الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

للعلل الطبيعية وللإنسان وما فيه من المبادي وزنا وقيمة ، ولم يعترف بتأثيرها في تكوّن الظّواهر والحوادث ، لا مناص له عن القول بالجبر. وهو مصير خاطئ يستلزم بطلان بعث الأنبياء وإنزال الكتب.

تمثيل خاطئ

ربما يتمسك في تحليل علمه سبحانه بمثال خاص ويقال إنّ باستطاعة كثير من الأساتذة أن يتكهنوا بمستقبل تلامذتهم ، فإنّ المعلم الذي يعرف حدود السعي والعمل والاستعداد في تلميذه المعيّن ، يستطيع أن يتكهن بنجاح التلميذ أو رسوبه بصورة قاطعة ، فهل نستطيع أن نقول : إنّ علم المعلم بوضع التلميذ صار علّة لعدم نجاحه في الامتحان بحيث لو تكهّن المعلم بعكس هذا ، لكان النجاح حليف التلميذ ، أو إنّ السبب في فشله في الامتحان هو تكاسله أيام الدراسة ، وإهماله طول السنة الدراسية مطالعة ومباحثة الكتاب المقرر. وصرفه أوقاته في الشّهوات.

إنّ هذا التمثيل نافع للأذهان البسيطة التي لا تفرق بين علم المعلم ، وعلمه سبحانه. وأما العارف بخصوصية علمه تعالى وأنّه نفس ذاته ، وذاته علّة لما سواه ، فهو يرى قياس أحد العلمين بالآخر قياسا خاطئا ، فإن علم المعلم ليس في سلسلة علل الحوادث ، وفي مورد المثال : رسوب التلميذ أو نجاحه. وهذا بخلاف علمه تعالى فإنه في سلسلة العلل ، بل تنتهي إليه جميع الأسباب والمسببات. وقد عرفت أنّ القضاء عند الفلاسفة عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام ، وهو المسمى عندهم بالعناية التي هي مبدأ لفيضان الموجودات ، من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها. فعند ذلك يصبح التمثيل في مقام الإجابة أجنبيا عن الإشكال (١).

__________________

(١) وسيأتي الإيماء إلى هذا الجواب عند البحث عن الأصول التي دفعت الأشاعرة إلى القول بالجبر ، ومنها علمه الأزلي.

٢٠١

والحق في الإجابة ما ذكرنا من أنّ علمه العنائي الذي هو السبب لظهور الموجودات على صفحة الوجود ، وإن كان علة لظهور الأشياء ، لكنه ليس بالعلّة الوحيدة القائمة مقام الأسباب والعلل المتأخرة (كما عليه الأشاعرة المنكرين للأسباب والمسببات) بل هناك أسباب ومسببات كثيرة يؤثر كل سبب في مسببه بإذنه سبحانه ومشيئته. وفي خلال تلك الأسباب سببية الإنسان لفعله بإذنه سبحانه ، فتعلّق علمه على أن يكون الإنسان في معترك الحياة فاعلا مختارا وسببا حرّا لما يفعل ويترك. فكون مثل هذا السبب متعلقا لعلمه العنائي المبدأ لفيضان الموجودات ، لا ينتج الجبر بل ينتج الاختيار.

أفعال العباد وإرادته الأزلية

قد عرفت أنّ القضاء العلمي عند الأشاعرة هو عبارة عن إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال. وعند ذلك يتحد هذا التفسير مع التفسير السابق إشكالا وجوابا. وبما أنّا سنبحث في فصل الجبر والاختيار عن شمول إرادته سبحانه لأفعال العباد وعدمه ، فنترك التفصيل إلى مكانه. وسيوافيك أنّ شمول إرادته سبحانه لجميع الكائنات عموما وأفعال الإنسان خصوصا ، ممّا لا مناص عنه ، كتابا وسنّة وعقلا (وإن خالف في ذلك كثير من العدلية حذرا من لزوم الجبر). لكن القول بعموم الإرادة وشمولها للأفعال الاختيارية لا ينتج الجبر كما أوضحنا حاله في العلم.

هذا حال التقدير والقضاء العلميين والنتيجة التي تترتب على هذه العقيدة حسب تحليل الأشاعرة وتحليلنا. وبقي هنا بحث وهو سرد بعض الروايات الواردة في القضاء والقدر في الصحاح والمسانيد التي لا تتخلف عن الجبر قيد شعرة ، وعرضها على الكتاب والسنّة والعقل ليعلم ناسجها ومصدرها. ويتلوه بحث في تفسير «القدرية» الواردة في الأخبار.

* * *

٢٠٢

القضاء والقدر في الصّحاح والمسانيد

لقد عرفت أنّ القدر والقضاء أمر ثابت في الشريعة الإسلامية ولا يمكن إنكاره أبدا. وهما لا يعدوان العلمي والعيني ، وأنّ كلّا منهما غير سالب للاختيار. غير أنّ الظاهر ممّا رواه أصحاب الصّحاح والمسانيد أنّ القدر عامل غالب على الإنسان في أفعاله الاختيارية ، يتحكّم بها ، ويسلب عنه الاختيار رغم إرادة مخالفته. وأنّ الإنسان مسيّر في حياته يسير حسب ما قدر له وكتب عليه. فلنعرض بعض ما وقفنا عليه كنموذج من هذه الروايات :

١ ـ روى البخاري في صحيحه : «احتج آدم وموسى ، فقال له موسى يا آدم أنت أبونا خيّبتنا ، وأخرجتنا من الجنة ، فقال له آدم : يا موسى ، اصطفاك الله بكلامه ، وخطّ لك بيده ، أتلومني على أمر قدّر الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة» (١).

فآدم حسب هذا النقل يبرر عمله الذي وصفه سبحانه بقوله : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) (٢) بالقدر ، وكأن القدر عامل خارج عن إطار حياة

__________________

(١) صحيح البخاري ، ج ٨ ، باب في القدر ، ص ١٢٢.

(٢) سورة طه : الآية ١٢١.

٢٠٣

الإنسان ، حاكم عليه ، رغم أنّه يريد أن لا يطيعه.

٢ ـ وروى أيضا عن زيد بن وهب عن عبد الله قال حدثنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وهو الصادق المصدّق : .. إلى أن قال : «ثم يبعث الله ملكا فيؤمر بأربع : برزقه وأجله وشقي أو سعيد. فو الله إنّ أحدكم أو الرجل يعمل بعمل أهل الكتاب حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها» (١).

٣ ـ روى مسلم في صحيحه عن سراقة بن مالك بن جعشم أنه قال : «يا رسول الله بيّن لنا ديننا كأنّا خلقنا الآن ، فيم عمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟».

قال : «لا ، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير».

قال : «ففيم العمل؟».

قال : «اعملوا فكل ميسّر لما خلق له ، وكل عامل بعمله» (٢).

٤ ـ وروى البخاري عن أبي هريرة قال : «قال لي النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : جفّ القلم بما أنت لاق» (٣). ورواه مسلم في صحيحه.

وينقل النّووي في شرح هذا الحديث : «ويقول الملك الموكل بالنطفة : «يا رب شقي أم سعيد» فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره ، وأجله ورزقه ثم تطوى الصحف ، فلا يزاد فيها ولا ينقص» (٤).

٥ ـ وروى مسلم عن حذيفة : «بعد ما يجعله الله سويّا أو غير سويّ ، ثم يجعله الله شقيا أو سعيدا ، وما من نفس منفوسة إلّا وكتب الله مكانها من

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ١٢٣.

(٢) صحيح مسلم ، ج ٨ ، ص ٤٤ ـ طبعة القاهرة ، يلاحظ شرح النووي ، ج ١٦ ـ ص ١٨٦

(٣) صحيح البخاري ، ج ٨ ، ص ١٢٢٢.

(٤) صحيح مسلم ، ج ٨ ، ص ٤٥. وشرح النووي ، ج ١٦ ، ص ١٩٣.

٢٠٤

الجنة والنار ، إلّا وقد كتبت شقية أو سعيدة» (١).

٦ ـ روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : خرج علينا رسول الله وفي يده كتابان قال : أتدري ما هذان الكتابان. قلنا : لا يا رسول الله إلّا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى : هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على اخرهم ، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا. وقال للذي في شماله : هذا كتاب من ربّ العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ، ثم أجمل على آخرهم ، فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا. قال أصحابه : ففيم العمل يا رسول الله؟ إن كان أمرا قد فرغ منه. فقال : سدّدوا وقاربوا ، فإنّ صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل. وإنّ صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل. ثم قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بيده فنبذهما. ثم قال : فرغ ربّكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير (٢).

٧ ـ وروى البخاري ومسلم وابن داود عن عمران بن حصين قال : قال رجل يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟.

قال : نعم.

قال : ففيم يعمل العاملون؟.

قال (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «كل ميسّر لما خلق له». أخرجه مسلم وأبو داود.

وفي رواية البخاري : أيعرف أهل الجنة من أهل النار؟.

قال : نعم.

قال : فلم يعمل العاملون؟.

قال : كل يعمل لما خلق له أو لما يسّر له.

__________________

(١) صحيح مسلم. وشرح النووي له ـ الطبعة السابقة.

(٢) جامع الأصول ، ج ١٠ ، كتاب القدر ، الحديث ٧٥٥٥ ، ص ٥١٣.

٢٠٥

ولمسلم من رواية أبي الأسود الدؤلي : قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه؟ أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق ، أو فيما يستقبلون به ممّا أتاهم به نبيّهم وثبتت الحجة عليهم.

فقلت : بل شيء قضي عليهم ومضى.

قال : أفلا يكون ظلما.

قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت : كل شيء خلق الله وملك يده ، فلا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.

فقال لي : يرحمك الله : إنّي لم أرد بما سألتك إلّا لأحرز عقلك فإن رجلين من مزينة أتيا رسول الله فقالا :

يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال : لا ، بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم وتصديق ذلك في كتاب الله (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها* فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (١).

٨ ـ وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر قال : قال عمر : يا رسول الله أرأيت ما نعمل فيه أمر مبتدع أو مبتدأ أو فيما قد فرغ منه؟ فقال بل فيما قد فرغ منه يا بن الخطاب ، وكل ميسّر. أمّا من كان من أهل السعادة ، فإنه يعمل للسعادة ، وأمّا من كان من أهل الشقاء فإنّه يعمل للشقاء.

قال : لما نزلت «فمنهم شقي وسعيد» سألت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقلت يا نبي الله : فعلام نعمل ، على شيء قد فرغ منه؟ أو على شيء لم يفرغ منه؟.

قال : بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل

__________________

(١) جامع الأصول ، ج ١٠ ، الحديث ٧٥٥٦ ، ص ٥١٤ ـ ٥١٥.

٢٠٦

ميسّر لما خلق (١).

هذه نماذج مما ذكره القوم في باب القدر ، وكأن القدر حاكم ، متعنت ، حمق ، قاس ، حقود ، على المساكين العاجزين بلا سبب ومبرر ، وبذلك شقيت الكفار والعصاة بشقاوة الأبد ، ولا مجال بعد ذلك لرأفته سبحانه ورحمته وإحسانه.

بل لقد قدّر كل ذلك لجماعة آخرين غرباء لا يهمه أمرهم بلا جهة ولا سبب ، كما في بعض رواياتهم : «خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي. وخلقت هؤلاء للنّار ولا أبالي».

عرض هذه الروايات على الكتاب

لا شك أنّ هذه الروايات مخالفة للكتاب والسنّة. فإنّ الكتاب يعرّف الإنسان في موقف الهداية والضلالة موجودا مختارا وأنّ هدايته وضلالته على عاتقه. قال سبحانه : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٢).

وقال سبحانه : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (٣).

وقال سبحانه : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) (٤).

__________________

(١) جامع الأصول ـ ج ١٠ ـ الحديث ٧٥٥٩ ، ص ٥١٦. ذكر العلامة الطباطبائي تفسيرا خاصا لهذا الحديث وأشباهه مما مر في رواية سراقة بن جعشم ، فراجع الميزان ، ج ١١ ، ص ٢٩. وسيوافيك توجيه آخر عند البحث عن السعادة والشقاء وقد روى الصدوق في كتاب التّوحيد روايات أئمة أهل البيت ربما يتمكن بها الإنسان من تفسير ما ورد في الصحاح والأسانيد فلاحظ ص ٣٥٤ ـ ٣٥٨.

(٢) سورة الدهر : الآية ٣.

(٣) سورة سبأ : الآية ٥٠.

(٤) سورة الأنعام : الآية ١٠٤.

٢٠٧

وقال سبحانه : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (١).

وقال سبحانه : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

وقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٣).

أفبعد هذه الآيات المحكمات يصح لمسلم أن يؤمن بما جاء في هذه الروايات ويسندها إلى الرسول ، حتى يبرر العصاة والطغاة أعمالهم الإجرامية بسبق القدر ، وجفاف القلم ، وانطواء الكتب ، بحيث لا يزيد ولا ينقص.

فعند ذلك يصير مثل الإنسان مثل الملقى في اليمّ مكتوف الأيدي ، ومثل أمره ونهيه مثل أمر الملقى بأن لا يبتل بالماء. قال :

ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له

إيّاك إيّاك أن تبتلّ بالماء

إنّ صريح هذه الآيات هو أنّ صانع مصير الإنسان اختياره الذي تميز به عن سائر الموجودات بفضل منه سبحانه وأنّ له الخيرة في اختيار أي طريق يشاؤه من الهداية والضلالة والسعادة والشقاء ، وليس القدر عاملا صانعا للمصير في مجال أفعاله الاختيارية. نعم ، هناك أمور خارجة عن اختياره ليس هو مسئولا عنها ، ولا يعد صانعا بالنسبة إليها. ولكن كلامنا غايته في أفعاله النفسية من إطاعته ومعصيته ، وهذا هو الذي نقصده من اختيار الإنسان فيه ، لا الأفعال والحوادث الكونية الخارجة عن إطار قدرته.

ولكن الروايات المتقدمة ، المبثوث إضعافها في الصحاح والمسانيد ، تجعل من القدر قدرة صنّاعة لمصير البشر في الأفعال التي يسألون عنها ، وهذا ممّا لا يصدقه الكتاب كما عرفت ، ولا السنّة.

أمّا السنّة ، فيكفي في كون ظواهر تلك الروايات غير مرادة ، وأنها رويت على غير وجهها ، ما رووه هم عن علي (عليه‌السلام) عن رسول الله

__________________

(١) سورة الطور : الآية ٢١.

(٢) سورة الطور : الآية ١٦.

(٣) سورة المدثّر : الآية ٣٨.

٢٠٨

(صلى‌الله‌عليه‌وآله). قال علي (عليه‌السلام) : «كنّا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة. فنكس وجعل ينكت بمخصرته. ثم قال : ما منكم من أحد إلّا وقد كتب مقعده من النّار ومقعده من الجنة. قالوا : يا رسول الله ، أفلا نتكل على كتابنا؟

فقال : اعملوا. فكل ميسّر لما خلق له. أمّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة. وأمّا من كان من أهل الشقاء ، فسيصير لعمل أهل الشقاء. ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) الآية» أخرجه البخاري ومسلم.

وفي رواية الترمذي قال : «كنّا في جنازة في بقيع الغرقد. فأتى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة ، فجعل ينكت بها ، ثم قال ما منكم من أحد ، أو من نفس منفوسة ، إلّا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار ، وإلّا قد كتبت شقية أو سعيدة ، فقال رجل يا رسول الله ، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة ، ليكونن إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاوة ، ليكونن إلى أهل الشقاوة؟.

فقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : بل اعملوا ، فكل ميسّر. فأمّا أهل السعادة ، فييسّرون لعمل أهل السعادة وأمّا أهل الشقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة ، ثم قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) (١).

فلو كان كل إنسان ميسرا لخصوص ما خلق له ، كما هو ظاهر الرواية ، بمعنى أنّ أهل السعادة ميسرون للسعادة وأهل الشقاء ميسرون للشقاء بحيث لا يقدر كل صنف على الالتحاق بالصنف الآخر ، فلما ذا قرأ

__________________

(١) جامع الأصول ، ج ١٠ ، الحديث ٧٥٥٧ ، ص ٥١٥ ـ ٥١٦.

٢٠٩

قوله سبحانه في ذيل الحديث : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى). فإنّ ظاهرها أنّ لكل إنسان الخيار بين الإعطاء والاتقاء والتصديق بالحسنى ، وضدها. فهذه الرواية عن عليّ (عليه‌السلام) تعرب عن أنّ كثيرا من روايات القدر ، إمّا منحوتة وموضوعة على لسان رسول الله بهذا المعنى الذي شرحناه ، أو منقولة بغير وجهها. أضف إلى ذلك أنّ الروايات مخالفة للفطرة الإنسانية التي فطر الله كل إنسان عليها.

ولأجل ذلك نرى أنّ أصحاب النبي بعد ما سمعوا حقيقة القدر على الوجه الذي جاء في الرواية ، استوحشوا ، فقالوا : «ففيم العمل يا رسول الله ، إن كان أمر قد فرغ منه». وما أجيبوا به من قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : سدّدوا وقاربوا إلخ ، ليس جوابا قالعا للشبهة ورافعا للإشكال (١).

كما أنّ الإجابة بأن كلّا ميسّر لما خلق ، لا يحل العقدة إن لم يزدها تعقيدا. فإنّ مفاده أنّ أهل السعادة ميسرون للسعادة التي خلقوا لها وأهل الشقاء للشقاء الذي خلقوا له. وهذا نفس الإشكال الذي تردد في نفس السائل.

وفي ذيل رواية عمران بن حصين يظهر أنّ القدر بالمعنى الوارد في الرواية مظنة كونه ظلما للعباد ، وأنّ أبا الأسود الدؤلي فزع منه فزعا شديدا ، والجواب الذي ذكره أبو الأسود من أنّ كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون ، لا يرد الشبهة بل يؤكّدها.

إنّ للعقيدة الإسلامية سمة البساطة لا التعقيد ، وسهولة التكليف لا مشقته. أفي ميزان النّصفة يتّسم القدر ـ بهذا المعنى ـ بالبساطة والسهولة؟! وسيوافيك أن يد الأحبار والرهبان لعبت في هذا المجال ، وأنهم هم الذين أوردوا القدر بهذا المعنى إلى الساحة الإسلامية ، وغيّروا ما عليه الكتاب

__________________

(١) لاحظ الحديث رقم (٦) مما أوردنا فيما مضى.

٢١٠

والسنّة من التقدير غير السالب للاختيار ، بل بمعنى علمه سبحانه المحيط بأفعال الإنسان خيرها وشرّها ، حتى يترك الشرّ وينحو نحو الخير.

روى البرقي في محاسنه عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله الصادق (عليه‌السلام) قال : «إنّ الله أكرم من أن يكلّف النّاس ما لا يطيقون ، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» (١).

فالشقّ الأول من الحديث ينفي الجبر بتاتا سواء استند إلى القدر أو غيره. والشقّ الثاني ينصّ على عموم إرادته سبحانه لكل الكائنات والأفعال الاختيارية للعباد. وستعرف عند البحث عن الجبر والتفويض أنّ شمول إرادته سبحانه لأفعال العباد لا يهدف إلى الجبر لأنه تعلقت إرادته بصدور كل فعل عن علّته بالخصوصيات والمبادي الكامنة فيها. ومن المبادي الموجودة في الإنسان حريته واختياره.

الأحبار وإشاعة فكرة القدر بين المسلمين

لقد ابتلي المسلمون بعد كعب الأحبار بكتابيّ آخر قد بلغ الغاية في بث الإسرائيليات بين المسلمين ، هو وهب بن منبه ، قال الذهبي : ولد في آخر خلافة عثمان ، كثير النقل عن كتب الإسرائيليات. توفي سنة ١١٤. وقد ضعّفه الفلّاس (٢).

وقال في (تذكرة الحفاظ) : عالم أهل اليمن ولد سنة ٣٤ ، وعنده من علم الكتاب شيء كثير ، فإنه صرف عنايته إلى ذلك ، وبالغ. وحديثه في الصحيحين عن أخيه همّام (٣).

ويظهر من تاريخ حياته أنّه أحد المصادر لانتشار نظرية نفي الاختيار

__________________

(١) البحار ، ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، الحديث ٦٤ ، ص ٤١.

(٢) ميزان الاعتدال ، ج ٤ ، ص ٣٥٢ ـ ٣٥٣.

(٣) تذكرة الحفاظ ، ج ١ ، ص ١٠٠ ـ ١٠١.

٢١١

والمشيئة عن الإنسان حتى المشيئة الظلية لمشيئته سبحانه التي لولاها لبطل التكليف وألغيت الشريعة.

روى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال : سمعنا وهب بن منبّه قال : كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعا وسبعين كتابا من كتب الأنبياء في كلها : «من جعل لنفسه شيئا من المشيئة فقد كفر» ، فتركت قولي (١).

والمراد من «القدر» في قوله : «كنت أقول بالقدر» ، هو القدرة الإنسانية التي عبّر عنها في ذيل كلامه بالاختيار والمشيئة. كما يمكن أن يكون المراد منه نفي القدر ، كما ربما يقال «القدرية» على نفاة القدر والقضاء.

وهذا النقل يعطي أنّ القول بنفي المشيئة للإنسان ممّا ورد في أزيد من سبعين كتابا من كتب الأنبياء ، حسب زعم هذا الكتابي ، ومنها تسرب هذا القول إلى الأوساط الإسلامية ، حتى أصبح من قال بالمشيئة يكفر حسب نقل هذا الكتابي. وقد تسنم الرجل منبر التحدث عن الأنبياء يوم كان نقل الحديث عن النبي ممنوعا ، وكان نتيجة ذلك التحدث انتشار الإسرائيليات الراجعة إلى حياة الأنبياء في العاصمة الإسلامية المدينة المنورة ، وقد جمع ما ألقاه في مجلد أسماه في كشف الظنون : «قصص الأبرار وقصص الأخيار» (٢).

القدرية في الحديث النبوي

روى الفريقان عن النبي الأكرم أنّه قال : «القدرية مجوس هذه الأمة». وكل من الفريقين فسّر «القدرية» بخصمه. فالقائلين بالقدر بالمعنى السالب للاختيار ، يقولون إن المراد : المفوضة القائلة بالاختيار وعدم شمول القدر لأفعال الإنسان ، فكانوا كالمجوس ، القائلة بإلهين

__________________

(١) ميزان الاعتدال ، ج ٤ ، ص ٣٥٣.

(٢) كشف الظّنون ، ج ٢ ، ص ٢٢٣ ، مادة «قصص».

٢١٢

وخالقين ، وهؤلاء يقولون بأن هناك خالقا لجميع الكائنات وهو الله سبحانه ، وخالق آخر لأفعاله وأعماله هو الإنسان ، فهو عندهم إله ثان.

يلاحظ عليه ، أولا : إنّ تفسير القدرية بنفاة القدر بعيد جدا ، غير مأنوس في اللغة العربية ، فالمتبادر من القدرية هم القائلون بالقدر ، كما أن المتبادر من العدلية هم مثبتوا العدل لا نفاته ، فإطلاق القدرية وإرادة الطائفة النافية أشبه بإطلاق الحميريّة والهذيليّة وإرادة من لا يمتّ إليهما بصلة.

وثانيا : إنّ القائلين بالقدر بالمعنى الذي عرفت ، لا ينقصون عن المفوضة في التشبه بالمجوس ، فإن القدر عندهم إله حاكم في الكون وأفعال الإنسان بل حاكم على أفعال الخالق وإرادته ومشيئته ، بحيث لا يمكن تغييره وتبديله ولا النقيصة والزيادة عليه. ولأجل ذلك يصبح الحديث على فرض صدوره عن النبي مجملا لا يمكن الاحتجاج به على طائفة ، هذا.

وقد وردت القدرية في المرويات عن أئمة أهل البيت واستعملت تارة في «المثبت للقدر» وأخرى في «نافيه».

أمّا الأول فمنه ما رواه الصدوق عن الإمام الباقر (عليه‌السلام) قال : «ما يستطيع أهل القدر أن يقولوا والله لقد خلق آدم للدنيا وأسكنه الجنة ليعصيه فيردّه إلى ما خلقه» (١).

ومنه ما رواه الصدوق أيضا عن علي (عليه‌السلام) في حديثه مع الشيخ الشامي عند منصرفه من صفين حيث قال الإمام : فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلّا بقضاء من الله وقدر. فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي.

فقال (عليه‌السلام) : «مهلا يا شيخ لعلّك تظن قضاء حتما وقدرا لازما .. إلى أن قال: تلك مقالة عبدة الأوثان وخصماء الرّحمن وقدرية هذه

__________________

(١) البحار ، ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، الحديث التاسع ، ص ٨٩.

٢١٣

الأمة ومجوسها» (١).

ومنه ما رواه صاحب (الفائق) وغيره من علماء الإسلام عن محمد بن علي المكي بإسناده قال : «إنّ رجلا قدم على النبي فقال له رسول الله : أخبرني بأعجب شيء رأيت. قال : رأيت قوما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ، فإذا قيل لهم لم تفعلون ذلك ، قالوا : قضاء الله تعالى علينا وقدره. فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) سيكون من أمتي أقوام يقولون مثل مقالتهم ، أولئك مجوس أمتي» (٢).

وأمّا الثاني ، فمنه ما رواه الحميري في (قرب الإسناد) بسنده عن الرضا ، قال : كان علي بن الحسين إذا ناجى ربّه قال : «يا رب قويت على معصيتك بنعمتك» ، قال : وسمعته يقول في قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) ، فقال : إنّ القدرية يحتجون بأولها وليس كما يقولون. ألا ترى أنّ الله تبارك وتعالى يقول : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ). وقال نوح على نبينا وآله وعليه‌السلام: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ). قال : «الأمر إلى الله يهدي من يشاء» (٣).

ومنه ما رواه القمي في تفسيره في رواية أبي الجارود عن الإمام الباقر قال : «وهم القدرية الذين يقولون : لا قدر ، ويزعمون أنهم قادرون على الهدى والضّلالة» (٤).

ومنه ما رواه القمي أيضا في تفسيره عن الرضا (عليه‌السلام) قال : «يا يونس لا تقل بقول القدرية فإنّ القدرية لم يقولوا بقول أهل الجنة ولا

__________________

(١) توحيد الصّدوق باب القضاء والقدر ، الحديث ٢٨ ، ص ٣٨٠.

(٢) البحار ، ج ٥ ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٧٤ ، ص ٤٧.

(٣) البحار ، ج ٥ ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٤ ، ص ٥.

(٤) المصدر نفسه ، الحديث ١٣.

٢١٤

بقول أهل النار ولا بقول إبليس. فإنّ أهل الجنة قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ). ولم يقولوا بقول أهل النار فإن أهل النار قالوا : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا). وقال إبليس : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي). فقلت يا سيدي والله ما أقول الخ ....».

ومنه ما رواه العياشي في تفسيره من احتجاج الإمام (عليه‌السلام) مع القدري في الشام عند ما بعث عبد الملك بن مروان إلى عامل المدينة أن وجّه إليّ محمد بن علي بن الحسين ولا تهيّجه ولا تروّعه ، واقض له حوائجه. وقد كان ورد على عبد الملك رجل من القدرية فحضر جميع من كان بالشام فأعياهم جميعا ، فقال : ما لهذا إلّا محمد بن علي.

فكتب إلى صاحب المدينة أن يحمل محمد بن علي إليه ، فأتاه صاحب المدينة بكتابه ، فقال له أبو جعفر (عليه‌السلام) : إني شيخ كبير لا أقوى على الخروج وهذا جعفر ابني يقوم مقامي ، فوجّهه إليه ، فلما قدم على الأموي أزراه لصغره ، وكره أن يجمع بينه وبين القدري مخافة أن يغلبه ، وتسامع الناس بالشام بقدوم جعفر لمخاصمة القدري ، فلما كان من الغد اجتمع الناس بخصومتهما ، فقال الأموي لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : إنّه قد أعيانا أمر هذا القدري وإنما كتبت إليك لأجمع بينك وبينه ، فإنّه لم يدع عندنا أحدا إلّا خصمه. فقال : إنّ الله يكفيناه.

قال : فلما اجتمعوا قال القدري لأبي عبد الله (عليه‌السلام) : سل عمّا شئت. فقال له : اقرأ ، سورة الحمد ، قال : فقرأها. وقال الأموي ـ وأنا معه ـ : ما في سورة الحمد غلبنا ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. قال : فجعل القدري يقرأ سورة الحمد حتى بلغ قول الله تبارك وتعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فقال له جعفر : قف ، من تستعين؟ وما حاجتك إلى المئونة؟ إنّ الأمر إليك. فبهت الذي كفر ، والله لا يهدي القوم الظالمين (١)

__________________

(١) البحار ، ج ٥ ، كتاب العدل والمعاد ، الحديث ٩٨ ، ص ٥٥. والعياشي ، ج ١ ، ص ٢٣.

٢١٥

ومنه ما رواه الصدوق بإسناده عن علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال: سألته عن الرّقى أتدفع من القدر شيئا؟ فقال : هي من القدر. وقال (عليه‌السلام) : إنّ القدرية مجوس هذه الأمة وهم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه ، وفيهم نزلت هذه الآية : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ* إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

والصنف الأول من الروايات أقوى سندا ، ولعل كلمة القدرية تطورت من حيث المعنى في عصر الصادقين وبعدهما فاستعملت في غير معناها القياسي.

ثم إنّ الشيخ التفتازاني في (شرح المقاصد) أقام وجوها على أنّ المراد من القدرية نفاة القدر ، كما أنّ العلامة أقام وجوها أخر على تطبيقها على مثبتي القدر. فليرجع إليهما (٢).

* * *

التقدير وتشريع الأحكام

بقيت هنا كلمة وهي : إنّ الإمام أمير المؤمنين (عليه‌السلام) فسّر القضاء والقدر للشامي الذي سأله عنهما بالأمر بالطاعة والنهي عن المعصية ، وذلك عند ما قال الرجل له: «فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين».

فقال : «الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية والتمكين من فعل الحسنة وترك السيئة ، والمعونة على القربة إليه والخذلان لمن عصاه والوعد والوعيد

__________________

(١) سورة القمر : الآيتان ٤٨ ـ ٤٩. التّوحيد للصدوق ، باب القضاء والقدر ، ح ٢٩ ، ص ٣٨٢.

(٢) شرح المقاصد ، ص ١٤٣. وكشف المراد ، ص ١٩٦.

٢١٦

والترغيب والترهيب ، كل ذلك قضاء الله في أفعالنا وقدره لأعمالنا ، وأمّا غير ذلك فلا تظنه ، فإن الظن له محبط للأعمال.

فقال الرجل : «فرّجت عني يا أمير المؤمنين فرّج الله عنك» (١).

وقد اختار هذا المعنى شيخنا المفيد رحمه‌الله في (تصحيح الاعتقاد) فقال : «والوجه عندنا في القضاء والقدر بعد الذي بيّناه أنّ لله تعالى في خلقه قضاء وقدرا ، وفي أفعالهم أيضا قضاء وقدرا معلوما. ويكون المراد بذلك أنّه قد قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها. وفي أفعالهم القبيحة بالنهي عنها ... وفي أنفسهم بالخلق لها ، وفيما فعله فيهم بالإيجاد له ، والقدر منه سبحانه فيما فعله إيقاعه في حقه وموضعه. وفي أفعال عباده ما قضاه فيها من الأمر والنهي والثواب والعقاب ، لأن ذلك كله واقع موقعه» (٢).

وقد ذكره المحقق الطوسي رحمه‌الله وجها في تفسير القضاء والقدر حيث قال : «والقضاء والقدر ، إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال ، أو الإلزام صحّ في الواجب خاصة ، والإعلام صحّ مطلقا» (٣).

وأوضحه العلّامة الحلّي رحمه‌الله بقوله : «ما ذا يعنى من القول بأن الله قضى أعمال العباد وقدّرها ، فإن أرادوا به الخلق والإيجاد ، فهو باطل لأنّ الأفعال مستندة إلينا. وإن أرادوا به الإلزام لم يصح إلّا في الواجب ، وإن عني به أنّه تعالى بيّنها وكتبها وأعلم أنّهم سيفعلونها ، فهو صحيح ، لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبيّنه لملائكته ، وهذا المعنى الأخير هو المتعين» (٤).

نقول : إنّ القضاء والقدر ممّا اتفق عليه جميع الملل ، لكن القدر لا ينحصر في هذا فقط ، حسب ما عرفت من الآيات والروايات. وأما اكتفاء

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، ح ٧٤ ـ ص ١٢٦.

(٢) تصحيح الاعتقاد ، ص ٢٠.

(٣) كشف المراد ، ص ١٩٤.

(٤) المصدر السابق.

٢١٧

الإمام بهذا الجواب فهو لملاحظة حال السائل ، فلو كان مستطيعا لأن يتحمل بعض المعارف الإلهية لما اقتصر الإمام عليه.

ولأجل هذه الملاحظة كان الإمام (عليه‌السلام) يجيب بعض من يسألوه عن القضاء والقدر بقوله : «طريق مظلم فلا تسلكوه ، وبحر عميق فلا تلجوه ، وسرّ الله فلا تتكلّفوه»(١).

وأمّا البحث عن التقدير المحتوم وغير المحتوم الذي يظهر من الآيات والروايات فسيوافيك بيانه في الفصل التالي.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الحكم ، الرقم ٢٨٧.

٢١٨

الفصل الخامس

البداء

* تفسير لفظ البداء.

* إحاطة علمه تعالى بكل شيء.

* الكتاب والسنّة مليئان بالمجاز.

* تغيير المصير بالأعمال الصالحة والطالحة.

* إمكان النسخ في التشريع والتكوين.

* حقيقة البداء في ضوء الكتاب والسنّة.

* الأثر التربوي للبداء.

* البداء ليس تغييرا في علمه ولا في إرادته سبحانه.

* البداء في التقدير الموقوف لا المحتوم.

* الأجل والأجل المسمى.

* ما يترتب على البداء في مقام الإثبات.

٢١٩
٢٢٠