الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

في الفصل الرابع ، وإنما ينكر أن يكون القضاء والقدر مبررين لطغيان الطغاة وجرائم الطغمة الأثيمة من الحكّام. فبالنتيجة كان معبد وأستاذه الحسن من دعاة القول بالاختيار لا من دعاة منكري القضاء والقدر. ولما كان الأمويون ، يرون أنّ القول بالقضاء والقدر يساوق الجبر وسلب الاختيار ، اتهموا القائلين به بنفي القضاء والقدر مع أنّ بين القول بالاختيار ونفي القدر بونا بعيدا.

ويشهد على ذلك أيضا أنّ غيلان يعرب عن عقيدته في محاجته مع عمر بن عبد العزيز بالاستشهاد بقوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) ، فالرجل كان يتبنى الاختيار ويكافح الجبر ، لا أنّه كان ينكر ما ثبت في الكتاب والسنّة الصحيحة. كما أنّه في محاجته مع ميمون بن مروان أعرب عن عقيدته بقوله : «أشاء الله أن يعصى؟» قائلا بأنّه ليس هناك مشيئة سالبة للاختيار جاعلة الإنسان مجرد متفرّج في مسرح الحياة.

وأظن أنّ اتهام الرجلين ومن جاء بعدهما بالقدرية تارة (نفي القضاء والقدر بالمعنى الصحيح) أو بالتفويض وأن الإنسان في غنى عن الله تعالى في أفعاله ، أخرى ، لم يكن في محله. فهؤلاء كانوا يكافحون فكرة الجبر لا نصوص الكتاب والسّنّة. وأما فكرة التفويض فإنما تمحضت ونضجت إثر إصرار الأمويين على الجبر ، واتخذته المعتزلة مذهبا في النصف الثاني من القرن الثاني ، وإلّا فالمتقدمون عليهم حتى مؤسس الاعتزال واصل بن عطاء مبرّءون عن فكرة التفويض.

فالقول بالتفويض الذي هو صورة مشوهة للاختيار ، إنّما تولد من إصرار الأمويين والمتأثرين بهم من أهل الحديث على القول بالجبر من جهة ، وإصرار هؤلاء الأقدمين على اختيار الإنسان وحريته في مجال الحياة. وإلا فإنّه لم يكن من التفويض أثر في كلمات الأقدمين.

ومن الأسف أنّ القول بالجبر قد بقي بين المسلمين بصورة خاصة حتى في المنهج الذي ابتدعه إمام الأشاعرة ، إلى العصور الحاضرة. والمنكر إنما ينكر بلسانه ولكنه موجود في المنهج الذي ينتسب إليه.

٢٦١

وقد كان اليهود القاطنون في شبه الجزيرة العربية خير معين على إشاعة هذه الفكرة ، بل منهم انبعثت.

نعم هناك رجال من أهل السنّة والجماعة ، متحررون عن عقيدة الجبر وفي مقدمهم الشيخ محمد عبده فقد ردّ على من نسب الجبر إلى الكتاب العزيز أو المسلمين عامة وقال : «إن القول بالجبر قول طائفة ضئيلة انقرضت وغلب على المسلمين مذهب التوسط بين الجبر والاختيار وهو مذهب الجد والعمل» (١).

ولا يخفى ما في كلام الأستاذ من الملاحظة فإن الأكثرية الساحقة من أهل السّنّة على مذهب الإمام الأشعري ، وسيوافيك نصوصه على القول بالجبر ، فكيف يمكن أن يقال إنّ الجبر قول طائفة ضئيلة.

وعلى كل تقدير فقد أجاد في هذا البيان وأبان القول الحق ، كما سيوافيك.

الأمر الخامس : رءوس المجبرة وأقطابها في العصور الإسلامية الأولى

١ ـ الجهميّة

اعتبر أصحاب الملل والنحل الطائفة الجهمية (٢) أول طائفة قالت بالجبر ، ووصفوها بالجبرية الخالصة ، وكان جهم يخرج بأصحابه فيقفهم على المجذومين ويقول : «أنظروا أرحم الراحمين يفعل مثل هذا!» ، إنكارا لرحمته. وكان يقول : «لا فعل ولا عمل لأحد غير الله ، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز» (٣).

__________________

(١) رسالة «هل نحن مسيرون أم مخيّرون» ، ص ١١.

(٢) نسبة إلى جهم بن صفوان تلميذ الجعد بن درهم ، الذي قتله خالد بن عبد الله القسري سنة ١٢٤ ه‍.

(٣) الفرق بين الفرق ، ص ١٢٨.

٢٦٢

وقال الأشعري في (مقالات الإسلاميين) : «تفرّد جهم بأمور منها : إنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلّا الله وحده ، وإنّ الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز ، كما يقال تحركت الشجرة ، ودار الفلك ، وزالت الشمس» (١).

وعرفهم الشّهرستاني بأنهم يقولون : «إنّ الإنسان لا يقدر على شيء ، ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور في أفعاله لا قدرة له ولا استطاعة ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات وإذا ثبت الجبر فالتكليف أيضا كان جبرا» (٢).

٢ ـ النجاريّة

ويليهم في القول بالجبر الطائفة النجارية (٣) فقالت : إنّ أعمال العباد مخلوقة لله وهم فاعلون وإنه لا يكون في ملك الله سبحانه إلّا ما يريده وإنّ الاستطاعة لا يجوز أن تتقدم على الفعل (٤).

وعرفهم الشّهرستاني بأنهم يقولون إنّ الباري تعالى هو خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبيحها ، والعبد مكتسب لها ، ويثبتون تأثيرا للقدرة الحادثة ، ويسمّون ذلك كسبا (٥).

ولأجل أنّ النجارية أضافت نظرية الكسب إلى القول بأنّ الله سبحانه خالق أفعال العباد ، خرجت عن الجبرية الخالصة. وقد تبنّت هذه النظرية أيضا الطوائف الأخرى كما سيوافيك.

__________________

(١) مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ٣١٢.

(٢) الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٨٧.

(٣) هم أصحاب الحسين بن محمد بن عبد الله النجار ، وله مناظرات مع النظام ، توفي عام ٢٣٠ ه‍.

(٤) مقالات الإسلاميين ج ١ ، ص ٢٨٣.

(٥) الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٨٩.

٢٦٣

٣ ـ الضراريّة

ويليهم في تبنّي الجبر ، الطائفة الضرارية (١) فقالت : إنّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى حقيقة والعبد مكتسبها. ووافقت المعتزلة بأنّ الاستطاعة تحصل في العبد قبل الفعل (٢).

وهذه الطائفة تسمى بالجبرية غير الخالصة أيضا ، لإضافتها نظرية الكسب إلى أفعال العباد.

* * *

قال الشهرستاني : «الجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى فالجبرية أصناف : فالجبرية الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا. والجبرية المتوسطة هي التي لا تثبت للعبد قدرة غير مؤثرة أصلا. وأمّا من أثبت للقدرة الحادثة أثرا ما في الفعل ، وسمى ذلك كسبا ، فليس بجبري. والمصنفون في المقالات ، عدّوا النجارية والضرارية من الجبرية» (٣).

ولكن الحق أنّ إضافة نظرية الكسب من النجّارية والضرارية ، ومن الأشاعرة تبعا لهم لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تخرج القائل من القول بالجبر قدر شعرة ، وإنما هو غطاء وتلبيس على القول بالجبر. وسيوافيك بحث الكسب بتفاسيره المختلفة من أئمة الأشاعرة. ويكفي في عد منهج الأشعري منهجا جبريا ، ما ذكره في (الإبانة) و (مقالات الإسلاميين) عند بيان عقيدة أهل السنّة التي هي عقيدته (بعد رجوعه عن الاعتزال والتحاقه بمنهج أهل الحديث) ، يقول : «وأقروا بأنه لا خالق إلّا الله ، وأنّ سيئات العباد يخلقها الله ، وأن أعمال العبد يخلقها الله عزوجل. وأنّ العباد لا

__________________

(١) هم أصحاب ضرار بن عمرو. وقد ظهر في أيام واصل بن عطاء ، وقد ألف قيس بن المعتمر كتابا في الرد على ضرار سماه : «كتاب الرّد على ضرار».

(٢) الملل والنحل ، ج ١ ، ص ٩٠ و ٩١. ومقالات الإسلاميين ، ص ١٢٩.

(٣) الملل والنحل ، ج ٢ ، ص ٨٥ و ٨٦.

٢٦٤

يقدرون أن يخلقوا منها شيئا» (١).

فترى أنّ هذه الجمل لا تفترق عمّا ذكره الجهمية والطائفتان الأخريان ، وسيوافيك نظرية الإمام الأشعري بأدلتها وملاحظاتها.

* * *

__________________

(١) مقالات الإسلاميين ، ج ١ ، ص ٣٢١.

٢٦٥
٢٦٦

مناهج الجبر

(١)

الجبر الأشعري

قد عرفت الطوائف القائلة بالجبر في العصور الإسلامية الأولى ، ولكنها انقرضت ولم يبق منها إلّا الفكرة السائدة بين جماعة من أهل السنّة وهي نظرية الإمام الأشعري ، وهي عند الشهرستاني جبرية غير خالصة ولكنها عندنا لا تفترق عن الجبرية الخالصة.

إنّ الأشاعرة وإن كانوا ينزهون أنفسهم عن كونهم مجبرة ، لكن الأصول التي اعتقدوها واتخذوها أداة للبحث ، لا تنتج إلّا القول بالجبر ، وإليك فيما يلي أصولهم وما يستندون إليه في تفسير أفعال العباد.

الأصل الأول :

أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه(١)

قد عرفت أنّ من فروع التوحيد القول بأنّه لا خالق إلّا الله سبحانه من غير فرق بين الذوات وأفعال العباد ، والآيات الواردة في القرآن الكريم

__________________

(١) عنون أوائل الأشاعرة هذه المسألة باسم خلق الأعمال. ولكن المتأخرين منهم بحثوا عنها تحت عنوان أن الله قادر على كل المقدرات ، أو أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وتعالى وحدها ، لاحظ (شرح المواقف) ، ج ٨ ، ص ١٤٥.

٢٦٧

مطلقة تعمّ الجميع. وإنّما الاختلاف في تفسير هذا الأصل التوحيدي فالأشاعرة بما أنهم أنكروا وجود أي تأثير ظلّي لغيره سبحانه قالوا بوجود علّة واحدة قائمة مكان جميع العلل والأسباب (المنتهية إلى الله سبحانه في منهج العليّة) ، فلا تأثير لأي موجود سوى الله سبحانه ، فهو الخالق والموجد لكل شيء ، وقد عرفت كلام الإمام الأشعري عند بيان معتقدات أهل السنّة وإليك كلامه في (الإبانة) :

قال في الباب الثاني : «إنّه لا خالق إلّا الله ، وإنّ أعمال العبد مخلوقة لله مقدرة كما قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١). وإنّ العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئا وهم يخلقون ، كما قال سبحانه : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٢)» (٣).

قال شارح المواقف : «إنّ أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله سبحانه وحدها وليس لقدرتهم تأثير فيها ، والله سبحانه أجرى عادته بأنّ يوجد في العبد قدرة واختيارا. فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما ، فيكون فعل العبد مخلوقا لله إبداعا وإحداثا ، ومكسوبا للعبد والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلّا له. وهذا مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري»(٤).

أقول : يقع الكلام في مقامين :

الأول : تفسير عموم قدرته تعالى لعامة الكائنات ومنها أفعال البشر وأنّه لا خالق إلّا هو.

الثاني : تفسير حقيقة الكسب الذي تدرعت به الأشاعرة في مقابل العدلية.

__________________

(١) سورة الصّافات : الآية ٩٦.

(٢) سورة فاطر : الآية ٣.

(٣) الإبانة ، ص ٢٠.

(٤) شرح المواقف للسيد الشريف الجرجاني ، ج ٨ ، ص ١٤٦.

٢٦٨

المقام الأول : في عموم القدرة

قد أوضحنا فيما مضى المراد من التّوحيد في الخالقية وقلنا : إنّ المراد من أنّه لا خالق إلّا هو ليس هو نفي التأثير عن العلل الطولية المنتهية إليه ، كيف وقد نصّ القرآن الكريم على تأثير العلل الطبيعية في آثارها كرارا ، فيكون معنى التوحيد في الخالقية : إنّ الخالق الأصيل غير المعتمد على شيء هو الله سبحانه وإن قيام غيره بالخلق والإيجاد ، بقدرته ومشيئته ولطفه وعنايته. فالكل مستمد في وجوده وفعله منه ، لا غنى لهم عنه في حال من الحالات ، (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١).

ونزيد هنا بيانا فلسفيا على إبطال النظرية التي تتبناها الأشاعرة.

الوجود حقيقة واحدة

إنّ سلب وصف المؤثريّة والعليّة عن كل شيء حتى على نحو التبعية والظلية ، مضافا إلى أنّه مخالف للحكم الفطري الذي يجده كل إنسان في نفسه حيث يعتقد بأنّ للأشياء وللعقاقير والنباتات آثارا ، ولا معنى لخلقه سبحانه هذا الحكم الخاطئ والباطل في نفوسنا ، أقول ـ مضافا إلى ذلك ـ إنّ البرهان الفلسفي يرده بوضوح ، وذلك أنّ حقيقة الوجود حقيقة واحدة في جميع مراتبها ، من الواجب إلى الممكن ، فالجميع يشترك في حقيقة واحدة نعبر عنها ب «طرد العدم». ولأجل تلك الوحدة نطلق الوجود على الجميع بمعنى واحد ، ولو كانت حقيقته في الواجب مباينة لحقيقته في الممكن لوجب أن يكون لفظ الوجود مشتركا لفظيا بينهما ، وأن يطلق على الواجب بملاك آخر.

فإذا كانت حقيقة الوجود بين عامة المراتب حقيقة واحدة ، فإذا ثبت التأثير لمرتبة عليا منه ، يجب أن يكون ثابتا للمراتب الدنيا أيضا لكن حسب ما يناسب شأنها ، فإنّ حقيقة الوجود ـ حسب الفرض ـ موجودة في جميع

__________________

(١) سورة فاطر : الآية ١٥.

٢٦٩

المراتب فإذا كانت مؤثرة في مرتبة كالواجب ، يجب أن تكون مؤثرة في غيرها أخذا بوحدة الحقيقة السائدة على المراتب.

نعم يمكن أن يقال إنّ التأثير من آثار شدة الوجود وقوته ، فلا يصح تعميم أثر مرتبة إلى أخرى. ولكنه ليس بكلام تام ، لأن الشدة ليست شيئا زائدا على نفس الحقيقة بل الشدة شدة الحقيقة وتأكدها ، فإذا كانت الشدّة من سنخ الوجود والحقيقة ، يقتضي ذلك أن يكون الأثر لحقيقة الوجود ، غاية الأمر كما تختلف المراتب من حيث الشدّة والضعف ، تختلف آثارها كذلك أيضا. فالحقيقة في جميع المراتب واحدة تختلف بالشدّة والضعف ، والأثر المترتب على الحقيقة واحد لكنه يختلف بالشدّة والضعف أيضا.

ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يحكي سريان العلم إلى جميع الموجودات حتى الجمادات بقوله : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (١).

فالله سبحانه عالم ، كما أنّ غيره عالم ، ولكن يختلف الأثر باختلاف الموضوع. وبذلك يظهر أنّ القول بحصر الخالقية بالله سبحانه ونفيها عن غيره بتاتا ، حتى بنحو المعنى الحرفي ، يخالف الآيات القرآنية أولا ، والفطرة الإنسانية ثانيا ، والبرهان الفلسفي ثالثا. غير أنّ إكمال البحث يتوقف على تحليل ما اعتمد عليه الأشعري من البرهان العقلي في هذا المقام.

الأدلة العقلية على خلق الأعمال

إنّ الشيخ الأشعري وتلاميذ منهجه أقاموا حججا وأدلة ، بل شبهات وتشكيكات على خلق الأعمال ، وأنّ أعمال العباد مخلوقة لله سبحانه

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٤٤.

٢٧٠

مباشرة ، وليس لقدرة العبد فيها دور. ولأجل إيقاف الباحث على مدى وهن هذه الحجج نأتي ببعضها منهم.

الدليل الأول : إنّ المؤمن ليس موجدا لإيمانه كما أنّ الكافر ليس موجدا لكفره ، لأن الكافر يقصد الكفر بما أنه أمر حسن ، ولكنه في الحقيقة قبيح ، كما أنّ المؤمن يقصد الإيمان بما أنه غير متعب وهو ليس كذلك. فينتج أنّه إذا لم يكن المحدث للإيمان والكفر بما لهما من الخصوصيات ، شخص المؤمن والكافر ، يكون المحدث هو الله سبحانه (١).

يلاحظ عليه : أولا ، بالنقض بأنه لو صحّ هذا الدليل لوجب القول بأنّ شارب الماء الذي يتخيّل أنّه خمر ، لم يشرب ماء ولم يصدر منه عمل ولا فعل لأنّه قصد شرب الخمر وكان الواقع شرب الماء ، فما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وثانيا : إنّ ما ذكره خلط بين الصفات الواقعية الحقيقية والصفات الانتزاعية. فالأولى كالحرارة والبرودة تحتاج إلى محدث كما يحتاج موصوفها إليه كذلك. وأمّا الثانية كالصغر والكبر المنتزعين من مقايسة شيء إلى شيء فلا تحتاج إلى صانع وراء محدث ذات الشيء ، لأن هذه الأوصاف من مصنوعات الذهن ومخترعاته ، فالجسم الذي هو بقدر ذراع أكبر من الجسم الذي على نصفه ، والفاعل يوجد ذات الجسمين لا وصفهما وإنما ينتقل الإنسان إليهما عند المقايسة ، وعلى ضوء ذلك فالموجد للإيمان إنما يوجد نفس الإيمان والموجد للكفر يوجد ذات الكفر ، وأمّا كون الأول مؤلما متعبا ، والثاني قبيحا فلا يحتاج إلى فاعل سوى الموجد الذي أوجد ذات الإيمان أو الكفر. فإن الوصفين أعني كون الإيمان متعبا وكون الكفر قبيحا إنما يحصلان عند المقايسة ، فالإيمان بما أنّه يجعل الإنسان مسئولا أمام الله أولا ، وأمام الناس ثانيا ، يستتبع الإتعاب. والكفر بما أنّه على خلاف

__________________

(١) اللمع ، ص ٧١ ـ ٧٢. وعبارة اللمع غير خالية عن البسط المملّ والتعقيد المخل ، وما ذكرناه ملخّص مراده.

٢٧١

الفطرة والحقيقة ، فإذا قيس إليهما يتصف بالقبح ، فالإتعاب والقبح لا يحتاجان إلى فاعل سوى موجد الإيمان والكفر.

والعجب أنّ الأشعري يعترف بالحسن والقبح العقليين هنا مع أنّ منهجه فيهما غير ذلك كما وقفت عليه في محله.

الدليل الثاني : لا شك أنّ الحركة الاضطرارية مخلوقة لله سبحانه. وما هو الملاك لإسنادها إلى الله ، هو الملاك في حركة الاكتساب (الحركة الاختيارية). فما دلّ على أنّ حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى ، يجب به القضاء على أنّ حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى ، وذلك لوحدة ملاكهما ، وهو الحدوث (١).

يلاحظ عليه ، إنّ اشتراكهما في الملاك لا ينتج إلّا أنّ للحركة الاكتسابية أيضا محدثا ، وأمّا وحدة محدثيهما وأن محدث الأولى هو نفس محدث الثانية ، فلا يدل عليه البرهان ، لأن نسبة الحركة الاضطرارية إلى الله وسلبها عن الإنسان لأجل خروجها عن اختياره وإرادته ، فتنسب إلى الله سبحانه. وأمّا الحركة الاكتسابية فهي واقعة في إطار اختيار الإنسان وإرادته فلا وجه لمقايسة إحداهما بالأخرى.

نعم ، لو قال أحد بمقالة الأشعري ، وأنّ القدرة الحادثة في العبد غير مؤثرة في وجود الفعل ، كان له أن يسند الحركتين إلى الله سبحانه. ولكنه أوّل الكلام والاستناد إلى ذلك الأصل أشبه بكون المدعى نفس الدليل.

ثم إنّ المتأخرين من الأشاعرة ، كالرازي في (محصّله) ، والإيجي في (مواقفه) ، والتفتازاني في (شرح مقاصده) ، والقوشجي في (شرحه على التجريد) ، بحثوا عن المسألة (خلق الأعمال) تحت عنوان عموم قدرته سبحانه لكل شيء وأن كل موجود واقع بقدرته ، ولأجل إكمال البحث نأتي ببعض ما ذكروه من الأدلة.

__________________

(١) اللمع ، ص ٧٤ ـ ٧٥ ، والدليل منقول بالمعنى.

٢٧٢

الدليل الثالث ـ لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفصيل أفعاله وهذا معنى قوله سبحانه : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١). وبما أنّ الإنسان غير عالم بتفاصيل أفعاله بشهادة أنا نقصد الحركة من المبدأ إلى المنتهى ، ولا نقصد جزئيات تلك الحركة ، وجب القطع بأنّ العبد غير موجد لها (٢).

يلاحظ عليه : إنّ الفاعل لو كان قاصدا للفعل بالتفصيل ، يوجده به ، ولو كان قاصدا بالإجمال يوجده كذلك ، فصانع شربة كيميائية من عدة عناصر مختلفة يقصد إدخال كل عنصر فيها على وجه التفصيل ، فيلزمه العلم بها تفصيلا ، والقائم بالأكل والتكلم يقصد أصل الفعل على وجه التفصيل ، ويقصد مضغ كل حبة أو التكلم بكل حرف وكلمة إجمالا ، فيلزمه العلم بهما على وجه الإجمال.

الدليل الرابع ـ لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد ، فلو اختلفت القدرتان في المتعلق ، مثل ما إذا أراد تعالى تسكين جسم وأراد العبد تحريكه ، فإما أن يقع المرادان ، وهو محال. أو لا يقع واحد منهما وهو أيضا محال ، لاستلزامه ارتفاع النقيضين. أو يقع أحدهما دون الآخر وهو أيضا محال ، لأن وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر لأن الله تعالى وإن كان قادرا على ما لا نهاية له والعبد ليس كذلك إلّا أنّ ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله وقدرة العبد (٣).

يلاحظ عليه : إننا نختار الشقّ الآخر أي وقوع مراد الله دون مراد العبد لأنّ قدرة الله في الصورة المفروضة ، قدرة فعلية تامة في التأثير وقدرة العبد قدرة ممنوعة ، ومن شرائط القدرة الفعلية أن لا تكون ممنوعة من ناحية قدرة بالغة كاملة. فتعلق قدرته سبحانه وإرادته على الحركة تكون مانعة عن

__________________

(١) سورة الملك : الآية ١٤.

(٢) الأربعون للرازي ، ص ٢٣١ ـ ٢٣٢. وشرح التجريد للقوشجي ، ص ٤٤٧.

(٣) الأربعون للرازي ، ص ٢٣٢.

٢٧٣

وصول قدرة العبد إلى درجة التأثير والإيجاد ، فإحداهما مطلقة والأخرى مشروطة.

الدليل الخامس : إنّ نسبة ذاته إلى جميع الممكنات على السوية فيلزم أن يكون تعالى قادرا على جميع الممكنات وعلى جميع مقدورات العباد. وعلى هذا ففعل العبد إمّا أن يقع بمجموع القدرتين ، أعني قدرة الله وقدرة العبد ، وإمّا أن لا يقع بواحدة منهما ، وإمّا أن يقع بإحدى القدرتين دون الأخرى. والأقسام الثلاثة باطلة ، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على الإيجاد والتكوين (١).

يلاحظ عليه : إنّ لعموم قدرته سبحانه تفسيرين :

١ ـ أن يتحقق كل شيء بقدرته سبحانه مباشرة ، وبلا واسطة كما هو الحال في الصادر الأول في جميع المذاهب.

٢ ـ أن يتحقق بقدرة مفاضة منه إلى العبد ، فيقوم العبد بإيجاده بحول وقوّة منه سبحانه ، فالفعل مقدور للعبد بلا واسطة ومقدور لله سبحانه عن طريق القدرة التي تفضل بها عليه وأقدر عبده بها على الفعل. فيكون الفعل فعل الله من جهة وفعل العبد من جهة أخرى.

وبعبارة أخرى إنّ العوالم الممكنة من عاليها إلى سافلها متساوية النسبة إلى قدرته سبحانه فالجليل والحقير والثقيل والخفيف عنده سواسية ، لكن ليس معنى الاستواء قيامه بكل شيء مباشرة وخلع التأثير عن العلل والأسباب ، بل هو سبحانه يظهر قدرته وسلطانه عن طريق خلق الأسباب وبعث العلل نحو المسببات والمعاليل فالكل مخلوق له ، ومظاهر قدرته وحوله.

فالأشاعرة خلعوا الأسباب والعلل وهي جنود الله سبحانه ، عن مقام التأثير والإيجاد. كما أنّ المفوضة عزلت سلطانه عن ملكه وجعلت بعضا منه

__________________

(١) الأربعون للرازي ، ص ٢٣٢.

٢٧٤

في سلطان غيره. والحق الذي عليه البرهان ويصدقه الكتاب كون الفعل موجودا بقدرتين لكن لا بقدرتين متساويتين ولا بمعنى علتين تامتين بل بمعنى كون الثانية من مظاهر القدرة الأولى وشئونها وجنودها ؛ (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) (١). وقد جرت سنة الله تعالى على خلق الأشياء بأسبابها فجعل لكل شيء سببا ، وللسبب سببا إلى أن ينتهي إلى الله سبحانه ، والمجموع من الأسباب الطولية علة واحدة تامة كافية لإيجاد الفعل ونكتفي في المقام بكلمة عن الإمام الصّادق (عليه‌السلام) :

قال : «أبى الله أن يجري الأشياء إلّا بأسباب ، فجعل لكل شيء سببا وجعل لكل سبب شرحا» (٢).

ثم إنّ للقوم من المعتزلة والأشاعرة أقوالا لا توافق الأصول الفلسفية ولا الكتاب العزيز ، نذكرها في ملحق خاص آخر الكتاب خشية أن يطول المقام (٣).

إلى هنا تم الكلام في المقام الأول وهو تفسير عموم قدرته تعالى وكون أفعال العباد مخلوقة له سبحانه.

* * *

المقام الثاني : في حقيقة الكسب

إنّ القول بخلق الأفعال لما كان مستلزما للجبر حاول الأشعري معالجته بإضافة الكسب إلى الخلق ، قائلا بأنّ الله هو الخالق والعبد هو الكاسب ، وملاك الطاعة والعصيان هو «الكسب» ، دون «الخلق». فكل فعل صادر عن كل إنسان مريد يشتمل على جهتين : «الخلق» و «الكسب». فالخلق منه سبحانه والكسب من الإنسان. وقد عرفت أنّ نظرية الكسب التي تدرع بها الأشاعرة أخذتها عن النجارية والضرارية ، فقد سبقتاها في تبني هذه

__________________

(١) سورة المدثّر : الآية ٣١.

(٢) الكافي ، ج ١ ، باب معرفة الإمام ، الحديث ٧ ، ص ١٨٣.

(٣) لاحظ الملحق الأول في آخر الكتاب.

٢٧٥

النظرية حتى تخرج عن الجبرية الخالصة التي تتبناها الجهمية. والحافز لإضافة هذا الأمر ليس إلّا الخروج عن مضيق الجبر إلى فسيح الاختيار لكن مع الالتزام بالأصل الثابت عندهم أعني كونه سبحانه خالقا «لكل شيء مباشرة وبلا واسطة». والمهم هو الوقوف على حقيقة هذه النظرية ، فقد اضطربت عبارات القوم في تفسيرها إلى حدّ صارت من الألغاز حتى قال الشاعر فيها :

مما يقال ولا حقيقة عنده

معقولة تدنو إلى الأفهام

الكسب عند الأشعريّ ، والحال

عند البهشمي ، وطفرة النّظّام (١)

وها نحن نأتي فيما يلي بنصوصهم في المقام :

أ ـ الكسب : وقوع الشيء من المكتسب له بقوة محدثة

إنّ جماعة من الأشاعرة فسّروا الكسب بتأثير قدرة العبد المحدثة في الفعل ويظهر هذا التفسير من عدة :

منهم : الشيخ الأشعري حيث يقول عند إبداء الفرق بين الحركة الاضطرارية والحركة الاكتسابية : «لما كانت القدرة موجودة في الحركة الثانية وجب أن يكون كسبا ، لأن حقيقة الكسب هو أنّ الشيء وقع من المكتسب له بقوة محدثة» (٢).

ومنهم : المحقق التفتازاني حيث يقول في شرح (العقائد النسفيّة) : «فإن قيل : لا معنى لكون العبد فاعلا بالاختيار إلّا كونه موجدا لأفعاله بالقصد والإرادة ، وقد سبق أنّ الله تعالى مستقل بخلق الأفعال وإيجادها ، ومعلوم أنّ المقدور الواحد لا يدخل تحت قدرتين مستقلتين.

__________________

(١) القضاء والقدر لعبد الكريم الخطيب المصري ، ص ١٨٥.

(٢) اللمع ، ص ٧٦. ولا يخفى أنّ ما نسبه إليه صاحب (شرح المواقف) في المقام وإن كان أوفق بمنهج الأشعري لكنه ينافي ما ذكره الشيخ في (اللمع). وقد ذكرنا كلام الشارح في صدر البحث فلاحظ.

٢٧٦

قلنا : لا كلام في قوة هذا الكلام ومتانته ، إلّا أنه لما ثبت (من جانب) بالبرهان أنّ الخالق هو الله تعالى وثبت (من جانب آخر) بالضرورة أنّ لقدرة العبد وإرادته مدخلا في بعض الأفعال كحركة اليد دون البعض كحركة الارتعاش ، احتجنا في التفصي عن هذا المضيق إلى القول بأنّ الله تعالى خالق والعبد كاسب» (١).

يلاحظ عليه : إنّه بعد لم يخرج عن هذا المضيق بل قال بأصلين متعارضين ، فإذا ثبت بالبرهان أنّه لا خالق إلّا هو تعالى ، وفسّرت خالقيته العامة بكونه فاعلا مباشرا لكل فعل ، لم يبق لتأثير قدرة العبد مجال. فالقول بالأصلين جمع بين المتعارضين.

وبعبارة ثانية ، إنّ الخلق بتمام معنى الكلمة ، إذا كان راجعا إليه ولا تصح نسبته إلى غيره كيف يكون للقوة المحدثة في العبد تأثير ، فلو كان لها تأثير يكون الفعل مخلوقا للعبد أيضا لا لله وحده.

وباختصار ، لو كانت القدرتان في عرض واحد ، فإنه يستلزم اجتماع القدرتين على مقدور واحد. ولو كانت قدرة العبد في طول قدرة الله سبحانه ، يلزم كون الفعل مخلوقا للعبد أيضا ، وهم يفرون من نسبة الخلق والإيجاد إلى غير الله سبحانه.

ومنهم : القاضي الباقلاني فقال : «قد قام الدليل على أنّ القدرة الحادثة لا تصلح للإيجاد ، لكن ليست الأفعال أو وجوهها واعتباراتها تقتصر على جهة الحدوث فقط ، بل هاهنا وجوه أخر هي وراء الحدوث». ثم ذكر عدّة من الجهات والاعتبارات ، وقال : «إنّ الإنسان يفرّق فرقا ضروريا بين قولنا : «أوجد» ، وقولنا : «صلى» و «صام» و «قعد» و «قام». وكما لا يجوز أن تضاف إلى الباري تعالى جهة ما يضاف إلى العبد فكذلك لا يجوز أن تضاف إلى العبد جهة ما يضاف إلى الباري تعالى ، فإذا جاز لكم إثبات

__________________

(١) شرح العقائد النسفية ، ص ١١٥.

٢٧٧

صفتين هما حالتان ، جاز لي إثبات حالة هي متعلق القدرة الحادثة ، ومن قال هي حالة مجهولة ، فبيّنا بقدر الإمكان جهتها ، وعرّفنا أيّ شيء هي ، ومثّلناها كيف هي» (١).

وحاصل كلامه : إنّ للقدرة الحادثة تأثيرا في حدوث العناوين والخصوصيات التي هي ملاك الثواب والعقاب ، وهذه العناوين وليدة قدرة العبد. مثلا : وجود الفعل مخلوق لله سبحانه لكن تعنونه بعنوان الصوم والصلاة والأكل والشرب راجع إلى العبد والقدرة الحادثة فيه.

يلاحظ عليه : إنّ هذه العناوين والجهات لا تخلو من صورتين :

إمّا أن تكون من الأمور الوجودية فعندئذ تكون مخلوقة لله سبحانه حسب الأصل المسلم.

وإمّا أن تكون من الأمور العدمية ، فعندئذ لا يكون للكسب واقعية خارجية بل يكون أمرا ذهنيا غنيا عن الإيجاد والقدرة ، فكيف تؤثر القدرة فيه ، وكيف يكون ملاكا للثواب والعقاب.

وباختصار : إنّ واقعية الكسب إمّا واقعية خارجية متحققة ، فحينئذ يكون (الكسب) مخلوقا لله تعالى ولا يكون للعبد نصيب في الفعل ، أو لا تكون له تلك الواقعية بل يكون أمرا وهميا وذهنيا فحينئذ لا يكون العبد مصدرا لشيء حتى يثاب أو يعاقب.

ب ـ الكسب : إيجاده سبحانه الفعل مقارنا لإرادة العبد وقدرته

يظهر من بعض أئمة الأشاعرة أنّ المراد من الكسب هو قيامه سبحانه بإيجاد الفعل مقارنا لإرادة العبد وقدرته من دون أن يكون لقدرة العبد تأثير. وهذا يظهر من جماعة :

منهم : الغزالي وهو من مشاهير الأشاعرة في أواخر القرن الخامس

__________________

(١) الملل والنّحل ، ج ١ ، ص ٩٧ ـ ٩٨.

٢٧٨

وأوائل السادس قال في (الاقتصاد) ما هذا حاصله : «إنما الحق إثبات القدرتين ، على فعل واحد ، والقول بمقدور منسوب إلى قادرين ، فلا يبقى إلّا استبعاد توارد القدرتين على فعل واحد ، وهذا إنما يبعد إذا كان تعلق القدرتين على وجه واحد ، فإن اختلفت القدرتان واختلف وجه تعلقهما فتوارد القدرتين المتعلقتين على شيء واحد غير محال».

ثم حاول بيان تغاير الجهتين ، فلاحظ (١).

ومنهم ، الفاضل القوشجي حيث قال : «والمراد بكسبه إياه ، مقارنته لقدرته من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له» (٢).

يلاحظ عليهما : إنّ دور العبد في أفعاله على هذا التقرير ليس إلّا دور المقارنة ، فعند حدوث القدرة والإرادة في العبد يقوم سبحانه بخلق الفعل ، ومن المعلوم أنّ تحقق الفعل من الله مقارنا لقدرته ، لا يصحح نسبة الفعل إلى العبد. ومعه كيف يتحمل مسئوليته إذ لم يكن لقدرة العبد تأثير في وقوعه ، وعندئذ تكون الحركة الاختيارية كالحركة الجبرية.

والحق أنّ الأشاعرة مع أنهم مالوا يمينا وشمالا في توضيح الكسب لم يأتوا بعبارة واضحة مقنعة. ولأجل ذلك نرى أنّ التفتازاني يعترف بقصور العبارات عن تفهيم المراد حيث يقول : «إن صرف العبد قدرته وإرادته إلى الفعل كسب ، وإيجاد الله تعالى عقيب ذلك خلق ، والمقدور الواحد داخل تحت قدرتين لكن بجهتين مختلفتين ، فالفعل مقدور لله بجهة الإيجاد ومقدور العبد بجهة الكسب ، وهذا القدر من المعنى ضروري ، وإن لم نقدر على أزيد من ذلك في تلخيص العبارة المفصحة عن تحقيق كون فعل العبد بخلق الله تعالى وإيجاده مع ما فيه للعبد من القدرة والاختيار (٣).

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد ، ص ٤٧ ، طبعة البابي الحلبي بمصر.

(٢) شرح التجريد له ، ص ٤٤٥.

(٣) شرح العقائد النسفية ، ص ١١٧.

٢٧٩

يلاحظ عليه أمران :

١ ـ إنّ مراده من الصرف هو توجه قدرة العبد إلى الفعل ، فمجرد نوجهها إلى الفعل وإن لم يكن دخيلا في وجود الفعل ، كسب. ومن المعلوم أنّ صرف التوجه لا يعدو عن نية الفعل فكما أنّها لا تؤثر في المسئولية إذا نوى هو وقام الآخر به ، فهكذا في المقام.

٢ ـ إنّ الشيخ التفتازاني يعترف بعجزه عن تفسير الكسب.

وهناك كلام متين للقاضي عبد الجبار نأتي بنصه قال : «إنّ فساد المذهب يعلم بأحد طريقين :

أحدهما : أن يتبين فساده بالدليل.

الثاني : أن يتبين أنّه غير معقول في نفسه.

والمقام (الكسب) من قبيل الثاني فإذا تبين أنّه غير معقول في نفسه كفيت نفسك مئونة الكلام عليه ، لأن الكلام على ما لا يعقل لا يمكن. والذي يبين لك صحة ما نقوله أنّه لو كان معقولا لكان يجب أن يعقله مخالف المجبرة في ذلك من الزيدية والمعتزلة والخوارج والإمامية ، فإن دواعيهم متوفرة وحرصهم شديد في البحث عن هذا المعنى. فلما لم يوجد في واحد من هذه الطوائف على اختلاف مذاهبهم ، وتنائي ديارهم ، وتباعد أوطانهم ، وطول مجادلتهم في هذه المسألة من ادعى أنه عقل هذا المعنى أو ظنه أو توهمه ، دل على أنّ ذلك مما لا يمكن اعتقاده والإخبار عنه البتّة. ومما يدل على أنّ الكسب غير معقول هو أنّه لو كان معقولا لوجب ـ كما عقله أهل اللغة وعبروا عنه ـ أن يعقله غيرهم من أهل اللغات وأن يضعوا له عبارة تنبي عن معناه. فلما لم يوجد شيء من اللغات ما يفيد هذه الفائدة دل على. أنه غير معقول» (١).

__________________

(١) شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ، ص ٣٦٤ ـ ٣٦٦.

٢٨٠