الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

واستشهد لكلامه بآيات قرآنية (١).

وقال العلامة الحلّي باستعماله في معاني عشر ، واستدل لكل معنى بآية (٢).

والظاهر أنّه ليس له إلا معنى واحد ، وما ذكر من المعاني كلها مصاديق معنى واحد وأول من تنبه لهذه الحقيقة هو اللغوي المعروف أحمد بن فارس بن زكريا يقول : «القضاء أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته قال الله تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) أي أحكم خلقهن .... إلى أن قال : والقضاء الحكم قال الله سبحانه في ذكر من قال : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) أي اصنع وأحكم ولذلك سمي القاضي قاضيا لانه يحكم الأحكام وينفذها وسميت المنية قضاء لأنّها أمر ينفذ في ابن آدم وغيره من الخلق»(٣).

وقال الراغب الأصفهاني : «القضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا ، وكل واحد منهما على وجهين : إلهي وبشرى ، فمن القول الإلهي : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(٤) أي أمر بذلك. ومن الفعل الإلهي : قوله سبحانه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٥) إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه. ومن القول البشري نحو : «قضى الحاكم بكذا» ومن الفعل البشري : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) (٦)» (٧).

ولا يخفى إن ما ذكره ابن فارس أدقّ ومجموع النّصين من العلمين يرجع إلى أنّ أي قول أو عمل إذا كان متقنا محكما ، وجادا قاطعا ، وفاصلا صارما لا يتغير ولا يتبدل ، فذلك هو القضاء.

__________________

(١) شرح تصحيح الاعتقاد ، ص ١٩.

(٢) كشف المراد ، ص ١٩٥ ، طبعة صيدا.

(٣) المقاييس ، ج ٥ ، ص ٩٩.

(٤) سورة الاسراء : الآية ٢٣.

(٥) سورة فصّلت : الآية ١٢.

(٦) سورة البقرة : الآية ٢٠٠.

(٧) مفردات الرغب ، مادة قضى ، ص ٤٢١.

١٨١

هذا ما ذكره أئمة اللغة ، وقد سبقهما أئمة أهل البيت ففسروا القدر والقضاء على النحو التالي :

روى الكليني بسنده إلى يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) وقد سأله يونس عن معنى القدر والقضاء فقال : «هي الهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء هو الإبرام وإقامة العين» (١).

روى البرقي في محاسنه عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه‌السلام) : «قال : قلت : ما معنى «قدر»؟ قال : تقدير الشيء من طوله وعرضه ، قلت : فما معنى «قضى»؟ قال : إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له» (٢).

روى البرقي في محاسنه أيضا بإسناده عن محمد بن إسحاق قال : قال أبو الحسن الرضا (عليه‌السلام) ليونس مولى علي بن يقطين : «أوتدرى ما «قدر» قال : لا. قال : هو الهندسة من الطول والعرض والبقاء. ثم قال : إنّ الله إذا شاء شيئا أراده ، وإذا أراده قدّره ، وإذا قدّره قضاه ، وإذا قضاه أمضاه» (٣).

وأنت إذا أمعنت النظر في مفاد هذه الروايات تقدر على تمييز ما يرجع فيها إلى التقدير والقضاء الكليين عمّا يرجع إلى العينيين منهما ولأجل ذلك تركنا التصنيف فيها.

فإذا اتّضح ما ذكرناه ، فلنرجع إلى تفسير ما تهدف إليه الآيات والروايات ، وقد عرفت أنّ كلّا من التقدير والقضاء على قسمين : علمي وعيني. فلنقدم البحث في العيني منهما ثم نبحث عن العلمي منهما لأنّ استنتاج الجبر ربما يترتب عند القائل به على العلمي.

__________________

(١) الكافي ج ١ ، ص ١٥٨. ورواه الصدوق في توحيده بتغيير يسير.

(٢) المحاسن ، ص ٢٤٤. ونقله المجلسي في البحار ، ج ٥ ، ص ١٢٢ ، الحديث ٦٨.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢٤٤. ورواه المجلسي في بحاره ، ج ٥ ، ص ١٢٢ ، الحديث ٦٩.

١٨٢

١ ـ تفسير القدر والقضاء العينيين

حاصل التقدير العيني أنّ الموجودات الإمكانية على صنفين : موجود مجرد عن المادة والزمان والمكان ، فقدره هو ماهيته التي يتحدد بها وجوده. وبما أنّ ماهية هذه الموجودات العليا خفية علينا ، فنكتفي في بيان تقديرها بلفظ «الإمكان» و «الحاجة» فكلها مصبوغة بهذه الصبغة ولا تخرج عن هذا الإطار ، وتلك كالملائكة والعقول والنفوس.

وموجود مادي خلق في إطار الزمان والمكان ، فقدره عبارة عن جميع خصائصه الزمانية والمكانية والكيفية والكمية. وبعبارة أخرى : حدود وجوده ، وخصوصياته التي تحف به من بدو تحققه إلى فنائه.

وأما القضاء ، فهو عبارة عن الضرورة التي تحف وجود الشيء بتحقيق علته التامة بحيث يكون وجوده ضروريا مقطوعا به من ناحية علته الوجودية.

وعلى ذلك فكل ما في الكون لا يتحقق إلا بقدر وقضاء أما القدر فهو عبارة عن الخصوصيات الوجودية التي تبين مكانة وجود الشيء على صفحة الوجود ، وأنّه من قبيل الجماد أو النبات أو الحيوان أو فوق ذلك ، وأنّه من

١٨٣

الوجودات الزمانية ، والمكانية إلى غير ذلك من الخصوصيات التي تبين وضع الشيء وموضعه في عالم الوجود.

وأمّا القضاء ، فهو عبارة عن وصول الشيء حسب اجتماع أجزاء علته إلى حد يكون وجوده ضروريا وعدمه ممتنعا ، بحيث إذا نسب إلى علته يوصف بأنّه ضروري الوجود.

فلأجل ذلك استعير لبيان مقدار الشيء من الخصوصيات لفظ «القدر» ، ولتبيين ضرورة وجوده وعدم إمكان تخلفه ، لفظ «القضاء» ولأجل ذلك فسر أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) القدر بالهندسة ووضع الحدود من البقاء والفناء ، والقضاء بالإبرام وإقامة العين.

وعلى ذلك فيجب علينا أن نبحث عن التقدير والقضاء العينيين اللّذين أخبر عنهما الكتاب العزيز وقال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

وقال سبحانه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٢).

فلا يوجد على صفحة الوجود الإمكاني شيء إلا بظل هذين الأمرين :

١ ـ تقدير وجود الشيء وتحديده بخصوصيات تناسب وجوده ، فلا يوجد شيء خاليا عن الحد والتقدير سوى الله تعالى سبحانه.

٢ ـ لزوم وجوده وضرورة تحققه بتحقق علته التامة التي تضفي على الشيء وصف الضرورة والتحقق.

وإلى ذلك يشير النبي الأكرم بقوله : «لا يؤمن عبد حتّى يؤمن بأربعة» ، وعدّ

__________________

(١) سورة القمر : الآية ٤٩.

(٢) سورة فصلت : الآية ١٢.

١٨٤

منها القدر (١). ويشير إليه الإمام الطاهر موسى بن جعفر بقوله : «لا يكون شيء في السموات والأرض إلّا بسبعة» وعدّ منها القضاء والقدر (٢).

فالعالم المشهود لنا لا يخلو من تقدير وقضاء. فتقديره تحديد الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها ، وآثار وجودها ، وخصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود والآثار بموجودات أخرى ، أعني العلل والشرائط ، فيختلف وجودها وأحوالها باختلاف عللها وشرائطها ، فهي متشكلة بأشكال تعطيها الحدود التي تحدها من الخارج والداخل ، وتعين لها الأبعاد من عرض وطول وشكل وهيئة وسائر الأحوال من مقدار الحياة والصحة والعافية أو المرض والعاهة ما يناسب موقعها في العالم الإمكاني. فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر له في مسير وجوده. قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له. وقال سبحانه : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)(٣).

وفي قوله سبحانه (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) إشارة لطيفة إلى أنّ التقدير لا يسلب منه الاختيار ، وفي وسع الإنسان أن يبطل بعض التقدير أو يؤيده ويدعمه فيذهب عن نفسه العاهة أو يؤكدها ويثبتها.

وأما قضاؤه ، فلما كانت الحوادث في وجودها وتحققها منتهية إليه سبحانه فما لم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها فإنها تبقى على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع فإذا تمّت عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها إلا أن توجد ، كان ذلك من الله قضاء وفصلا لها من الجانب الآخر وقطعا للإبهام.

يقول السيد الطباطبائي رحمه‌الله : «إنا نجد الحوادث الخارجية والأمور الكونية بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها على إحدى الحالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها وقبل أن تتم الشرائط وترتفع

__________________

(١) البحار ، ج ٥ ، ص ٨٧ ، ح ٢.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٨٨ ، ح ٧.

(٣) سورة عبس : الآيتان ١٩ و ٢٠.

١٨٥

الموانع التي يتوقف عليها حدوثها ، لا يتعين لها التحقق والثبوت.

فإذا تمت عللها الموجبة لها ، وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع ، خرجت من التردد والإبهام وتعين لها أحد الطرفين وهذا هو القضاء وإلى ذلك يشير قوله سبحانه : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وقال سبحانه : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) (٢)» (٣).

وبذلك يظهر أنّ التقدير ، بمعنى إفاضة الحد على الشيء ، والقضاء بمعنى إفاضة الضرورة على وجود الشيء ، من صفاته الفعلية سبحانه ، وإليه يشير الإمام الصادق (عليه‌السلام) في قوله : «إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق الله والله يزيد في الخلق ما يشاء» (٤).

وإنما يكون القضاء والقدر مخلوقين لله تعالى من حيث إنّ وجود أيّة ظاهرة يكون ملازما مع قدرها الذي يعطي لها الحد والمقدار ، ويخصّصها بشكل خاص كما يكون ملازما مع القضاء الذي هو ضرورة وجودها من قبل علتها فخالق الشيء خالق قدره وخالق قضائه.

التقدير مقدّم على القضاء

إذا كان التقدير بمعنى تحديد وجود الشيء والحدّ الذي يتحدد به فهو مقدّم على القضاء بمعنى ضرورة وجوده ، لأن الشيء إنما يتحدد ، بكل جزء من أجزاء العلة فإن كل واحد منها يؤثر أثره في المعلول على حدته. فحيث إن أجزاء العلّة تتحقق قبل تمامها ، وكل جزء منها يؤثر أثره في محيطه ،

__________________

(١) سورة غافر : الآية ٦٨.

(٢) سورة يوسف : الآية ٤١.

(٣) الميزان ج ١٣ ص ٧٢ بتلخيص.

(٤) التوحيد ، ص ٣٦٤.

١٨٦

ويكون أثره تحديد الموجود وصبغه ، يجب أن يكون التقدير مقدما على القضاء فصانع الطائرة يهيئ لمصنوعه قطعا وأجزاء صناعية مختلفة ، كل منها من صنع مصنع ، ثم تركب هذه الأجزاء بعضها مع بعض ، فيصل إلى حد القضاء ، فتكون طائرة تحلق في السماء.

ومثله الثوب المخيط ، فإنّ هناك عوامل مختلفة تعطيه صورة واحدة ، مثل تفصيل القميص ، والخياطة الخاصة ، وغير ذلك من الخصائص التي تحدد الثوب قبل وجود العلّة التامة.

وفي ضوء هذا البيان يمكن أن يقال : إذا كان الشيء موجودا ماديا ، وكانت علته علة مركبة من أجزاء ، فتقديره مقدم على قضائه حيث إنّ تأثير الجزء مقدم على تأثير الكل. وأما الموجودات المجرّدة المتحققة بعلّة بسيطة ، فالتقدير والقضاء العينيان فيها يكونان في آن واحد فإن الخلق والإيجاد ، الذي هو ظرف القضاء ، هو نفس ظرف التقدير والتحديد.

وبهذا يتضح سر تأكيد الإمام (عليه‌السلام) على تقدم القدر على القضاء.

روى البرقي في المحاسن بسنده عن هشام بن سالم قال : قال أبو عبد الله (عليه‌السلام) : «إنّ الله إذا أراد شيئا قدّره ، فإذا قدّره قضاه ، فإذا قضاه أمضاه» (١).

وروى أيضا بسنده عن محمد بن إسحاق قال : قال أبو الحسن ليونس مولى علي بن يقطين : «يا يونس لا تتكلم بالقدر ، قال : إني لا أتكلم بالقدر ، ولكن أقول : لا يكون إلا ما أراد الله وشاء وقضى وقدر. فقال : ليس هكذا أقول ، ولكن أقول : لا يكون إلا ما شاء الله وأراد وقدر وقضى» (٢).

__________________

(١) المحاسن ، ص ٢٤٣ ـ ٢٤٤. ورواه المجلسي في البحار ، ص ١٢١ ، الحديث ٦٤.

(٢) المحاسن ، ص ٢٤٤. ورواه المجلسي في البحار ، ص ١٢٢ ، الحديث ٦٩.

١٨٧

بقي هنا نكتتان هامتان يجب التنبيه عليهما :

الأولى : قد عرفت عناية النبي وأئمة أهل البيت (عليهم‌السلام) بالإيمان بالقدر ، وأنّ المؤمن لا يكون مؤمنا إلا بالإيمان به ، فما وجه هذه العناية؟.

والجواب : إنّ التقدير والقضاء العينيين من شعب الخلقة ، وقد عرفت أنّ من مراتب التوحيد ، التوحيد في الخالقية وأنه ليس على صفحة الوجود خالق مستقل سواه. ولو وصفت بعض الأشياء بالخالقية ، فإنما هي خالقية ظليّة تنتهي إلى خالقيته سبحانه ، انتهاء سلسلة الأسباب والمسببات إليه.

ولما كان القدر العيني ، تأثر الشيء عن علله وظروفه الزمانية والمكانية ، وانصباغه بصفة خاصة فهو نوع تخلّق وتكوّن للشيء فلا محالة يكون المقدّر والمكوّن هو الله سبحانه.

ولما كان القضاء العيني ، هو ضرورة تحققه ولزوم وجوده ، فهو عبارة أخرى عن الخلقة الواجبة اللازمة ، فلا محالة يستند إليه سبحانه.

فلأجل ذلك ترى أنه سبحانه تارة يسند التقدير إلى نفسه ويقول : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (١) ويقول (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٢).

وأخرى يسند القضاء ويقول : (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٣) ويقول : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) (٤).

فبما أنّ التقدير والقضاء عبارة أخرى عن كيفية الخلقة ، فلا يوجد شيء في صفحة الوجود إلا بهما ، وإلى ذلك يشير ما تقدم من الإمام الصادق

__________________

(١) سورة الطّلاق : الآية ٣.

(٢) سورة الأعلى : الآية ٣.

(٣) سورة البقرة : الآية ١١٧.

(٤) سورة فصلت : الآية ١٢.

١٨٨

(عليه‌السلام) من قوله : «إنّ القضاء والقدر خلقان من خلق الله والله تزيد في الخلق ما يشاء»(١).

الثانية : إن كون التقدير والقضاء العينيّين منه سبحانه لا يلازم كون الإنسان مسلوب الاختيار ، لأن المفروض أنّ الحرية والاختيار من الخصوصيات الموجودة فيه ، فالله سبحانه قدر وجوده بخصوصيات كثيرة منها كونه فاعلا بالاختيار مقابل الفواعل الطبيعية التي لا تفعل إلا عن جبر طبيعي.

كما أنّه سبحانه إذ قضى بأفعال الإنسان فإنما قضى على صدورها منه عن طريق المبادي الموجودة فيه التي منها الحرية والاختيار. فقضى قضاء تكوينيّا بصدور فعل الإنسان منه عن اختياره وحريته التامة. وعلى ذلك فكون التقدير والقضاء العينيّين منه سبحانه لا يسلب الاختيار عن فاعل مختار مثل الإنسان.

نعم ، لو قدره بغير هذه الخصوصية وقضى على صدور فعله منه لا عن هذا الطريق ، لكان لما توهم مجال. وسيوافيك توضيح ذلك عند البحث عن العلميّين منهما.

هذان هما التقدير والقضاء العينيّان وهناك معنى آخر للعيني من القضاء والقدر يستفاد من آيات كثيرة ، والمعنيان غير متزاحمين ، غير أنا نعبر عن المعنى الأول بالقضاء والتقدير العينيّين الجزئيّين ، وعن الآخر بالعينيّين الكلّيّين. وإليك بيان ذلك القسم الآخر :

القضاء والقدر العينيّان الكليّان

إن وجود السّنن الإلهية السائدة على الكون والمجتمع الإنساني وعلى أفراده مما لا ينكر ، كما أنّ تأثير هذه السنن في السعادة والشقاء أمر قاطع لا

__________________

(١) التّوحيد ، ص ٣٦٤ ، الحديث ١.

١٨٩

يتخلف. وعلى ذلك فالسّنن الإلهية الواردة في الكتاب والسنّة ، أو التي كشف عنها الإنسان عبر ممارساته وتجاربه ، كلها من تقديره وقضائه سبحانه. والإنسان تجاه هذه النواميس والسنن السائدة حرّ مختار ، فعلى أيّة واحدة منها طبّق حياته يرى نتيجة عمله ، وإليك المثال :

إنّ التقدير الإلهي على أمة يعيش أكثرها في الفقر والحرمان ، وقليل منها بالغنى والرفاه عن طريق الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين ، هو أن لا ترى الطائفة المرفّهة الراحة ولا الهناء بل لا تعيش إلا حياة القلق والاضطراب خوفا من ثورة الكادحين وحذرا من بطشة المحرومين.

بينما تقديره تعالى على أمة تعيش آلام المحرومين وآمال الكادحين وتهيء لهم الحياة اللائقة بهم وتقلل من غلواء الطبقات المرفهة لصالح الفقراء ، وتأخذ منهم حقوقهم التي جعلها الله لهم (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) ، هو أن يعيشوا عيشة الثبات والاستقرار والرّقي والتقدم والتحرك والبناء.

وهذان التقديران واضحان محسوسان يستوي فيهما جميع أمم العالم وليس هناك عامل خارج عن إطار اختيار الأمّة وإرادتها ، يجبرها على اختيار أحدهما ؛ فالأمّة إمّا أن تتبع العقل والحكمة ، أو تتبع الغرور والشهوة. وكل تصل إلى النتيجة التي تترتب على عملها ، والكل بقضاء الله تعالى فإنه هو الذي أودع في الكون هذه السنن وجعل الناس أحرارا في اختيار سلوك أحد الطريقين.

فإذا كان ما مرّ من المثال راجعا إلى سنّة إلهيّة في حق المجتمع فهناك سنن راجعة إلى كل فرد من أفراد المجتمع مثلا : الشاب الذي يبدأ حياته بإمكاناته الحرة وأعصابه المتماسكة ، وذكائه المعتدل ، فإما أن يصرف تلك المواهب في سبيل تحصيل العلوم والفنون والكسب والتجارة ، فمصيره وتقديره هو الحياة السعيدة الرغيدة.

وإمّا أن يسيء الاستفادة من رصيده المادي والمعنوي ويصرفه

١٩٠

في الشهوات واللذات الزائلة ، فتقديره هو الحياة الشقيّة المظلمة.

والتقديران كلاهما من الله تعالى ، والشاب حر في اختيار أحد الطريقين والنتيجة التي تعود إليه ، بقضاء الله وقدره. كما أنّ له أن يرجع أثناء الطريق فيختار بنفسه تقديرا آخر ويغيّر مصيره ، وهذا أيضا يكون من تقدير الله عزوجل فإنه هو الذي خلقنا وخيّرنا وأقدرنا على الرجوع وفتح لنا باب التوبة.

وإليك مثالا ثالثا : المريض الذي يقع طريح الفراش أمامه تقديران :

١ ـ إما أن يرجع إلى الأطباء الخبراء ويعمل بالوصفة التي تعطى له ، فعندئذ يكون البرء والشفاء حليفه.

٢ ـ أو يهمل نفسه ولا يشاور الطبيب أو لا يتناول الدواء فاستمرار المرض والداء حليفه.

والتقديران كلاهما من الله تعالى والمريض حرّ في اختيار سلوك أي الطريقين شاء. وأنت إذا نظرت إلى الكون والمجتمع والحياة الإنسانية تقدر على تمييز عشرات من هذه السنن السائدة ، وتعرف أنها كلها من تقاديره سبحانه. والإنسان حرّ في اختيار واحد منها. ولأجل ذلك نرى أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) يقول : «خمسة لا يستجاب لهم : أحدهم مرّ بحائط مائل وهو يقبل إليه ، ولم يسرع المشي حتى سقط عليه» (١).

والسر في عدم استجابة دعائه واضح ، لأن تقديره سبحانه وقضاءه على الإنسان الذي لا يقوم من تحت ذلك الجدار المائل هو الموت وبذلك تقف على مغزى ما روي عن علي أمير المؤمنين عند ما عدل من حائط مائل إلى حائط آخر ، فقيل له يا أمير المؤمنين : أتفرّ من قضاء الله؟ فقال (عليه‌السلام) : أفرّ من قضاء الله إلى قدره عزوجل (٢) ، يعني أنّ ذلك باختياري فإن شئت بقيت في هذا القضاء وإن شئت مضيت إلى قدر آخر. فإن بقيت اقتل

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، ذيل الحديث ٣١ ، ص ١٠٥.

(٢) التّوحيد للصدوق ، ص ٣٦٩

١٩١

بقضاء الله ، وإن عدلت أبقى بتقدير منه سبحانه ، ولكل تقدير مصير ، فأيهما فعلت فقد اخترت ذلك المصير.

ثم إنّ في القرآن الكريم آيات كثيرة بصدد بيان السنن الإلهية السائدة على المجتمع الإنساني التي تعدّ الكل من تقديره وقضائه سبحانه ، والمجتمع محكوم بنتائج هذه السنن حكما قطعيا وقضاء باتّا ، ولكن له الاختيار في سلوك أي طريق شاء. ولأجل إيقافك على بعض هذه السنن التي تعد من القضاء والقدر العينيّين الكليّين نشير إلى بعضها :

السنن الإلهية في المجتمع البشري

ننقل في هذا الباب بعض الآيات التي تنص على قوانين كلية وسنن إلهية سائدة على المجتمع البشري من غير فرق بين مجتمع وآخر وإنما المهم هو اختيار أحد جانبي تلك السنن.

١ ـ قال سبحانه حاكيا عن شيخ الأنبياء نوح : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً) (١).

فترى أنّ نوحا (عليه‌السلام) يجعل الاستغفار سببا مؤثرا في نزول المطر وكثرة الأموال وجريان الأنهار ، ووفرة الأولاد. وإنكار تأثير الاستغفار في هذه الكائنات أشبه بكلمات الملاحدة. وموقف الاستغفار هنا موقف العلة التامة أو المقتضي بالنسبة إليها والآية تهدف إلى أنّ الرجوع إلى الله وإقامة دينه وأحكامه يسوق المجتمع إلى النظم والعدل والقسط وفي ظله تتركز القوى على بناء المجتمع على أساس صحيح ، فتصرف القوى في العمران والزراعة وسائر مجالات المصالح الاقتصادية العامة ، كما أنّ العمل على خلاف هذه السنة ، وهو رجوع المجتمع عن الله وعن الطهارة في القلب والعمل ، ينتج خلاف ذلك.

__________________

(١) سورة نوح : الآيات ١٠ ـ ١٢.

١٩٢

فللمجتمع الخيار في التمسك بأهداب أي من السنتين ، فالكل قضاء الله وتقديره.

٢ ـ قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

٣ ـ قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (٢).

٤ ـ وقال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ)(٣).

والتقرير في مورد هذه الآيات الثلاث مثله في الآية السابقة عليها.

٥ ـ وقال سبحانه : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (٤).

نرى أنّ الآية تتكفل ببيان كلا طرفي السّنة الإلهية إيجابا وسلبا وتبين النتيجة المترتبة على كل واحد منهما. والكل قضاؤه وتقديره والخيار في سلوكهما للمجتمع.

٦ ـ وقال سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(٥).

٧ ـ وقال سبحانه : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٦).

__________________

(١) سورة الأعراف : الآية ٩٦.

(٢) سورة الرعد : الآية ١١.

(٣) سورة الأنفال : الآية ٥٣.

(٤) سورة إبراهيم : الآية ٧.

(٥) سورة الطّلاق : الآيتان ٢ و ٣.

(٦) سورة إبراهيم : الآية ٢٧.

١٩٣

فالمجتمع المؤمن بالله وكتابه وسنة رسوله إيمانا راسخا يثبته الله سبحانه في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، كما أنّ الظالم والعادل عن الله سبحانه يخذله الله سبحانه ولا يوفقه إلى شيء من مراتب معرفته وهدايته. ولأجل ذلك يرتب على تلك الآية قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ) (١).

٨ ـ وقال سبحانه : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ)(٢).

فالصالحون لأجل اتصافهم بالصلاح في العقيدة والعمل ، يغلبون الظالمين وتكون السيادة لهم ، والذلة والخذلان لمخالفيهم.

٩ ـ وقال سبحانه : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(٣).

فالاستخلاف في الأرض نتيجة الإيمان بالله والعمل الصالح وإقامة دينه بتمام معنى الكلمة ويترتب عليه ـ وراء الاستخلاف ـ ما ذكره في الآية من التمكين وتبديل الخوف بالأمن.

١٠ ـ وقال سبحانه : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها) (٤).

والآيات الواردة حول الأمر بالسير في الأرض والاعتبار بما جرى على الأمم السالفة لاجل عتوهم وتكذيبهم رسل الله سبحانه ، كثيرة في القرآن

__________________

(١) سورة إبراهيم : الآيتان ٢٨ و ٢٩.

(٢) سورة الأنبياء : الآية ١٠٥.

(٣) سورة النور : الآية ٥٥.

(٤) سورة محمد : الآية ١٠.

١٩٤

الكريم تبين سنته السائدة على الأمم جمعاء.

١١ ـ وقال سبحانه : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (١).

١٢ ـ وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٢).

١٣ ـ وقال سبحانه : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ* وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) (٣).

فالآية من أثبت الآيات المبينة لسنته تعالى في الذين كفروا فلا يصلح للمؤمن أن يغره تقلبهم في البلاد وعليه أن ينظر في عاقبة أمرهم كقوم نوح والأحزاب من بعدهم ، حتى يقف على أنّ للباطل جولة وللحق دولة ، وأنّ مردّ الكافرين إلى الهلاك والدمار.

١٤ ـ وقال سبحانه : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً* * اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤).

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٣٧.

(٢) سورة الأنفال : الآية ٢٩.

(٣) سورة غافر : الآيات ٤ ـ ٦.

(٤) سورة فاطر : الآيتان ٤٢ ـ ٤٣. وراجع في الوقوف على هذه الآيات المبينة لسننه الكلية في الأمم السالفة الآيات التالية : يوسف : الآية ١٠٩ ، الحج : الآية ٤٦ ، الروم : الآية ٩ و ٤٢ ، فاطر : الآية ٤٤ ، غافر : الآية ١٢٠ و ٨٢ ، الأنعام : الآية ١١ ، النّحل : الآية ٣٦ ، النّمل : الآية ٦٩ ، العنكبوت : الآية ٢٠.

١٩٥

وما ذكرنا من الآيات نبذة من السنن الإلهية السائدة على الفرد والمجتمع. وفي وسع الباحث أن يتفحص آيات الكتاب العزيز ويقف على سننه تعالى وقوانينه ، ثم يرجع إلى تاريخ الأمم وأحوالها فيصدّق قوله سبحانه : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)(١).

فقد خرجنا بهذه النتائج :

١ ـ إنّ التقدير العينيّ عبارة عن الخصوصيات والمشخّصات الموجودة في وجود الشيء المكتسبة من علله. والقضاء ضرورة وجوده عند وجود علته التامة ، والكل منته إلى الله سبحانه انتهاء الأسباب والمسبّبات إلى مسببها الأوّل.

وإنّ هذا التقدير والقضاء من شعب الخلقة فمقتضى التوحيد هو القول بأنّه لا مقدر ولا قاضي إلا الله سبحانه ، لكن على التفصيل الذي سمعته منا في البحث السابق.

٢ ـ إنّ الاعتقاد بهذا النوع من التقدير والقضاء لا ينتج مسألة الجبر ، كما أنّ الاعتقاد بالتوحيد في الخالقية لا ينتجه ، وقد مر بيانه.

٣ ـ إنّ ما مضى من القضاء والقدر العينيّين إذا كان راجعا إلى خصوصيات وجود الشيء وضرورة وجوده الخارجي فليسمّ بالجزئي منهما. وإذا كان تقديره وقضاؤه على الإنسان والمجتمع بصورة تسنين قوانين كلية واسعة لا تتخلف في حق فرد دون فرد أو مجتمع دون مجتمع ، فليسمّ بالتقدير والقضاء العينيّين الكليّين. وتصويب هذه السنن وإعطاء الاختيار إلى الإنسان المختار ، نفس القول بحريته في معترك الحياة.

* * *

__________________

(١) سورة فاطر : الآية ٤٣.

١٩٦

٢ ـ تفسير القدر والقضاء العلميّين

إذا كان التقدير والقضاء العينيّان راجعين إلى إطار وجود الشيء في الخارج من اتصافه بالتقدير والضرورة ، يكون المراد من التقدير والقضاء العلميين ، علمه سبحانه بمقدار الشيء وضرورة وجوده في ظرف خاص ، علما ثابتا في الذات أو علما مكتوبا في كتاب. والأول يكون علما في مقام الذات والآخر يكون علما في مقام الفعل.

ولكن الفلاسفة خصّوا القضاء بالجانب العلمي والقدر بالجانب العيني فقالوا : «القضاء» عبارة عن علمه بما ينبغي أن يكون عليه الوجود حتى يكون على أحسن النظام وأكمل الانتظام وهو المسمى ب «العناية» التي هي مبدأ لفيضان الموجودات من حيث جملتها على أحسن الوجوه وأكملها. و «القدر» عبارة عن خروجها على الوجود العيني بأسبابها على الوجه الذي تقرر في القضاء».

كما أنّ الأشاعرة خصّوا «القضاء» بكون الشيء متعلقا للإرادة الأزلية قبل إيجادها ، و «القدر» بإيجادها على قدر مخصوص ، فقالوا : «إن «قضاء الله» هو إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال.

١٩٧

و «قدره» إيجاده إياها على قدر مخصوص وتقدير معين في ذواتها وأحوالها».

والمعتزلة أنكروا وقوع الأفعال الاختيارية الصادرة عن العبادة متعلقا للقضاء والقدر وأثبتوا علمه تعالى بهذه الأفعال ، ولكن أنكروا إسناد وجودها إلى ذلك العلم ، بل إلى اختيار العباد وقدرتهم (١).

ولكن الحق حسب ما تعطيه الآيات القرآنية أنّ كلّا من القضاء والقدر على قسمين علمي وعيني. أمّا العيني فقد تقدّم ، وأمّا العلمي فالتقدير منه هو علمه سبحانه بما تكون عليه الأشياء كلّها من حدود وخصوصيات. والقضاء منه ، علمه سبحانه بحتميّة وجود تلك الأشياء عن عللها ومبادئها. وإليك فيما يلي بيان العلمي منهما ، ثمّ بيان عدم استلزامه وجود الجبر في الأفعال الاختيارية للعبادة ؛ فتارة نبحث عن كون أفعال العباد ، معلومة لله سبحانه في الأزل ، وأخرى عن كونها متعلقة للإرادة الأزلية ، حتى يكون البحث واضحا.

أفعال العباد وعلمه الأزلي

لا شك أنّ الله سبحانه كان عالما بكل ما يوجد في هذا الكوكب ومطلق الكون ، فكان واقفا على حركة الإلكترونات في بطون الذّرات ، وعلى حفيف أوراق الأشجار في الحدائق والغابات ، وحركات الحيتان العظيمة في خضم أمواج المحيطات. كما أنه سبحانه كان عالما قبل أن يخلق العالم بأفعال المجرمين وقسوة السفّاكين ، وطاعة الطائعين هذا من جانب.

ومن جانب آخر : إنّ علمه تعالى بالأمور علم بالواقع والحقيقة وهو لا يتخلف عن الواقع قيد شعرة وقد عرفت سعة علمه بالأشياء وقبل الكينونة في الآيات المتقدمة صدر الفصل. وقال سبحانه : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٢).

__________________

(١) شرح المواقف ، ج ٨ ، ص ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) سورة الأنعام : الآية ٥٩.

١٩٨

وقال سبحانه : (قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١).

وعلى هذين الأساسين ربما يتصور أنّ تعلق ذلك العلم بكل الأشياء عموما ، والأفعال الاختيارية للإنسان خصوصا ، يجعل الإنسان مجبورا مضطرا متظاهرا بالحرية والاختيار ، لأنه سبحانه إذا كان يعلم من الأزل ، أنّ هذا الشخص سيرتكب الذنب الفلاني في الساعة المعينة ، فبما أنّ العلم الإلهي لا يتخلف عن معلومه يجب أن يكون الشخص مصدرا لهذا الذنب ، ولا يستطيع أن يتخلف عنه بأية قوة وقدرة ، بل لا يستطيع أن يغير من كميته وكيفيته ، إذ تخلفه نفس تخلف علم الله عن الواقع ، وصيرورة علمه جهلا تعالى الله عنه.

أقول : إنّ هذا المقام هو المزلقة الكبرى للسطحيّين الذين مالوا إلى الجبر ، لأجل كون أفعال العباد متعلقة لعلمه تعالى ، غير متخلفة عن متعلقها ولكنهم لو وقفوا على كيفية تعلق علمه بصدور أفعال العباد منهم ، لرجعوا عن هذا الحكم الخاطئ.

والجواب عن ذلك : إنّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق ، وإنما تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلة علة طبيعية فاقدة للشعور والاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار ، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها وأثرها عنها بهذه الخصوصية ، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلا عن أن تريد ، ويصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم ولكن لا بإرادة واختيار ، فالقول بصدور هذه الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع وعدم تخلفه عنه قيد شعرة.

وإن كانت العلّة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلق علمه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية. فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية ، لكان علمه مطابقا للواقع

__________________

(١) سورة الطلاق : الآية ١٢.

١٩٩

غير متخلف عنه ، وأمّا لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر واضطرار بلا علم وشعور ، أو بلا اختيار وإرادة فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.

نقول توضيحا لذلك ، إنّ الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين : قسم يصدر منه بلا شعور ولا إرادة كأعمال الجهاز الدموي والجهاز المعوي وجهاز القلب ، والأحشاء ، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة الأعمال الاضطرارية ، غير الاختيارية.

وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار. ويتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية كدارسته وكتابته وتجارته وزراعته.

وعلى ما سبق من أنّ علم الله تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه قيد شعرة ، فتقع أعماله موردا لتعلق علم الله بها على ما هي عليه من الخصائص والألوان. فتكون النتيجة أنه سبحانه يعلم من الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إمّا بالاضطرار والإكراه أو بالاختيار والحرية ، وتعلق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر ، بل يلازم الاختيار. ولو صدر كل قسم على خلاف ما اتّسم به لكان ذلك تخلفا عن الواقع. وبعبارة أخرى : إن علم الله بما أنّه يطابق الواقع الخارجي ولا يتخلف عنه أبدا ، فيجب أن يقوم الإنسان بكل قسم من أعماله على حسب السمة التي اتّسم بها. فلو كان مصدرا لعمل الجهاز الدموي عن اختيار وقد تعلق علمه بصدوره عنه على وجه الاضطرار ، لزم تخلف علمه عن معلومه. كما أنّه لو كان مصدرا للقسم الآخر من أفعاله ككتابته وخياطته على وجه الإلجاء والاضطرار ، لزم تخلف علمه عن الواقع لتعلق علمه بصدوره عنه بسمة الاختيار وسيوافيك نصوص من أئمة الحكماء كصدر المتألّهين وغيره عند البحث عن الجبر الأشعري.

فعلينا في هذا الموقف الالتفات إلى كيفية تعلق علمه بصدور الأفعال عن مبادئها وعللها. نعم ، من أنكر وجود الأسباب والمسببات في الوجود ، واعترف بعلّة واحدة وسبب مفرد وهو الله سبحانه وجعله قائما مقام جميع العلل والأسباب ، وصار هو مصدرا لكل الظواهر والحوادث مباشرة ولم يقم

٢٠٠