الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

إنكار الكسب من محققي الأشاعرة

الأشاعرة وإن أصرّوا على نظرية الكسب إلّا أنّ هناك رجالا منهم أدركوا جفاف النظرية ومضاعفاتها السيئة ، فنقضوا ما أبرموه وأجهروا بالحقيقة. ونخص بالذكر منهم رجالا ثلاثة :

الأول : إمام الحرمين أبو المعالي الجويني (ت ٤٧٨) ، فقد صرّح بتأثير قدرة العباد في أفعالهم ، وأنّ قدرتهم تنتهي إلى قدرة الله سبحانه ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات ، وكل سبب يستمد من سببه المقدم عليه ، وفي الوقت نفسه يستمد ذاك السبب من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه وهو الخالق للأسباب ومسبباتها المستغني على الإطلاق» (١).

الثاني : الشيخ الشعراني (ت ٩٧٣) وهو من أقطاب الحديث والكلام في القرن العاشر فقد وافق إمام الحرمين في هذا المجال ، وقال من زعم أنه لا عمل للعبد فقد عاند ، فإن القدرة الحادثة إذا لم يكن لها أثر فوجودها وعدمها سواء.

ومن زعم أنه مستبد بالعمل فقد أشرك ، فلا بد أنه مضطر على الاختيار (٢).

الثالث : الشيخ محمد عبده (ت ١٣٢٣) فقد خالف الرأي العام عند الأشاعرة وصرّح بتأثير قدرة العبد في فعله ولم يبال في ذلك باعتراض رجال الأزهر الذين كانوا يكفّرون من قال بالعلّة الطبيعية أو بمطلق العلّة غيره سبحانه ويرددون في ألسنتهم قول القائل :

ومن يقل بالطّبع أو بالعلّة

فذاك كفر عند أهل الملّة

__________________

(١) لاحظ نص كلامه في الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٨ ـ ٩٩ وهو بشكل أدق خيرة الحكماء والإمامية جمعاء.

(٢) اليواقيت والجواهر في بيان عقيدة الأكابر ، للشعراني ، ص ١٣٩ ـ ١٤١.

٢٨١

قال الإمام عبده في كلام طويل : منهم القائل بسلطة العبد على جميع أفعاله واستقلاله المطلق وهو غرور ظاهر (١).

ومنهم من قال بالجبر وصرّح به ومنهم من قال به وتبرأ من اسمه (٢) وهو هدم للشريعة ومحو للتكاليف وإبطال لحكم العقل البديهي ، وهو عماد الإيمان.

ودعوى أنّ الاعتقاد بكسب العبد لأفعاله (٣) يؤدي إلى الإشراك بالله ـ وهو الظلم العظيم ـ دعوى من لم يلتفت إلى معنى الإشراك على ما جاء به الكتاب والسنّة. فالإشراك اعتقاد أنّ لغير الله أثرا فوق ما وهبه الله من الأسباب الظاهرة ، وأنّ لشيء من الأشياء سلطانا على ما خرج عن قدرة المخلوقين ...» (٤).

وقد وقف مفتي الديار المصرية على هذا النوع من التفكير عن طريق اطّلاعه على نهج البلاغة للإمام أمير المؤمنين (عليه‌السلام) واتّصاله بالسيد المجاهد جمال الدين الأسدآبادي ، فقد كان لهما الأثر البالغ في بناء شخصيته الفكرية والفلسفية والاجتماعية والسياسة.

بقيت هنا آراء غير قيّمة لبعض الأشاعرة في تفسير الكسب لا يهمنا ذكرها (٥).

* * *

__________________

(١) يريد المعتزلة.

(٢) يريد الأشاعرة.

(٣) يريد من الكسب ، الإيجاد والخلق لا الكسب المصطلح عند الأشاعرة كما هو واضح لمن لاحظ كلامه.

(٤) رسالة التوحيد ، ص ٥٩ ـ ٦٢.

(٥) راجع في الوقوف عليها ، «أبحاث في الملل والنحل» الجزء الثاني ، ص ١٤٠ ـ ١٥٨.

٢٨٢

القرآن وخلق الأعمال

قد عرفت الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة على مسألة خلق أعمال العباد بقدرة العباد وحدها ، ولكن للقوم أدلّة سمعية نشير إلى بعضها. فقد استدل الشيخ الأشعري عليها في كتاب (الإبانة) بآيتين :

الآية الأولى : قوله سبحانه : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(١).

يلاحظ على الاستدلال أمران :

أ ـ إنّ الاستدلال مبني على كون «ما» في كلامه سبحانه ، مصدرية وإنّ معنى الآية : والله خلقكم وعملكم. ولكن الظاهر أن «ما» موصولة بقرينة قوله (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ، والمراد من الموصول هناك الأصنام والأوثان ، ووحدة السياق تقتضي كون «ما» في الآية الثانية موصولة أيضا ، فيكون معنى الآية : «أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيها العبدة والأصنام التي تعملونها». وتتم الحجة على المشركين بأنهم ومعبوداتهم مخلوقات الله سبحانه ، فلا وجه لترك عبادة الخالق وعبادة المخلوق.

وأمّا إذا قلنا بكون «ما» مصدرية ، فتفقد الآية الثانية صلتها بالأولى ويكون مفاد الآيتين : «أتعبدون الأصنام التي تنحتونها والله خلقكم أيها العبدة وخلق أعمالكم وأفعالكم» ، والحال أنّه ليس لعملهم صلة بعبادة ما ينحتونه.

ب ـ إنّه لو كانت «ما» مصدرية لتمت الحجة على غير صالح الخليل ولانقلبت عليه ، إذ عندئذ ينفتح لهم باب العذر بحجة أنّه لو كان الله سبحانه هو الخالق لأعمالنا فلما ذا توبخنا وتنددنا بعبادتنا إيّاهم.

الآية الثانية : قوله سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ

__________________

(١) سورة الصافات : الآيتان ٩٥ و ٩٦.

٢٨٣

السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (١).

يلاحظ عليه : إنّ الآيات الدّالة على حصر الخالقية بالله سبحانه كثيرة في القرآن الكريم (٢).

لكن المهم هو الوقوف على ما تهدف إليه الآيات فإن لهذا القسم منها احتمالين لا يتعين أي منهما إلّا باعتضاده بالآيات الأخر ، ودونك الاحتمالين :

أ ـ حصر الخلق والإيجاد على وجه الإطلاق بالله سبحانه ونفيه عن غيره بتاتا على وجه الاستقلال والتبعية وهذا ما تتبناه الأشاعرة.

ويردّه ما مضى من الآيات الكثيرة الدّالة على أنّ للعلل الطبيعية دورا في عالم الوجود بإذن الله سبحانه (٣).

ب ـ إنّ الخالقية المستقلة النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء منحصرة بالله سبحانه ، ولكن غيره يقوم بأمر الخلق والإيجاد بمشيئته وإرادته ، والكل جنود لله سبحانه. ويدل على هذه النظرية الآيات التي تثبت للموجودات تأثيرا وللإنسان دورا في أفعاله.

ونزيد هنا بيانا مضافا إلى ما مرّ في التوحيد في الخالقية : إنّ الآيات الواردة حول أفعال الإنسان على قسمين ؛ قسم يعد الإنسان عاملا فاعلا لأفعاله ، وقسم ينسب قسما من الأفعال إلى الإنسان. فمن القسم الأول قوله سبحانه : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (٤). وقوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (٥). وقوله سبحانه : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ

__________________

(١) سورة فاطر : الآية ٣.

(٢) لاحظ الأنعام : الآيتان ١٠١ و ١٠٢. والحشر : الآية ٢٤. والأعراف : الآية ٥٤.

(٣) لاحظ بحث التّوحيد في الخالقية المتقدم.

(٤) سورة التوبة : الآية ١٠٥.

(٥) سورة محمد : الآية ٣٣.

٢٨٤

يُرى) (١).

وأمّا القسم الثاني : فحدّث عنه ولا حرج ، فقد نسب في الذكر الحكيم كثيرا من الأفعال إلى الإنسان كالجهاد ، والإنفاق ، والإحسان ، والسرقة ، والتطفيف ، والكذب وغير ذلك من صالح الأعمال ورديها.

فعل واحد ينسب إلى الله وإلى العبد معا

هناك قسم ثالث من الآيات ينسب الفعل الواحد إلى نفسه سبحانه ، وإلى عبده في ضمن آيتين أو آية واحدة.

١ ـ يقول سبحانه : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٢). فيخصّ الرّازقية بنفسه بشهادة تقدم الضمير المنفصل «هو». وفي الوقت نفسه يأمر الإنسان بالقيام بالرزق بالنسبة إلى من تحت يده ويقول : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٣).

٢ ـ يقول سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٤). فيخص الزارعية بنفسه وذلك معلوم من سياق الآيات. وفي الوقت نفسه يعد الإنسان زارعا ويقول : (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ...) (٥). فكيف تجتمع هذه التوسعة مع الحصر السابق.

٣ ـ يقول سبحانه : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٦).

__________________

(١) سورة النجم : الآيتان ٣٩ و ٤٠.

(٢) سورة الذاريات : الآية ٥٨.

(٣) سورة النساء : الآية ٥.

(٤) سورة الواقعة : الآيتان ٦٣ و ٦٤.

(٥) سورة الفتح : الآية ٢٩.

(٦) سورة المجادلة : الآية ٢١.

٢٨٥

فينسب الفعل الواحد وهو الغلبة في وقت واحد إلى نفسه ورسله.

٤ ـ يقول سبحانه : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (١).

فيعد نفسه ناصرا وفي الوقت نفسه يعد المؤمنين ناصرين أيضا.

٥ ـ يقول سبحانه : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ، وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) (٢). ترى أنّه سبحانه ينسب أمر الخلق إلى رسوله بصراحة ، حتى أنّ الرسول يصف نفسه به ويقول (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٣). ومع ذلك أنّ القرآن الكريم يخصّ الخالقية بالله سبحانه في كثير من الآيات التي تعرفت عليها ، ولا يحصل الجمع بين هذه الآيات إلّا بالقول بأنّ الخالقية النابعة من الذات غير المعتمدة على شيء تختص به سبحانه ، ومثله سائر الأفعال من الرزق والزرع والغلبة والنصرة ، فالكل بالمعنى السابق مختص به سبحانه لا يعدوه ، لأنها من خصائص الواجب ولا يتصف بها الممكن. وأمّا الفعل المعتمد على الواجب المستمد منه فهو من شأن العبد يقوم به بإقدار منه سبحانه وإذن. ولأجل ذلك يكرر سبحانه لفظة «بإذني» أو «بإذن الله» في الآيات المتقدمة وهذا واضح لمن عرف الفباء القرآن. والأشعري ومن تبعه قصروا النظر على قسم واحد ، وغفلوا عن القسم الآخر ، ولا يقف على ذلك إلّا من فسّر الآيات تفسيرا موضوعيا(٤).

* * *

__________________

(١) سورة محمد : الآية ٧.

(٢) سورة المائدة : الآية ١١٠.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٤٩.

(٤) المراد من التفسير الموضوعي هو جمع الآيات الواردة حول موضوع ما ، ثم عرض بعضها على البعض الآخر ، حتى يتبين المراد والمفهوم. وهذا نمط وطراز حديث من التفسير أبدعه شيخنا الأستاذ العلامة جعفر السبحاني وخرج منه أجزاء خمسة باسم «مفاهيم القرآن».

٢٨٦

الأصل الثاني :

علمه الأزلي المتعلق بأفعال العباد

هذا هو الأصل الثاني الذي اعتمد عليه اتباع الإمام الأشعري. وبيانه : إنّ ما علم الله عدمه من أفعال العباد فهو ممتنع الصدور عن العبد ، وإلّا جاز انقلاب العلم جهلا. وما علم الله وجوده من أفعاله ، فهو واجب الصدور عن العبد ، وإلّا جاز ذلك الانقلاب ، ولا مخرج عنهما لفعل العبد. فيبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب ، والممتنع.

وكأن هذا الاستدلال ، استدلال نقضي على القائلين بالاختيار. ولأجل ذلك يقول المستدل بعد نقله : «إن ما ذكرنا يبطل التكليف لابتنائه على القدرة والاختيار ، فما لزم القائلين بمسألة خلق الأعمال فقد لزم غيرهم لأجل اعتقادهم بعلمه الأزلي المتعلق بالأشياء» حتى أنّ الإمام الرازي ذكر هذا الدليل متبجحا بقوله : «ولو اجتمع جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا إلا بالتزام مذهب هشام وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها» (١).

أقول : يلاحظ عليه : مضافا إلى أنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم أمر غير ثابت ولم يقل به بعد انتمائه إلى الإمام الصادق (عليه‌السلام) : إنّ الإجابة عن هذا الاستدلال واضحة جدا ، وإنّ زعم الرازي أنّ الثقلين لا يقدرون على حلّ عقدته ، وهي كما أوضحناه عند البحث عن القضاء والقدر أنّ علمه الأزلي لم يتعلق على صدور كل فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه. وعلى ضوء ذلك تعلق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور ولا اختيار ، كما تعلق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش على وجه الجبر عالما بلا اختيار ، ولكن تعلق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية. فتعلق علمه بوجود

__________________

(١) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٥٥.

٢٨٧

الإنسان وكونه فاعلا مختارا ، وأنّ كل فعل منه يصدر اختيارا ، ومثل هذا العلم يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان ، كما أوضحناه فيما مضى (١).

وفي المقام كلمات للمحققين أوردناها في ملحق خاص ، فلاحظ (٢).

* * *

الأصل الثالث :

إرادته الأزلية المتعلقة بأفعال العباد

هذا هو الأصل الثالث الذي اعتمد عليه الأشاعرة ، قالوا : ما أراد الله وجوده من أفعال العباد وقع قطعا ، وما أراد الله عدمه منها لم يقع قطعا ، فلا قدرة له على شيء منهما(٣).

يلاحظ عليه : إنّ هذا الاستدلال نفس الاستدلال السابق لكن بتبديل العلم بالإرادة ، فيظهر الجواب عنه مما قدمناه من الجواب عن سابقه. وبما أنّ هذا البحث مما كثر النقاش فيه من جهات أخرى نفيض القول فيه حسب ما يسعه المقام ، فيقع البحث في جهات :

الجهة الأولى : هل إرادته سبحانه نفس علمه بالأصلح أو شيء آخر؟. قد أوضحنا الحال فيه عند البحث في الصّفات الثبوتية وقلنا إنّ الإرادة صفة كمال لا يمكن سلبها عن الذات بما هي كمال ، وهي غير العلم. نعم ، الإرادة المتجددة الحادثة المتدرجة الوجود ، لا تليق بساحته سبحانه ، وإنما اللائق بها كمال الإرادة متجردة عن وصمة الحدوث والتدريج وإن لم نعرف حقيقتها.

الجهة الثانية : على القول بأنّ إرادته غير علمه وقع الكلام في شمول

__________________

(١) راجع في توضيح الجواب بحث القضاء والقدر.

(٢) لاحظ الملحق الثاني في آخر الكتاب.

(٣) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٥٦.

٢٨٨

إرادته سبحانه لأفعال الإنسان ، أو أنّ أفعاله خارجة عن إطار الإرادة الإلهية. فالمعتزلة على الثاني ـ حفظا لاختيار الإنسان وتجنبا عن القول بالجبر ـ والأشاعرة على الأول لكن بالالتزام بتعلق إرادته سبحانه على أفعال البشر من غير واسطة كما هو الحال في غير الأفعال.

وأمّا الإمامية فقد اختلفت آراؤهم ، فيظهر من الشيخ الصدوق سعة إرادته سبحانه لأفعال العباد ، لكن بوجه مجمل لا يعلم كنه مراده منه. وذهب الشيخ المفيد إلى خلافه وقال : «إنّ الله تعالى لا يريد إلّا ما حسن من الأفعال ولا يشاء إلا الجميل من الأعمال ولا يريد القبائح ولا يشاء الفواحش ، تعالى الله عمّا يقول المبطلون علوا كبيرا. قال الله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) وقال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ...» إلى أن قال : «فلو كان سبحانه مريدا لمعاصيهم لنافى ذلك التخفيف واليسر لهم ، فكتاب الله شاهد على ضد ما ذهب إليه الضالون المفترون على الله الكذب» (١).

وقد صارت هذه المسألة مائزة بين الأشاعرة والمعتزلة واتّخذ كل من الفريقين نتيجة رأيه شعارا لمنهجه. ولأجل ذلك لما دخل القاضي عبد الجبار المعتزلي (ت ٤١٥) دار الصاحب بن عباد فرأى فيه أبا إسحاق الأسفرائيني الأشعري (ت ٤١٣) ، قال القاضي : «سبحان من تنزّه عن الفحشاء» (يريد بذلك أنّ القول بسعة إرادته لأفعال الإنسان يستلزم أنّه أراد الفحشاء). فأجابه أبو إسحاق بقوله : «سبحان من لا يجري في ملكه إلّا ما يشاء» (مريدا بذلك أنّ القول بوقوع أفعال العباد بلا مشيئة منه سبحانه يستلزم القول بوجود أشياء في سلطانه ومملكته خارجة عن مشيئته) (٢).

وعلى كل تقدير ، فالحق تعلّق إرادته بكل ما يوجد في الكون من دون فرق بين فعل الإنسان وغيره ، ولا يقع في ملكه إلّا ما يشاء ولكن لا على

__________________

(١) تصحيح الاعتقاد ص ١٦ بتلخيص.

(٢) شرح المقاصد ، ج ٢ ، ص ١٤٥.

٢٨٩

الوجه الذي ذهبت إليه الأشاعرة من أنّ ما يدخل في الوجود فهو بإرادته تعالى من غير واسطة سواء أكان من الأمور القائمة بذاتها أو التابعة لها من الأفعال بلا واسطة. فإنه رأي زائف ، لما دللنا عليه من أنّ نظام الوجود ، نظام الأسباب والمسببات وأنّه لا تتعلق إرادته سبحانه على خلق شيء بلا توسيط أسبابه وعلله وقد عرفت البرهان الفلسفي على ذلك والآيات القرآنية (١).

فالأشاعرة وإن أصابوا في القول بسعة الإرادة لكنهم أخطئوا في جعل متعلقها نفس الفعل بلا واسطة ، ولا يترتب على ذلك سوى الجبر الذي يتبنونه. بل الحق تعلق إرادته على جميع الكائنات لكن عن طريق صدورها عن أسبابها وعللها. فإنّ القول بخروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه لغاية تنزيهه تعالى عن وصمة القبائح والشرور يستلزم القول بإثبات الشركاء لله سبحانه بالحقيقة ، لأنه يمثل الإنسان خالقا لأفعاله مستقلا في إيجادها ، وهو كما قال صدر المتألهين : «أشنع من مذهب من جعل الأصنام والكواكب شفعاء عند الله ويلزمهم أنّ ما أراد ملك الملوك لا يوجد في ملكه ، وأنّ ما كرهه يكون موجودا فيه وذلك نقصان شنيع ، وقصور شديد في السلطنة والملكوت تعالى القيوم عن ذلك علوّا كبيرا» (٢).

ولكنّا ، نعذّر الطائفتين ، فإحداهما تعلقت فكرتها بتنزيهه سبحانه فلم تر بدّا من القول بعدم سعة إرادته لأفعال العباد والأخرى أرادت توحيده وتنزيهه من الشرك والثنويّة فلم تر بدا من القول بسعة إرادته.

والحق إمكان الجمع بين التنزيه والتوحيد بالبيان التالي :

الجهة الثالثة ـ إنّ القول بسعة إرادته سبحانه يبتني على مقدمات ثابتة :

١ ـ سعة قدرته وخالقيته سبحانه ، وأنّ كل ما في صفحة الكون من

__________________

(١) لاحظ ما ذكرناه عند البحث عن نظرية خلق الأعمال حيث قلنا بأنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة وهو يقتضي أن يكون التأثير ملازما له في جميع المراتب. ولاحظ الآيات التي ذكرناها بعده.

(٢) الأسفار ، ج ٦ ، ص ٣٧٠.

٢٩٠

دقيق وجليل ، وذات وفعل ، مخلوق لله سبحانه على البيان الذي سمعت.

٢ ـ إنّ الوجود الإمكاني وجود فقير قائم بالواجب غير مستغن عنه في شأن من شئونه لا في ذاته ولا في فعله ، وإنّ غناء فعل الإنسان عن الواجب يستلزم خروجه عن حد الإمكان وانقلابه موجودا واجبا ، وهذا خلف فما في الكون يجب أن يكون منتهيا إلى الواجب قائما به قيام المعنى الحرفي بالاسمي. فالقول باستقلال الإنسان في فعله أشبه بمقالة الثنوية.

٣ ـ إرادته سبحانه نفس ذاته ، فهو علم كله وقدرة كله ، وحياة كله ، وإرادة كله ، وإن لم يتحقق لنا ، كنه إرادته.

ففي ضوء هذه الأصول الثلاثة تثبت سعة إرادته بوضوح ولا يحتاج إلى التأكيد والتبيين.

هذا حال الدلائل العقلية ، وهناك آيات في الذكر الحكيم تؤيد عموم إرادته :

١ ـ يقول سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (١).

٢ ـ ويقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) (٢). والآية وإن كانت ناظرة إلى ظاهرة خاصة وهي الإيمان ، ولكنها تؤدي ضابطة كلية في جميع الظواهر.

٣ ـ ويقول سبحانه : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ) (٣). وهذه الآية قرينة على أنّ الآية السابقة كنفس هذه الآية بصدد إعطاء الضابطة ، وإن كان البحث فيهما في إطار الإيمان وقطع اللينات أو تركها.

__________________

(١) سورة التكوير : الآية ٢٩.

(٢) سورة يونس : الآية ١٠٠.

(٣) سورة الحشر : الآية ٥.

٢٩١

وهناك آيات بهذا المضمون تركنا إيرادها (١).

هذا ما يرشدنا إليه الذكر الحكيم ، وعليه تضافرت أحاديث أئمة أهل البيت.

١ ـ روى الصدوق في توحيده بسنده عن حفص بن قرط عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «من زعم أنّ الله تعالى يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه ، ومن زعم أنّ المعاصي من غير قوة الله ، فقد كذب على الله ، ومن كذب على الله أدخله النّار» (٢).

٢ ـ روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلف النّاس ما لا يطيقون والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(٣).

٣ ـ وروى عن حمزة بن حمران قال : قلت له : «إنّا نقول إنّ الله لم يكلف العباد إلّا ما آتاهم ، وكل شيء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع ، ولا يكون إلّا ما شاء الله ، وقضى ، وقدّر ، وأراد. فقال : والله إنّ هذا لديني ودين آبائي» (٤).

٤ ـ وروى الصدوق عن البزنطي أنّه قال لأبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) : «إنّ أصحابنا بعضهم يقولون بالجبر وبعضهم بالاستطاعة فقال لي : أكتب : قال الله تبارك وتعالى : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إليّ فرائضي ، وبنعمتي قويت على

__________________

(١) راجع البقرة : الآيتان ٢٤٩ و ٢٥١ ، الأعراف : الآية ٥٨ ، الأنفال : الآية ٦٦ ، آل عمران : الآية ٤٩ ، النّساء : الآية ٦٤ وغيرها.

(٢) توحيد الصدوق باب نفي الجبر والتفويض ، الحديث ٢ ، ص ٣٥٩.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٥ ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٦٤ ، ص ٤١.

(٤) المصدر السابق ، الحديث ٦٥ ، ص ٤١.

٢٩٢

معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا قويا» (١). الحديث.

والبرهان العقلي وآيات الذكر الحكيم وأحاديث العترة الطاهرة أثبتت سعة إرادته ، وإنّما الكلام في أنّ القول بسعة الإرادة لا ينافي اختيار العبد وحريته ، وهذا يبين في الجهة التالية :

الجهة الرابعة ـ في أنّ سعة إرادته لأفعال الإنسان لا يستلزم الجبر ، وذلك لأن إرادته لم تتعلق على صدور فعل الإنسان منه سبحانه مباشرة وبلا واسطة ، بل تعلقت على صدور كل فعل من علّته بالخصوصيات التي اكتنفتها.

مثلا تعلقت إرادته سبحانه على أن تكون النار مبدأ للحرارة بلا شعور وإرادة ، كما تعلقت إرادته على صدور الرعشة من المرتعش مع العلم ولكن لا بإرادة واختيار ، وهكذا تعلقت إرادته في مجال الأفعال الاختيارية للإنسان على صدورها منه مع الخصوصيات الموجودة فيه المكتنفة به من العلم والاختيار وسائر الأمور النفسانية.

وصفحة الوجود الإمكاني مليئة بالأسباب والمسببات المنتهية إليه سبحانه فمثل هذه الإرادة المتعلقة على صدور فعل الإنسان منه بقدرته المحدثة واختياره الفطري تؤكد الاختيار ولا تسلبه منه.

ومع ذلك كله ليس فعل الإنسان فعلا أجنبيا عنه سبحانه غير مربوط به ، كيف وهو بحوله وقوّته يقوم ويقعد ويتحرك ويسكن. ففعل الإنسان مع كونه فعله بالحقيقة دون المجاز ، فعل الله أيضا بالحقيقة فكل حول يفعل به الإنسان فهو حوله ، وكل قوة يعمل بها فهي قوته.

قال العلّامة الطباطبائي : «إنّ الإرادة الإلهية تعلقت بالفعل بجميع شئونه وخصوصياته الوجودية ، ومنها ارتباطه بعلله وشرائط وجوده ، وبعبارة أخرى تعلقت الإرادة الإلهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا ، بل من

__________________

(١) التوحيد ، باب المشيئة والإرادة ، الحديث ٦ ، ص ٣٣٨. ونظيره الحديث ١٠ و ١٣.

٢٩٣

حيث إنّه فعل اختياري صادر من فاعل كذا ، في زمان كذا. فإذن تأثير الإرادة الإلهية في الفعل يوجب كونه اختياريا وإلّا تخلف متعلق الإرادة عنها.

فالإرادة الإلهية في طول إرادة الإنسان وليست في عرضها حتى تتزاحما ويلزم من تأثير الإرادة الإلهية بطلان تأثير الإرادة الإنسانية. فخطأ المجبرة في عدم تمييزهم كيفية تعلق الإرادة الإلهية بالفعل وعدم تفريقهم بين الإرادتين الطوليتين والإرادتين العرضيتين ، وحكمهم ببطلان تأثير إرادة العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به» (١).

الجهة الخامسة ـ في تفسير ما استدلّ به شيخنا المفيد من الآيات على خروج أفعال العباد عن حيطة إرادته سبحانه.

استدلّ القائلون بعدم سعة إرادته بآيات مثل قوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٢). وقوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ)(٤)وغير ذلك مما استند إليه شيخنا المفيد في «تصحيح الاعتقاد» (٥).

يلاحظ عليه أولا : إنّ من المحتمل أن تكون الإرادة في المقام إرادة تشريعية لا تكوينية ، ومن المعلوم أنّ التشريعي من الإرادة ، لا يتعلق إلّا بما فيه الصلاح ، وتتجلى بصورة الأمر بالمصالح والنهي عن المفاسد ، فلا يأمر بالظلم والفحشاء ، قال سبحانه : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٦).

__________________

(١) الميزان ، ج ١ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠ ، طبعة بيروت

(٢) سورة غافر : الآية ٣١.

(٣) سورة الزمر : الآية ٧.

(٤) سورة البقرة : الآية ٢٠٥.

(٥) تصحيح الاعتقاد ، ص ١٦ ـ ١٨.

(٦) سورة الأعراف : الآية ٢٨.

٢٩٤

وثانيا : نفترض أنّ الإرادة في قوله سبحانه : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (١) إرادة تكوينية ، وتعرب الآية عن أنّ إرادته لا تتعلق بالظلم ، ولكن المراد هو المشيئة التكوينية المتعلقة بالشيء من جانبه سبحانه من دون أن يكون للعبد فيها دور ، بأن يقوم سبحانه بنفسه بأعمال الظلم والبغي على العباد ، فيعذب البريء المطيع وينعم المجرم الطاغي ، إلى غير ذلك من الأفعال التي يستقل العقل بقبحها وشناعتها. والله سبحانه أعلى وأجلّ من أن تتسم إرادته بهذا العنوان.

وأمّا مشيئته التكوينية المتعلقة بالأشياء لكن من خلال إرادة عباده ومشيئتهم ، بحيث يكون لإرادتهم دور في تحقق المتعلق واتصافه بالبغي والظلم ، فالآية ليست نافية له. وذلك أنّ مشيئة العبد هي السبب الأخير لتعنون الفعل بالظلم وتلوّنه بالبغي ، ولولاها لما كان عنهما خبر ولا أثر. ولأجل دور العبد ودخالته في تحقق القبائح والمحرمات نرى أنّه سبحانه جعل ـ على ما في الحديث القدسي ـ حسنات العبد أولى إلى نفسه من العبد ، وسيئاته على العكس ، قال : «وذلك أنا أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني» (٢). وما هذا إلّا لأنه سبحانه قد هيّأ للعبد ، تكوينا وتشريعا ، كل شيء يسعده فلم يصنع سبحانه إلّا الجميل. فما أصابه من حسنة فمنه سبحانه لأنه عمل الجميل بمعدات جميلة واقعة منه سبحانه ، في اختيار العبد ، وإن ارتكب البغي والظلم فقد ارتكب القبيح بالجميل الذي صنعه سبحانه له حيث تفضّل عليه بالمشيئة والاختيار والقدرة ، ولكنه صرفها في غير محله فهو أولى بسيئاته من الله الجميل الفاعل له.

وباختصار ، إنّ فعل العبد لا يقع في ملكه تعالى إلّا بإرادته سبحانه جميع مقدماته التي منها اختيار العبد الموهوب من عنده سبحانه إليه ، فتعلق مشيئته بأفعال العباد بمعنى أن اختيار العبد وحريته مراد لله سبحانه ، فهو

__________________

(١) سورة غافر : الآية ٣١.

(٢) التّوحيد للصدوق أبواب المشيئة والإرادة ، الحديث ٧ ، ص ٣٣٨.

٢٩٥

تعالى أراد أفعال العبد لأجل أنّه أراد اختياره وحريته. فسعة المشيئة لفعل العبد وإن كان هذا الفعل ظلما وبغيا ، لا يحدث في ساحته سبحانه وصمة عيب أو شين. لأن المسئول عن تحقق القبيح هو العبد الذي صرف هواه في البغي بدلا من العدل.

ولعلك لو وقفت على ما سنذكره عند البحث عن الأمر بين الأمرين لسهل عليك تصديق ذلك.

ثم إنّ لصدر المتألهين وتلاميذ منهجه وأستاذه السيد المحقق الداماد أجوبة أخرى مذكورة في كتابه فلاحظها (١).

* * *

الأصل الرابع

لزوم الفعل مع المرجّح الخارج عن اختياره

هذا هو الأصل الرابع الذي اعتمد عليه الأشاعرة ، وحاصله : إنّ العبد لو كان قادرا لكان ترجيحه لأحد الطرفين إمّا لا لمرجح (أي بلا علّة) فيلزم انسداد باب إثبات الصانع ، وإمّا لمرجّح ، فإن كان من العبد تسلسل وإن كان من الله تعالى فعند حصول ذلك المرجّح يجب الفعل ، وعند عدمه يمتنع فلا يكون مقدورا (٢).

وتوضيحه على ما في المواقف وشرحه : إنّ العبد لو كان موجدا لفعله بقدرته فلا بدّ من أن يتمكن من فعله وتركه ، وإلّا لم يكن قادرا عليه ، إذ القادر من يتمكن من كلا الطرفين. وعلى هذا يتوقف ترجيح فعله على تركه ، على مرجح (علّة) ، وإلّا فلو وقع أحد الطرفين بلا مرجح يلزم وقوع أحد الجائزين بلا سبب وهو محال ، فإذا توقف وجود الفعل على المرجح ، فهذا المرجح إمّا أن يكون من العبد باختياره أو من غيره ، فعلى الأول يلزم التسلسل لأنّا ننقل الكلام إلى صدور ذلك المرجح عن العبد فيتوقف صدوره

__________________

(١) الأسفار ، ج ٦. الفصل الثاني عشر ، ص ٣٧٩ ـ ٣٩٥.

(٢) إرشاد الطالبين ، ص ٥٦٥.

٢٩٦

على مرجح ثان وهكذا. وعلى الثاني يكون الفعل عند ذلك المرجح واجب الصدور عن العبد بحيث يمتنع تخلفه عنه ، وإلّا فلو لم يكن الفعل مع ذلك المرجح واجب الصدور ، وجاز وقوع الطرف الآخر ، يلزم أن يكون تخصيص أحد الطرفين بالتحقق دون الآخر بلا دليل. فيجب أن يكون أحد الطرفين مع المرجح واجب الصدور ومعه يكون اضطراريا لا اختياريا(١).

يلاحظ عليه : إنّ كل ممكن يكون الوجود والعدم بالنسبة إليه متساويان ، ويتوقف خروج الممكن عن أحد الطرفين إلى علّة تامة تجعله واجبا وتجعل الطرف الآخر ممتنعا. وإلّا فلو كان ـ مع وجود العلّة التامّة ـ وقوع الطرف الآخر ممكنا للزم خروج الممكن عن مركز التساوي إلى أحد الطرفين بلا سبب وعلّة وقد برهن الحكماء على قاعدتهم : «الشيء ما لم يجب لم يوجد» ، بما ذكرناه. وبذلك يظهر : إنّ التعبيرات الواردة في الاستدلال تعبيرات غير فنّية ، فإنّ وقوع الممكن لا يتوقف على وجود المرجح مع إمكان وجود الآخر ، بل يتوقف على وجود علّة تامة تجعل أحد الطرفين ضروري التحقق والآخر ممتنعه.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ صدور الفعل من الإنسان يتوقف على مقدمات ومبادي ومعدّات كتصور الشيء والتصديق بفائدته والاشتياق إلى تحصيله وغير ذلك من المبادي النفسانية والخارجية ممّا لا يمكن حصره. فربما تكون هناك العشرات من المقدمات تؤثر في صدور الفعل عن الإنسان سواء التفت إليها الإنسان أو لا. ولكن هذه المقدمات لا تكفي في تحقق الفعل وصدوره منه إلّا بحصول الإرادة النفسانية التي يندفع بها الإنسان نحو الفعل ، ومعها يكون أحد الطرفين واجب التحقق والطرف الآخر ممتنعه. والمرجح الذي تلهج به الأشاعرة مبهم ليس شيئا وراء تلك الإرادة التي إذا انضمت إلى المبادي المتقدمة عليها تخرج الفعل عن حد الإمكان إلى حد الوجوب وتضفي على الطرف الآخر صبغة الامتناع. وليس ذلك المرجح

__________________

(١) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٤٩ ـ ١٥٠ بتلخيص وتصرّف.

٢٩٧

مستندا إلّا إلى نفس الإنسان وذاته ، فإنها المبدأ لظهوره في الضمير.

إنما الكلام في كون هذا المرجح فعل اختياري للنفس أو لا.

فمن قال بأنّ الفعل الاختياري ما يكون مسبوقا بالإرادة ، وقع في المضيق في جانب الإرادة. إذ على هذا تصير الإرادة فعلا غير اختياري ، لأنها غير مسبوقة بإرادة أخرى كما هو واضح وجدانا ، وعلى فرض احتماله ننقل الكلام إلى الإرادة الثانية ، فإمّا أن يتوقف فيلزم كون الثانية غير اختيارية ، أو يتسلسل وهو باطل.

وأمّا على القول المختار ، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن الجبر الفلسفي ، من أنّ التعريف المذكور مختص بالأفعال الجوارحية كالأكل والشرب فإن الاختيارية منها ما يكون مسبوقا بالإرادة دون الأفعال الجوانحية للنفس ، كالعزم والإرادة ، فإنّ ملاك اختياريتها ليس كونها مسبوقة بالإرادة بل كونها فعلا للفاعل المختار بالذات أعني النفس الناطقة ، فإنّ الاختيار والحرية نفس ذاته وحقيقته وسنبرهن على ذلك عند البحث عن الجبر الفلسفي.

وعلى هذا فالاستدلال مبتور جدا. أضف إلى ذلك : أنّ الظاهر من كلامهم أنّ المرجح للفعل شيء خارج عن محيط إرادة الفاعل واختياره ، وهو شيء يخالف الفطرة والشهود الوجداني لكل فاعل. بل المرجح ، وإن شئت قلت بعبارة صحيحة ، الجزء الأخير من العلة التامة ، هو الإرادة وهي فعل اختياري للنفس لا لكونها مسبوقة بالإرادة بل لكونها ظلالا للفاعل المختار بالذات ، أعني النفس التي هي المثل الأعلى لله سبحانه ، فهو أيضا فاعل مختار بالذات تكون أفعاله أفعالا اختيارية لكونها ظلالا للفاعل المختار بالذات.

ثم إنّ بعض المحققين أجاب عن استدلال الأشاعرة بجواب غير تام وحاصله : إنّ الترجيح بلا مرجح لا مانع منه وإنّ وجود المرجح وأصل الفعل وطبيعته كاف وإن كانت أفراده متساوية من دون أن يكون لبعضها مرجح على

٢٩٨

البعض الآخر (١).

ولا يخفى أنّ امتناع التّرجّح من غير مرجح (كامتناع تحقق الممكن بلا علّة) وامتناع التّرجيح بلا مرجح من باب واحد ، والقول بالامتناع في الأول يستلزم الامتناع في الثاني. وذاك لأن أصل الفعل كما لا يتحقق بلا علة ، فكذلك الخصوصيات لا تتحقق إلّا معها ، فالجائع بالنسبة إلى الرغيفين والهارب بالنسبة إلى الطريقين كذلك ، فكما أنّ صدور أصل الأكل والهرب يحتاج إلى علّة ، لامتناع وجود الممكن بلا سبب ، كذلك تخصيص أحد الرغيفين بالأكل وترك الآخر ، بما أنّه أمر وجودي يحتاج إلى علّة. والقول بأنّ وجود أصل الفعل يتوقف على علّة دون خصوصياته ، يرجع إلى القول بوجود الممكن ـ ولو في بعض مراتبه ـ وتحققه بلا علّة. ولأجل ذلك يقول المحققون إنّ مآل تجويز الترجيح بلا مرجح إلى تجويز الترجّح بلا مرجح. فلازم هذا الجواب أنّ الخصوصية لا تطلب العلّة ، وهذا انخرام للقاعدة العقلية ، من حاجة الممكن إلى علّة.

وأمّا التمثيل برغيفي الجائع وطريقي الهارب ، فلا شك أنّ للفعل والخصوصية هناك مرجح وهو أنّ الإنسان العادي يجد في نفسه ميلا إلى جانب اليمين من كل من الرغيف والطريق ، فالميل الطبيعي يكون مرجحا لانصراف الإرادة إليه دون طرف اليسار. نعم ربما ينعكس لأجل طواري في الواقعة تلتفت إليها النفس فتختار ما في جانب اليسار (٢).

__________________

(١) المحاضرات ، ج ٢ ، ص ٤٧ ـ ٤٩. ويظهر ذلك الجواب أيضا من العلّامة في (نهج المسترشدون) لاحظ إرشاد الطالبين ص ٢٦٦.

(٢) ثم إنّ للمحقق الطوسي في المقام كلاما وهو : «الوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب». وقد جعله العلّامة جوابا عن الاستدلال الذي نقلناه عن الأشاعرة. والظاهر أن هذه العبارة ناظرة إلى تحليل دليل آخر للقائلين بالجبر وهو أنّ القاعدة الفلسفية المسلمة أعني «الفعل ما لم يجب لم يوجد» ، تقتضي صدور الفعل عن الإنسان عن وجوب واضطرار. وهذا لا يجتمع مع القول بالاختيار. فأجاب عنه المحقق الطوسي بأنّ الوجوب العرضي للداعي لا ينافي القدرة والاختيار فالفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن ، وبالنظر إلى داعيه واجب ، وذلك لا يستلزم الجبر. فإنّ كل قادر يجب صدور الأثر منه عند وجود الداعي كالواجب.

٢٩٩

تشكيكات أخرى للأشاعرة

هذا هو المهم من الأصول التي اعتمد عليها الأشاعرة في إثبات الجبر وسلب الاختيار ولهم هناك تشكيكات واهية لا تستحق أن يطلق عليها اسم الاستدلال نكتفي بذكر أمرين منها :

الأول : التكليف واقع بمعرفة الله تعالى إجماعا ، فإن كان التكليف في حال حصول المعرفة فهو تكليف بتحصيل الحاصل ، وهو محال. وإن كان في حال عدمها فغير العارف بالمكلّف وصفاته المحتاج إليه في صحة التكليف منه ، غافل عن التكليف. وتكليف الغافل تكليف بالمحال (١).

يلاحظ عليه : إنّ البحث في كون الإنسان مختارا أو مجبورا ، وليس البحث في جواز التكليف بالمحال وما ذكر من الاستدلال راجع إلى الأول دون الثاني هذا أولا.

وثانيا : إنّ التكليف بالمعرفة تكليف عقلي لا شرعي ، ويكفي في التكليف العقلي التوجه الإجمالي إلى أنّ هناك منعما يجب معرفته ومعرفة صفاته وأفعاله حتى يكون شاكرا في مقابل نعمه ، أو يجب معرفته دفعا للضرر المحتمل على التقريرين في بيان لزوم معرفة الباري في مسلك المتكلمين. ويكفي في حكم العقل التوجه الإجمالي لا التفصيلي. وعلى ذلك فنحن نختار الشقّ الأول من الاستدلال ولكن لا بمعنى المعرفة التفصيلية حتى

__________________

ـ وأنت تعلم أن هذا الجواب يمكن أن يكون رافعا للشبهة الثانية أعني وجوب الفعل عند وجوب العلّة ، ولا يكون قالعا لما نحن فيه من الإشكال لأن كلام الأشاعرة مركز على أن هذا الداعي يوجد في النفس لا من جانب الإنسان بل من جانبه سبحانه ومعه يكون الفعل واجبا ضروريا خارجا عن الاختيار ، فالقول بأنّ الفعل واجب بالنظر إلى الداعي وهو لا ينافي القدرة والإمكان بالنظر إلى نفس الفعل ، لا يرتبط بالإشكال. نعم يمكن أن تكون عبارة المحقق جوابا نقضيا عن استدلال الأشاعرة ببيان أن ما ذكرتموه من الدليل في حق الإنسان قائم في حقه سبحانه حرفا بحرف كما نوّه به العلّامة في (كشف المراد) وأوضحه شارح (المواقف) فلاحظهما. وقد خلط شيخنا المظفر في تقرير استدلال الأشاعرة ، بين الدليلين. فلاحظ (دلائل الصدق) ، ج ١ ، ص ٥١١.

(١) شرح المواقف ، ج ٢٨ ، ص ١٥٧.

٣٠٠