنسبة إلى الله تعالى كالمثال الأول ، حيث أنّ اليد المرتعشة فاقدة للاختيار ومضطرة إلى الإهلاك.

كما أنّ التفويضي يمثل نسبة فعله إليه كالمثال الثاني ، فهو يصوّر أنّ العبد يحتاج إلى إفاضة القدرة والحياة منه سبحانه حدوثا لا بقاء والعلّة الأولى كافية في بقاء القدرة فيه إلى نهاية المطاف ، كما أنّه كان الأمر في المثال كذلك فكان الإنسان محتاجا إلى رجل آخر في أخذ السيف ، وبعد الحصول عليه انقطعت حاجته إلى المعطي.

والقائل بالأمر بين الأمرين يصوّر النسبة كالمثال الثالث ، فالإنسان في كل حال يحتاج إلى إفاضة القوة والحياة منه إليه بحيث لو قطع الفيض في آن

٣٤٧

واحد بطلت الحياة والقدرة ، فهو حين الفعل يفعل بقوة مفاضة منه وحياة كذلك من غير فرق بين الحدوث والبقاء. ـ إلى أن قال ـ : إنّ للفعل الصادر من العبد نسبتين واقعيتين إحداهما نسبته إلى فاعله بالمباشرة باعتبار صدوره منه باختياره وإعمال قدرته ، وثانيهما نسبته إلى الله تعالى باعتبار أنه معطي الحياة والقدرة في كل آن وبصورة مستمرة حتى في آن اشتغاله بالعمل (١).

وهذا التمثيل مع كونه رفيع المنزلة في تبيين المقصود إلّا أنّ الفلاسفة الإلهيين لا يرضون بالقول بأنّ النفس تستخدم القوى كمن يستخدم كاتبا أو نقاشا قائلين بأنّ مقام النفس بالنسبة إلى قواها أرفع من ذلك لأن مستخدم البنّاء لا يلزم أن يكون بنّاء ، ومستخدم الكاتب لا يكون كاتبا ، ومستخدم القوة السامعة والباصرة (النفس) لا يجب أن يكون سميعا وبصيرا. مع أنّ النفس هي السميعة البصيرة ، فإذا كانت نسبة النفس إلى قواها فوق التسبيب والاستخدام فكيف مثله سبحانه وهو الخالق القيوم وما سواه قائم به قوام المعنى الحرفي بالاسمي.

ولذا فإن لهم تمثيلا آخر في المقام وهو التالي :

ب ـ الفعل فعل العبد وفي الوقت نفسه فعل الله

إنّ بعض المحققين من الإمامية وفي مقدمهم معلّم الأمّة الشيخ المفيد وبعده صدر المتألّهين وتلاميذ نهجه يرون الموقف أدق من ذلك ويعتقدون أنّ للفعل نسبة حقيقية إلى الله سبحانه ، كما أنّ له نسبة حقيقية إلى العبد ، ولا تبطل إحدى النسبتين الأخرى ، ونأتي لتبيين ذلك بمثالين :

أحدهما ، ما ذكره معلّم الأمّة الشيخ المفيد (ت ٣٣٦ ـ م ٤١٣) ، على ما حكاه عنه العلّامة الطباطبائي في محاضراته ، ولم أقف عليه في كتب الشيخ المفيد وهو :

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ٨٧ و ٨٨. أجود التقريرات ، ج ١ ، ص ٩٠.

٣٤٨

نفترض أنّ مولى من الموالي العرفيين يختار عبدا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ، ثم يقطع له قطيعة ويخصّه بدار وأثاث ، وغير ذلك مما يحتاج إليه الإنسان في حياته إلى حين محدود وأجل مسمّى.

فإن قلنا إنّ المولى وإن أعطى لعبده ما أعطى ، وملّكه ما ملك فإنه لا يملك ، وأين العبد من الملك ، كان ذلك قول المجبرة.

وإن قلنا : إنّ المولى بإعطائه المال لعبده وتمليكه ، جعله مالكا وانعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبد ، كان ذلك قول المعتزلة.

ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين ، وقلنا : إنّ للمولى مقامه في المولوية ، وللعبد مقامه في الرقيّة وإنّ العبد يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في عين أنّ العبد مالك ، فهنا ملك على ملك ، كان ذلك القول الحق الذي رآه أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) وقام عليه البرهان (١).

وفي بعض الروايات إشارات رائعة إلى هذا التمثيل ، منها :

ما رواه الصدوق في (توحيده) عن النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال : قال الله عزوجل : «يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد» (٢).

ترى أنه يجعل مشيئة العبد وإرادته ، مشيئة الله سبحانه وإرادته ، ولا يعرّفهما مفصولتين عن الله سبحانه بل الإرادة في نفس الانتساب إلى العبد منتسبة إلى الله سبحانه.

ثانيهما : ما ذكره صدر المتألهين وقال ما هذا حاصله :

إذا أردت التمثيل لتبيين كون الفعل الواحد فعلا لشخصين على

__________________

(١) الميزان ، ج ١ ، ص ١٠٠. وقد أشار إلى هذا التنزيل في تعليقته على البحار ، لاحظ ج ٥ ، ص ٨٣.

(٢) التوحيد باب المشيئة والإرادة ، ص ٣٤٠ ، الحديث ١٠. ولاحظ بحار الأنوار كتاب العدل والمعاد ح ٦٢ و ٦٣ مع تعليقة العلّامة الطباطبائي على الأول.

٣٤٩

الحقيقة فلاحظ النفس الإنسانية ، وقواها ، فالله سبحانه خلقها مثالا ، ذاتا وصفة وفعلا ، لذاته وصفاته وأفعاله ، قال سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (١). وقد أثر عن النبي والوصي القول بأنّه «من عرف نفسه ، عرف ربّه» (٢).

إنّ فعل كل حاسة وقوة من حيث هو فعل تلك القوة ، فعل النفس أيضا. فالباصرة ليس لها شأن إلّا إحضار الصورة المبصرة ، أو انفعال البصر منها ، وكذلك السامعة ، فشأنها إحضار الهيئة المسموعة أو انفعالها بها ، ومع ذلك فكل من الفعلين ، كما هو فعل القوة ، فعل النفس أيضا ، لأنها السميعة البصيرة في الحقيقة وليس شأن النفس استخدام القوى بل هو فوق ذلك. لأنّا إذا راجعنا إلى وجداننا نجد أن نفوسنا بعينها الشاعرة في كل إدراك جزئي وشعور حسّي ، كما أنها المتحرك بكل حركة طبيعية أو حيوانية منسوبة إلى قواها. وبهذا يتضح أنّ النفس بنفسها في العين قوة باصرة وفي الأذن قوة سامعة وفي اليد قوة باطشة ، وفي الرجل قوّة ماشية ، وهكذا الأمر في سائر القوى التي في الأعضاء ، فبها تبصر العين وتسمع الأذن وتمشي الرجل. فالنفس مع وحدتها وتجردها عن البدن وقواه وأعضائه ، لا يخلو منها عضو من الأعضاء عاليا كان أو سافلا ، ولا تبائنها قوة من القوى ، مدركة كانت أو محركة ، حيوانية كانت أو طبيعية.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه كما ليس في الوجود شأن إلّا وهو شأنه ، كذلك ليس في الوجود فعل إلّا فعله ، لا بمعنى أنّ فعل زيد مثلا ليس صادرا عنه ، بل بمعنى أنّ فعل زيد مع أنّه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة. فكما أنّ وجود زيد بعينه أمر متحقق في الواقع منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز ، وهو مع ذلك شأن من شئون الحق الأول ، فكذلك

__________________

(١) سورة الذاريات : الآيتان ٢٠ و ٢١.

(٢) غرر الحكم ، ص ٢٦٨ ، طبعة النجف. وروي عن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) قوله :«أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه». أمالي المرتضى ، ج ٢ ، ص ٣٢٩.

٣٥٠

علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق الأول على الوجه اللائق بذاته سبحانه (١).

هذا ما أفاده صدر المتألهين من التمثيل عند تبيين حقيقة النظرية ، وفي بعض الأحاديث إشارة إليه ، روى الكليني في (الكافي) ، عن أبان بن تغلب ، عن أبي جعفر الباقر : إنّ الله جلّ جلاله قال : «ما يقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضت عليه ، وإنّه ليتقرب إليّ بالنافلة ، حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته» (٢).

إلى هنا تم تبيين التمثيل المبيّن لحقيقة النظرية ، فسواء أكان المختار هو البيان الأول المشهور بين الإمامية ، أم كان ما ذكره صدر المتألّهين ، فالتحقيق هو أنّ الفعل فعل الله وهو فعلنا إمّا بحديث التسبيب والاستخدام أو لأجل أنّه لا يخلو شيء منه سبحانه ، قال سبحانه : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٣). وقال سبحانه : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (٤). والله سبحانه من وراء وجود فعل الإنسان ومعه وبعده كالنفس بالنسبة إلى قواها وأفعالها. وقال سبحانه : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٥).

ثم إنّ القول بأنّ فعل العبد فعل الله سبحانه لا يصحح نسبة كل ما يصدر عن العبد إلى الله سبحانه كأكله وشربه ونكاحه ، وقد ذكرنا ضابطة قيّمة لتمييز ما يصحّ نسبته إليه عمّا لا يصح مع كون السببية محفوظة في

__________________

(١) الأسفار ، ج ٦ ص ٣٧٧ إلى ٣٧٨ ، وص ٣٧٤.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٣. أبواب أعداد الفرائض ونوافلها ، ب ١٧ ، ح ٦.

(٣) سورة الحديد : الآية ٤.

(٤) سورة ق : الآية ١٦.

(٥) سورة الروم : الآية ٢٧.

٣٥١

الجميع عند البحث في التوحيد في الخالقية ، فراجع (١).

بقي الكلام في الآيات والروايات التي يستنبط منها هذه النظرية بوضوح.

الأمر بين الأمرين في الكتاب والسنّة

إذا كان معنى الأمر بين الأمرين هو وجود النسبتين والإسنادين في فعل العبد ، نسبة إلى الله سبحانه ، وفي الوقت نفسه نسبة إلى العبد ، من دون أن تزاحم إحداهما الأخرى فإنّا نجد هاتين النسبتين في آيات :

١ ـ قوله سبحانه : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢).

فترى أنّه سبحانه ينسب الرمي إلى النبي ، وفي الوقت نفسه يسلبه عنه وينسبه إلى ذاته ، كما هو مفاد قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى). ولا يصح هذا الإيجاب في عين السلب إلّا على الوجه الذي ذكرناه وهو أنّ نسبة الفعل إلى العبد ليست نسبة كاملة بأن يكون له الصلة ، دون الله سبحانه. ومثله في جانبه تعالى. فلأجل ذلك تصح النسبتان ، كما يصح سلبه عن أحدهما وإسناده إلى الآخر. فلو كانت نسبة الفعل إلى واحد منهما نسبة المعلول إلى العلّة التامة ، لم يكن مجال إلّا لإحداهما.

٢ ـ قال سبحانه : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) (٣).

فالظاهر أنّ المراد من التعذيب هو القتل لأن التعذيب الصادر من الله تعالى بأيدي المؤمنين ليس إلّا ذاك ، لا العذاب البرزخي ولا الأخروي فإنهما راجعان إلى الله سبحانه دون المؤمنين. وعلى ذلك فقد نسب فعلا

__________________

(١) لاحظ ص ٣٩٩ و ٤٠٠.

(٢) سورة الأنفال : الآية ١٧.

(٣) سورة التوبة : الآية ١٤.

٣٥٢

واحدا إلى المؤمنين وخالقهم. ولا تصح تينك النسبتين إلّا على هذا المنهج ، وإلّا ففي منهج الجبر لا تصح النسبة إلّا إليه سبحانه ، وفي منهج التفويض على العكس والمنهج الّذي يصحح كلتا النسبتين هو منهج الأمر بين الأمرين ، على البيان الماضي.

قال الرازي الأشعري المذهب : «احتجّ أصحابنا على قولهم بأنّ فعل العبد مخلوق لله تعالى بقوله : (يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ) ، فإنّ المراد من هذا التعذيب القتل والأسر. وظاهر النّص يدل على أنّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، إلّا أنّه تعالى يدخله في عالم الوجود على أيدي العباد وهو صريح قولنا ومذهبنا» (١).

يلاحظ عليه : أنّ الآية ليست بصريحة ولا ظاهرة في الدلالة على مذهب الأشاعرة ، فإنّ مذهبهم أنّ العباد بمنزلة الآلات المحضة بل أدون منها حيث لا تأثير لإرادتهم وقدرتهم ، وهي قابلة للانطباق على مذهب العدلية ، بمعنى أنّه سبحانه ينفذ إرادته من طريق إرادة المؤمنين لكونهم خاضعين له كخضوع العبد للمولى والمأمور للآمر. وقد شاع قولهم في التمثيل ب «فتح الأمير المدينة» ، مع أنّ الفاتح هو الجيش ، لكن بأمر الأمير.

ثم إنّ الجبّائي من المعتزلة أجاب عن استدلال الأشاعرة بأنّه لو صحّ أن يقال : إنّه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين لجاز أن يقال : إنّه يكذب أنبياءه بألسنتهم ، ويلعن المؤمنين ويسبّهم بأفواههم ، لأنّ المفروض أنّ الله خالق لذلك كله في كلا الجانبين.

والعجب أنّ الرازي قال في جواب الجبّائي : «وأجاب أصحابنا عنه فقالوا أما الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك إلّا أنا لا نقوله باللسان»!! (٢).

٣ ـ هناك آيات نسب الفعل الواحد في آية منها إلى الله سبحانه وفي

__________________

(١) مفاتيح الغيب ، ج ٤ ، ص ٤١٨ ، الطبعة الأولى ١٣٠٨.

(٢) مفاتيح الغيب ، ج ٤ ، ص ٤١٨ ، الطبعة الأولى ١٣٠٨.

٣٥٣

أخرى إلى المخلوق ولا تصح النسبتان إلّا على هذا المبنى ، وهي عديدة نكتفي بواحدة منها :

قال سبحانه : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) (١). وقال أيضا : (وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢). ففي هاتين الآيتين ينسب القسوة إلى نفس اليهود وكأنهم صاروا هم السبب لعروض هذه الحالة إلى قلوبهم بشهادة أنّ الآيتين في مقام الذمّ واللوم ، فلو لم يكن هناك سببية من جانبهم لما صح تقريعهم.

وفي الوقت نفسه يعرّف فاعل هذه الحالة الطارئة بأنّه هو الله تعالى ويقول : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (٣).

٤ ـ هناك مجموعة من الآيات تعرّف الإنسان بأنّه فاعل مختار في مجال أفعاله ، وهي كثيرة أوعزنا إلى كثير منها فيما سبق.

فمنها قوله سبحانه : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤).

ومنها قوله سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٥).

ومنها قوله سبحانه : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) (٦).

ومنها قوله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٧٤.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٤٣.

(٣) سورة المائدة : الآية ١٣.

(٤) سورة فصّلت : الآية ٤٦.

(٥) سورة الطور : الآية ٢١.

(٦) سورة النور : الآية ١١.

٣٥٤

سَوْفَ يُرى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (١).

ومنها قوله سبحانه : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)(٢).

ومنها قوله سبحانه : (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (٣).

ومنها قوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٤).

ومنها قوله سبحانه : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٥).

ومنها قوله سبحانه : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها* قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها* وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٦).

إلى غير ذلك من الآيات التي تعترف بدور الإنسان في حياته وكونه مالكا لمشيئته ومعيّنا لمسيره في مصيره.

وهناك مجموعة أخرى من الآيات تصرّح بأنّ كل ما يقع في الكون من دقيق وجليل لا يقع إلّا بإذنه سبحانه ومشيئته ، وأنّ الإنسان لا يشاء لنفسه إلّا ما شاء الله له وهي كثيرة نشير إلى بعضها :

منها ـ قوله سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧).

__________________

(١) سورة النجم : الآيات ٣٩ ـ ٤١

(٢) سورة الكهف : الآية ٢٩.

(٣) سورة الزمر : الآية ٧.

(٤) سورة الإنسان : الآية ٣.

(٥) سورة المزمل : الآية ١٩ ، المدثر : الآية ٥٥ ، النبأ : الآية ٣٩ ، وعبس : الآية ١٢.

(٦) سورة الشمس : الآيات ٧ ـ ١٠.

(٧) سورة التكوير : الآية ٢٩.

٣٥٥

ومنها ـ قوله سبحانه آمرا نبيّه : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ) (١). وليست الآية خاصة بالمواهب الطارئة عليه من غير طريق اكتسابه ، بل تعمّها وتعمّ كل ضر ونفع يكسبهما بسعيه وفعله فلا يصل إليه الإنسان إلّا عن طريق مشيئة الله سبحانه.

ومنها ـ قوله سبحانه : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

ومنها ـ قوله سبحانه : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (٣).

ومنها ـ قوله سبحانه : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) (٤).

ومنها ـ قوله سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أنّ كل ما يقع في الكون أو يصدر من العباد فهو بمشيئة وإذن منه سبحانه.

فالمجموعة الأولى من الآيات تناقض الجبر وتفنده ، كما أنّ المجموعة الثانية ترد التفويض وتبطله ومقتضى الجمع بين المجموعتين حسب ما يرشدنا إليه التدبر فيها ليس إلّا التحفظ على النسبتين وأنّ العبد يقوم بكل فعل وترك ، باختيار وحرية ، لكن بإقدار وتمكين منه سبحانه فليس العبد في غنى عنه سبحانه في فعله وتركه. فهو يعمل في ظل عناياته وتوفيقاته ولعلّ المراجع إلى الذكر الحكيم يجد من الآيات الراجعة إلى المجموعتين أكثر مما ذكرنا ، كما يجد فيها قرائن وشواهد تسوقه إلى نفي كل من الجبر والتفويض واختيار الأمر بين الأمرين.

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ١٨٨.

(٢) سورة البقرة : الآية ١٠٢.

(٣) سورة البقرة : الآية ٢٤٩.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٥١.

(٥) سورة يونس : الآية ١٠٠.

٣٥٦

هذا ما يرجع إلى الكتاب الحكيم وأمّا الروايات فنذكر النزر اليسير مما جمعه الشيخ الصدوق في (توحيده) والمجلسي في (بحاره).

١ ـ روى الصدوق عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما‌السلام) قالا : «إنّ الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ، ثم يعذبهم عليها والله أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون. قال فسئلا (عليهما‌السلام) : هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا : نعم أوسع ممّا بين السّماء والأرض» (١).

٢ ـ روى الصّدوق عن سليمان بن جعفر الجعفري عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) قال : «ذكر عنده الجبر والتفويض فقال : ألا أعطيكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ، ولا تخاصمون عليه أحدا إلّا كسرتموه ، قلنا : إن رأيت ذلك. فقال : إنّ الله عزوجل لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه. وهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بطاعته ، لم يكن الله عنها صادا ، ولا منها مانعا ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ، ثم قال (عليه‌السلام) : من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه» (٢).

٣ ـ وروى الصدوق عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين» قال : فقلت : وما أمر بين أمرين؟ قال : مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية فنهيته فلم ينته ، فتركته ، ففعل تلك المعصية فليس حيث لم يقبل منك فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية» (٣).

٤ ـ روى الصدوق في (معاني الأخبار) و (عيون أخبار الرضا) عن

__________________

(١) التوحيد باب نفي الجبر والتفويض ، الحديث ٣ ، ص ٣٦٠.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٧ ، والسند صحيح.

(٣) المصدر السابق ، الحديث ٨.

٣٥٧

الفضل عن الرضا (عليه‌السلام) فيما كتب للمأمون : «من محض الإسلام أن الله تبارك وتعالى لا يكلف نفسا إلّا وسعها ، وأن أفعال العباد مخلوقة لله ، خلق تقدير لا خلق تكوين ، والله خالق كل شيء ولا نقول بالجبر والتفويض» (١).

٥ ـ روى السيد بن طاوس في (طرائفه) قال : روي أنّ الفضل بن سهل سأل الرضا (عليه‌السلام) بين يدي المأمون فقال : «يا أبا الحسن الخلق مجبورون؟ فقال : الله أعدل من أن يجبر خلقه ثم يعذبهم. قال : فمطلقون؟ قال : الله أحكم من أن يهمل عبده ويكله إلى نفسه» (٢).

٦ ـ وقد كتب الإمام العاشر أبو الحسن الثالث (صلوات الله عليه) رسالة في الردّ على أهل الجبر والتفويض ، وإثبات العدل ، والأمر بين الأمرين ، وهذه الرسالة نقلها صاحب تحف العقول في كتابه وممّا جاء فيها : «فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أنّ الله جل وعز ، أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ، ومن قال بهذا القول فقد ظلّم الله في حكمه وكذّبه وردّ عليه قوله : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٣) ، وقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤) ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٥). فمن زعم أنّه مجبر على المعاصي ، فقد أحال بذنبه على الله ، وقد ظلّمه في عقوبته ، ومن ظلّم الله فقد كذّب كتابه ، ومن كذّب كتابه ، فقد لزمه الكفر باجتماع الأمة. ـ إلى أن قال ـ : فمن زعم أنّ الله تعالى فوض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز ... ـ إلى أن قال ـ لكن نقول : إنّ الله عزوجل خلق الخلق بقدرته ، وملّكهم استطاعة تعبّدهم بها فأمرهم ونهاهم بما أراد ... إلى أن قال : وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الأسدي حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له أمير المؤمنين : سألت عن الاستطاعة ، تملكها

__________________

(١) البحار كتاب العدل والمعاد ، ج ٥ ، الحديث ٣٨ ، ص ٣٠.

(٢) المصدر السابق الحديث ١٢٠ ص ٥٦.

(٣) سورة الكهف : الآية ٤٩.

(٤) سورة الحج : الآية ١٠.

(٥) سورة يونس : الآية ٤٤.

٣٥٨

من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية ، فقال له أمير المؤمنين : قل يا عباية ، قال : وما أقول؟. قال (عليه‌السلام) إن قلت إنك تملكها مع الله قتلتك. وإن قلت تملكها دون الله قتلتك. قال عباية : فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال (عليه‌السلام) تقول : إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك. فإن يملّكها إياك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه ، هو المالك لما ملّكك ، والقادر على ما عليه أقدرك» (١).

قال العلّامة الطباطبائي : اختلف في الاستطاعة قبل الفعل هل العبد مستقل بها بحيث يتصرف في الأسباب وآلات الفعل من غير أن يرتبط شيء من تصرفه بالله ، أم لله فيها صنع ، بحيث إنّ القدرة لله مضافة إلى سائر الأسباب ، وإنما يقدر العبد بتمليك الله إيّاه شيئا منها ، المعتزلة على الأول والمتحصل من أخبار أهل البيت (عليهم‌السلام) هو الثاني (٢).

ولكن إنّ تمليكه سبحانه لا يبطل ملكه ، فالمولى مالك لجميع ما يملكه في عين كونه ملكا للعبد (٣).

وقد اكتفينا بهذا النزر اليسير ، وهو غيض من فيض ، وقليل من الكثير من الأحاديث الواردة في باب الجبر والتفويض ، وباب القضاء والقدر. وقد تقدم إيراد مجموعة من هذه الأحاديث فيما مضى.

ومن ظريف ما روي عن الشهيد السعيد زين الدين الجبعي العاملي (ت ٩٠٩ ـ م ٩٦٦) قوله :

لقد جاء في القرآن آية حكمة

تدمّر آيات الضّلال ومن يجبر

__________________

(١) المصدر السابق كتاب العدل والمعاد الباب الثاني الحديث ١ ، ص ٧١ ـ ٧٥. وهذا الحديث يفسّر ما رواه المجلسي عن أبي إبراهيم موسى الكاظم برقم ٦١ ، ص ٣٩ ، المصدر السابق نفسه.

(٢) المصدر السابق ، ص ٣٩ ، تعليقة العلّامة الطباطبائي رحمه‌الله.

(٣) لاحظ تعليقته الأخرى ، ص ٨٣.

٣٥٩

وتخبر أنّ أنّ الاختيار بأيدينا

فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر (١)

* * *

رجوع الرازي إلى القول بالأمر بين الأمرين

إن فخر الدين الرازي (ت ٥٤٣ ـ م ٦٠٦) ، مع كونه متعصبا في الذبّ عن كلام الأشعري ، رجع إلى القول بالأمر بين الأمرين وقال :

«هذه المسألة عجيبة ، فإن الناس كانوا مختلفين فيها أبدا بسبب أنّ ما يمكن الرجوع فيها إليها متعارضة ، فمعوّل الجبرية على أنّه لا بد لترجيح الفعل على الترك من مرجح ليس من العبد ، ومعوّل القدرية على أنّ العبد لو لم يكن قادرا على فعل لما حسن المدح والذمّ والأمر والنهي». ثم ذكر أدلة الطائفتين إلى أن قال : «الحق ما قال بعض أئمة الدين إنّه لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين ، وذلك أنّ مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرته واختياره والمبادي البعيدة على عجزه واضطراره ، فالإنسان مضطر في صورة مختار كالقلم في يد الكاتب والوتد في شق الحائط ، وفي كلام العقلاء قال الحائط للوتد : لم تشقّني؟ فقال : سل من يدقّني» (٢)

اعتراف شيخ الأزهر بصحة هذه النظرية

وممن اعترف بالأمر بين الأمرين شيخ الأزهر في وقته ، الشيخ محمد عبده في رسالته حول التوحيد ، وقد أثّر كلامه في الأجيال المتأخرة من تلاميذ منهجه ومطالعي كتبه ، قال : «جاءت الشريعة بتقرير أمرين عظيمين ، هما ركنا السعادة وقوام الأعمال البشرية ، الأول : إنّ العبد يكسب بإرادته وقدرته

__________________

(١) مقدمة الروضة البهية للشهيد الثاني ، ص ١٨٨.

(٢) بحار الأنوار ، ح ٥ ، ص ٨٢. ولا يخفى إنّه مع اعترافه ببطلان الجبر والتفويض في ثنايا كلامه لم يفسّر نظرية الأمر بين الأمرين تفسيرا لائقا بها.

٣٦٠