الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

وأما الثاني فهو الذي يتغير بالأعمال الصالحة والطالحة. وقد صرّح أئمتنا في أحاديثهم بهذا الأمر ونصّوا على هذا التقسيم.

والمراد من التقدير الحتمي ما لا يبدل ولا يغير ولو دعي بألف دعاء. فلا تغيّره الصدقة ولا شيء من صالح الأعمال أو طالحها. وذلك كقضائه سبحانه للشمس والقمر مسيرا إلى أجل معين ، وللنظام الشمسي عمرا محددا ، وتقديره في حق كل إنسان بأنه يموت ، إلى غير ذلك من السنن الثابتة الحاكمة على الكون والإنسان.

والمراد من الثاني الأمور المقدّرة على وجه التعليق ، فقدّر أن المريض يموت في وقت كذا إلّا إذا تداوى ، أو أجريت له عملية جراحية أو دعي له وتصدّق عنه وغير ذلك من التقادير التي تتغير بإيجاد الشرائط والموانع ، والله سبحانه يعلم في الأزل كلا التقديرين : الموقوف ، وتحقّق الموقوف عليه وعدمه. وله نظائر حتى في التشريع الكلي والسنن الوسيعة الإلهية ، فقد قضى سبحانه في حق المسرفين بأنهم أصحاب النار ، وقال حاكيا عن مؤمن آل فرعون :

(وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (١).

غير أنّ هذا التقدير حتى بصورته الكلية ليس تقديرا قطعيا غير قابل للتغيير بشهادة قوله سبحانه : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (٢). والهدف من الآيتين تقوية حرية الإنسان وتفهيمه بأن له الخيار في اختيار أي واحد شاء من التقديرين.

وإليك بعض ما ورد عن أئمة أهل البيت حول هذا التقسيم :

سئل أبو جعفر الباقر (عليه‌السلام) عن ليلة القدر ، فقال : «تنزل فيها الملائكة والكتبة إلى سماء الدنيا فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة.

__________________

(١) سورة غافر : الآية ٤٣.

(٢) سورة الزّمر : الآية ٥٣.

٢٤١

قال : وأمر موقوف لله تعالى فيه المشيئة ، يقدّم منه ما يشاء ويؤخر ما يشاء.

وهو قوله : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)» (١).

وروى الفضيل قال : سمعت أبا جعفر يقول : «من الأمور أمور محتومة جائية لا محالة ، ومن الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء ، ويثبت منها ما يشاء ، لم يطلع على ذلك أحدا ـ يعني الموقوفة ـ فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه ولا نبيه ولا ملائكته» (٢).

وفي حديث قال الرضا (عليه‌السلام) لسليمان المروزي : «يا سليمان إنّ من الأمور أمورا موقوفة عند الله تبارك وتعالى يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء» (٣).

هذا بعض ما ورد في تقسيم التقدير إلى قسميه.

وقد خرجنا بهذه النتيجة وهي : إنّ التقدير على نوعين موقوف وغير موقوف ، والله سبحانه من وراء الكل واقف على تحقق الموقوف عليه.

٤ ـ الأجل والأجل المسمى :

إنّ القرآن الكريم يصف الكائنات السّماوية والأرضية بأنّ لها «أجلا» و «أجلا مسمى». فما هو المراد منهما؟.

إنّ «الأجل» بلا قيد هو التقدير الموقوف. «والأجل المسمى» هو المحتوم. وإليك بيانه :

قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً ، وَأَجَلٌ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ١٠٢ ، باب البداء ، الحديث ١٤ ، نقلا عن أمالي الطوسي.

(٢) المصدر السابق ، ص ١١٩ ، الحديث ٥٨.

(٣) المصدر السابق ، ص ٩٥ ، الحديث ٢.

٢٤٢

مُسَمًّى عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (١).

قال سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ، وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢).

إنّ الله سبحانه جعل للإنسان في هاتين الآيتين أجلين مطلقا ومسمّى ، كما أنّه جعل للشمس والقمر أجلا مسمّى ، قال سبحانه : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣). ومثله في سورة الزّمر المباركة ، الآية الخامسة. وإليك توضيح مفهوم الأجلين بالمثال التالي :

إذا وهب الله تعالى لأحدنا ولدا وأجريت عليه مختلف الفحوص الطبية بحيث اطمأن الأطباء أنّ باستطاعة هذا الوليد أن يحمل أعباء الحياة إلى مائة سنة ، فمن الواضح أنّ معنى هذا ليس أكثر من «الإمكان» أو «الاقتضاء». وليس معناه أنه يعيش هذه المدة كيفما كان ، وفي أي وضع كان ، بل هو مشروط بشروط عديدة ، منها استمرار صحته وعدم عروض مانع لاستمرار بقائه ، حتى تصل هذه القابلية من القوة إلى الفعلية. وإلّا فربما يموت قبل أن يصل إلى تلك المدة.

وعلى ضوء هذا فللطفل من يومه الأول أجلان :

١ ـ أجل مطلق ، وهو إمكانه واقتضاؤه للبقاء ، وقابليته الجسمية لمدة مائة سنة من العمر. وحيث إنّ لاستمرار البقاء في هذا الكواكب سلسلة من الشرائط والمقتضيات ، ولا يعلم بالجزم واليقين تحققها ، يكون هذا أجلا مبهما لا محتوما ومبرما.

٢ ـ أجل محتوم ، وهو مقدار عيشه حسب تحقق شروطه في الواقع

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٢.

(٢) سورة غافر : الآية ٦٧.

(٣) سورة الرعد : الآية ٢.

٢٤٣

ونفس الأمر ، أو عدم تحققها. وهذا هو الذي لا يقف عليه إلّا الخبير والمحيط بالعالم وتحقق الشرائط وعدمها وما يعرض على الطفل في مسير حياته ، وليس هو إلّا الله سبحانه. إذ هو الذي يعلم ما يعرض للطفل مما يوجب طول حياته أو قصرها.

وهذا تقدير مقطوع به بعيد عن أي إبهام وترديد.

وقد عبّر القرآن الكريم عن الأول بالأجل ، الشامل بإطلاقه للموقوف والمحتوم والممكن والمتحقق ، وعن الثاني بالأجل المسمّى ، الشامل لخصوص المحتوم ، وخصّ العلم بالأجل المسمّى بنفسه تعالى ، دون العلم بالأجل المطلق ، فقال : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ). ولأجل أنّ شرائط الحياة للإنسان تختلف حسب توفر الشروط وعدمها جعل للإنسان أجلين ، مع أنه لم يجعل للشمس والقمر إلّا أجلا واحدا وهو الأجل المسمّى.

وإلى الأجل المسمى يشير قوله سبحانه : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (١).

وإلى ما ذكرنا من التفسير يشير الإمام الصادق بقوله : «أجل مسمى ؛ وهو قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) وأجل غير مسمى يتقدم ويتأخر»(٢).

وقال (عليه‌السلام) أيضا في تفسير قوله سبحانه : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ).

قال : «الأجل الذي غير مسمى موقوف يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما شاء ، وأما الأجل المسمى فهو الذي ينزل ممّا يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها من قابل ، فذلك قول الله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)» (٣).

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ٣٤ وسورة النحل : الآية ٦١.

(٢) أصول الكافي ، ج ١ ، ص ٧١.

(٣) البحار ، ج ٤ ، ص ١١٦ ، الحديث ٤٤. ولاحظ الأحاديث ٤٥ و ٤٦ و ٤٧.

٢٤٤

وقد فسّر غير واحد من المفسرين كلا الأجلين بما ذكرنا ، وذكر الرازي الوجه المروي عن حكماء الإسلام وقال :

«إنّ لكل إنسان أجلين أحدهما : الآجال الطبيعية والثاني الآجال الاخترامية. أما الآجال الطبيعية فهي التي لو بقي ذلك المزاج مصونا عن العوارض الخارجية لانتهت مدة بقائه إلى الوقت الفلاني. وأمّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصل بالأسباب الخارجية كالغرق والحرق وغيرهما من الأمور المنفصلة» (١).

وقال العلّامة الطباطبائي : «إنّ الأجل أجلان : الأجل على إبهامه ، والأجل المسمى عند الله تعالى. وهذا هو الذي لا يقع فيه تغيير لمكان تقييده بقوله «عنده» ، وقد قال تعالى : (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ). وهو الأجل المحتوم الذي لا يتغير ولا يتبدل ، قال تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٢). فنسبة الأجل المسمى إلى الأجل غير المسمى ، نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق ، فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذي علّق عليه ، بخلاف المطلق المنجز ، فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البتة.

والتدبّر في الآيات يفيد أنّ الأجل المسمى هو الذي وضع في أم الكتاب ، وغير المسمى من الأجل هو المكتوب فيما نسميه ب «لوح المحو والإثبات».

وبتعبير آخر : إنّ أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى أسبابها التامة التي لا تتخلف عن تأثيرها ، ولوح المحو الإثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الأسباب الناقصة التي ربما نسميها بالمقتضيات التي يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها» (٣).

__________________

(١) مفاتيح الغيب للرازي ، سورة الأنعام ، آية ٢.

(٢) سورة يونس : الآية ٤٩.

(٣) الميزان ، ج ٧ ، تفسير سورة الأنعام ، الآية الثانية ، ص ٩.

٢٤٥

نعم ، يقع السؤال عن نكتة ذينك التحديدين ، وأنه إذا كان الأجل غير المسمى يختلف مع المسمى غالبا ، فأي فائدة في ترسيمه؟.

ولكن الإجابة عنه واضحة ، وهي أن ترسيمه يثير النشاط في المجتمع الإنساني حتى يقوم بتهيئة الشرائط ورفع الموانع للبلوغ إلى ذلك الأجل والعمر الطويل الذي حدّدوه بمائة وعشرين سنة.

أضف إلى ذلك أنّ هذين الترسيمين نتيجة ارتباط أجزاء الكون وتأثيره في الوجود الإنساني فإن التركيب الخاص للشخص الإنساني وإن كان يقتضي أن يعمّر العمر الطبيعي ، وهذا يقتضي تحديدا له من حيث هو نفسه ، ولكن بما أنّ أجزاء الكون مؤثرة في حياة الإنسان ، فربما تفاعلت الأسباب والموانع التي لا نحصيها ولا نحيط بها ، فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضي الأجل الطبيعي وهو المسمى بالموت الاخترامي. وليس يختص الاخترامي بالحوادث المنفصلة كالموت والحرق كما عليه الرازي في تفسيره ، بل يعم فقدان شرائط الحياة ، وسوء التغذية ، وهجوم الغصص والحوادث النفسية المؤلمة.

٥ ـ ما يترتب على البداء في مقام الإثبات

إذا كان البداء هو تغيير المصير بالعمل الصالح والطالح ، وأنّه يقع في الأمور الموقوفة لا المحتومة ، يسهل على الباحث علاج الإخبار بالمغيبات من جانب الأنبياء مع عدم تحققه.

ونرى من هذه الإخبارات نماذج في الكتاب والسنّة :

(١) ـ رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده إسماعيل ، ورؤيا الأنبياء وحي (١) ، فتلك الرؤيا الصادقة تحكي عن حقيقة ثابتة وواقعية مسلّمة ، وهو أمر الله لإبراهيم بذبح ولده أولا ، وتحقق ذلك في عالم الوجود ثانيا ، وكأنّ

__________________

(١) لاحظ الدر المنثور ، ج ٥ ، ٢٨٠.

٢٤٦

قوله : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يكشف عن أمرين :

أ ـ الأمر بذبح الولد وهو أمر تشريعي.

ب ـ الحكاية عن تحقق ذلك في الواقع الخارجي. فقد أخبر إبراهيم بذلك من طريق الوحي. وأخبر هو ولده بذلك.

ومع ذلك كله لم يتحقق ونسخ نسخا تشريعيا ، كما نسخ نسخا تكوينيا. ويحكي عن كلا الأمرين قوله سبحانه : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ).

فينطرح في ذهن الإنسان : كيف يجوز أن يخبر النبي بشيء من المغيبات ثم لا يتحقق؟!

(٢) ـ إنّ يونس (عليه‌السلام) أخبر قومه بنزول العذاب وأنّه مصيبهم. ومع ذلك كله لم يأتهم (١) يقول سبحانه :

(فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٢).

(٣) ـ ما جاء في قصة موسى بن عمران حيث إنّ موسى أخبرهم بأنّه سيغيب عنهم ثلاثين ليلة كما عن ابن عباس حيث قال : «إنّ موسى قال لقومه إنّ ربي وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه ، وأخلف هارون فيكم ، فلما فصل موسى إلى ربه زاده الله عشرا ، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها الله» (٣). قال سبحانه : (وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (٤).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٣٥. وتفسير الطبري وتفسير الدر المنثور.

(٢) سورة يونس : الآية ٩٨.

(٣) الدر المنثور ، ج ٣ ، ص ١١٥.

(٤) سورة الأعراف : الآية ١٤٢.

٢٤٧

هذه جملة الإخبارات التي وردت في القرآن والتي أخبر بها الأنبياء ولم تتحقق وقد جاء نظير ذلك في الروايات الإسلامية نذكر منها :

ما روي عن المسيح عيسى بن مريم أنّه مرّ بقوم مجلبين. فقال ما لهؤلاء؟ قيل يا روح الله إنّ فلانة بنت فلانة تهدى إلى فلان بن فلان في ليلتها هذه.

قال : يجلبون اليوم ويبكون غدا. فقال قائل منهم : ولم يا رسول الله؟.

قال : لأن صاحبتهم ميتة في ليلتها هذه ... فلما أصبحوا جاءوا فوجدوها على حالها لم يحدث بها شيء.

فقالوا يا روح الله إنّ التي أخبرتنا أمس أنها ميتة لم تمت. فقال عيسى : يفعل الله ما يشاء فاذهبوا بنا إليها .. حتى قرعوا الباب فخرج زوجها فقال له عيسى استأذن لي على صاحبتك. فتخدرت ، فدخل عليها. فقال لها : ما صنعت ليلتك هذه؟ قالت كان يعترينا سائل في كل ليلة جمعة فننيله ما يقوته إلى مثلها. وإنّه جاءني في ليلتي هذه وأنا مشغولة بأمري وأهلي بمشاغل ، فلما سمعت مقالته قمت متنكرة حتى نلته كما كنّا ننيله.

ففي هذه اللحظة قال عيسى لها تنحي عن مجلسك. فإذا تحت ثيابها أفعى مثل جذعة عاض على ذنبه.

فقال (عليه‌السلام) : بما صنعت صرف عنك هذا» (١).

ومنها ـ ما روي أنّه مرّ يهودي بالنبي فقال : السام عليك ، فقال النبي له : وعليك.

فقال أصحابه : إنما سلّم عليك بالموت ، فقال الموت عليك!

فقال النبي : وكذلك رددت.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ٩٤ ، ذكرنا الرواية بتلخيص.

٢٤٨

ثم قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لأصحابه : إنّ هذا اليهودي يعضه أسود في قفاه فيقتله.

فذهب اليهودي فاحتطب حطبا فاحتمله ثم لم يلبث أن انصرف. فقال له ضعه ، فوضع الحطب : فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود. فقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله). يا يهودي ما عملت اليوم؟ قال ما عملت عملا إلّا حطبي هذا فحملته فجئت به ، وكان معي كعكتان فأكلت واحدة وتصدقت بواحدة على مسكين. فقال رسول الله : بها دفع الله عنه. وقال : إن الصدقة تدفع ميتة السوء عن الإنسان (١).

وهناك نظائر لما مضى لا تخرج عن عدد الأصابع.

تبيين الحال في هذه الإخبارات الغيبية

يقع الكلام في هذه الملاحم والأخبار الغيبية تارة من جهه أن الأنبياء كيف علموا بهذا الأمر الموقوف ، ولم يعلموا بالأمر الموقوف عليه. وأخرى أنّ هذا الإخبار مع عدم الوقوع كيف لا يعد تكذيبا لقولهم؟

أما الأول ، فلا شك أنّ النبي إذا أخبر بشيء ثم حصل البداء في تحققه فلا بد أن يستند في إخباره إلى شيء يكون مصدرا لإخباره ومنشأ لاطلاعه. فيمكن أن يكون المصدر اتصاله بعالم لوح المحو والإثبات ، فاطلع على المقدّر ، ولم يطلع على كونه معلقا على أمر غير واقع ، لعدم إحاطة ذلك اللوح بجميع الأشياء.

كما أنه يمكن أن تتعلق مشيئته تعالى بإظهار ثبوت ما يمحوه ، لحكمة داعية إلى إظهاره ، فيلهم أو يوحي إلى نبيه مع علمه سبحانه بأنه يمحوه.

نعم ، من شملته العناية الإلهية واتصلت نفسه الزكية بعالم اللوح المحفوظ تنكشف عنده الواقعيات على ما هي عليها ، وإن كان ذلك قليل كما يتفق ذلك لخاتم الأنبياء وبعض الأوصياء.

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ١١٨.

٢٤٩

وعلى ضوء ذلك فالحكم الذي يوحى إلى الأنبياء ، تارة يكون ظاهرا في الاستمرار والدوام ، مع أنه في الواقع له غاية وحدّ يعيّنه بخطاب آخر.

وأخرى يكون ظاهرا في الجد مع أنّه لا يكون جديا واقعا ، بل لمجرد الاختبار والابتلاء.

وثالثة يوحى إليهم بالإخبار بوقوع عذاب لحكمة في هذا الإخبار ، ومع ذلك لا يقع.

هذه هي الجهات التي يمكن أن تكون مصدرا لعلمه واطلاعه. والكل يرجع إلى وقوفه على المقتضيات وعدم وقوفه على العلة التامة. فلأجل ذلك صح له أن يخبر عن التقدير الأول لأجل وجود المقتضى ، ولو اطلع على العلة التامة لأخبر عن التقدير الثاني. ولا بعد في أن يخفي تعالى على نبيه شرائط التقدير الأول وموانعه لأجل مصالح يعلمها الله سبحانه.

فقد كان هناك مصلحة في الإخبار عن تحقق ذبح إسماعيل ، ونزول العذاب إلى قوم يونس ، وكون الميقات ثلاثين يوما ، وأنّ العروس واليهودي يقتلان. فلله سبحانه في إخباره وإظهاره حكم ومصالح نقف على بعضها ولا نحيط بجملتها.

هذا كله حول مصدر علم النبي في إخباره.

وأما الثاني ، وهو أنّ إخبار النبي بشيء وعدم وقوعه يعد في نظر الناس تكذيبا للنبي. فنقول : إنّ المغيبات التي وقع فيها البداء إنما توجب معرضية الأنبياء لوصمة الكذب والتقول بالخلاف إذا لم يكن هناك قرائن تدل على صدق مقالهم ، ولذلك نرى أن عيسى (عليه‌السلام) لما أخبر أصحابه بأن العروس ستهلك ، برهن على صدق مقاله بإراءة الأفعى تحت مجلسها كما أنّ النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) برهن على صدق إخباره بهلاك اليهودي بالأمر بوضع الحطب فإذا أسود في جوف الحطب عاض على عود.

ونظيره قصة إبراهيم ، فإن في التفدية بذبح عظيم دلالة على صدق ما أخبر به الخليل من الرؤيا. كما أنّ الحال كذلك في قصة يونس حيث أخبر عن العذاب ، وقد رأى القوم طلائعه ، فقال لهم العالم : افزعوا إلى الله

٢٥٠

فلعله يرحمكم ويرد العذاب عنكم ، فاخرجوا إلى المفازة ، وفرّقوا بين النساء والأولاد ، وبين سائر الحيوانات وأولادها ، ثم ابكوا وادعوا ففعلوا فصرف عنهم العذاب (١).

وبالجملة ، إذا كانت إخبارات النبي مقترنة بالقرائن الدالة على صدق اخباره ، وأنّ الوقوع كان حتميا قطيعا لو لا فعل ما فعلوه ، لما عدّ ذلك تقولا بالخلاف ، بل يعد من دلائل الرسالة.

وعلى ذلك فإخباراتهم الغيبية إما كانت على وجه التعليق في اللفظ ، كما في قصة يونس ، حيث روي أنه قال لقومه : «إنّ العذاب مصبحكم بعد ثلاث إن لم تتوبوا» (٢). أو في اللب ، كما إذا دلت القرائن الماضية على أنّ كلامه كان معلقا على مشيئته سبحانه ، وكانت مشيئته سبحانه معلقة على عدم صدور أمر يدفع العذاب.

وأنت إذا أحطّت بما ذكرنا من الأمور تقف على مدى صحة ما نقله الرازي عن سليمان بن جرير من أنّ أئمة الرافضة وضعوا القول بالبداء لشيعتهم ، فإذا قالوا سيكون لهم أمر وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروا ، قالوا : بدا لله تعالى (٣)!. وكأنّ الرجل كان غافلا عن تلك المعارف العليا في الكتاب والسنّة.

ونضيف أخيرا بأنّ هذا النوع من الإخبارات التي تعد نتيجة للبداء لا نفس البداء ، لا تتجاوز في كلمات الأئمة عن مواضع أربعة (٤) ، ذكر تفصيلها في موضعها ، فكيف يدّعي الرازي وضع ضابطة كلية؟!

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٥٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ١٣٥.

(٣) نقد المحصل ، للرازي ، ص ٤٢١.

(٤) راجع في تفسير ذلك كتاب «البداء في ضوء الكتاب والسنة» للأستاذ دام حفظه ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢٥١
٢٥٢

الفصل السادس

العدل الإلهي وأفعال العباد

* الجبر الأشعريّ.

* الجبر الفلسفيّ.

* الجبر الماديّ.

* الاختيار المعتزليّ.

* الاختيار لدى الوجوديين.

* الاختيار في مذهب الأمر بين الأمرين.

٢٥٣
٢٥٤

العدل الإلهي وأفعال العباد

قد عرفت أنّ العدل من صفاته سبحانه ، وكأن هذا الوصف يقتضي البحث عن كيفية صدور أفعال العباد منهم ، وهل هم فاعلون بالاختيار أو بالجبر والإلجاء؟

والأول موافق لعدله سبحانه والثاني يخالفه. ولكننا أفردنا المسألة بالبحث لتشعب شقوقها وكثرة ما طرح فيها من الإشكالات وقبل الخوض في المقصود نقدم أمورا :

الأمر الأول : في كون المسألة عامة

إنّ الوقوف على كيفية صدور فعل الإنسان منه ، وإن كان مسألة فلسفية ، غاصّ فيها كبار المفكرين من الفلاسفة الذين يقدرون على تحليل المسائل العامة في الفلسفة الإلهية ، إلّا أنّ اشتمال المسألة على خصيصة خاصة وهي صلتها بمصير الإنسان في مسيره جعلتها مسألة مطروحة أيضا بين البسطاء والعاديين من الناس. ولأجل ذلك تغايرت فيها أفكارهم وآراؤهم.

فهذه المسألة من حيث العمومية كالمسائل الثلاث الفلسفية التي يتطلع

٢٥٥

كل إنسان إلى حلّها سواء أقدر عليه أم لا وهي : من أين جاء؟ ولما ذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟.

ولأجل هذه الخصيصة في المسألة لا يمكن تحديد زمن تكوّن هذه المسألة في البيئات البشرية ومع ذلك فالمسألة كانت مطروحة في الفلسفة الإغريقية ، إشراقيّها ومشّائيها ، ثم تسربت إلى الأوساط الإسلامية ومنها تسربت إلى المجتمعات الغربيّة ، كغيرها من المسائل والعلوم الإسلامية.

الأمر الثاني : في الجبر بأقسامه

إن أحد شقوق هذه المسألة هو القول بالجبر ، وأنّ الإنسان مسلوب الاختيار ، ولكن تصويره يختلف حسب نفسيات الباحث والملاكات التي يجعلها محور البحث. فالإلهي القائل بالجبر ، يطرحه على نمط مغاير لما يطرحه المادي والفلسفي القائلين به. فالإلهي لا يصوّر للجبر عاملا سوى ما يرتبط بالله سبحانه من تقديره وقضائه أو علمه الأزلي أو مشيئته القديمة المتعلقة بأفعال الإنسان (١). والمادي بما أنه غير معتقد بهذه المبادي يسند الجبر إلى العامل المادي وهو «الوراثة» و «التعليم» و «البيئة» ، التي تسمى بمثلث الشخصية ، وأنّ نفسيات كل إنسان وروحياته تتكون في ظل هذه العوامل الثلاثة ، وهي عوامل خارجة عن الاختيار. ومن المعلوم أنّ فعل كل إنسان رد فعل لشخصيته وملكاته التي اختصرت فيها.

وللفلاسفة القائلين بالجبر منحى آخر فيه. فتارة يستندون إلى أنّ الإرادة الإنسانية هي العلة التامة للفعل ، بحيث إذا حصلت في ضمير الإنسان يندفع إلى الفعل بلا مهلة وانتظار ، وبما أنّ الإرادة ليست أمرا

__________________

(١) هذه ثلاثة من العوامل التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالجبر. وهناك عامل رابع ، وهو القول يكون أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه مباشرة. وعامل خامس وهو ما يبدو من القرآن الكريم من نسبة الهداية والضلالة إلى الله سبحانه وهذه هي النقاط الرئيسية لأبحاثهم في المسألة.

٢٥٦

اختياريا ، تتسم أفعال الإنسان بسمة الجبر لانتهائها إليها.

وأخرى إلى انتهاء العلل الطولية إلى ذاته سبحانه فهو العلة التامة لتلك السلسلة ، فيكون النظام الخارجي ومنه الإنسان وفعله واجب التحقق وضروري الكون.

وثالثة إلى أن الشيء ما لم تجتمع أجزاء علته ، فلا يتحقق في الخارج ، فوجود كل شيء ومنه فعل الإنسان ضروري التحقق عند اجتماع أجزاء علته التامة. وما هو كذلك كيف يتسم بالاختيار. وإلى ذلك يشير قولهم : «الشيء ما لم يجب لم يوجد».

فهذه ملاكات ثلاثة للذهاب إلى الجبر عند بعض الفلاسفة.

وبذلك يتضح أنّ القول بالجبر ينقسم إلى أقسام تبعا للقول بملاكات خاصة فينقسم إلى :

١ ـ جبر إلهي مسند إلى علّة سماوية.

٢ ـ جبر مادي مسند إلى علل مادية.

٣ ـ جبر فلسفي مسند إلى علة نفسية وغيرها.

ولأجل ذلك يجب البحث عن كل قسم على حدة.

الأمر الثالث : في الاختيار بألوانه

ومن شقوق هذه المسألة القول بالاختيار وهو ينقسم حسب انطلاق القائلين به عن مواضع مختلفة ، إلى أقسام :

١ ـ الاختيار بمعنى التفويض ، بمعنى أنه ليس لله سبحانه أي صنع في فعل العبد ، وأن ذات الإنسان وإن كانت مخلوقة لله سبحانه ، ولكن لا يمت فعله إليه بصلة ، فهو مستقل في فعله وفي إيجاده وتأثيره ، حفظا لعدله سبحانه. فيكون الإنسان في هذه النظرية خالقا ثانيا في مجال أفعاله ، كما أنه سبحانه خالق في سائر المجالات. وهذا مذهب «المعتزلة».

٢٥٧

٢ ـ الاختيار بمعنى تكوّن الإنسان بلا لون وماهية ، وأنّه مذ يرى النور يوجد بلا خصوصية ولا نفسية خاصة ، بل يكتسب الكل بإرادته وفعله ، لأنه لو ظهر على صفحة الوجود مع الخصوصية المعينة لزم كونه مجبورا في الحياة ، وهذا هو منطق الوجوديين في الغرب.

وبذلك تقف على أنّ المعتزلة تنطلق من مبدأ العدل ، كما أنّ الوجوديين ينطلقون من مبدأ تكون الإنسان بلا لون ولا ماهية.

٣ ـ الاختيار بمعنى الأمر بين الأمرين لا على نحو الجبر ولا على نحو التفويض. وهذا هو موقف القرآن الكريم وأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) كما سيوافيك شرحه.

وبذلك تقف على أنّ الجبر لا يختص بالإلهي بل يعمه والمادي ، كما أنّ الاختيار مثله. فالإلهي والمادي تجاه هذه المسألة متساويان والاختلاف في ذلك ينطلق من الطرق التي يسلكها المستدل ، فيلزم لتوضيح البحث إفراد كل واحد من هذه المناهج عن البقية حتى يكون الباحث على بصيرة.

الأمر الرابع : الجبر على مسرح التاريخ الإسلامي

الآيات القرآنية والمأثورات التاريخية تشهد بأن فكرة الجبر كانت موجودة قبل الإسلام وقد ذكرنا بعض الآيات الدالّة على أنّ المشركين كانوا معتقدين بذلك عند البحث عن القضاء والقدر.

ومن المؤسف أن يكون الاعتقاد السائد بين بعض أهل الحديث هو القول بالجبر لعلل سياسية من السلطات الغاشمة ، واحتكاكات ثقافية مشبوهة بين المستسلمين من الأحبار والرهبان ، والمسلمين. وقد وقفت على بعض النصوص في ذلك فيما مضى. وإليك ما له صلة بهذا المقام.

١ ـ نقل القاضي عبد الجبار عن أبي علي الجبّائي في كتاب (فضل الاعتزال) : «ثم حدث رأي المجبرة من معاوية لما استولى على الأمر ،

٢٥٨

وحدث من ملوك بني أمية مثل هذا القول. فهذا الأمر الذي هو الجبر نشأ في بني أمية وملوكهم وظهر في أهل الشام ثم بقي في العامّة وعظمت الفتنة فيه» (١).

٢ ـ وقال ابن المرتضى : «ثم حدث رأي المجبرة من معاوية وملوك بني مروان فعظمت به الفتنة» (٢).

٣ ـ وهذا معبد الجهني وهو أول من قال بنفي القدر بمعنى نفي الجبر ونشر هذه الفكرة ، فقتله الحجّاج بن يوسف الثقفي الذي تولى إمارة العراق من قبل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان عام ٨٠. وقيل إنّ الذي تولى قتله صلبا هو نفس عبد الملك بن مروان(٣).

٤ ـ وهذا غيلان الدمشقي أخذ القول بالاختيار عن معبد الجهني ، فنشر الفكرة في دمشق فكاد عمر بن عبد العزيز أن يقتله لو لا أن تراجع غيلان عن رأيه وأعلن توبته ولكنه عاد إلى هذا الكلام أيام هشام بن عبد الملك فأمر هشام بصلبه على باب دمشق ، بعد أن أمر بقطع يديه ورجليه ، عام ١٢٥ (٤).

٥ ـ قال ابن الخياط : إنّ هشام بن عبد الملك لما بلغه قول غيلان بالاختيار ، قال له : ويحك يا غيلان لقد أكثر الناس فيك ، فنازعنا في أمرك ، فإن. كان حقا اتّبعناك. فاستدعى هشام ، ميمون بن مروان ليكلمه فقال له غيلان : أشاء الله أن يعصى. فأجابه ميمون : أفعصي كارها؟ فسكت غيلان. فقطع هشام بن عبد الملك يديه ورجليه (٥).

٦ ـ وجاء في رواية ابن نباتة : إنّ عمر بن عبد العزيز لما بلغه قول

__________________

(١) فضل الاعتزال ، ص ١٢٢.

(٢) البحر الزخار ، لابن المرتضى ، ج ١ ، ص ٣٩ ، س ١٧.

(٣) الكامل لابن الأثير ج ٤ ، ص ٤٥٦.

(٤) تاريخ الطبري ج ٥ ، ص ٥١٦. والكامل ، ج ٥ ، ص ٣٦٣.

(٥) الانتظار لابن الخياط ، ص ١٣٩.

٢٥٩

غيلان بالاختيار استدعاه وقال له : ما تقول؟

قال : أقول ما قال الله.

قال : وما قال الله؟

قال : إنّ الله يقول : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ...) حتى انتهى إلى قوله سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً).

قال له عمر بن عبد العزيز : اقرأ.

فلما بلغ إلى قوله سبحانه : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) ، قال : يا ابن الأتانة ، تأخذ بالفرع وتدع الأصل!! (١).

فهذه النصوص التاريخية تفيد أولا : إن السلطة الأموية من لدن عصر معاوية إلى آخر حكّامها كانت تروّج فكرة الجبر ، وتسوس من يقول بالاختيار بسياسة الإرهاب والقمع ، وتنكل بهم أشدّ التنكيل. والغاية من إشاعة هذه الفكرة معلومة فإنها تخلق لهم المبررات لتصرفاتهم الوحشية وانهماكهم في الملذات والشهوات واستئثارهم بالفيء ، إلى غير ذلك من جرائم الأعمال ومساوئها.

وثانيا : إنّ معبد الجهني في العراق وتلميذه غيلان الدمشقي في الشام كانا يتبنيان فكرة الاختيار ونفي الجبر لا فكرة نفي القدر والقضاء الواردين في القرآن الكريم. والشاهد على ذلك أنّ معبد الجهني دخل على الحسن البصري وقال له : يا أبا سعيد إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قضاء الله وقدره. فقال له الحسن البصري : كذب أعداء الله. انتهى. ومن المعلوم أنّ الحسن البصري لم يكن ينكر ما جاء في الكتاب العزيز من أنّ : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٢). وغير ذلك من الآيات التي مضت

__________________

(١) لاحظ الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة ، ص ١٧٤.

(٢) سورة القمر : الآيتان ٥٢ و ٥٣.

٢٦٠