الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

مناهج الاختيار

(١)

الاختيار المعتزلي

لقد وقفت في البحوث السابقة على مناهج الجبر واختلافها ، فحان وقت البحث عن مناهج الاختيار باختلافها ، فأكثر المعتزلة إلّا من شذّ ـ كالنجار وأبى الحسين البصري(١) ـ يقولون بأنّ أفعال العبد واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب بل باختيار (٢).

ولب مذهبهم ومن حذا حذوهم أنّ الله تعالى أوجد العباد وأقدرهم على أفعالهم وفوّض إليهم الاختيار. فهم مستقلون بإيجاد أفعالهم على وفق مشيئتهم ، وطبق قدرتهم. وأنّ الله أراد منهم الإيمان والطاعة وكره منهم الكفر والمعصية. قالوا : وعلى هذا يترتب أمور :

١ ـ فائدة التكليف بالأوامر والنواهي ، وفائدة الوعد والوعيد.

٢ ـ استحقاق الثواب والعقاب.

٣ ـ تنزيه الله سبحانه عن إيجاد القبائح والشرور من أنواع الكفر والمعاصي والمساوئ.

__________________

(١) لاحظ حاشية شرح المواقف ، لعبد الحكيم السيالكوتي ، ج ٢ ، ص ١٤٦.

(٢) ولعل قولهم بلا إيجاب إشارة إلى أنّ الفعل حال الصدور لا يتصف بالوجوب أيضا والقاعدة الفلسفية (الشيء ما لم يجب لم يوجد) غير مقبولة عندهم.

٣٢١

قال السيد الشريف في (شرح المواقف) : «إن المعتزلة استدلوا بوجوه كثيرة مرجعها إلى أمر واحد وهو أنه لو لا استقلال العبد بالفعل على سبيل الاختيار لبطل التكليف ، وبطل التأديب الذي ورد به الشرع ، وارتفع المدح والذم ، إذ ليس للفعل استناد إلى العبد أصلا ، ولم يبق للبعثة فائدة ، لأن العباد ليسوا موجدين لأفعالهم ، فمن أين لهم استحقاق الثواب والعقاب» (١).

هذه هي النتائج المترتبة على أصلهم : استقلال العبد في أفعاله ، وعدم وجود الصلة بينه وبين الله سبحانه.

ولأجل أن نقف على نصوص المعتزلة في هذا الباب نقتطف من شرح الأصول الخمسة لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد شيخ المعتزلة في عصره المتوفي عام ٤١٥ ، عدة مقاطع :

يقول : قد علم عقلا وسمعا فساد ما تقوله المجبرة الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله تعالى وجملة القول في ذلك أن تصرفاتنا محتاجة إلينا ومتعلقة بنا لحدوثها.

وعند جهم بن صفوان أنها لا تتعلق بنا ويقول إنما نحن كالظروف لها حتى إن خلق فينا كان ، وإن لم يخلق لم يكن.

وعند ضرار بن عمرو أنها متعلقة بنا ومحتاجة إلينا ، لكن جهة الحاجة إنما هو الكسب وقد شارك جهما في المذهب وزاد عليه في الإحالة (الكسب). وما ذكره جهم على فساده معقول وما ذكره هو غير معقول أصلا.

فأمّا المتخلفون من المجبرة فقد قسموا التصرفات قسمين ، فجعلوا أحد القسمين متعلقا بنا وهو المباشر ، والقسم الآخر غير متعلق بنا وهو المتولد (كالإحراق المتولد من إلقاء القرطاس في النار).

__________________

(١) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٥٤. ولاحظ الأسفار ، ج ٦ ، ص ٣٧٠.

٣٢٢

ثم استدل القاضي على مذهبه بوجوه نشير إلى بعضها :

قال : والذي يدل على ذلك :

الأول : أن نفصل بين المحسن والمسيء ، وبين حسن الوجه وقبيحه ، فنحمد المحسن على إحسانه ونذم المسيء على إساءته. ولا تجوز هذه الطريقة في حسن الوجه وقبيحه ، ولا في طول القامة وقصرها ، حتى لا يحسن منا أن نقول للطويل لم طالت قامتك ولا للقصير لما قصرت. كما يحسن أن نقول للظالم لم ظلمت وللكاذب لم كذبت ، فلولا أنّ أحدهما متعلق بنا وموجود من جهتنا بخلاف الآخر ، وإلّا لما وجب هذا الفصل ، ولكان الحال في طول القامة وقصرها كالحال في الظلم والكذب وقد عرف فساده.

الثاني : إنّه يلزم قبح مجاهدة أهل الروم وغيرهم من الكفار لأنّ للكفرة أن يقولوا : إن كان الجهاد على ما خلق فينا وجعلنا بحيث لا يمكننا مفارقته والانفكاك عنه فذلك جهاد لا معنى له.

الثالث : ما ثبت من أنّ العاقل لا يشوّه نفسه كأن يعلق العظام في رقبته. وإذا وجب ذلك في الواحد منّا فلأن يجب في حق القديم تعالى وهو أحكم الحاكمين أولى وأحرى. وعلى مذهبهم (المجبرة) إنّه تعالى شوّه نفسه وسوّأ الثناء عليه وأراد منهم كل ذلك تعالى عمّا يقولون.

الرابع : إنّ في أفعال العباد ما هو ظلم وجور ، فلو كان تعالى خالقا لها لوجب أن يكون ظالما وجائرا تعالى الله عن ذلك.

الخامس : الاستدلال بعدّة من الآيات منها قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (١). فقد نفى سبحانه التفاوت عن خلقه ، وليس المراد التفاوت في الخلق لوجوده فيه ، بل المراد التفاوت من جهة الحكمة. إذا ثبت هذا لم يصح في أفعال العباد أن تكون من جهة الله تعالى لاشتمالها على التفاوت وغيره.

__________________

(١) سورة الملك : الآية ٣.

٣٢٣

ثم إنّ القاضي يرد على أدلة الأشاعرة التي نقلناها عنهم (١).

وأنت خبير بأنّ هذه الدلائل على فرض تماميتها ترد القول بالجبر أي ارتباط أفعال العباد بالله سبحانه وانقطاعها عن العبد ولا تثبت العكس ، وأنّ فعل العبد مخلوق للعبد لا صلة له بنحو من الأنحاء بالله سبحانه كما هو مدّعى المعتزلة ، ولأجل ذلك هنا منهج ثالث وهو الأمر بين الأمرين كما سيوافيك :

وفي الحقيقة ، إنّ هذه الطائفة تنكر التوحيد الأفعالي الذي ركّز عليه النقل والعقل ، وهو أنّه لا خالق إلّا الله سبحانه.

توضيح ذلك : إنّ دافع المعتزلة إلى القول بالتفويض هو الحفاظ على وصف من أوصافه سبحانه وهو «العدل». فلما كان العدل عندهم هو الأصل والأساس في سائر المباحث ، عمدوا إلى تطبيق مسألة أفعال العباد عليه فخرجوا بهذه النتيجة : إنّ القول بكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه ينافي عدله. ولجئوا بعدها إلى القول بأنها من صنع العبد وليس لله فيها أي صنع. ولمّا كان الأصل عند الأشاعرة هو التوحيد الأفعالي وأنه لا مؤثر استقلالا ولا تبعا غيره سبحانه ، عمدوا إلى تطبيق هذه المسألة على أساسهم. فجعلوا أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وليس للعبد فيها صنع.

فالطائفتان لم تتدبرا في مسألة أفعال العباد تدبرا عميقا ، بل جعلتا النظر فيها فرعا للنظر في الأصل الذي تبنتاه. وقد غفلتا عن أنّ هناك طريقا ثالثا يجتمع فيه الأصلان : التوحيد الأفعالي ووصف العدل ، مع القول بالاختيار ، كما سيتضح ذلك عند البحث عن المنهج الثالث للاختيار. فلنعطف عنان الكلام إلى الأصل الفلسفي الذي بني عليه القول بتفويض أفعال العباد إلى أنفسهم.

__________________

(١) لاحظ شرح الأصول الخمسة ، ص ٣٣٢ و ٣٣٦ و ٣٤٤ و ٣٤٥ و ٣٥٥ و ٣٧٢.

٣٢٤

حاجة الممكن إلى العلّة تنحصر في حدوثه

قالوا : إنّ سرّ حاجة الممكن إلى الواجب والمعلول إلى العلّة هو حدوثه الذي يفسّر بالوجود المسبوق بالعدم وانقلاب العدم إليه. فإذا حدث الممكن ترتفع الحاجة ، لأنّ البقاء شيء والحدوث شيء آخر. إذ الحدوث لا ينطبق إلّا على الوجود الأول القاطع للعدم. وأمّا الوجودات اللاحقة فلا تتصف بالحدوث بل تتصف بالبقاء. فعندئذ يكون الشيء في بقاء ذاته غير محتاج إلى العلّة. فإذا كان هذا حال الذات ، فكيف حال الأفعال ، فلا يحتاج في أعماله إلى العلّة.

ولأجل ذلك يفعل العباد أو يتركون بقدرة وإرادة من أنفسهم ، ولا صلة في هذه الحال بين الذات والأفعال ، والواجب الحكيم سبحانه.

يقول الشيخ الرئيس حاكيا عقيدة المفوضة : «وقد يقولون : إنّه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى أنّه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا كما يشاهدونه من فقدان البنّاء وقوام البناء. وحتى أنّ كثيرا منهم لا يتحاشى أن يقول : لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم لأنّ العالم عندهم إنما احتاج إلى الباري تعالى في آن أوجده (أخرجه من العدم إلى الوجود) حتى كان بذلك فاعلا ، فإذا جعل وحصل له الوجود من العدم ، فكيف يخرج بعد ذلك الوجود عن العدم حتى يحتاج إلى الفاعل» (١).

تحليل هذا الأصل ونقده

إنّ هذا الأصل الذي بنى عليه القوم نظريتهم في أفعال العباد ، بل في أفعال وآثار كل الكائنات ، باطل لوجوه نشير إليها :

الوجه الأول : إنّ مناط حاجة المعلول إلى العلّة هو الإمكان أي عدم

__________________

(١) الإشارات للشيخ الرئيس ، ج ٣ ، ص ٦٨. لاحظ كشف المراد ، الفصل الأول ، المسألة ٢٩ ، والمسألة ٤٤. والأسفار ، ج ٢ ، ص ٢٠٣ ـ ٢٠٤.

٣٢٥

كون وجوده نابعا من ذاته ، وكون الوجود والعدم بالنسبة إلى ذاته متساويان ، وهذا الملاك موجود في حالتي البدء والبقاء ، وأمّا الحدوث فليس ملاكا للحاجة فإنه عبارة عن تحقق الشيء بعد عدمه ، ومثل هذا أمر انتزاعي ينتزع بعد اتصاف الماهية بالوجود ، وملاك الحاجة يجب أن يكون قبل الوجود لا بعده.

إنّ الحدوث أمر منتزع من الشيء بعد تحققه ، ويقع في الدرجة الخامسة من محل حاجة الممكن إلى العلّة. وذلك لأن الشيء يحتاج أولا ثم تقترنه العلة ثانيا ، فتوجده ثالثا ، فيتحقق الوجود رابعا ، فينتزع منه وصف الحدوث خامسا. فكيف يكون الحدوث مناط الحاجة الذي يجب أن يكون في المرتبة الأولى وقد اشتهر قولهم : الشيء قرّر (تصوّر) ، فاحتاج ، فأوجد ، فوجد ، فحدث.

وبعبارة ثانية : ذهب الحكماء إلى أنّ مناط الحاجة هو كون الشيء (الماهية) متساوي النسبة إلى الوجود والعدم ، وأنّه بذاته لا يقتضي شيئا واحدا من الطرفين ولا يخرج عن حد الاستواء إلّا بعلة قاهرة تجره إلى أحد الطرفين ، وتخرجه عن حالة اللااقتضاء إلى حالة الاقتضاء فإذا كان مناط الحاجة هو ذاك (إن الشيء بالنظر إلى ذاته لا يقتضي شيئا) فهو موجود في حالتي الحدوث والبقاء. والقول باستغناء الكون في بقائه ، عن العلّة ، دون حدوثه ، تخصيص للقاعدة العقلية التي تقول : إنّ كل ممكن ما دام ممكنا بمعنى ما دام كون الوجود غير نابع من ذاته يحتاج إلى علّة ، وتخصيص القاعدة العقلية مرفوض جدا.

ويشير الحكيم المتألّه الشيخ محمد حسين الأصفهاني في منظومته إلى هذا الوجه بقوله:

والافتقار لازم الإمكان

من دون حاجة إلى البرهان

لا فرق ما بين الحدوث والبقاء

في لازم الذّات ولن يفترقا

الوجه الثاني : إنّ القول بأنّ العالم المادي بحاجة إلى العلّة في

٣٢٦

الحدوث دون البقاء ، يشبه القول بأنّ بعض أبعاد الجسم بحاجة إلى العلة دون الأبعاد الأخرى. فإنّ لكل جسم بعدين ، بعدا مكانيا وبعدا زمانيا ، فامتداد الجسم في أبعاده الثلاثة ، يشكل بعده المكاني. كما أنّ بقاءه في عمود الزمان يشكل بعده الزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه ، ذو أبعاد مكانية ، وباعتبار استمرار وجوده مدى الساعات والأيام ذو أبعاد زمانية. فكما أنّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختص ببعض أجزائه وأبعاضه بل الجسم في كل بعد من الأبعاد المكانية محتاج إلى العلّة ، فكذا هو محتاج إليها في جميع أبعاده الزمانية ، حدوثا وبقاء من غير فرق بين آن الحدوث وآن البقاء والآنات المتتالية. فالتفريق بين الحدوث والبقاء يشبه القول باستغناء الجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعد الزماني والمكاني وجهان لعملة واحدة ، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التفكيك بينهما.

وتظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا على أنّ العالم في ظل الحركة الجوهرية ، في تبدل مستمر ، وتغيير دائم نافذين في جوهر الأشياء وطبيعة العالم المادي ، فذوات الأشياء في تجدد دائم واندثار متواصل. والعالم حسب هذه النظرية أشبه بنهر جار تنعكس فيه صورة القمر ، فالناظر الساذج يتصور أنّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة والناظر الدقيق على أنّ الصور تتبدل حسب جريان الماء وسيلانه ، فهناك صور مستمرة.

وعلى ضوء هذه النظرية : العالم المادي أشبه بعين نابعة من دون توقف حتى لحظة واحدة. فإذا كان هذا حال العالم المادي ، فكيف يصح لعاقل أن يقول : إنّ العالم ومنه الإنسان إنما يحتاج إلى العلّة في حدوثه دون بقائه ، مع أنّه ليس هنا أي بقاء وثبات بل العالم في حدوث بعد حدوث وزوال بعد زوال ، على وجه الاتصال والاستمرار بحيث يحسبه الساذج بقاء ، وهو في حال الزوال والتبدل والسيلان : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) (١).

__________________

(١) سورة النمل : الآية ٨٨. البحث عن الحركة الجوهرية طويل الذيل وقد أشبع الأستاذ الكلام ـ

٣٢٧

الوجه الثالث : إنّ القول بحاجة الممكن إلى العلة في حدوثه دون بقائه غفلة عن واقعية المعلول ونسبته إلى علّته فإن وزانه إليها وزان المعنى الحرفي بالنسبة إلى المعنى الاسمي. فكما أنّه ليس للأول الخروج عن إطار الثاني في المراحل الثلاث : التصوّر ، والدّلالة ، والتحقّق ، فهكذا المعلول ليس له الخروج عن إطار العلّة في حال من الحالين الحدوث ، والبقاء (٢).

فإذا كان هذا حال المقاس عليه فاستوضح منه حال المقاس ، فإنّ المفاض منه سبحانه هو الوجود وهو لا يخلو عن إحدى حالتين : إمّا وجود واجب أو ممكن ، والأول خلف لأن المفروض كونه معلولا ، فثبت الثاني ، وما هو كذلك لا يمكن أن يخرج عمّا هو عليه (الإمكان) فكما هو ممكن حدوثا ، ممكن بقاء ، ومثل ذلك لا يستغني عن الواجب في حال من الحالات لأن الاستغناء آية انقلابه عن الإمكان إلى الوجوب ، وعن الفقر إلى الغنى.

نعم ، ما ذكرنا من النسبة إنما يجري في العلل ، والمعاليل الإلهية لا الفواعل الطبيعية ، فالمعلول الإلهي بالنسبة إلى علته هو ما ذكرنا ، والمراد من العلّة الإلهية ، مفيض الوجود ومعطيه كالنفس بالنسبة إلى الصور التي تخلقها في ضميرها ، والإرادة التي توجدها في موطنها ، ففي مثل هذه المعاليل ، تكون نسبة المعلول إلى العلّة ، كنسبة المعنى الحرفي إلى الاسمي.

وأمّا الفاعل الطبيعي ، كالنار بالنسبة إلى الإحراق ، فخارج عن إطار بحثنا ، إذ ليس هناك عليّة حقيقية ، بل حديث العلية هناك لا يتجاوز عن تبديل أجزاء النار إلى الحرارة. وذلك كما هو الحال في العلل الفيزيائية

__________________

ـ فيها في بعض محاضراته. لاحظ كتاب «الله خالق الكون» ص ٥٢٥ ـ ٥٥٥ تجد فيه بغيتك.

(٢) سيوافيك توضيح هذا التشبيه عند البحث عن المنهج الثالث للاختيار وهو القول بالأمر بين الأمرين.

٣٢٨

والكيميائية ، فالعليّة هناك تبدل المادة إلى غيرها في ظل شرائط وخصوصيات توجب التبدّل وليس هناك حديث عن الإيجاد والإعطاء.

وعلى ذلك فالتفويض أي استقلال الفاعل في الفعل يستلزم انقلاب الممكن وصيرورته واجبا في جهتين :

الأولى : الاستغناء في جانب الذات من حيث البقاء.

الثانية : الاستغناء في جانب نفس الفعل مع أنّ الفعل ممكن مثل الذات.

الوجه الرابع : إنّ القول بالتفويض يستلزم الشرك ، أي الاعتقاد بوجود خالقين مستقلين أحدهما العلّة العليا التي أحدثت الموجودات والكائنات والإنسان ، والأخرى الإنسان بل كل الكائنات فإنها تستقل بعد الخلقة والحدوث في بقائها أولا وتأثيراتها ثانيا.

فلو قالت المعتزلة بالتفصيل بين الكائنات والإنسان ونسبت آثار الكائنات إلى الواجب بحجة أنها لا تنافي العدل دون الإنسان ، يكون التفصيل بلا دليل.

ثم إنّ القوم استدلوا على المسألة العقلية (غناء الممكن في بقائه عن العلّة) بالأمثلة المحسوسة ، منها : بقاء البناء والمصنوعات بعد موت البنّاء والصانع ، ولكن التمثيل في غير محلّه لأنّ البنّاء والصانع فاعلان للحركة أي ضم بعض الأجزاء إلى بعض والحركة تنتهي بانتهاء عملهما فضلا عن موتهما. وأمّا بقاء البناء والمصنوعات فهو مرهون للنظم السائد فيهما فإن البناء يبقى بفضل القوى الطبيعية الكامنة فيه ، التي أودعها الله سبحانه في صميم الأشياء فليس للبنّاء والصانع فيها صنع ، وأمّا الهيئة والشكل فهما نتيجة اجتماع أجزاء صغيرة ، فتحصل من المجموع هيئة خاصة وليس لهما فيها أيضا صنع.

٣٢٩

تمثيلان لإيضاح الحقيقة

الحق أنّ قياس المعقول بالمحسوس الذي ارتكبته المعتزلة قياس غير تام ولو أراد المحقق ارتكاب لهذا القياس والتمثيل فعليه أن يتمسك بالمثالين التاليين :

الأول : إنّ مثل الموجودات الإمكانية بالنسبة إلى الواجب ، كمثل المصباح الكهربائي المضيء ، فالحس الخاطئ يزعم أنّ الضوء المنبعث من هذا المصباح هو استمرار للضوء الأول ، ويتصور أنّ المصباح إنّما يحتاج إلى المولّد الكهربائي في حدوث الضوء ، دون استمراره.

والحال أنّ المصباح فاقد للإضاءة في مقام الذات محتاج في حصولها إلى ذلك المولد في كل لحظة ، لأنّ الضوء المتلألئ من المصباح إنما هو استضاءة بعد استضاءة ، واستنارة بعد استنارة من المولد الكهربائي. أفلا ينطفئ المصباح إذا انقطع الاتصال بينه وبين المولد؟ فالعالم يشبه هذا المصباح الكهربائي تماما ، فهو لكونه فاقدا للوجود الذاتي يحتاج إلى العلّة في حدوثه وبقائه لأنه يأخذ الوجود آنا بعد آن ، وزمانا بعد زمان.

الثاني : نفترض منطقة حارّة جافّة تطلع عليها الشمس بأشعتها المحرقة الشديدة. فإذا أردنا أن تكون تلك المنطقة رطبة دائما بتقطير الماء عليها ، وإفاضته بما يشبه الرذاذ ، فإن هذا الأمر يتوقف على استمرار تقاطر الماء عليها ولو انقطع لحظة ساد عليها الجفاف وصارت يابسة.

فمثل الممكن الذي يتصف بالوجود باستمرار ، مثل هذه الأرض المتصفة بالرطوبة دائما ، فكما أنّ الثاني رهن استمرار إفاضة قطرات الماء عليها آنا بعد آن ، فهكذا الأول لا يتحقق إلّا باستمرار إفاضة الوجود عليه آنا بعد آن. ولو انقطع الفيض والصلة بينه وبين المفيض لانعدم ولم يبق منه أثر.

* * *

٣٣٠

التفويض في الكتاب والسنّة

إنّ الذكر الحكيم يردّ التفويض بحماس ووضوح :

١ ـ يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)(١).

فالآية نصّ في كون الفقر ثابت للإنسان في جميع الأحوال ، فكيف يستغني عنه سبحانه بعد حدوثه ، وفي بقائه. أو كيف يستغنى في فعله عن الواجب مع سيادة الفقر عليه.

٢ ـ ويقول سبحانه : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٢) فالله تعالى ينسب الحسنة الصادرة من العبد إليه تعالى. فلو لم تكن هناك صلة بين الخالق وفعل العبد فما معنى هذه النسبة؟.

٣ ـ ويقول سبحانه : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٣).

٤ ـ ويقول سبحانه : (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) (٤).

٥ ـ ويقول سبحانه : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) (٥).

٦ ـ ويقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (٦).

__________________

(١) سورة فاطر : الآية ١٥.

(٢) سورة النساء : الآية ٧٩.

(٣) سورة البقرة : الآية ١٠٢.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٤٩.

(٥) سورة البقرة : الآية ٢٥١.

(٦) سورة آل عمران : الآية ١٤٥.

٣٣١

٧ ـ ويقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (١).

إلى غير ذلك من الآيات التي تقيد فعل الإنسان بإذنه ، والمراد منه مشيئته سبحانه. فيكون المراد أنّ أفعال العباد واقعة في إطار مشيئته تعالى ، فكيف تستقل عنه سبحانه؟ وما ورد في الذكر الحكيم مما يفنّد هذه المزعمة أكثر من ذلك. وقد ذكرنا بعض الآيات عند البحث عن الجبر الأشعري فلاحظ.

وأمّا السنّة ، فقد تضافرت الروايات على نقد نظرية التفويض بصور مختلفة نذكر بعضها :

١ ـ روى الصدوق في (الأمالي) عن هشام قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «إنّا لا نقول جبرا ولا تفويضا» (٢).

٢ ـ روى الصدوق في (الأمالي) أيضا عن حريز عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله عزوجل أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله عزوجل في حكمه ، وهو كافر. ورجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليهم فهذا وهن الله في سلطانه ، فهو كافر. ورجل يقول : إنّ الله عزوجل كلّف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله ، فهذا مسلم بالغ» (٣).

٣ ـ روى الطّبرسي في (الاحتجاج) عن أبي حمزة الثمالي أنّه قال : قال أبو جعفر للحسن البصري : «إيّاك أن تقول بالتفويض فإنّ الله عزوجل لم يفوّض الأمر إلى خلقه وهنا منه وضعفا ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلما» (٤).

__________________

(١) سورة يونس : الآية ١٠٠.

(٢) البحار ، ج ٥ ، كتاب العدل والمعاد ، ص ٤ ، ح ١.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٠ ، ح ١٤.

(٤) المصدر السابق ، ح ٢٦.

٣٣٢

٤ ـ روى الصدوق في (توحيده) ، والبرقي في (محاسنه) عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «الله تبارك وتعالى أكرم من أن يكلف الناس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» (١).

٥ ـ روى الصدوق في (توحيده) عن حفص بن قرط : عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من زعم أنّ الله تبارك وتعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله. ومن زعم أنّ الخير والشر بغير مشيّة الله ، فقد أخرج الله من سلطانه. ومن زعم أنّ المعاصي بغير قوّة الله ، فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله الله النار»(٢).

٦ ـ روى الصدوق في (عيون أخبار الرضا) عن الرضا (عليه‌السلام) أنّه قال : «مساكين القدرية ، أرادوا أن يصفوا الله عزوجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه» (٣). والحديث يشير إلى ما ذكرناه في صدر البحث من أنّ المعتزلة لما جعلوا العدل أصلا فرّعوا القول بالتفويض عليه ، غافلين عن الطريق الذي يجمع بين العدل ووقوع الفعل في سلطانه سبحانه.

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، ح ٦٤. والتّوحيد للصدوق باب نفي الجبر والتفويض ، ص ٣٦٠ ، ح ٤.

(٢) المصدر السابق ، ح ٨٥. والتوحيد ، ص ٣٥٩ ، ح ٢.

(٣) المصدر السابق ، ص ٥٤ ، ح ٩٣.

٣٣٣
٣٣٤

مناهج الاختيار

(٢)

الاختيار لدى الوجوديين

الاختيار لدى الوجوديين ـ الذائع الصيت في الغرب ـ يقوم مقام التفويض لدى المعتزلة في الشرق الإسلامي غير أنّ الداعي يختلف عند الفرقتين ، فالمعتزلي الشرقي قال بثبوت الاختيار للإنسان في أفعاله بصورة التفويض حفاظا على العدل الإلهي. والوجودي الغربي ذهب إلى أنّ الإنسان يتكون ويتولد مجردا عن كل لون وصبغة ، وعن كل ميل وغريزة ، للحفاظ على حريته وعدم انسياقه بالذات إلى جانب خاص.

وإذا كان التّفويض المعتزلي ردّ فعل على الجبر المعروف بين أهل الحديث والحنابلة ، ثم الأشاعرة ، فالاختيار لدى الوجوديين بالنحو السابق ردّ فعل على الجبري المادي الذي يعتقد بأنّ الإنسان يتولد وهو أسير عامل الوراثة ثم الثقافة والبيئة. فالوجوديون تقدموا في إثبات الاختيار إلى حدّ أنكروا أن يكون لغير فعل الإنسان وعمله تأثير في تكوّن شخصيته.

ومن روّاد هذا المسلك في الأوساط الغربية الفيلسوف الفرنسي جان يول سارتر (١) وحاصل مذهبه :

__________________

(١) ولد في باريس عام ١٩٠٥.

٣٣٥

إنّ وجود الإنسان متقدم على طبيعته وماهيته فهو يتكون بلا ماهية ويتولد بلا قيد. ثم إنّه بفعله وعمله في ظل إرادته واختياره ، يصنع لنفسه شخصية. وعلى ذلك فما اشتهر من وجود الميول والغرائز في الوجود الإنساني التي تضفي على وجود الإنسان لونا وصبغة وتوجد فيه انحيازا إلى نقطة وتمايلا إلى شيء ، ليس بصحيح لأن الاعتراف بوجود هذه الغرائز ، سواء أكانت علوية أو سفلية يزاحم اختياره وحريته ، ويسلب منه الحرية التامة والتساوي بالنسبة إلى كل شيء.

فلأجل الحفاظ على حرية الإنسان وكونه موجودا فعّالا بالاختيار وحرّا في الانتخاب يجب إنكار كل عقيدة مسبقة (يريد نفي القضاء والقدر) ، وكل مصير يجعله مسيّرا. وهذا هو المراد ممّا اشتهر منهم بأنّ الإنسان يتكون بلا ماهية (١).

مناقشة النظرية

إنّ للإنسان ماهيتين :

١ ـ ماهية عامة يتكون معها ويتولد بها.

٢ ـ ماهية خاصة يكتسبها في ضوء إرادته عن طريق العمل.

وعدم التفرقة بين الماهيتين دفعهم إلى الاعتقاد بتكون الإنسان وتولده مجرّدا عن كل صبغة طبيعية وسائقة ذاتية.

أما الطبيعة العامة ، فهي عبارة عن الطاقات والمواهب الإلهية المودعة في وجوده وهي ميول طبيعية تسوقه إلى نقطة خاصة فيها سعادته أو شقاؤه وقد أعطى سبحانه ، زمامها بيد الإنسان المختار في كيفية الاستفادة منها كمّا وكيفا. ونحن نعترف بأنّ هذه المواهب والاستعدادات توجد في نفس الإنسان محدودية خاصة وتحقق في وجوده انحيازا إلى جانب ، ولكنها لا تعدو عن كونها قابليات واقتضاءات وأرضيات لأهداف خاصة ، ولكن زمام

__________________

(١) عصر التجزية والتحليل ، ص ١٢٥.

٣٣٦

الاختيار فيها بيد الإنسان المختار فله أن يتطلب بهذه المواهب ما شاء. كما له أن يترك الاستفادة منها ، بل له أن يكافحها.

والذي يدل على ذلك ما كشف عنه العلم من أنّ الإنسان يتولد وفيه طاقات وسوائق متضادة ومختلفة ، وكل يطلب منشودا خاصا ، ولو لا هذه الطاقات المتضادة لما وصل الإنسان إلى قمة التكامل. مثلا :

الإنسان جبل على حب النفس ، ويظهر هذا منه من نعومة أظفاره ، وفي الوقت نفسه جبل على حب الخير ويظهر بعد سنين من حياته. فالإنسان المختار يستفيد من تلك الميول الطبيعية على حد لا يجعله حب الذات حيوانا ضاريا ، كما لا يجعله حبّ الخير إنسانا تاركا ومهملا لحياته. فالحفاظ على حرية الإنسان لا يتوقف على إنكار الفطريات والغرائز بل يكفي في ذلك القول بأنّ للإنسان ماهية عامة موجودة في جميع الأفراد ليس للإنسان في الانطباع بها أي صنع ودخالة. وماهية خاصة ، يستحصلها عن طريق العمل كما سنشرحه.

وأمّا الطبيعة الخاصة ، فهي عبارة عمّا يتكون في نفس الإنسان من الروحيات العالية أو الدانية نتيجة استفادته من تلك المواهب الأولية ، إفراطا أو تفريطا أو اعتدالا. مثلا قد أودعت يد الخلقة في وجود الإنسان ميولا سافلة كالغضب. وفي الوقت نفسه أودعت ميولا عالية كالرحمة والرأفة. فربما يتجلى الإنسان في مسرح الحياة سبعا ضاريا لإفراطه في أعماله قوة الغضب ، كما قد يتجلى إنسانا مهملا تاركا لحقوقه الفردية والاجتماعية وفريسة للمعتدين لتفريطه في أعمالها. وقد يتجلى إنسانا مثاليا يستفيد منها على حدّ الاعتدال بالموازنة مع جانب الرحمة والرأفة فيدفع عن نفسه الاعتداءات وفي بعض الأحيان يؤثر غيره ويقوم بحاجات بني نوعه. فهناك شخصيات ثلاث تتكون في الفرد الإنساني حسب إعماله تلك الموهبة الإلهية. وقس عليه سائر الميول والغرائز عالية كانت أو سافلة ، إنسانية كانت أو حيوانية.

٣٣٧

ثم إنّ سعادة الإنسان وشقاءه ليسا رهن الماهية العامة ، والاعتراف بها لا يمس بكرامة سعادته ، كما لا يجعله في عداد الأتقياء. بل الماهيات العامة تعبّد له طريق السعادة خصوصا الفطريات العالية الإنسانية التي كشف عنها العلم وهي :

١ ـ روح الاستقراء واكتشاف الحقائق.

٢ ـ حب الخير والنزوع إلى البر والمعروف.

٣ ـ علاقته بالجمال في مجالات الطبيعية والصناعة.

٤ ـ الشعور الديني الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ.

فهذه الميول النابعة من داخل الإنسان وفطرته هي ماهيته العامة وكلها تسوقه إلى الخير وتصده عن الشر ، لكن على وجه الاقتضاء فهناك إنسان يستخدم تلك المواهب في ظل الاختيار والإرادة ويكون عالما كاشفا عن السنن الكونية ، وإنسانا بارّا يفعل الخير لبني نوعه ، وموجودا فنّانا يصنع المصنوعات الدقيقة ، وإنسانا إلهيا ، يعتقد بأنّ وراء العالم عالما آخر وأنّ هناك خالقا للكون وله تجاه خالقه مسئوليات وتكاليف.

كما أنّ هناك إنسان يترك الاستفادة منها أو من بعضها فيسقط في المهاوي ويتجلّى على خلاف الإنسان المتقدم.

فالاعتراف بهذه الفطريات لا يجعل الإنسان جاهز الصنع ، كما عرفت ، فإن الذي يرتبط بهذه الفطريات إنما هي شخصيته العامة وأمّا شخصيته الخاصة فهي مصنوعة إرادته واختياره.

والعجب أنّ مبدع النظرية لم يقدر على إنكار ماهية عامة للإنسان في بعض المجالات ، فهو يعترف بأنّ الإنسان يتولد في إطار قيود خاصة منها أنّ وجوده متعلق بهذا العالم ، ويعيش حياة اجتماعية ، وأنّه موجود فان ، وغير ذلك من الحدود والقيود.

أقول : إنّ الحدود والقيود التي تحدّ شخصية الإنسان لا من قبل نفسه

٣٣٨

أكثر مما اعترف به ، فكل إنسان يعيش بين أحضان العالم المادي محكوم بقوانين الكون الفيزيائية والكيميائية.

والظاهر أنّ أصحاب النظرية قد ابتدعوا المدعى وصاغوه في قالب خاص لغايات اجتماعية ثم ذهبوا ـ للحفاظ على المدعى ـ إلى إنكار الفطريات والغرائز المودوعة في وجوده وهو أشبه باتخاذ موقف خاص في موضوع ثم تعمّل الدليل عليه.

* * *

٣٣٩
٣٤٠