الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

علم الله» (١).

٨ ـ وقال أمير المؤمنين (عليه‌السلام) : «ما غلا أحد في القدر إلّا خرج من الإسلام». وفي نسخة «من الإيمان» (٢).

٩ ـ كتب الحسن بن أبي الحسن البصري إلى الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما يسأله عن القدر ، فكتب إليه : «فاتبع ما شرحت لك في القدر مما أفضي إلينا أهل البيت ، فإنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر ، ومن حمل المعاصي على الله عزوجل فقد افترى على الله افتراء عظيما ، إنّ الله تبارك وتعالى لا يطاع بإكراه ، ولا يعصى بغلبة ولا يهمل العباد في الهلكة ، لكنه المالك لما ملكهم ، والقادر لما عليه أقدرهم. فإن ائتمروا بالطاعة ، لم يكن الله صادّا عنها مبطئا ، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يمنّ عليهم فيحول بينهم وبين ما ائتمروا به فعل. وإن لم يفعل فليس هو حملهم عليها قسرا ، ولا كلفهم جبرا بل بتمكينه إياهم بعد إعذاره وإنذاره لهم واحتجاجه عليهم ، طوقهم ومكنهم وجعل لهم السبيل إلى أخذ ما إليه دعاهم ، وترك ما عنه نهاهم جعلهم مستطيعين لأخذ ما أمرهم به من شيء غير آخذيه. ولترك ما نهاهم عنه من شيء غير تاركيه ، والحمد لله الذي جعل عباده أقوياء لما أمرهم به ينالون بتلك القوة ، وما نهاهم عنه. وجعل العذر لمن يجعل له السبيل حمدا متقبلا فأنا على ذلك أذهب وبه أقول. والله وأنا وأصحابي أيضا عليه وله الحمد» (٣).

١٠ ـ وقال الإمام الصادق (عليه‌السلام) : «كما أنّ بادئ النعم من الله عزوجل وقد نحلكموه ، كذلك الشرّ من أنفسكم وإن جرى به قدره» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، ح ١٦ ، ص ٩٥.

(٢) المصدر نفسه ، ح ٦٠ ، ص ١٢٠.

(٣) المصدر نفسه ، ح ٧١ ، ص ١٢٣.

(٤) المصدر نفسه ، ح ٤٢ ، ص ١١٤.

١٦١

١١ ـ وقال الإمام الرضا (عليه‌السلام) ، فيما يصف به الربّ : «لا يجور في قضية ، الخلق إلى ما علم منقادون ، وعلى ما سطر في كتابه ماضون ، لا يعملون خلاف ما علم منهم ، ولا غيره يريدون» (١).

فقد صدّر كلامه (عليه‌السلام) بقوله : «لا يجور في قضيته» ، أي لا يكون جائرا في قضائه. وهو نفس القول بأنّ القضاء لا يجعل الإنسان مكتوف الأيدي. وأمّا قوله : «لا يعملون خلاف ما علم منهم» فلا يلازم الجبر ، إذ فرق بين أن يقول «لا يعملون خلاف ما علم» ، وقوله «لا يعملون خلاف ما علم منهم». فإنّ الثاني ناظر إلى أنّ علمه لا يقبل الخطأ ، وأنّ علمه بأفعال العباد لا يتخلف ، ولكن المعلوم له سبحانه هو صدور كل فعل من فاعله بما احتفّ من المبادي ؛ من الاختيار أو ضده. وسيوافيك تفسيره.

هذا هو المأثور عن النبي الأعظم وأهل بيته الطاهرين ، فالكل يركزون على أنّ القضاء والقدر لا يسلبان الحرية عن الإنسان. ولأجل اشتهار علي وأهل بيته في هذا المجال بهذا ، قيل من قديم الأيام :

«الجبر والتشبيه أمويان ، والعدل والتّوحيد علويان».

نعم وجد بين الصحابة من قال بهذا القول متأثرا بما سمعه من النبي الأكرم أو صحابته الوعاة ونأتي في المقام ببعض النماذج من هذه الكلمات :

١٢ ـ روى الطبري في تاريخه : «وقدم عمر بن الخطاب الشام فصادف الطّاعون بها فاشيا ، فاستشار الناس فكل أشار عليه بالرجوع وأن لا يدخلها إلّا أبا عبيدة ابن الجراح فإنه قال : «أتفرّ من قدر الله» قال : «نعم ، أفرّ من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله ، لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!» فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف فروى لهم عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) أنّه قال : «إذا كنتم ببلاد الطّاعون فلا تخرجوا منها ، وإذا قدمتم إلى

__________________

(١) المصدر نفسه ، ح ٢٥ ، ص ١٠١.

١٦٢

بلاد الطاعون فلا تدخلوها». فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه وما أشار به الناس وانصرف راجعا إلى المدينة» (١).

ترى أنّ الخليفة ـ مع أنه كان يعتقد بخلاف ذلك على ما أثر عنه في غزوة حنين كما سيأتي ـ لا يرى الاعتقاد بالقضاء والقدر مخالفا لكون الإنسان ممسكا إرادته أو مرخيا لها في الدخول إلى بلاد الطاعون.

وروى ابن المرتضى في طبقات المعتزلة عن عدة من الصحابة جملا تحكي عن كونهم متحيزين في مسألة القضاء والقدر إلى القول بالاختيار وإليك بعض ما نقله عنهم ، قال :

١٣ ـ وقد أتي عمر بسارق فقال : لم سرقت فقال قضى الله عليّ. فأمر به فقطعت يده وضرب أسواطا ، فقيل له في ذلك ، فقال : القطع للسرقة والجلد لما كذب على الله(٢).

١٤ ـ وقيل لعبد الله بن عمر يا أبا عبد الرّحمن إنّ أقواما يزنون ويشربون الخمر ويسرقون ويقتلون النفس ويقولون : كان في علم الله فلم نجد بدا منه ، فغضب ثم قال : سبحان الله العظيم ، قد كان ذلك في علمه إنهم يفعلونها ولم يحملهم علم الله على فعلها .... الحديث (٣).

١٥ ـ روى مجاهد عن ابن عباس أنّه كتب إلى قراء المجبرة بالشام : أما بعد ، أتأمرون الناس بالتقوى وبكم ضل المتقون ، وتنهون الناس عن المعاصي وبكم ظهر العاصون. يا أبناء سلف المقاتلين ، وأعوان الظالمين ، وخزان مساجد الفاسقين ، وعمّار سلف الشياطين ، هل منكم إلّا مفتر على الله يحمل إجرامه عليه وينسبها علانية إليه ... الحديث.

ولعل وجه افترائهم على الله سبحانه هو تعليل أعمالهم الإجرامية بسبق

__________________

(١) تاريخ الطبري ، ج ٣ ، ص ٦٠٦ ذكره في حوادث عام ١٧.

(٢) طبقات المعتزلة لأحمد بن يحيى بن مرتضى ، ص ١١ ، طبعة بيروت ١٣٨٠.

(٣) المصدر السابق ، ص ١٢.

١٦٣

علمه سبحانه عليها ، فصوروا أنفسهم مجبورين ومسيرين ، فرد عليهم ابن عباس بما قرأت.

هذه هي الكلمات المأثورة عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين وبعض الصحابة ولكن تجاه هؤلاء جماعة يرون القضاء والقدر هو العامل المؤثر في الحياة ، وأنّ الإنسان مكتوف اليدين في مصيره ومسيره. وليست تلك الفكرة مختصة ببعض المسلمين ، بل القرآن الكريم يحكيها عن بعض المشركين وإليك نقل ما وقفنا عليه في القرآن الكريم ، وما ضبط في التاريخ :

التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين

تنص الآيات القرآنية على أنّ المشركين كانوا معتقدين بالتقدير أولا ، وفي الوقت نفسه يرونه مساوقا للجبر وراسما للحياة ومعينا للمصير. ولعل ما لهج به بعض الصحابة من تفسير التقدير بالجبر وسلب الاختيار كان من آثار العهد الجاهلي التي بقيت في أذهانهم وسيوافيك كلامهم في هذا المجال. وإليك فيما يلي نقل ما ذكره القرآن في عقيدة المشركين :

١ ـ قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ)(١).

ترى أنّ المشركين يسندون شركهم إلى إرادة الله ومشيئته وأنّ المشيئة الإلهية هي التي دفعتهم إلى الدخول في حبائل الشرك ولولاها لما أشركوا ولما سوّوا أصنامهم بخالقهم كما يحكي عنهم سبحانه قولهم : (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٢).

ولكن الذكر الحكيم يرد عليهم تلك المزعمة بقوله :

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٤٨.

(٢) سورة الشعراء : الآية ٩٨.

١٦٤

(كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١).

٢ ـ ويقول تعالى في آية أخرى حاكيا كلام المشركين في تعليل ارتكابهم الفحشاء بأمر الله وإرادته : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها ، قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٢).

٣ ـ ويقول تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)(٣).

فهذه الآيات وما يضاهيها من الآيات الأخر تبين لنا موقف المشركين من التقدير وتحليلهم لهذا الأصل ، ولأجل ذلك يجب أن يكون تفسير التقدير على وجه لا يتفق مع زعم المشركين فيه. والعجب أنّ هذا الاستنتاج الباطل قد بقي بحاله في بعض الأذهان حتى بعد بزوغ فجر الإسلام وقد سجل التاريخ بعض المحادثات في هذا المجال نشير إليها :

١ ـ روى عبد الله بن عمر أنّه جاء رجل إلى أبي بكر فقال : «أرأيت الزنا بقدر؟ قال : نعم قال : فإنّ الله قدّرني عليه ثم يعذبني؟ قال : نعم يا ابن اللّخناء. أما لو كان عندي إنسان أمرته أن يجفأ أنفك» (٤).

فإنّ السائل أدرك في ضميره أنّ التقدير والمجازاة على العمل لا يجتمعان مع عدله سبحانه وقسطه ، فلا بد من قبول أحد الأصلين ورفض الآخر ولما لم يجد الخليفة جوابا صالحا لسؤاله قام بتهديده كما سمعت في الخبر ، وهذا يوضح أنّ التقدير في بعض الأذهان كان مساوقا للجبر وسلب

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ١٤٨.

(٢) سورة الأعراف : الآية ٢٨.

(٣) سورة الزخرف : الآية ٢٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٩٥.

١٦٥

الاختيار ولو لا تلك المساوقة لما كان للسؤال موقع ولا لتهديده وجه.

٢ ـ نقل الواقدي في مغازيه عند ما تعرض لغزوة حنين وهزيمة المسلمين أنّ أم الحارث الأنصارية رأت عمر بن الخطاب في حال الهزيمة والفرار من أرض المعركة فقالت له ما هذا؟ فقال عمر : أمر الله! (١)

الأمويون وتفسير القضاء بالجبر

١ ـ قال أبو هلال العسكري في الأوائل : إنّ معاوية أوّل من زعم أنّ الله يريد أفعال العباد كلها (٢).

٢ ـ روى الخطيب عن أبي قتادة عند ما ذكر قصة الخوارج في النهروان لعائشة : قالت عائشة : ما يمنعني ما بيني وبين عليّ أن أقول الحق ، سمعت النبي يقول : تفترق أمّتي على فرقتين تمرق بينهما فرقة محلقون رءوسهم يحفون شواربهم ، أزرهم إلى أنصاف سوقهم ، يقرءون القرآن لا يتجاوز تراقيهم يقتلهم أحبّهم إليّ وأحبّهم إلى الله. قال : فقلت : يا أم المؤمنين : فأنت تعلمين هذا!! فلم كان الذي منك؟ قالت : يا قتادة وكان أمر الله قدرا مقدورا ، وللقدر أسباب (٣).

٣ ـ لقد سعى معاوية بن أبي سفيان ـ بعد ما سمّ الحسن (عليه‌السلام) ورأى الجو السياسي مناسبا ـ إلى نصب ولده يزيد خليفة من بعده ، فلما اعترض عليه عبد الله بن عمر ، قال له : «إنّي أحذرك أن تشق عصا المسلمين وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء وليس للعباد خيرة من أمرهم» (٤).

وأجاب بهذا الكلام أيضا عائشة أم المؤمنين عند ما نازعته في هذا

__________________

(١) المغازي للواقدي ، ج ٣ ، ص ٩٠٤.

(٢) الأوائل ، ج ٢ ، ص ١٢٥.

(٣) تاريخ بغداد ، ج ١ ، ص ١٦٠.

(٤) الإمامة والسياسة ، لابن قتيبة ، ج ١ ، ص ١٧١.

١٦٦

الاستخلاف ، فقال لها : «إنّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم»(١).

فإنك ترى أنّ معاوية يتوسل في تحقيق أهدافه بإيديولوجية دينية مسلّمة بين الناس من المعترضين وغيرهم وهي تفسير عمله بالتقدير والقضاء الإلهي.

وفي هذا الصدد يقول أحد الكتّاب المصريين المعاصرين : «إنّ معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب ولكن بإيديولوجية تمس العقيدة في الصميم ، ولقد كان يعلن في الناس أنّ الخلافة بينه وبين علي (عليه‌السلام) قد احتكما فيها إلى الله له على عليّ (عليه‌السلام) وكذلك حين أراد أن بطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز ، أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاء من القضاء ليس للعباد خيرة في أمرهم ، وهكذا كاد أن يستقر في أذهان المسلمين أنّ كل ما يأمر به الخليفة حتى ولو كانت طاعة الله في خلافه فهو قضاء من الله قد قدّر على العباد» (٢).

٤ ـ ومن مظاهر هذه الفكرة الخاطئة (مساوقة التقدير للجبر) تبرير عمر بن سعد بن أبي الوقاص قاتل الإمام الطاهر الحسين بن علي سلام الله عليه مبررا جنايته بأنها تقدير إلهي. وعند ما اعترض عليه عبد الله بن مطيع العدوي بقوله : اخترت همدان والري على قتل ابن عمك. قال عمر بن سعد : كانت أمورا قضيت من السماء وقد أعذرت إلى ابن عمي قبل الوقعة فأبى إلّا ما أبى (٣).

وعلى هذا الأصل قامت السلطة الأموية ونشأت وارتقت فكان الخلفاء

__________________

(١) المصدر نفسه ، ص ١٦٧.

(٢) نظرية الإمامة عند الشيعة الإمامية للدكتور أحمد محمود ، ص ٣٣٤.

(٣) طبقات ابن سعد ج ٥ ، ص ١٤٨ ، طبعة بيروت.

١٦٧

من هذا البيت يهددون من يخالفهم فيه ، ويعاقبون بما هو مسجل مضبوط في التاريخ.

٥ ـ إنّ الحسن البصري (ت ٢٢ ـ م ١١٠) من الشخصيات البارزة في عصره وكان يشغل منصة الوعظ والخطابة والإرشاد. ومع ذلك كله لم يكن معتقدا بالتقدير المصوّب عند الأمويين فلما خوّفه بعض أصدقائه من السلطان وعد أن لا يعود. روى ابن سعد في طبقاته عن أيوب قال : «نازلت الحسن في القدر غير مرة حتى خوّفته من السلطان فقال لا أعود بعد اليوم» (١).

٦ ـ إنّ محمد بن إسحاق صاحب السيرة النبوية المعروفة التي قام بتلخيصها ابن هشام ، اتهم بالمخالفة في التقدير وضرب عدّة سياط تأديبا. قال ابن حجر في تهذيب التهذيب : إن محمد بن اسحاق اتهم بالقدر ، وقال الزبير عن الدراوردي : وجلد ابن إسحاق ، يعني في القدر (٢).

٧ ـ وروى ابن قتيبة أنّ عطاء بن يسار كان قاضيا للأمويين ويرى رأي معبد الجهني ، فدخل على الحسن البصري وقال له : يا أبا سعيد إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون أموالهم ويقولون إنما تجري أعمالنا على قضاء الله وقدره ، فقال له الحسن البصري : كذب أعداء الله (٣). ونقل المقريزي أنّ عطاء بن يسار ومعبد الجهني دخلا على الحسن البصري فقالا له : إنّ هؤلاء يسفكون الدماء ويقولون إنها تجري أعمالنا على قدر الله ، فقال : كذب أعداء الله فطعن عليه بهذا (٤).

٨ ـ يقول ابن المرتضى : «ثم حدث رأي المجبّرة من معاوية وملوك بني مروان فعظمت به الفتنة» (٥).

__________________

(١) طبقات ابن سعد ج ٧ ، ص ١٦٧ ، طبعة بيروت.

(٢) تهذيب التهذيب ، ج ٩ ، ص ٣٨ و ٤٦.

(٣) المذاهب الإسلامية ، زهرة ، ص ١٧٥. والملل والنحل ، ج ١ ، ص ١١٣.

(٤) الخطط المقريزية ، ج ٢ ، ص ٣٥٦.

(٥) طبقات المعتزلة ، ص ٦ ، تأليف أحمد بن يحيى بن مرتضى المعتزلي.

١٦٨

هذه نماذج مما سجله التاريخ في شأن هذا الاستنتاج ، نعم كان هناك فرق بين الحافز الذي دعى المشركين إلى استنتاج الجبر ، والحافز الذي ساق الأمويين إلى نشر تلك الفكرة ، فإن الداعي عند المشركين كان داعيا دينيا محضا بينما كان عند الأمويين مشوبا بالسياسة وتبرير الأعمال المنحرفة وإخماد الثورات ، وتخدير المجتمع من القيام في وجه السلطة ، حتى يتسنى لهم بذلك الحكومة عليه ، واستقرار عروشهم ، وانغماسهم في ملذاتهم الدنيوية.

إلى هنا عرفت وجهة المسألة عبر العصور والقرون الأولى ، ولكن أي الفريقين أحقّ أن يتبع ، لا أرى في الإدلاء به إلزاما ، فالأمر واضح عند كل ذي لب وبصيرة. وما ذكرناه كان عرضا إجماليا لتاريخ المسألة تلقي ضوءا على فهم آيات الكتاب والسنّة الواردة في القضاء والقدر. فلنشرع ببيان مصادر المسألة في الكتاب والسنّة وتحليلها.

* * *

١٦٩
١٧٠

مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنّة

الاعتقاد بالقضاء والقدر من صميم العقائد الإسلامية التي جاءت في الكتاب والسنة وليس لمسلم واع إنكار وجودهما ، إنما الكلام في تفسيرهما وتحليلهما. وقبل أن نذكر ما ورد في المصدرين نأتي بمقدمة يسهل معها تصنيف الآيات والروايات :

إنّ «التقدير» ـ كما سيوافيك بيانه مفصلا ـ هو التحديد ، و «القضاء» هو الحكم والإبرام وكلاهما ينقسم إلى علمي وعيني.

«فالتقدير العلمي» عبارة عن تحديد كل شيء بخصوصياته في علمه الأزلي سبحانه قبل أن يخلق العالم أو قبل أن يخلق الأشياء الحادثة. فالله سبحانه يعلم حد كل شيء ومقداره وخصوصياته الجسمانية والمعنوية. كما أنّ المراد من «القضاء العلمي» هو علمه بضرورة وجود الأشياء وإبرامها ، وأنّ أي شيء يتحقق بالضرورة وما لا يتحقق كذلك. فعلمه السابق بحدود الأشياء وضرورة وجودها ، تقدير وقضاء علميان.

وأمّا «التقدير العيني» فهو عبارة عن الخصوصيات التي يكتسبها الشيء من علله عند تحققه وتلبّسه بالوجود الخارجي. كما أن المراد من «القضاء العيني» هو ضرورة وجود الشيء عند وجود علّته التامة ضرورة عينية خارجية.

فلو كان القدر والقضاء العلميان ناظرين إلى التقدير والضرورة في علم

١٧١

الله سبحانه ، فالتقدير والقضاء العينيان ناظران إلى التقدير والضرورة الخارجيين اللّذين يحتفان بالشيء الخارجي.

والتقدير والقضاء هناك مقدّمان على وجود الشيء وهاهنا مقارنان بل متحدان مع وجوده.

والآيات الواردة في الكتاب على صنفين : صنف ينصّ على العلمي منهما وصنف على العيني منهما ، ولأجل ذلك نفسّر الآيات ونصنّفها حتى يكون الباحث في المسألة على بصيرة :

التقدير والقضاء العلميان في الكتاب

١ ـ قال سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) (١).

وهذا كاشف عن أنّ مقدار حياة الإنسان مقدّر من قبل ، لا يتخلف.

والآية تعريض بما نقله تعالى عن بعض المنافقين في الآية التالية :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) (٢). فرد عليهم سبحانه بما عرفت في الآية.

٢ ـ قال سبحانه : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)(٣).

والآية تهدف إلى أنّ ولاية أمرنا لله سبحانه ، كما يدل عليه قوله : (هُوَ مَوْلانا) ، وقد كتب كتابة حتم ما يصيبنا من حياة وشهادة. فلو أصابتنا الحياة كان المنّ له وإن أصابتنا الشهادة كانت المشيئة والخيرة له ، فالكل من

__________________

(١) سورة آل عمران : الآية ١٤٥.

(٢) سورة آل عمران : الآية ١٥٦.

(٣) سورة التوبة : الآية ٥١.

١٧٢

الله وكلاهما حسنة ولأجل ذلك يقول : (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) (١).

٣ ـ قال سبحانه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ، وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢).

فالآية تنص على سبق علمه سبحانه على تحقق الأشياء وتكوّنها وتحددها وتقدرها ، وكل ما يحف بها من الخصوصيات.

٤ ـ قال تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ* وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) (٣).

«الزّبر» كتب الأعمال ، والمراد بالصغير والكبير ، صغيرها وكبيرها والكل مكتوب في كتاب خاص.

٥ ـ قال تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٤).

المصيبة هي النائبة التي تصيب في الأرض كالجدب وعاهة الثمار والزلزلة المخربة ، أو التي تصيب في الأنفس ، كالمرض والجرح والكسر والقتل ، والمراد من الكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة. وإنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض أو في الأنفس من المصائب لكون كلامه فيهما ، وإلّا فالمكتوب لا يختص به.

وقوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) دالّ على أنّ تقدير الحوادث قبل وقوعها والقضاء عليها بقضاء ، لا صعوبة فيه.

__________________

(١) سورة التوبة : الآية ٥٢.

(٢) سورة فاطر : الآية ١١.

(٣) سورة القمر : الآيتان ٥٢ ـ ٥٣.

(٤) سورة الحديد : الآية ٢٢.

١٧٣

ويقول سبحانه بعد هذه الآية : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١).

والآية بمنزلة التعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها. والمعنى : أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل الوقوع لئلا تحزنوا على ما فاتكم من النّعم ، ولا تفرحوا بما أعطاكم الله منها ، لأنّ الإنسان إذا أيقن أنّ المصاب مقدر كائن لم يحزن لفوته ولم يفرح لمجيئه.

هذه بعض الآيات التي وردت في بيان أنّ خصوصيات الأشياء وضرورة وجودها متحققة في علمه الأزلي أو مراتب علمه كالكتاب الوارد في الآيات الماضية. وإليك بيان القسم الثاني من التقدير والقضاء :

التقدير والقضاء العينيان في الكتاب

في هذا القسم من الآيات نقف على أنّ الخصوصيات المتحققة في الأشياء أو ضرورة وجودها كلاهما من الله سبحانه ، فالتقدير والقضاء منه. وإليك بعض ما يدل عليه :

١ ـ قال تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٢).

قدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه ، والحد الذي لا يتجاوزه من جانبي الزيادة والنقيصة.

٢ ـ قال تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٣).

فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه وصراط ممدود في وجوده يسلكه ولا يتخطاه.

__________________

(١) سورة الحديد : الآية ٢٣.

(٢) سورة القمر : الآية ٤٩.

(٣) سورة الحجر : الآية ٢١.

١٧٤

٣ ـ قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١).

الضمير في «بينهن» يرجع إلى السّماوات والأرض. والمراد من «الأمر» هو الأمر التكويني الذي ورد في قوله سبحانه : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢). والمراد من تنزله هو أخذه بالنزول من مصدر الأمر حتى ينتهي إلى هذا العالم فيتكون ما قصد بالأمر من موت وحياة أو عزّة وذلّة ، أو خصب وجدب ، إلى غير ذلك من الحوادث الأرضية والنفسية.

وهذه الآيات كافية في تبيين التقدير العيني. وهناك من الآيات ما يشير إلى القضاء العيني ، وأنّ ضرورة تحقق الأشياء ـ عند اجتماع عللها التامة ـ من جانبه سبحانه. فكما أنّ التقدير من الله سبحانه فكذلك القضاء والحكم بالشيء في عالم العين ، منه سبحانه.

٤ ـ قال تعالى : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ، وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها)(٣).

٥ ـ قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً) (٤).

٦ ـ قال تعالى : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ)(٥).

وغيرها من الآيات الحاكية عن قضائه سبحانه بالشيء وإبرامه على صفحة الوجود.

__________________

(١) سورة الطلاق : الآية ١٢.

(٢) سورة يس : الآية ٨٢.

(٣) سورة فصلت : الآية ١٢.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٢.

(٥) سورة سبأ : الآية ١٤.

١٧٥

التقدير والقضاء في السّنة الصحيحة

روى السنة والشيعة روايات كثيرة في هذا المجال ، ولكن العبرة في الصحة بما لا يخالف القرآن. وإليك بعض ما وقفنا عليه في الجوامع الحديثية من الشيعة أولا والسّنّة ثانيا.

١ ـ روى الصدوق في الخصال بسنده عن علي (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة : حتى يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأني رسول الله بعثني بالحق ، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت ، وحتى يؤمن بالقدر» (١).

٢ ـ وروى أيضا بسنده عن أبي أمامة الصحابي قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : عاقّ ، ومنّان ، ومكذّب بالقدر ، ومدمن خمر» (٢).

٣ ـ وروى أيضا بسنده عن علي بن الحسين قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب : الزائد في كتاب الله ، والمكذب بقدر الله ، والتارك لسنتي ، والمستحل من عترتي ما حرّم الله ، والمتسلّط بالجبروت ليذل من أعزه الله ويعزّ من أذلّه الله ، والمستأثر بفيء الله المستحل له» (٣).

٤ ـ وروى أيضا بسنده عن أبي الحسن الأول (موسى الكاظم) (عليه‌السلام) قال : «لا يكون شيء في السّماوات والأرض إلّا بسبعة : بقضاء ، وقدر ، وإرادة ، ومشيئة ، وكتاب ، وأجل ، وإذن. فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو ردّ على الله عزوجل» (٤).

__________________

(١) البحار ج ٥ باب القضاء والقدر ، الحديث ٢ ، ص ٨٧.

(٢) المصدر نفسه ، الحديث ٣.

(٣) المصدر نفسه ، الحديث ٤ ، وبهذا المضمون الحديث الخامس والسادس مع إضافة يسيرة.

(٤) المصدر نفسه ، ح ٧ ، ص ٨٨.

١٧٦

٥ ـ وروى الصدوق في عيون أخبار الرضا بسنده عن علي قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ الله عزوجل قدّر المقادير ، ودبّر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام» (١).

وأما ما روي من طرق أهل السّنّة فالذي يمكن الأخذ به فهو الذي ننقله فيما يلي(٢).

٦ ـ روى الترمذي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره وحتى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبه» (٣).

هذه الرواية ونظائرها لا تنافي اختيار الإنسان وصحة التكليف لأن المراد مما يصيب وما لا يصيب هو الأمور الخارجة عن إطار اختياره ، كالمواهب والنوازل ، فلا شك أنّ الإصابة وعدمها خارجان عن اختيار الإنسان وليس له دور وإنما الكلام في حكومة القضاء والقدر على ما يناط به التكليف ويثاب به أو يعاقب فإن سيادة القضاء والقدر على اختيار الإنسان أمر لا يقبله العقل ولا يوافقه النقل ، كما سيأتي. وقس على هذا باقي ما رواه أهل السنة في باب القضاء والقدر.

* * *

__________________

(١) المصدر نفسه ، حديث ١٢ ، ص ٩٣.

(٢) سيوافيك في باب خاص أنّ أكثر ما رواه أهل الحديث في باب التقدير يلازم الجبر الباطل ويضاد كتاب الله ، وأنّ كثيرا منها من الإسرائيليات التي بثها نظراء كعب الأحبار ، فترقب.

(٣) جامع الأصول ، ج ١٠ ، كتاب القدر ، الحديث ٧٥٥٢ ، ص ٥١١.

١٧٧
١٧٨

تفسير التقدير والقضاء

قد عرفت أنّ القضاء والقدر من الأصول المسلّمة في الكتاب والسنّة وليس لمسلم واع أن ينكر واحدا منهما. إلّا أنّ المشكلة في توضيح ما يراد منهما ، فإنه المزلقة الكبرى في هذا المقام. ولأجل ذلك نأتي في هذا الباب بالمعنى الصحيح لهذين اللفظين الذي يدعمه الكتاب ، وأحاديث العترة ، وبراهين العقل السليم.

أما القدر ، فالظاهر من موارد استعماله أنّه بمعنى الحدّ والمقدار وإليه تشير الآيات التالية :

يقول سبحانه : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها) (١) ويقول سبحانه : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٢).

ويقول سبحانه : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) (٣).

ويقول تعالى : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٤).

__________________

(١) سورة الرعد : الآية ١٧.

(٢) سورة الطلاق : الآية ٣.

(٣) سورة المزّمّل : الآية ٢٠.

(٤) سورة الحجر : الآية ٢١.

١٧٩

قال ابن فارس : «القدر بفتح الدال وسكونه حدّ كل شيء ومقداره وقيمته وثمنه ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي قدر بمقدار قليل» (١).

قال الراغب : «القدر والتقدير تبيين كمية الشيء يقال قدرته وقدّرته وقدّره بالتشديد: أعطاه القدرة فتقدير الأشياء على وجهين : أحدهما بإعطاء القدرة (وهذا خارج عن موضوع البحث) ، والثاني بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسب ما اقتضت الحكمة» ثم قال : «إنّ فعل الله تعالى ضربان : ضرب أوجده بالفعل ، ومعنى إيجاده بالفعل أنّه أبدعه كاملا دفعة واحدة لا تعتريه الزيادة والنقصان إلى أن يشاء أن يفنيه أو يبدله كالسّماوات وما فيها (٢). ومنها ما جعل أصوله موجودة بالفعل وأجزاءه بالقوة وقدّره على وجه لا يتأتى منه غير ما قدّره فيه كتقديره في النواة أن ينبت منها النخل دون التفاح والزيتون ، وتقدير منيّ الإنسان أن يكون منه الإنسان دون سائر الحيوانات وعلى ذلك قوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) وقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤).

وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) (٥)» (٦).

إلى هنا وقفت على معنى القدر حسب اللّغة.

وأما القضاء ، فقد ذكروا له معاني كثيرة ، حتى أنّ الشيخ المفيد قال باستعمالها في معاني الخلق ، والأمر والإعلام ، والقضاء بالحكم ،

__________________

(١) المقاييس ، ج ٥ ، ص ٦٣.

(٢) الصحيح أن يمثل بالمجرّدات عن المادة فإنّ تقديرها هو اتصافها بالإمكان من دون أن يطرأ عليه التغيير والتبدّل وأما السّماوات فتغيرها أمر بديهي.

(٣) سورة الطلاق : الآية ٣.

(٤) سورة القمر : الآية ٤٩.

(٥) سورة عبس : الآية ١٩.

(٦) مفردات الراغب ، مادة «قدر» ، ص ٤٠٩ ، تحقيق نديم مرعشلي ، ط دار الكتاب العربي.

١٨٠