الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

يكون تحصيلا للحاصل ، بل المعرفة الإجمالية الباعثة على التفصيلية منها.

الثاني : إنّ أبا لهب أمر بأن يؤمن دائما وهو ممتنع لأنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن. والإيمان تصديق الرسول فيما علم مجيئه به ، وممّا جاء به أنّه لا يؤمن. فيكون هو في حال لزوم إيمانه على الاستمرار مأمورا بأن يؤمن بأنّه لا يؤمن ، ويصدّق بأنه لا يصدق. وإيمانه المشتمل على ما ذكر محال لاستلزامه الجمع بين التصديق والتكذيب. فإذا كان المكلف به محالا ، لم يكن للتكليف به فائدة (١).

يلاحظ عليه : إنّ الإيمان هو التصديق الإجمالي بأنّ ما جاء به النبي حق. وهذا كاف في عد الإنسان مؤمنا. ولا يشترط في تحقق الإيمان التصديق التفصيلي بكل واحد مما جاء به النبي. وعلى ضوء هذا كان أبو لهب مأمورا بالتصديق الإجمالي وهو توحيده سبحانه والاعتقاد بأنّ رسالة ابن أخيه من الله سبحانه. وهذا أمر ممكن لكل أحد وقد كان في وسعه أيضا ولكنه لم يؤمن به وأمّا التصديق التفصيلي بكل ما جاء في القرآن ومنه أنّ أبا لهب لا يؤمن بتاتا وأنّ النار مثواه فلم يكن ممّا يجب الإيمان به حتى يلزم منه التناقض.

إلى هنا تمّ إيراد جملة من تشكيكات الأشاعرة الواردة في مجال الأفعال الاختيارية ولا حاجة إلى الإسهاب أزيد من هذا وفيما ذكرناه غنى وكفاية لمن أراد الحق وابتغاه.

نعم استدلت الأشاعرة بالآيات المصرّحة بأنّ الهداية والإضلال والختم من جانبه سبحانه وسنعقد له فصلا خاصا عند البحث عن مذهب الحق. وهو الأمر بين الأمرين.

* * *

__________________

(١) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٥٧.

٣٠١
٣٠٢

مناهج الجبر

(٢)

الجبر الفلسفي

قد عرفت حقيقة الجبر الأشعري وأنّه كان يردّ الاختيار بعوامل غيبية وسماوية من القضاء والقدر وسبق العلم الأزلي والمشيئة الإلهية وعرفت بعض التشكيكات التي ذكروها في المقام.

وأمّا الجبر الفلسفي فهو يعتمد على قواعد فلسفية مسلّمة عند الإلهي والمادي ونذكر فيما يلي المهم من أدلته :

الدليل الأول : وجود الشيء مقارن لوجوبه

قد ثبت في الفن الأعلى من الفلسفة أنّ «الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، وهذه قاعدة مسلّمة عند الكل ، وحاصل برهانها أنّ الشيء الممكن في حدّ ذاته لا يقتضي الوجود ولا العدم ، فنسبة الوجود والعدم إليه متساوية ، ولا يتسم بهما إلّا بلحاظ أمر خارج عن ذاته ، غير أن اتصافه بالوجود يتوقف على انضمام عامل إلى ماهية الممكن حتى يضفي عليها الوجود في حين أنّه يكفي في اتصافه بالعدم لحاظ عدم العامل وعدم العلّة.

وعلى هذا فلو وجد عامل خارجي يقتضي وجوده اقتضاء إيجابيا ، يتحقق. وإلّا يكون تطرق العدم إليه جائزا وممكنا ، ومعه لا يمكن أن يتحقق ويتلبس بالوجود.

٣٠٣

وبعبارة ثانية : إذا كان هناك ما يقتضي وجوده ، فإمّا أن يقتضي وجوبه أيضا أو لا ، فعلى الأول فقد وجب وجوده ، وتثبت القاعدة ، وعلى الثاني يعود السؤال بأنه إذا كان تطرق العدم أمرا ممكنا جائزا ، فلما ذا اتصف بالوجود دون العدم مع انفتاح طريق كل منهما ، إذ المفروض أنّ العلّة ما اقتضت وجوبه ولم تسد باب العدم على وجه القطع والبت ، بل كان باب كل مفتوحا على الشيء وإن ترجّح جانب الوجود ، ولكنه لم يمتنع بعد الجانب الآخر ، والأولوية العارضة لجانب الوجود غير كافية إذ المفروض أنّ طريق العدم معها بعد مفتوح ، ومع ذلك اتصف بالوجود ولم يتصف بالعدم. وعندئذ ، ينطرح السؤال التالي :

لما ذا تحقق هذا ولم يتحقق ذاك؟ ولأجل ذلك ذهب الحكماء إلى أنّ وجود الشيء رهن سد باب العدم على وجه القطع والبت واتصافه بالوجود على وجه الوجوب حتى ينقطع السؤال بأنه لم اتصف بهذا دون ذاك.

هذا برهان القاعدة ، ورتب عليها القول بالجبر ، لأن فعل العبد لا يصدر منه إلّا بالوجوب ، والوجوب ينافي الاختيار.

يلاحظ عليه : إنّ القاعدة قاعدة متقنة لا غبار عليها غير أنّ استنتاج الجبر من القاعدة أمر عجيب ، لأنها لا تعطي أزيد من أنّ المعلول إنما يتحقق بالإيجاب والإلزام ، وأمّا كون الفاعل ، فاعلا موجبا (بالفتح) ومجبورا فلا يستفاد منها.

توضيح ذلك : إنّ الفاعل لو كان فاعلا طبيعيا غير شاعر ولا مختار ، أو شاعرا غير مختار ، يصدر الفعل منه بالوجوب مع امتناع العدم ويكون الفعل واجبا والفاعل موجبا (بالفتح). وأمّا إذا كان الفاعل مدركا ومختارا ، فصدور الفعل منه يتوقف على اتّصاف فعله بالوجوب ، والعامل الذي يضفي هذا الوصف على المعلول هو نفس الفاعل ، فهو باختياره وحريته يوصل الفعل إلى حد يكون صدوره عنه على نحو الوجوب واللزوم. فعندئذ يكون الفاعل المدرك المختار فاعلا موجبا أي معطيا الوجوب لفعله ومن هو كذلك

٣٠٤

لا يتصف هو ولا فعله بالجبر. فالاستنتاج نبع من المغالطة بين الفاعل الموجب والفاعل الموجب ، وهو أحد أقسام المغالطة (١).

الدليل الثاني ـ الإرادة ليست اختيارية

هذا الدليل الذي لجأ إليه الجبريون من الحكماء ، هو المزلقة الكبرى ، والداهية العظمى في المقام ولقد زلّت في نقده وتحليله أقدام الكثير من الباحثين ، ولا عتب علينا لو أسهبنا البحث فيه ، فنقول :

قال المستدل : إنّ كل فعل اختياري بالإرادة ، ولكنها ليست أمرا اختياريا والا لزم أن تكون مسبوقة بإرادة أخرى ، وينقل الكلام إليها ، فإمّا أن تقف السلسلة فيلزم الجبر في الإرادة النهائية وإمّا أن لا تقف فيلزم التسلسل.

وبعبارة ثانية : إنّ الفعل الاختياري ما كان مسبوقا بالإرادة ، وأمّا نفسها ، فلا تكون كذلك ، لأنا ننقل الكلام إلى الثانية منها فهل هي كذلك أو لا؟ وعلى الثاني يثبت كونها غير اختيارية لعدم سبق إرادة عليها ، وعدم نشوئها من إرادة أخرى. وعلى الأول ينقل الكلام إليها مثل الأولى فإما أن يتوقف في إرادة غير مسبوقة ، أو يتسلسل. والثاني محال. فيثبت الأول.

وقد نقل صدر المتألهين هذا الإشكال عن المعلّم الثاني الفارابي حيث قال في نصوصه: «إن ظن ظان أنّه يفعل ما يريد ويختار ما يشاء ، استكشف عن اختياره هل هو حادث فيه بعد ما لم يكن أو غير حادث؟ فإن كان غير حادث فيه لزم أن يصحبه ذلك الاختيار منذ أول وجوده ، ولزم أن يكون مطبوعا على ذلك الاختيار لا ينفك عنه ، وإن كان حادثا ـ ولكل حادث محدث ـ

__________________

(١) إن للمغالطة أقساما كثيرة ربما تناهز الثلاثة عشر قسما ، ومنها هذا القسم الوارد في هذا البحث. لاحظ قسم المغالطة في شرح المنظومة للحكيم السبزواري (ص ١٠٥ ـ قسم المنطق) حيث يقول :

أنواعها الثلاثة عشر كما

قد ضبطوها من كلام القدماء

٣٠٥

فيكون اختياره عن سبب اقتضاه ومحدث أحدثه فإمّا أن يكون هو أو غيره ، فإن كان هو نفسه ، فإمّا أن يكون إيجاده للاختيار بالاختيار ، وهذا يتسلسل إلى غير النهاية ، أو يكون وجودا لاختيار فيه لا بالاختيار فيكون مجبورا على ذلك الاختيار من غيره ، وينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست باختياره» (١).

وأنت ترى أنّ هذا البرهان لو صحّ لكان المادي والإلهي متساويين بالنسبة إليه. وحاصل هذا البرهان أنّ الإرادة تعرض للنفس في ظل عوامل داخلية وخارجية فيكون اجتماع تلك العوامل موجبا لظهورها على لوح النفس. ولأجل ذلك تتصف الإرادة بالجبر لكون وجودها معلولا لتلك العوامل النفسانية وغيرها. فالفعل الاختياري ينتهي إلى الإرادة وهي تنتهي إلى مقدماتها من التصور والتصديق والميل النفساني المنتهية إلى أشياء خارجة عن ذات المريد ، نعم الإلهي يرجع هذه المقدمات النفسانية أو الخارجية ، بعد سلسلة الأسباب والمسببات إلى الله سبحانه ، والمادي يرجعها إلى العوامل الموجودة في عالم المادة ولذلك ذكرنا هذا البرهان في فصل الجبر الفلسفي لا في الأشعري الذي ينسب الأشياء إلى الله سبحانه مباشرة ، ولا في فصل الجبر المادي الذي لا يرى علّة للجبر إلّا العوامل المادية ، بل ذكرناه في هذا الفصل الذي يمكن أن يكون مختارا للإلهي كما يمكن أن يكون مختارا للمادي.

أقول : إنّ هذا الإشكال هو من أهم الإشكالات في هذا الباب ، وربما نرى أنّ بعض الماديين لجئوا إلى تنمية هذا الإشكال بشكل يناسب أبحاثهم ، ويصرون على أنّ الإرادة في الإنسان تحصل باجتماع معدات وشرائط ومقدمات وبواعث يكون الإنسان مقهورا في إرادته ، وإن كان يتصور

__________________

(١) الأسفار ، ج ٦ ص ٣٩٠. ويظهر هذا الإشكال من الشيخ الرئيس في الفن الثالث من طبيعيات الشفاء وفي أول العاشرة من إلهيات الشفاء. وقد نقل صدر المتألهين نصوصه في المصدر نفسه ، فلاحظ.

٣٠٦

نفسه مختارا ، ويرددون في أشداقهم كون الإنسان مسيرا بصورة المختار ونحن نأتي ببعض ما ذكر من الأجوبة ، ثم نذكر المختار من الجواب عندنا.

الأجوبة المذكورة في المقام

الجواب الأول : هو ما أجاب به صدر المتألهين قال : «المختار ما يكون فعله بإرادته ، لا ما يكون إرادته بإرادته. والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل ، صدر عنه الفعل ، وإلّا فلا. لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل ، وإلّا لم يفعل» (١).

يلاحظ عليه : إنّ ما ذكره من التعريف إنما هو راجع إلى الأفعال الجوارحية فالملاك في كونها أفعالا اختيارية أو جبرية هو ما ذكره وأمّا الأفعال الجوانحية الصادرة عن النفس والضمير ، فهي إمّا أفعال جبرية ، أو إنّ لكونها أفعالا اختيارية ملاكا آخر يجب الإيعاز إليه.

وباختصار : إنّ البحث ليس في التسمية حتى يقال : إنّ التعريف المذكور للفعل الاختياري يوجب كون الإرادة والفعل من الأمور الاختيارية ، بل البحث في واقع الإرادة وحقيقتها ، فإذا كانت ظاهرة في الضمير الإنساني في ظل عوامل نفسانية أو أرضية وسماوية ، فلا تكون أمرا اختياريا. وبالنتيجة ، لا يكون الفعل أيضا فعلا اختياريا.

الجواب الثاني : ما أفاده المحقق الخراساني في الكفاية في بحث التجرّي من أنّ اختيارية الإرادة وإن لم تكن بالاختيار ، إلّا أنّ مبادئها يكون وجودها غالبا بالاختيار للتمكن من عدمه بالتأمل في ما يترتب على ما عزم عليه من اللوم والمذمة أو التبعة والعقوبة (٢).

يلاحظ عليه : إنّه لا يدفع الإشكال ، لأنّ تلك المبادي لا تخلو إمّا أن

__________________

(١) الأسفار ، ج ٦ ص ٣٨٨. وله جواب آخر عن الإشكال غير متين جدا ، فمن أراد فليرجع إلى كتابه ، كما نقل جوابا آخر عن أستاذه المفخم المحقق الداماد.

(٢) كفاية الأصول للمحقق الخراساني (ت ١٢٥٥ ـ م ١٣٢٩). ج ٢ ، ص ١٤.

٣٠٧

تكون مسبوقة بالإرادة أو لا ، فعلى الأول يلزم عدم كونها أفعالا اختيارية وإن كانت أفعالا إرادية ، وذلك لأن الإرادة السابقة على تلك المبادي إرادة غير اختيارية وغير مسبوقة بإرادة أخرى ، وإلّا ينقل الكلام إليها ويلزم التسلسل. وعلى الثاني يلزم عدم كونها فعلا إراديا للنفس أيضا ، بل تكون أفعالا صادرة عن النفس بلا إرادة.

الجواب الثالث : ما ذكره شيخ المشايخ العلامة الحائري وحاصله : إنّ ما اشتهر من أنّ الإرادة لا تتعلق بها الإرادة ولا تكون مسبوقة بأخرى أمر غير صحيح بل تتحقق الإرادة لمصلحة في نفسها.

قال : «الدليل على ذلك هو الوجدان لأنّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في المكان الخاص عشرة أيام بملاحظة أنّ صحة الصوم والصلاة تامة تتوقف على القصد المذكور ، مع العلم بعدم كون هذا الأثر مرتبا على نفس البقاء واقعا فتتعلق بالإرادة ، إرادة» (١).

يلاحظ عليه : إنّه لا يقلع الإشكال أيضا ، إذ غايته كون الإرادة الأولى اختيارية لسبقها بإرادة ثانية وأمّا الإرادة الثانية فهي بعد باقية على صفة غير الاختيارية ، لأنّ الميزان في الفعل الاختياري حسب معايير القوم كونه مسبوقا بالإرادة فلو سلمت هذه القاعدة لصارت الإرادة الثانية غير اختيارية.

الجواب الرابع : ما ذكره العلامة الطباطبائي في ميزانه وحاصله : إنّ الحوادث بالنسبة إلى علتها التامة واجبة الوجود ، وبالنسبة إلى أجزاء عللها ممكنة الوجود ، فهذا هو الملاك في أعمال الإنسان وأفعاله فلها نسبتان : نسبة إلى علّتها التامة ونسبة إلى أجزائها ، فالنسبة الأولى ضرورية وجوبيه ، والنسبة الثانية نسبة ممكنة. وكل فعل من الأفعال ضروري الوجود بملاحظة علله التامة وممكن بملاحظة أجزاء علته (٢).

__________________

(١) الدرر للشيخ عبد الكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم (ت ١٢٧٤ ـ م ١٣٥٥) ، ج ٢ ، ص ١٥.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ، ج ١ ، ص ٩٩.

٣٠٨

وبما إنّ الإرادة ليست علّة تامة للفعل ، تكون نسبة الفعل إليها نسبة الإمكان لا نسبة الوجوب.

يلاحظ عليه : بنفس ما لوحظ على كلام صدر المتألهين إذ المفروض أنّ ما وراء الإرادة أمر خارج عن الاختيار. فإذا كانت الإرادة مثله في الخروج عن الاختيار فلا يتصف الفعل بالاختيار ولا الإرادة به. وما ذكره مجرّد اصطلاح إذ لا شك أنّ نسبة الفعل إلى أجزاء العلّة التامة نسبة ضرورية وإلى بعضها إمكانية ولكنه لا يشفي العليل ولا يروي الغليل ، إذ البحث في أنّ مدار اختيارية الفعل هو الإرادة ، والإرادة ليست اختيارية لأنها تطرأ على النفس في ظل عوامل خاصة من نفسية وغيرها ، فالنسبتان المذكورتان لا تدفعان الإشكال.

نعم قد ذكر في ذيل كلامه هنا وفي موضع آخر من تفسيره (١) كلاما حاصله : إنّ إرادته سبحانه لم تتعلق بصدور الفعل عن الإنسان بأي نحو اتفق وإنما تعلقت بالفعل بجميع شئونه وخصوصياته ومنها أنها فعل اختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا إلى آخر ما أفاده. فهو جواب عن إشكال آخر تقدم عند البحث عن الجبر الأشعري (٢) وليس هذا جوابا عن الإشكال المطروح في المقام.

الجواب الخامس : ما أجاب به السيد المحقق الخوئي (دام ظله) في محاضراته في كلام مفصل نأخذ المهم منه ، وحاصله : منع كون الإرادة علّة تامة للفعل بل الفعل على الرغم من وجوده وتحققه يكون تحت اختيار النفس وسلطانها ولو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات ومؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة ، ولكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها ..

ثم قال : «إنّ الميزان في الفعل الاختياري ما أوجدته النفس باختيارها وإعمال القدرة والسلطنة المعبر عنها بالاختيار وقد خلق الله النفس الإنسانية

__________________

(١) لاحظ الميزان ، ج ١١ ، ص ٢١.

(٢) لاحظ الأصل الثالث من أصول الأشاعرة.

٣٠٩

واجدة لهذه السلطنة والقدرة وهي ذاتية لها ، وثابتة في صميم ذاتها ، ولأجل هذه السلطنة تخضع العضلات لها ، وتنقاد في حركاتها ، فلا تحتاج النفس في إعمالها لتلك السلطنة والقدرة إلى إعمال سلطنة» (١).

يلاحظ عليه أولا : إنّ الإصرار على أنّ الفعل بعد الإرادة تحت اختيار النفس وسلطانها وأنّ الإرادة ليست علّة تامة لصدور الفعل ، إصرار غير لازم ، إذ يكفي في ذلك إثبات كون الإرادة أمرا اختياريا وإن كان صدور الفعل بعدها أمرا إلزاميا. فالذي يجب التركيز عليه هو الأول (الإرادة فعل اختياري للنفس) لا الثاني (كون الفعل بعد الإرادة ممكن الصدور لا واجبه) وسيوافيك توضيحه في الجواب المختار.

وثانيا : إنّ القاعدة الفلسفية القائلة بأنّ (الشيء ما لم يجب لم يوجد) غير قابلة للتخصيص ، فكما هي تعم الأفعال الطبيعية ، فهكذا تعم الأفعال النفسانية. والملاك في الجميع واحد ، وهو أنّ صدور الفعل يتوقف على سد باب العدم على الشيء ومع سدّه يتصف الفعل بالوجوب ولا يبقى لوصف الإمكان مجال كما أوضحناه.

وثالثا : إنّ أعمال السلطنة والقدرة ، فعل من أفعال النفس. فما هو الملاك لكونها اختيارية؟ ، اللازم التركيز عليه بوجه واضح ، وما جاء في كلامه لا يزيد عن إشارات إلى البرهان وسيوافيك تفصيله.

الجواب السادس : ما أفاده السيد الأستاذ الإمام الخميني (دام ظله) بتوضيح وتحرير منا : وحاصله : إنّ الكبرى ممنوعة وهي جعل ملاك الفعل الاختياري كونه مسبوقا بالإرادة حتى تخرج الإرادة عن إطار الفعل الاختياري ، بل المناط في اختيارية الفعل سواء أكان فعلا جوارحيا أو جوانحيا كونه صادرا عن فاعل مختار بالذات ، غير مجبور في صميم ذاته ، ولا مضطر في حاق وجوده ، بل الاختيار مخمور في ذاته وواقع حقيقته ،

__________________

(١) المحاضرات ، ج ١ ، ص ٥٩ ـ ٦٠ وقد أخذنا موضع الحاجة منه.

٣١٠

والإنسان من مصاديق تلك الضابطة في أفعاله الاختيارية (١).

وإليك بيانه : إنّ ما يصدر من الإنسان من الأفعال على قسمين ، قسم منه يصدر عن طريق الآلات والأسباب الجسمانية كالخياطة والبناء ، وهذا القسم من الفعل يكون مسبوقا بالتصور والتصديق والشوق إلى الفعل والعزم والجزم الذي يلازم تحريك العضلات نحو المراد. وهذا ما يسمى بالأفعال الجوارحية.

وقسم يصدر منه بلا آلة بل بخلاقية منها ، وهذا كالأجوبة التي تصدر من العالم النحوي الذي له ملكة علم النحو عند السؤال عن مسائله. فإنّ هذه الأجوبة تصدر واحدة بعد الأخرى لا بتصور ولا بتصديق ولا بشوق ولا بعزم سابق على الأجوبة. وليس صدور تلك الأجوبة عن النفس كصدور الأفعال الجوارحية من الأكل والشرب مسبوقة بمبادئها ، بل هي تظهر في لوح النفس وتصدر عنها بدون هذه التفاصيل.

وهذه الأجوبة التي تعد صورا علمية ، موجودة للنفس مخلوقة لها ، خلقا اختياريا بحيث لو شاء ترك ، مع أنها ليست مسبوقة بالإرادة ولا بمبادئها ، بل كفى في كونها اختيارية كون النفس «فاعلا مختارا بالذات» بحيث تكون حقيقتها كونها مختارة ، وكونها مختارة نفس حقيقتها.

وبذلك يظهر أن وزان الإرادة بالنسبة إلى النفس وزان الصور العلمية. فكما أنّ صدور الصور العلمية لا يتوقف على المبادي السابقة ، فكذلك ظهور الإرادة في الضمير.

وكما أنّ ظهور تلك الأجوبة ، ظهور اختياري لدى النفس ، فكذلك الإرادة ، وليس مناط اختياريتها سبق إرادة أخرى ، لما عرفت من عدم كونها مسبوقة بها ، بل الملاك في اختياريتها كون النفس فاعلا مختارا بالذات وليس الاختيار مفصولا عن ذاتها وهويتها.

__________________

(١) لبّ الأثر في الجبر والقدر ، تقرير لدرس السيد الإمام بقلم الأستاذ دام ظله ، مخطوط.

٣١١

وإن شئت فاستوضح الحال بأفعاله سبحانه ، فإنها كلها اختيارية لكن لا بمعنى كونها مسبوقة بالإرادة التفصيلية الجزئية الحادثة لكونه سبحانه منزّها عن مثل هذه الإرادة ، وقد عرفت أنّ حقيقة إرادته وواقع كونه مريدا هو كونه فاعلا مختارا بالذات ، فلأجل ذلك تصبح أفعاله سبحانه في ظل هذا الاختيار الذاتي ، أفعالا اختيارية والنفس الإنسانية في خلاقيتها بالنسبة إلى الصور العلمية والإرادة التفصيلية مثال للواجب سبحانه ، (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١).

وما اشتهر من أنّ ملاك الفعل الاختياري السبق بالإرادة ، فإنّما هو ناظر إلى الأفعال الجوارحية الصادرة من الإنسان عن طريق الأسباب والآلات ولا يعم كل فعل اختياري.

ويمكن أن يقال : إنّ تعريف الفعل الاختياري بسبق الإرادة من قبيل جعل ما بالعرض مكان ما بالذات ، بل الملاك في كونه فعلا اختياريا للإنسان هو انتهاء الفعل إلى فاعل مختار بالذات ، وصدوره عنه بالإرادة. غير أنّا لتسهيل الأمر على الطلّاب نتوافق على هذا التعريف في مورد الأفعال الجوارحية لا مطلقا.

إلى هنا خرجنا بهذه النتائج :

١ ـ إنّ الأفعال النفسانية تصدر عن النفس لا بإرادة مسبقة بل يكفي في صدورها الاختيار الذاتي الثابت للنفس.

٢ ـ إنّ هذه الأفعال كما هي غير مسبوقة بالإرادة غير مسبوقة بمبادئها أيضا ، فليس قبل صدورها تصوّر ولا تصديق ولا شوق ولا عزم ولا جزم.

٣ ـ إنّ الأفعال القلبية اختيارية للنفس بملاك الاختيار الذاتي الثابت لها.

__________________

(١) سورة النحل : الآية ٦٠.

٣١٢

وأمّا الدليل على ثبوت اختيار ذاتي للنفس فيكفي في ذلك :

أولا : قضاء الفطرة والبداهة بذلك فإن كل نفس ، كما تجد ذاتها حاضرة لديها فهكذا تجد كونها مختارة ، وأنّ سلطان الفعل والترك بيدها ، ولها أن تقدم على عمل وأن لا تقدم عليه ، ولا شيء أظهر عند النفس من هذا الاختيار ، وإن أنكره الإنسان فإنما ينكره باللسان وهو معتقد به.

وثانيا : إنّ فاقد الكمال لا يكون معطيه فالنفس واجدة للاختيار في مقام الفعل ويعد فعلها فعلا اختياريا لأجل كونه مسبوقا بالإرادة. فمفيض الاختيار في مقام الفعل واجد له في مقام الذات. وهذا نظير ما يقال : إنّ الصور التفصيلية الظاهرة في الضمير من أفعال النفس ، وهي واجدة لها في مقام الذات ، فمن كانت له ملكة علم النحو ثم سئل مسائل كثيرة فأجاب عنها واحدة بعد الأخرى بأجوبة تفصيلية فهي كانت موجودة في صميم الملكة وذات النفس بوجود بسيط إجمالي ، لا بوجود تفصيلي. وهذا يدلنا على أنّ كل ما يظهر للنفس في مقام الفعل والتفصيل ، ومنه الاختيار ، فهي واجدة له في مقام الذات بوجه بسيط إجمالي مناسب لمقام الذات.

إذا عرفت ذلك فنحن في غنى عن إيضاح الجواب ولعل ما ذكرناه هو مقصود صاحب المحاضرات كما نقلنا عنه. ولكنه دام ظله يصرّ على أمر لا دخالة له في الإجابة وهو أنّه ليست الإرادة علّة تامة للفعل بل الفعل ـ على الرغم من وجوده وتحققه ـ يكون تحت اختيار النفس وسلطانها ، ولو كانت الإرادة علّة تامة لحركة العضلات ومؤثرة فيها لم يكن للنفس تلك السلطنة وكانت عاجزة عن التأثير فيها مع فرض وجودها.

أقول : لو كانت الإرادة علّة تامة للفعل ، أو كانت جزءا أخيرا من العلة التامة كما هو الحق بحيث يكون تحقق الفعل معها ضروريا ، فلا ينافي ذلك سلطان النفس واختيارها قبل الإرادة ، إذ لها أن تتأمل فيما يترتب على الفعل والإرادة من الآثار السيئة ولا تريدها ، ولكنها باختيارها أوجدت الإرادة وحققتها ، ومعها وجب صدور الفعل من النفس. ومثل هذا لا يوجب خروج

٣١٣

الفعل عن كونه اختياريا. فالإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار ، والفعل وإن كان يتحقق وجوده بعدها لكن لا يخرجه اللزوم عن كونه فعلا اختياريا ، وهذا كالملقي نفسه من شاهق باختيار ، لا يعد هبوطه وسقوطه فعلا خارجا عن الاختيار ، لكون مباديه بالاختيار. فالذي يجب التركيز عليه هو اختيارية الإرادة ولا يضر وجوب الفعل بعد حصولها إذا كانت الإرادة اختيارية. فالتركيز على عدم وجوب الفعل بعد الإرادة ـ فرارا عن اضطرارية الفعل ـ ليس بأولى من التركيز على وجوب الفعل بعد الإرادة ، إذا كانت الإرادة فعلا اختياريا للنفس باختيار ذاتي لها.

فالذي تنحل به العقدة هو كون الإرادة تحت سلطان النفس لا كون الفعل غير واجب بعد حصول الإرادة.

* * *

٣١٤

مناهج الجبر

(٣)

الجبر الماديّ

قد تعرفت على القسمين الأولين من الجبر وهما الجبر الأشعري والجبر الفلسفي وبقي الكلام في الجبر المادي الذي يحلل فعل الإنسان من خلال العلل المادية المكونة لشخصيته : روحياته ونفسانياته. وليست هي إلّا ما يعبّر عنه في ألسنتهم ب «مثلث الشخصية» ، فإنها المكونة لحقيقة كل إنسان وواقعيته التي تسوقه إلى الفعل المناسب لها «وكل إناء بما فيه ينضح». وقبل تقرير دليلهم نأتي بكلمة :

الانعتاق من القيود تحت غطاء «الجبر»

إنّ الاعتقاد بالجبر شيء يصادم الوجدان والفطرة ، كما يصادم ما اتفق عليه العقلاء ، حتى أنّ القائلين به في الأبحاث الفلسفية يدافعون عن الحرية في حياتهم الاجتماعية ويقفون في وجه المعتدي على حقوقهم ويشجبون عدوانه ويشكونه إلى المحاكم القانونية فهؤلاء جبريون في الفكر ، ولكنهم ملتزمون بالاختيار في مقام العمل والمعاشرة ، فعند ذلك ينطرح هذا السؤال :

ما هذا التناقض بين الفكر والعمل؟ ولما ذا يدّعي هؤلاء أنّ الإنسان

٣١٥

مسيّر لا مخيّر ، مع أنهم يعاملون الإنسان في حياتهم معاملة الموجود المختار؟.

الحق أنّ هنا دوافع مختلفة بعضها اجتماعية وبعضها الآخر سياسية.

أما الأولى : فلأنّ هؤلاء يريدون تجاهل القوانين وتجاوز الحدود والحصول على الحرية المطلقة في العمل ، والانحلال عن كل قيد ورفض كل قاعدة اجتماعية وأخلاقية. ومن الطبيعي أنّ هذا لا يجتمع مع تحمل المسئولية المترتبة على الحرية والاختيار ، فلا بدّ من اللجوء إلى أصل فلسفي يرفع عن كاهل الإنسان تلك المسئولية وليس هو إلّا القول بالجبر وكون الإنسان مسيّرا.

وأمّا الثانية : فأكثر أصحاب هذه الفكرة هم السلطات الغاشمة الفارضة نفسها وسلطانها على الناس بالقهر ، فهم يروجون تلك الفكرة حتى يبرروا بها أفعالهم الإجرامية.

ولأجل ذلك يصوّر شاعر مبدع العامل الأول قائلا :

سألت المخنّث عن فعله

علام تخنّثت يا ماذق

فقال ابتلاني بداء عضال

وأسلمني القدر السّابق

ولمت الزّناة على فعلهم

فقالوا بهذا قضى الخالق

وقلت لآكل مال اليتيم

أكلت وأنت امرؤ فاسق

فقال ولجلج في قوله

أكلت وأطعمني الخالق

وكل يحيل على ربّه

وما فيهمو أحد صادق

هذا فكر جبريّ العصور السابقة ، وأمّا الجبريّ الماديّ المعاصر ، فقد أخذ هذا المنطق ونسبه إلى العوامل المادية ليصل إلى ما وصل إليه الجبري السابق من الانحلال من القيود.

٣١٦

العوامل المكوّنة للشخصية

استند أصحاب هذه النظرية إلى أنّ الإنسان وإن كان حرّا في ظاهره ولكن إذا لوحظت العوامل التي تكوّن شخصيته الفكرية ، لحكمنا بأنّه لا مناص له إلّا بالجنوح إلى ما توحي إليه نفسيته.

والعوامل المكونة لشخصيته : تفكراته وتعقلاته ، وروحياته ونفسانياته ، تتلخص في النواميس التالية :

١ ـ الوراثة ،

٢ ـ الثقافة ،

٣ ـ البيئة.

ففي ناموس الوراثة ، يرث الأولاد من آبائهم وأمهاتهم السجايا العليا أو الصفات الدنيئة ، فهي تنتقل عن طريق الحيوان المنوي في الأب والبويضة في الأم إلى الوليد ، ومن خيوطهما تنسج خيوط شخصيته ، وبحسبها يكون سلوكه.

وأما الثقافة والتعليم ، فلهما أيضا تأثير في شخصية الإنسان ، فمن هذا الطريق تزرع في كيانه الشخصي الأفكار الخاصة من توحيد أو إلحاد ، وثورة أو خمود ، وقناعة أو حرص ، إلى غير ذلك من الروحيات التي لها اقتضاء خاص وبحسبها يميل الإنسان إلى سلوك معين.

وأما البيئة والمحيط ، فالإنسان وليد بيئته في سلوكه وخلقه ، ولأجل ذلك نجد اختلاف السوالك في المجتمعات حسب اختلاف البيئات.

هذه هي العوامل البنّاءة لشخصية الإنسان وروحياته ، وكل إنسان يحوك على نولها ويعمل بحسب اقتضائها. وعلى ضوء هذا ، فكل فعل ينتهي إلى علّة موجبة لوجود الفعل ، وليست هي إلّا شخصيته المتكونة من العوامل المحيطة به السائقة له نحو الفعل. حتى أنّ الإرادة التي تعدّ رمزا للاختيار ، وليدة تلك العوامل في صقع النفس ،. فإذا كانت هذه العوامل خارجة عن الاختيار ، فما ينتهي إليها كذلك

يلاحظ عليه : إنّه لا شك في تأثير هذه العوامل في تكوين الشخصية ،

٣١٧

ولكن ليس تأثيرها إلى درجة يسلب الاختيار من الإنسان. إذ لو صحّ هذا ، للزم بطلان جهود المربّين ، وصيرورة أعمال المصلحين هواء في شبك. بل هذه العوامل لا تعدو عن كونها مقتضيات وأرضيات تطلب أمورا حسب طبيعتها ، ولكن وراءها حرية الإنسان واختياره. وقد خلط المادي في هذه النظرية بين الإيجاب والاقتضاء ، والعلّة التامة والعلّة الناقصة. ولأجل إيضاح مدى تأثير هذه العوامل نبحث عن كل واحدة منها على وجه الإجمال.

أما الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة ، ولكن لا يعلم حدودها سعة وضيقا ، فلا شك أن الأولاد يرثون الصفات الخلقية والروحية على وجه الإجمال ولكن ما يتركه الآباء والأمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين :

١ ـ ما يفرض على الأولاد فرضا لا يمكن إزالته مثل الحمق ، والبلادة ، والعقل والذكاء ، والجبن والشجاعة وغير ذلك مما لا يمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية والإصلاحية.

٢ ـ ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية والاقتضاء ، وبصورة تأثير العلّة الناقصة ، فيمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية والطرق العلمية وذلك كالأمراض الموروثة كالسل وغيره ، ومثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان والتمرد فإنه يمكن إزالتها برفع مستوى فكر الإنسان وعقليته ، وإيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء والأمهات مصيرا لازما وقضاء حتما ، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإنسان واختياره وسائر العوامل التربوية المغيرة لأرضية الوراثة.

وأما التعليم والثقافة ، فلا شك في تأثيرهما في شخصية الإنسان ولتأثيرهما شواهد جمّة في التاريخ ، ولكن ليس دور التعليم في تكوين الشخصية على وجه الإيجاب ، فله قبول ما يلقى إليه من المفاهيم والتعاليم ، كما أنّ له رفضها ، ولأجل ذلك يختلف خريجو الثقافة الواحدة بين قابل لما أوحته إليه ، ورافض له. وهذا دليل على أنّ الثقافة لا تؤثر إلّا بشكل غير إيجابي.

٣١٨

وأما الثالث من العوامل أعني البيئة ، فلها دور خاص في تكوين الشخصية ، فالقاطنون في المناطق الحارة تختلف طباعهم وروحياتهم عمن يعيشون في المناطق الباردة ، لكن العوامل الطبيعية والجغرافية كالعاملين السابقين لا تبلغ في التأثير حدّ الجبر بحيث لا يتمكن الإنسان من التخلص من أثرها.

فإذا كان تأثير كل منها تأثيرا اقتضائيا ، فليس مجموعها أيضا مؤثرا على وجه الإيجاب بحيث لا يمكن تغيير آثارها بالعوامل المشابهة. وليس الإنسان بعد ما تأثر بالوراثة والثقافة والبيئة كمجسمة حجرية لا يمكن تغيير صفتها أو جزئها إلّا بالقضاء عليها ، بل الإنسان بعد ذلك قابل للتأثّر والتغيير في ظل عاملين مختلفين :

١ ـ التفكر والتدبّر في صالح أعماله وطالح أفعاله ، وما يترتب عليهما من الآثار والمضاعفات ، سواء أكانت الأفعال مناسبة لشخصيته المكونة في ظل تلك العوامل ، أو منافية لها. وإنكار ذلك إنكار للبداهة.

٢ ـ الوقوع في إطار ثقافة وبيئة تختلف عمّا كان فيه ، فلا شك أنّ لهذين العاملين ، حتى في السنين المتأخرة من العمر ، تأثير في إزالة بعض أو كل ما خلفته العوامل السابقة. وهذا دليل على أنّ المثلث الماضي لم يكن مؤثرا بنحو الإيجاب حتى لا يمكن التخلّف عنه ، بل التأثير بشكل الاقتضاء.

وفي الختام ، لا يمكن لإنسان أن ينكر دور الأنبياء والمصلحين في تغيير الأجيال والمجتمعات بعد ما تمت شخصيتهم وتكونت روحياتهم ونفسانياتهم وكم لذلك من شواهد تاريخية نتركها للباحث.

* * *

٣١٩
٣٢٠