الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

البداء

أو

تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة.

تحتل مسألة البداء في عقائد الشيعة الإمامية المكانة الأولى. وبقدر ما تحظى هذه المسألة من الاهتمام والعناية لديهم تلقى نقدا لاذعا وهجوما عنيفا من جانب علماء السنة. فلا يمرون عليها إلّا ويهاجمونها بشدة وقسوة. وهذا من العجب أن تعتبر طائفة مسألة ، من صميم الدين وجوهره ، وأخرى تعتبرها فكرة هدّامة للدين.

وأعجب منه أنّ الباحث إذا نظر فيما سيأتي ، يقف على أنّ النزاع القائم على قدم وساق نزاع لفظي ، لا يمت إلى النزاع المعنوي والجوهري بصلة. وقد حصل النزاع من عدم إمعان المخالف فيما يتبناه الموافق. ولو وقف على مراده ومقصده لاتفق معه في هذه المسألة وقال : إنّ البداء بهذا المعنى هو عين ما نطق به الكتاب العزيز ، وتحدثت عنه السنّة الطاهرة ، وأذعن به جهابذة العلم من أهل السنة.

الأمر الأول ـ تفسير لفظ البداء.

إنّ البداء في اللغة هو الظهور بعد الخفاء. قال الراغب في (مفرداته) : «بدا الشيء بدوءا وبداء : ظهر ظهورا بيّنا ، قال تعالى :

٢٢١

(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ* وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) (١)» (٢).

والبداء بهذا المعنى لا يطلق على الله سبحانه بتاتا. لاستلزامه حدوث علمه تعالى بشيء بعد جهله به ، ولا يظن بمسلم عارف بالكتاب والسنة أن يطلق البداء بهذا المعنى على الله سبحانه. فالشيعة الإمامية الذين يسعون إلى تنزيهه سبحانه من كل نقص وعيب بحماس أكبر من سائر الفرق الإسلامية ، يستحيل عليهم أن يطلقوا البداء على الله بهذا المعنى. بل لهم في ذلك تفسير آخر سيأتي بنص كلامهم.

الأمر الثاني ـ إحاطة علمه بكل شيء :

اتفقت الإمامية تبعا لنصوص الكتاب والسنة والبراهين العقلية على أنه سبحانه عالم بالأشياء والحوادث كلها غابرها وحاضرها ومستقبلها ، كلّيها وجزئيها ، لا يخفى عليه شيء في السّماوات والأرض.

قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٣). وقال سبحانه : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٤).

وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «كل سر عندك علانية ، وكل غيب عندك شهادة»(٥).

وقال الإمام الباقر : (عليه‌السلام) : «كان الله ولا شيء غيره ، ولم

__________________

(١) سورة الزمر : الآيتان ٤٧ و ٤٨.

(٢) المفردات ، مادة «بدا» ، ص ٤٠.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٥.

(٤) سورة إبراهيم : الآية ٣٨.

(٥) نهج البلاغة ، الخطبة ١٠٥ ، طبعة عبده.

٢٢٢

يزل الله عالما بما كوّن ، فعلمه به قبل كونه ، كعلمه به بعد ما كوّنه» (١).

وقال الإمام الصادق (عليه‌السلام) : «من زعم أنّ الله عزوجل يبدو في شيء لم يعلمه أمس ، فابرءوا منه» (٢).

وقال أيضا : «فكل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه ليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه ، إنّ الله لا يبدو له من جهل» (٣).

وقال الإمام الكاظم (عليه‌السلام) : «لم يزل الله عالما بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء» (٤).

وقال الإمام أبو الحسن الرضا (عليه‌السلام) : «إن الله علم لا جهل فيه ، حياة لا موت فيه ، نور لا ظلمة فيه. قال : كذلك هو» (٥).

هذه تصريحات أئمة الشيعة في سعة علمه سبحانه (٦) ، وامتناع البداء عليه بمعنى الظهور بعد الخفاء وهم في الوقت نفسه يقولون : «ما عبد الله بشيء مثل البداء». ويقولون : «ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال : الإقرار بالعبودية ، وخلع الأنداد ، وأنّ الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء»

ويقولون : «ما تنبّأ نبي قط حتى يقرّ لله تعالى بخمس : «البداء والمشيئة ... الخ»

ويقولون : «لو يعلم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ، ما فتروا

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٤ ، باب العلم وكيفيته ، ج ٢٣ ، ص ٨٦.

(٢) المصدر السابق ، ص ١١١ ، الحديث ٣٠.

(٣) المصدر نفسه ـ ص ١٢١ ـ الحديث ٦٣.

(٤) الكافي ج ١ ، باب صفات الذات ، ص ١٠٧.

(٥) بحار الأنوار ، ج ٤ ، ص ٨٤ ، الحديث ١٧.

(٦) تقدم البحث مفصلا في سعة علمه تعالى ، عند البحث عنه في الصفات الثبوتية في هذا الجزء.

٢٢٣

عن الكلام فيه» (١).

أفهل يصح أن ينسب إلى عاقل فضلا عن باقر العلوم وصادق الأمة القول بأنّ الله لم يعبد ولم يعظم إلّا بالقول بظهور الحقائق له بعد خفائها عنه ، والعلم بعد الجهل ، كلا. كل ذلك يؤيد أنّ المراد من البداء في كلمات هؤلاء العظام غير ما يفهمه المعترضون سواء أكان إطلاق البداء عليه حقيقة أم كان من باب المجاز.

الأمر الثالث ـ الكتاب والسنة مليئان بالمجاز

إن القرآن الكريم وسنّة النبي الأكرم مليئان بالمجاز والمشاكلة ، فترى القرآن ينسب إلى الله تعالى «المكر» و «الكيد» و «الخديعة» و «النسيان» و «الأسف» ، إذ يقول:

(يَكِيدُونَ كَيْداً* وَأَكِيدُ كَيْداً) (٢).

(وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) (٣).

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٤).

(نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (٥).

(فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (٦).

إلى غير ذلك من الآيات والموارد.

__________________

(١) راجع للوقوف على هذه الأحاديث ، بحار الأنوار ، ج ٤ ، الأحاديث ١١ ، ١٩ ، ٢٣ ، ٢٦ ، ص ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) سورة الطارق : الآيتان ١٥ و ١٦.

(٣) سورة النّمل : الآية ٥٠.

(٤) سورة النساء : الآية ١٤٢.

(٥) سورة التّوبة : الآية ٦٧.

(٦) سورة الزّخرف : الآية ٥٥.

٢٢٤

وليس لأحد أن يغتر بظواهر هذه الآيات والألفاظ فيثبت لله سبحانه هذه الصفات بالمعاني المتبادرة منها ، بل لا بد أن يمعن النظر في القرائن حتى يقف على المراد الواقعي ، سواء أكان موافقا للمعنى اللغوي أم لا (١).

ومن هذا القبيل توصيفه سبحانه بالبداء في أحاديث أئمة أهل البيت وكلمات العلماء. فلا يصح الاغترار بظاهر هذه الكلمة.

الأمر الرابع ـ تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة

دلت الآيات والأحاديث الصحيحة على أنّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بحسن أفعاله وصلاح أعماله ، بمثل الصدقة والإحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والاستغفار والتوبة وشكر النعمة ، إلى غير ذلك مما يوجب تغير المصير وتبدل المقدر السيئ ، إلى المقدر الحسن. كما أنه قادر بسبب الأعمال الطالحة على تغيير مصيره من الحسن إلى السيئ بارتكاب طالح الأعمال وسيّئها. فليس الإنسان محكوما بمصير واحد ومقدّر غير قابل للتغيير ، ولا أنّه يصيبه ما قدّر له شاء أم لم يشأ ، بل المصير والمقدّر يتغيّر ويتبدل بشكر النعم ، أو كفرانها ، وبالتقوى والمعصية إلى غير ذلك من الأمور ، من دون أن يمس ذلك بكمال علم الله سبحانه بأن يوجد فيه التغير والتبدل. كما سيوافيك بيانه.

وهناك آيات كثيرة وروايات صحيحة تنص على تغيير المصير بعمل الإنسان نذكر القليل منها :

القرآن وتأثير عمل الإنسان في تغيير مصيره:

١ ـ قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٢).

__________________

(١) تقدم مفصلا بيان الطريق القويم في ذلك عند البحث في الصفات الخبرية من هذا الجزء.

(٢) سورة الرعد : الآية ١١.

٢٢٥

٢ ـ وقال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح (عليه‌السلام) : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١).

٣ ـ وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٢).

٤ ـ وقال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(٣).

٥ ـ وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٤).

٦ ـ وقال سبحانه : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)(٥).

٧ ـ وقال سبحانه : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ ...) (٦).

٨ ـ وقال سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)(٧).

__________________

(١) سورة نوح : الآيات ١٠ ـ ١٢.

(٢) سورة الأعراف : الآية ٩٦.

(٣) سورة الطلاق : الآيتان ٢ ـ ٣.

(٤) سورة إبراهيم : الآية ٧.

(٥) سورة الأنبياء : الآية ٧٦.

(٦) سورة الأنبياء : الآيتان ٨٣ و ٨٤.

(٧) سورة الانفال : الآية ٣٣.

٢٢٦

٩ ـ وقال سبحانه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ* وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١).

١٠ ـ وقال سبحانه : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

١١ ـ وقال سبحانه : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٣).

وهناك آيات أخرى تدل على تأثير الأعمال الطالحة في تغيير المصير كقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٤).

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٥).

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ، جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ ، كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ، بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي

__________________

(١) سورة الصافات : الآيات ١٤٣ ـ ١٤٦.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ٨٨.

(٣) سورة يونس : الآية ٩٨.

(٤) سورة النّحل : الآية ١١٢.

(٥) سورة الأنفال : الآية ٥٣.

٢٢٧

إِلَّا الْكَفُورَ) (١).

فقوله سبحانه : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) بعد عرض القصة ، نصّ في كونه ضابطة إلهية جارية في الأمم جمعاء ، وليست مجازاة الكفور إلّا سلب النعمة عنه.

وفي هذه الآيات ـ في كلا الطرفين ـ دليل على ما نقول ولأجل إكمال البحث نذكر بعض الأحاديث :

الروايات وتأثير العمل في تغيير المصير

١ ـ قال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «أفضل ما توسّل به المتوسلون الإيمان بالله وصدقة السر ، فإنها تذهب الخطيئة وتطفئ غضب الرب ، وصنائع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان» (٢).

٢ ـ وقال الإمام الباقر : «صلة الأرحام تزكي الأعمال ، وتنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسّر الحساب ، وتنسئ في الأجل» (٣).

٣ ـ وقال الصادق (عليه‌السلام) : «إنّ الدعاء يرد القضاء ، وإنّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق» (٤).

٤ ـ وقال الإمام موسى الكاظم (عليه‌السلام) : «عليكم بالدعاء فإنّ الدعاء والطّلبة إلى الله عزوجل يرد البلاء. وقد قدّر وقضى فلم يبق إلّا إمضاؤه ، فإذا دعي الله عزوجل وسئل صرف البلاء صرفه» (٥).

٥ ـ وقال الإمام أبو الحسن الرضا (عليه‌السلام) : «يكون الرّجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيره الله ثلاثين سنة

__________________

(١) سورة سبأ : الآيات ١٥ ـ ١٧.

(٢) البحار ، ج ٩٠ ، كتاب الذكر والدعاء ، الباب ١٦ ، الحديث ٢.

(٣) الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٧٠.

(٤) البحار ، ج ٩٠ ، كتاب الذكر والدعاء ، الباب ١٦.

(٥) البحار ، ج ٩٠ ، باب فضل الدعاء والحث عليه ، ص ٢٩٥.

٢٢٨

ويفعل الله ما يشاء» (١).

هذا بعض يسير مما روي عن أئمة أهل البيت وقد روى أهل السنّة نظير هذه الروايات نذكر بعضها :

٦ ـ روى السيوطي عن علي رضي الله عنه أنّه سأل رسول الله عن هذه الآية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ) ، فقال : «لأقرّنّ عينيك بتفسيرها. ولأقرّنّ عين أمتي بعدي بتفسيرها : الصّدقة على وجهها ، وبرّ الوالدين ، واصطناع المعروف ، يحول الشقاء سعادة ويزيد في العمر ، ويقي مصارع السوء» (٢).

٧ ـ وأخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : «لا ينفع الحذر من القدر ، ولكن الله يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» (٣).

٨ ـ وعن أبي هريرة عن النبي قال : «لا يردّ القضاء إلّا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلّا البرّ» (٤).

٩ ـ وروى الحاكم في المستدرك بسنده عن ثوبان ، قال : قال رسول الله : «لا يرد القدر إلّا الدعاء. ولا يزيد في العمر إلّا البر. وإنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» (٥).

١٠ ـ وروى عن ابن عمر قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «الدعاء ينفع مما نزل وممّا لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء» (٦).

وهذا قليل من كثير ، وغيض من فيض مما ورد في تغيير المصير

__________________

(١) الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٧٠.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٤ ، ص ٦٦.

(٣) الدر المنثور ، ج ٤ ، ص ٦٦.

(٤) التاج ، ج ٥ ، ص ١١١.

(٥) المستدرك ، ج ١ ، ص ٤٩٣.

(٦) المصدر السابق.

٢٢٩

بالأعمال الصالحة والطالحة ، وقد نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد ، فمن أراد استقصاءها فليرجع إلى مظانّها.

وفي الختام نذكّر بأنّ القول بوجود الرابطة بين الحسنات والسيئات والحوادث الكونية لا يهدف إلى إبطال العلل الطبيعية وإنكار تأثيرها ، كما لا يهدف إلى تشريك الحسنات والسيئات مع العوامل المادية. بل المراد إثبات علة في طول علة وعامل معنوي فوق العوامل المادية وإسناد التأثير إلى كلتا العلتين لكن بالترتيب.

الأمر الخامس ـ إمكان النسخ في التشريع والتكوين

إنّ المعروف من عقيدة اليهود أنهم يمنعون النسخ سواء أكان في التكوين أم في التشريع. وقد استدلوا على امتناعه في التشريع بوجوه مذكورة في الكتب الأصولية أوضحها هو أنّ رفع الحكم الثابت لموضوعه إما أن يكون مع بقاء الحال على ما هو عليه من وجه المصلحة وعلم ناسخه بها ، وإما أن يكون من جهة البداء وكشف الخلاف على ما هو الغالب في نسخ الأحكام العرفية ، فالأول ينافي حكمة الجاعل مع أنه حكيم. والثاني يستلزم جهله تعالى. وكلاهما ممتنع.

وأجيب عنه في الكتب الأصولية بما مثاله : إنّ النسخ لا يلزم منه خلاف الحكمة كما لا يلزم منه البداء المحال في حقه. لأن معنى النسخ ارتفاع الحكم المجعول المقيّد بزمان معلوم عند الله ومجهول عند الناس. ويكون ارتفاعه بعد انتهاء ذلك الزمان لأجل انتهاء أمده الذي قيّد به ، وحلول غايته الواقعية التي أنيط بها. ومن المعلوم أنّ للزمان دخالة في مناطات الأحكام فيمكن أن يكون الفعل مشتملا على مصلحة في سنين ثم يخلو عن تلك المصلحة بعد انتهائها. وعندئذ ربما تقتضي المصلحة بيان الحكم من دون بيان حدّه مع أنّ المراد لبّا هو المحدود بالحد الزماني ، فالنسخ بهذا المعنى تقييد لإطلاق الحكم من حيث الزمان ، ولا يستلزم أحدا من التاليين المذكورين في الاستدلال.

٢٣٠

واستدلّ اليهود على امتناع النسخ في التكوين (١) بأنّ قلم التقدير والقضاء إذا جرى على الأشياء في الأزل استحال أن تتعلق المشيئة بخلافه.

وبعبارة أخرى : ذهبوا إلى أنّ الله قد فرغ من أمر النظام ، وجف القلم بما كان ، فلا يمكن لله سبحانه محو ما أثبت وتغيير ما كتبه أوّلا.

ويردّ عليهم سبحانه في بيان إمكان هذا النسخ في مجال التكوين بالآية التالية : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٢). وعلى ذلك فإنّ الله سبحانه باسط اليدين في مجال التكوين والتشريع ، يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء لا يمنعه من ذلك مانع. وما تتخيله اليهود ، وما انتحلوه من أنّ الله قد فرغ من الأمر وانتهى من الإيجاد والتكوين فصار مكتوف اليدين ، مسلوب القدرة ، فتردّه هذه الآية وما سبقها من الآيات والأحاديث. وهذا هو القرآن الكريم يصرّح بكونه تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٣).

ويقول أيضا : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٤). والآية مطلقة غير مقيدة بزمان دون زمان. ولأجل ذلك ينسب إلى نفسه كل ما يرجع إلى الخلق والإيجاد ويبين ذلك بصيغ فعلية استقبالية دالة على الاستمرار ، وناصّة على أنّ الفيض والخلق والإيجاد والتدبير بعد مستمر.

يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ ، وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) (٥).

__________________

(١) الذي يراد منه في مورد الإنسان أنّه مخيّر في حياته ، غير مسيّر ، وأنّ له تغيير مصيره بتغييره مسيره على ما تقدّم.

(٢) سورة الرعد : الآية ٣٩.

(٣) سورة الرّحمن : الآية ٢٩.

(٤) سورة الأعراف : الآية ٥٤.

(٥) سورة النور : الآية ٤٣.

٢٣١

فالأفعال المتعددة الواردة في هذه الآية أعني قوله : «يزجي» ، «يؤلف» ، «يجعل» ، «يخرج» ، «ينزل» تكشف عن كونه كل يوم هو في شأن وأنّ أمر الخلق والإيجاد والتصرف بعد مستمر ولم يفرغ منه سبحانه كما تدعيه اليهود.

وقد حكى سبحانه عقيدة اليهود بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ، غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ...) (١). فقول اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) يعكس عقيدتهم الكلية في حق الله سبحانه ، وأنّه مسلوب الإرادة تجاه كل ما كتب وقدّر وبالنتيجة عدم قدرته على الإنفاق زيادة على ما قدّر وقضى. فردّ الله سبحانه عليهم بإبطال تلك العقيدة أوّلا بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ).

وثانيا بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ). ولأجل ذلك فسّر الإمام الصادق الآية المذكورة بقوله :

«إنّ اليهود قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص. فقال الله جل جلاله تكذيبا لقولهم : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (٢).

إلى هنا تبين أنّ القول بتغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة يوافق الكتاب والسنة. والقول بأنّ المقدر لا يتغير وأنّ الله فرغ من الأمر يوافق قول اليهود.

والعجب أنّ بعض العقائد اليهودية تسربت إلى المجتمعات الإسلامية في بعض الفترات ، فهذا عبد الله بن طاهر دعى الحسين بن فضل وقال له : أشكلت علي ثلاث آيات دعوتك لتكشفها لي ... قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) وقد صح أنّ القلم قد جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة.

__________________

(١) سورة المائدة : الآية ٦٤.

(٢) التوحيد ، باب معنى قوله عزوجل (وَقالَتِ الْيَهُودُ) ، الحديث الأول ، ص ١٦٧.

٢٣٢

فأجاب الحسين ـ متأثرا بالعقيدة اليهودية ـ بقوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فإنها شئون يبديها لا شئون يبتدئها» (١).

وهذه العبارة من المسئول تكشف عن تسرب عقيدة اليهود إلى تلك الأوساط. وهو باطل بنفس الآية لأن معناها أنّه يحدث الأشياء ويبتدئ بها لا أنّه يبديها بعد ما ابتدأها في الأزل. ويظهر ذلك جليا بالمراجعة إلى الأحاديث التي نقلناها عن الصحاح حول القدر ، فإن مضامينها تطابق هذه النظرية ، وتعرب عن أنّ القدر في نظر هؤلاء عامل حاكم على كل شيء.

* * *

حقيقة البداء في ضوء الكتاب والسنّة

إذا عرفت هذه الأمور ، تقف على أنّ المراد من البداء عند الشيعة الإمامية ليس إلّا تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة. فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّرا بل هو ـ بعد ـ مخيّر في أن يغيّره بصالح أعماله أو بطالحها ، حتى أنّ هذا (تمكن الإنسان من تغيير المصير بالعمل) أيضا جزء من تقديره سبحانه.

فبما أنه سبحانه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٢). وبما أنّ مشيئته حاكمة على التقدير ، وبما أنّ العبد مختار لا مسيّر ، فله أن يغيّر مصيره ومقدّره بحسن فعله ويخرج نفسه من عداد الأشقياء ويدخلها في عداد السعداء ، كما أنّ له عكس ذلك.

وبما أنّ الله (لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٣) ، فالله سبحانه لا يغير قدر العبد إلّا بتغيير من العبد بحسن عمله أو سوئه. ولا يعد تغيير

__________________

(١) الكشّاف ، ج ٣ ، ص ١٨٩. تفسير سورة الرّحمن.

(٢) سورة الرّحمن : الآية ٢٩.

(٣) سورة الرعد : الآية ١١.

٢٣٣

التقدير الإلهي بحسن الفعل أو سوئه معارضا لتقديره الأول سبحانه ، بل هو أيضا جزء من قدره وسنته. فإنّ الله سبحانه إذا قدّر لعبده شيئا وقضى له بأمر ، لم يقدره ولم يقضه عليه على وجه القطع والحتم ، بحيث لا يغير ولا يتبدل ، بل قضاؤه وقدره على وجه خاص ، وهو أنّ ما قدّر للعبد يجري عليه ما لم يغير حاله بحسن فعل أو سوئه ، فإذا غيّر حاله تغيّر قدر الله وقضاؤه في حقه وحلّ مكان ذلك القدر قدر آخر ، ومكان ذلك القضاء قضاء آخر. والجميع (من القضاء والقدر السابقين واللّاحقين) قضاء الله وقدره ، وهذا هو البداء الذي تتبناه الإمامية من مبدأ تاريخها إلى هذا الوقت. ولأجل إيقاف الباحث على صدق هذا المقال نأتي ببعض النصوص لأقطابها القدماء حتى يعرف أنّ ما نسب إليها من معنى البداء أمر لا حقيقة له.

قال الشيخ الصدوق (ت ٣٠٦ ـ م ٣٨١) في باب الاعتقاد بالبداء : «إنّ اليهود قالوا : إنّ الله تبارك وتعالى قد فرغ من الأمر ، قلنا : بل هو تعالى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (١) لا يشغله شأن عن شأن. يحيي ويميت ويخلق ويرزق ويفعل ما يشاء. وقلنا : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) (٢)» (٣).

وقال الشيخ المفيد (ت ٣٣٦ ـ م ٤١٣) في (شرح عقائد الصدوق) : «قد يكون الشيء مكتوبا بشرط فيتغير الحال فيه ، قال الله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) (٤). فتبين أنّ الآجال على ضربين ، وضرب منها مشترط يصح فيه الزيادة والنقصان. ألا ترى قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ)(٥).

__________________

(١) سورة الرّحمن : الآية ٢٩.

(٢) سورة الرعد : الآية ٣٩.

(٣) عقائد الصدوق ، المطبوع في ذيل شرح الباب الحادي عشر ، ص ٧٣.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٢.

(٥) سورة فاطر : الآية ١١.

٢٣٤

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١).

فبيّن أن آجالهم كانت مشترطة في الامتداد بالبر ، والانقطاع عن الفسوق.

وقال تعالى فيما أخبر به عن نوح (عليه‌السلام) في خطابه لقومه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً ...) (٢) إلى آخر الآيات.

فاشترط لهم في مدّ الأجل وسبوغ النعم ، الاستغفار. فلما لم يفعلوا ، قطع آجالهم وبتر أعمالهم واستأصلهم بالعذاب ، فالبداء من الله تعالى (٣) يختص بما كان مشترطا في التقدير وليس هو الانتقال من عزيمة الى عزيمة ، تعالى الله عما يقول المبطلون علوا كبيرا» (٤).

وقال أيضا في (أوائل المقالات) : «أقول في معنى البداء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله ، من الإفقار بعد الإغناء ، والإمراض بعد الإعفاء ، وبالإماتة بعد الإحياء ، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال» (٥).

وقال الشيخ الطوسي (ت ٣٨٥ ـ م ٤٦٠) في (العدة) : «البداء حقيقة في اللغة هو الظهور ، ولذلك يقال «بدا لنا سور المدينة» و «بدا لنا وجه الرأي». وقال الله تعالى (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (٦).

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا) (٧). ويراد بذلك كله «ظهر».

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ٩٦.

(٢) سورة نوح : الآيتان ١٠ و ١١.

(٣) سيوافيك وجه إطلاق البداء على الله وأنّه من مقولة المجاز ، كما قوله سبحانه (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، تمثيلا لفعل الباري بفعل البشر.

(٤) تصحيح الاعتقاد ، باب معنى البداء ، ص ٢٥.

(٥) أوائل المقالات ، باب القول في البداء والمشيئة ، ص ٥٣.

(٦) سورة الجاثية : الآية ٣٣.

(٧) سورة الزمر : الآية ٤٨.

٢٣٥

وقد يستعمل ذلك في العلم بالشيء بعد أن لم يكن حاصلا وكذلك في الظن. وأمّا إذا أضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ومنه ما لا يجوز. فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع. وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين (عليهم‌السلام) من الأخبار المتضمنة لإضافة البداء إلى الله تعالى ، دون ما لا يجوز عليه : من حصول العلم بعد أن لم يكن. ويكون وجه إطلاق ذلك على الله تعالى ، التشبيه وهو أنّه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا لهم ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلا لهم أطلق على ذلك لفظ البداء» (١).

ويريد الشيخ أن إطلاق البداء على الله تعالى لأجل كونه بداء في أذهان الناس ، وظهورا بعد خفاء ، فكان ذلك مصححا لإطلاقه على الله سبحانه بالمجاز والتوسع ، كما عرفت نظيره في بعض الألفاظ.

هذا بعض ما أفاده علماء الشيعة القدامى ، وأما ما كتبه المتأخرون حوله فحدث عنه ولا حرج وفي وسعك المراجعة إليه (٢).

هذا هو الذي تقول به الشيعة وتسميه بداء ، وأما غيرهم فيقولون به حسب ما مرّ من الآيات والروايات ولا يسمونه بداء ، فالنزاع في الحقيقة إنما هو في التسمية ، ولو عرف المخالف أنّ تسمية فعل الله سبحانه بالبداء من باب المجاز والتوسع لما شهر سيوف النقد عليهم. وإن أبى حتى الإطلاق التجوزي فعليه أن يتبع النبي الأعظم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حيث أطلق لفظ البداء عليه سبحانه بهذا المعنى المجازي الذي قلناه ، في حديث

__________________

(١) عدة الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٩. وله كلام آخر في كتاب «الغيبة» ، ص ٢٦٢ ـ ٢٦٤ ، طبعة النجف يحذو فيه حذو ما ذكره في (العدة) فليرجع إليه.

(٢) لاحظ مصابيح الأنوار ، للسيد شبّر ، ج ١ ، أجوبة موسى جار الله للإمام شرف الدين ص ١٠١ ـ ١٠٣.

٢٣٦

الأقرع والأبرص والأعمى : «بدا لله عزوجل أن يبتليهم» (١).

فبأي وجه فسّر كلام النبي يفسر به كلام أوصيائه.

فاتضح بذلك أنّ التسمية من باب المشاكلة وأنّه سبحانه يعبر عن فعل نفسه في مجالات كثيرة بما يعبر به الناس عن فعل أنفسهم ، لأجل المشاكلة الظاهرية ، ولكونه مقتضى المحاورة مع الناس والتحدث معهم. وقد ذكرنا نماذج من ذلك فيما سبق.

وباختصار : إنّ البحث في حقيقة البداء المقصودة للإمامية أمر اتفق المسلمون حسب نصوص كتابهم وأحاديث نبيّهم عليه ، ولا يمكن لأحد إنكاره.

وأما التسمية بالبداء فمن باب المشاكلة والمجاز ، فمن لم يستسغه فليسمه باسم آخر «وليتّق الله ربه في أخيه المؤمن ، ولا يبخس منه شيئا» ؛ (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٢).

وبذلك تقف على أنّ ما ذكره الإمام الأشعري في (مقالات الإسلاميين) (٣) والبلخي في تفسيره (٤) ، والرازي في (نقد المحصّل) (٥) ، وغيرهم حول البداء ، لا صلة له بعقيدة الشيعة فيه. فإنهم فسروا البداء لله بظهور ما خفي عليه والشيعة براء منه ، بل البداء عندهم تغيير التقدير بالفعل الصالح والطالح فلو كان هناك ظهور بعد الخفاء فهو بالنسبة إلينا لا بالنسبة إلى الله تعالى ، بل هو بالنسبة إليه إبداء ما خفي وإظهاره. ولو أطلق عليه فمن باب التوسع.

__________________

(١) النهاية في غريب الحديث والأثر ، للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك ابن محمد الجزري ، ج ١ ـ ص ١٠٩.

(٢) سورة هود : الآيتان ٨٥ و ٨٦.

(٣) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، ص ١٠٧ و ١٠٩ و ١١٩ ، طبعة محي الدين عبد الحميد.

(٤) نقله شيخنا الأكبر الطوسي في تفسيره : التبيان ، ج ١ ، ص ١٣ ـ ١٤ ، طبعة النجف.

(٥) نقد المحصّل ، ص ٤٢١.

٢٣٧

بقيت أمور يجب التنبيه عليها :

١ ـ الأثر التربوي للبداء

إنّ الأثر التربوي الذي يترتب على القول بالبداء أمر لا يمكن إنكاره ، كيف والاعتقاد بالبداء يبعث الرجاء في قلوب المؤمنين ، كما أنّ إنكاره والالتزام بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائن لا محالة دون استثناء ، يترتب عليه اليأس والقنوط. فيستمر الفاسق في فسقه والطاغي في طغيانه ، قائلين بأنه إذا كان قلم التقدير مضى على شقائنا ، فلأي وجه نغير نمط أعمالنا بأعمال البر والتضرع والدعاء.

إنّ الاعتقاد بالبداء يضاهي الاعتقاد بقبول التوبة والشفاعة وتكفير الصغائر باجتناب الكبائر ، فإنّ الجميع يبعث الرجاء في النفوس ويشرح قلوب الناس أجمعين ، عصاة ومطيعين حتى لا ييأسوا من روح الله ولا يتصوروا أنّهم إذا قدر كونهم من الأشقياء فلا فائدة في السعي والكدح بل يعتقدوا بأنّ الله سبحانه لم يجف قلمه في لوح المحو والإثبات ، فله أن يمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ، ويسعد من شاء ، ويشقي من شاء ، حسب ما يتحلى به العبد من مكارم الأخلاق وصالح الأعمال أو يرتكب من طالحها وفاسدها. وليست مشيئته سبحانه جزافية غير تابعة لضابطة حكيمة ، فلو تاب العبد وعمل بالفرائض ، وتمسك بالعصم ، خرج من صفوف الأشقياء ودخل في عداد السعداء وبالعكس.

وهكذا كل ما قدر في حق الإنسان من الحياة والموت والصحة والمرض والغنى والفقر يمكن تغييره بالدعاء والصدقة وصلة الرحم وإكرام الوالدين ، فالبداء يبعث نور الرجاء في قلوب هؤلاء.

٢ ـ البداء ليس تغييرا في علمه ولا في إرادته سبحانه

إنّ علمه سبحانه ينقسم إلى علم ذاتي وعلم فعلي ، فعلمه الذاتي نفس ذاته وهو لا يتغير ولا يتبدل ، وأما علمه الفعلي فهو عبارة عن لوح المحو

٢٣٨

والإثبات ، فهو مظهر لعلم الله في مقام الفعل ، فإذا قيل بدا لله في علمه فمرادهم البداء في هذا المظهر.

وإن شئت قلت : إنّ مراتب علمه سبحانه مختلفة ، ومحالّها متعددة. فأولها وأعلاها العلم الذاتي المقدس عن التكثر والتغير وهو محيط بكل شيء وكل شيء حاضر عنده بذاته. ثم يليه علمه الفعلي وله مراتب ومظاهر كاللوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات ونفوس الملائكة والأنبياء. فلو كان هناك تغيير فإنما هو في هذه المظاهر ، وبالأخص لوح المحو والإثبات. فيقدر في ذلك اللوح كون الشخص من السعداء ولكنه يرتكب عملا طالحا يوجب التغيير فيه فيكتب من الأشقياء ، ومثله خلافه. وإليه يشير سبحانه : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ).

فالظاهر من الآية أنّ أم الكتاب هو الكتاب الوسيع الأصيل الذي يكتب فيه تقدير الكائنات بجملتها ومنها الإنسان ، ولأجل ذلك يكون مصونا من التغيير ، لانعكاس جميع التقديرات فيه جملة واحدة وهذا بخلاف لوح المحو والإثبات فيكتب فيه التقدير الأول ولكنه لما كان مشروطا بشرط غير متحقق ، يغيره التقدير الثاني.

وبذلك يظهر أنّ التغيير في التقدير لا يلازم التغيّر في العلم ولا التغيّر في الإرادة ، وإنما التغيير في مظاهر علمه الفعلي أي ما خلقه من الألواح والنفوس التي تنعكس فيها تقاديره.

وعلى ضوء ذلك فما أخذه أبو زهرة المصري في كتابه (الإمام الصادق) ، على الشيعة الإمامية في مسألة البدء ناشئ عن الغفلة عن محل المحو والإثبات وطروء التغير والتحول حيث قال : «من البداء الزيادة في الآجال والأرزاق والنقصان منها بالأعمال ولا شك أنّ الزيادة في الآجال ، إن أريد ما قدّره الله تعالى في علمه الأزلي والزيادة عما قدر ، فذلك يقتضي تغيير علم الله ، وإن أريد الزيادة عما يتوقعه الناس فذلك مما ينطبق عليهم قوله تعالى :

٢٣٩

(وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)» (١).

فيلاحظ عليه أو لا : إنّ زيادة الآجال والأرزاق أو نقصانها بالأعمال مما لم تنفرد به الشيعة الإمامية. ومن العجيب أن يغفل عما رواه أئمة أهل الحديث ، وقد ذكرنا جملة منها فيما سبق.

وثانيا : إنّ الزيادة في الآجال والأرزاق وإن كانت توجب التغيير في التقدير ، لكنها لا توجب التغيير في علم الله أو مشيئته وإرادته.

ومنشأ الخلط بين الأمرين هو جعل تقديره سبحانه نفس علمه الذاتي ، وتوهم أنّ التغيير في الأول يوجب التغيير في الثاني. بل التقدير إنما هو في مظاهر علمه التي تسمى علما فعليا ، وهي عبارة عن الألواح الواردة في الكتاب والسنة : من المحفوظ ، والمحو والإثبات. فزعم الكاتب أنّ لله علما واحدا وهو علمه الأزلي وأنّه هو مركز التقدير واستنتج منه أنّ القول بالبداء يستلزم تغيير العلم الذاتي.

نعم هو سبحانه يعلم من الأزل أي عبد يختار أي واحد من التقديرين على مدى حياته ، وأي عبد ينتقل من تقدير إلى تقدير ، فليس هاهنا تقدير واحد بل التقديرات بجملتها موجودة هناك بوجود جمعي لا يستلزم الكثرة والتثني.

٣ ـ البداء في التقدير الموقوف لا المحتوم

إنّ البداء (تغيير التقدير بالأعمال) إنما يتصور في التقدير الموقوف. وأما القطعي المحتوم فلا يتصور فيه. وتوضيح ذلك بما يلي :

إنّ لله سبحانه قضاءين : قضاء قطعيا وقضاء معلقا ، أما الأول فلا يتطرق إليه البداء ولا يتغير أبدا.

__________________

(١) الإمام الصادق ، لأبي زهرة ، ص ٢٣٨.

٢٤٠