الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

الشيخ حسن محمد مكي العاملي

الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل - ج ٢

المؤلف:

الشيخ حسن محمد مكي العاملي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ٧
ISBN: 978-964-357-385-0
ISBN الدورة:
978-964-357-388-1

الصفحات: ٤٨٠

ومنها : ما رواه أيضا عن الصادق (عليه‌السلام) في كلام له في التوحيد قال : «واحد ، صمد ، أزلي ، صمدي ، لا ظل له يمسكه ، وهو يمسك الأشياء باظلتها ، عارف بالمجهول ، معروف عند كل جاهل ، لا خلقه فيه ولا هو في خلقه» (١).

فقوله : معروف عند كل جاهل ، لا يهدف إلى المعرفة الحاصلة بالاستدلال لعدم ثبوت هذه المعرفة لكل جاهل جاحد ، فلا بد أن يكون المراد معرفة أخرى لا تزول صورتها عن الذهن.

إلى غير ذلك من الروايات التي مرّ بعضها (٢). وأما البحث عن حقيقة تلك الرؤية القلبية التي هي غير الرؤية البصرية الحسية فموكول إلى محله الخاص.

* * *

__________________

(١) التوحيد باب التوحيد ونفي التشبيه ، الحديث ١٥ ، ص ٥٧.

(٢) لاحظ التوحيد باب ٨ ، الحديث ٢ و ٤ و ٥ و ٦ و ١٦ و ١٧ و ٢٠ يقول الصدوق : «وقد تركت إيراد بعض الروايات في هذا المضمار خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عزوجل وهو لا يعلم».

١٤١
١٤٢

الصّفات السلبيّة

(٦)

ليست حقيقته معلومة لغيره

إن أدوات المعرفة للإنسان عبارة عن القوى العقلية التي تقوم بالتعرف على الشيء بالوقوف على حدود وجوده وماهيته. فإذا كان الشيء مركبا من وجود وماهية ، فالوقوف على حده تعرّف على كنهه. فإذا أردنا أن نعرف الإنسان لزم إعمال القوى العقلية حتى نقف على مرتبة وجوده وذاته وذاتياته التي جسّدها عروض الوجود عليها في الخارج. فيقال إنّ ماهية الإنسان هي الحيوان الناطق أي ذلك المفهوم عاريا عن الوجود والعدم ، الذي إذا عرضه الوجود في الخارج جسّده وحققه.

وأما حقيقة الوجود العارض فلا يمكن للنفس التعرّف عليها ، لعدم المسانخة بين أدوات المعرفة والمعرّف. فإن الإنسان إنما يحصّل المعرفة بفكره وذهنه والمفاهيم التي تلقي ضوءا على الخارج. ومثل ذلك لا يمكن أن يتعرف إلّا على ما يسانخه من المفاهيم والماهيات. وأمّا الوجود المحقق للماهية فسنخه سنخ العينية والواقعية والخارجية ، فلا يحصّل الإنسان واقعيته لعدم السنخية بين العاقل والمعقول.

ولأجل ذلك اتفق أهل المعقول على أن الإنسان يعرف ماهية الأشياء وحدودها لا حقيقة الوجود العارض عليها الذي ليس له واقعية إلا العينية

١٤٣

الخارجية. فإذا كان هذا حال الوجود العارض للأشياء ، فكيف بالتعرف على وجوده سبحانه الذي هو وجود محض لا حدّ له ، وحقيقة خارجية لا ماهية لها. فليس في وسع الإنسان الذي تنحصر أدوات معرفته بالذهن والفكر والقوى الموجودة فيهما ، أن يتعرف على الحقيقة العينية الخارجية التي يمتنع أن تنعكس على الذهن وتتخذ منها صورة مسانخة لعمل الذهن.

وبعبارة أخرى : لو وقف الإنسان على مدى قدرته في التعرف على الحقائق وأدوات معرفته والقوى الموجودة في ذهنه لأذعن أنّ حقيقته سبحانه أعلى من أن تقع في إطار ذهن الإنسان وفكره. فالذهن يدرك المفاهيم والمعاني والصور التي لا عينية لها إلّا بالوجود ، والله سبحانه هو نفس الوجود ، فكيف يمكن للذهن أن يدرك حقيقة الشيء الذي ليس بين المدرك والمدرك أي سنخية. ولأجل ذلك تنحصر معرفة الإنسان بالله سبحانه بالعناوين والمعرّفات التي نسميها بالأسماء والصفات وهي لا توقفه على حقيقته تبارك وتعالى ، فإنها نوافذ على الغيب يشرف بها الإنسان البعيد عن ذلك العالم عليه إشرافا غير كامل ، فلا تعدو المعرفة الحاصلة بها عن التعرف بالاسم. يقول ابن أبي الحديد :

فيك يا أعجوبة الكو

ن غدا الفكر كليلا

أنت حيّرت ذوي اللّ

ب وبلبلت العقولا

كلّما قدّم فكري في

ك شبرا فرّ ميلا

ناكصا يخبط في

عمياء لا يهدى سبيلا

وبذلك يعلم صدق ما ذكرناه عند البحث عن الأسماء والصفات بأنّ الصفات الثبوتية لا تنحصر بالثمان المعروفة ولا الصفات السلبية بما ذكرناه ، بل الله جل جلاله موجود تام من جميع الجهات ، فكل كمال لا يشذ عن حيطة وجوده ، كما أنّ وجوده مقدس عن كل نقص يتصور (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (١).

__________________

(١) سورة الرحمن : الآية ٧٨.

١٤٤

خاتمة

أسماء الله تعالى في الكتاب والسنّة

* هل الأسماء توقيفية أو لا؟

١٤٥
١٤٦

أسماؤه في الكتاب والسّنّة

ورد في القرآن الكريم مائة وثمانية وعشرون اسما لله تعالى وهي :

الإله ، الأحد ، الأول ، الآخر ، الأعلى ، الأكرم ، الأعلم ، أرحم الراحمين ، أحكم الحاكمين ، أحسن الخالقين ، أهل التقوى ، أهل المغفرة ، الأقرب ، الأبقى ، البارئ ، الباطن ، البديع ، البرّ ، البصير ، التوّاب ، الجبّار ، الجامع ، الحكيم ، الحليم ، الحيّ ، الحقّ ، الحميد ، الحسيب ، الحفيظ ، الحفيّ ، الخبير ، الخالق ، الخلّاق ، الخير ، خير الماكرين ، خير الرازقين ، خير الفاصلين ، خير الحاكمين ، خير الفاتحين ، خير الغافرين ، خير الوارثين ، خير الراحمين ، خير المنزلين ، ذو العرش ، ذو الطّول ، ذو الانتقام ، ذو الفضل العظيم ، ذو الرحمة ، ذو القوة ، ذو الجلال والإكرام ، ذو المعارج ، الرّحمن ، الرحيم ، الرءوف ، الربّ ، رفيع الدرجات ، الرزّاق ، الرقيب ، السميع ، السلام ، سريع الحساب ، سريع العقاب ، الشهيد ، الشاكر ، الشكور ، شديد العقاب ، شديد المحال ، الصمد ، الظاهر ، العليم ، العزيز ، العفوّ ، العليّ ، العظيم ، علّام الغيوب ، عالم الغيب والشهادة ، الغني ، الغفور ، الغالب ، غافر الذنب ، الغفّار ، فالق الأصباح ، فالق الحب والنوى ، الفاطر ، الفتّاح ، القوي ، القدّوس ، القيّوم ، القاهر ، القهّار ، القريب ،

١٤٧

القادر ، القدير ، قابل التوب ، القائم على كل نفس بما كسبت ، الكبير ، الكريم ، الكافي ، اللطيف ، الملك ، المؤمن ، المهيمن ، المتكبر ، المصور ، المجيد ، المجيب ، المبين ، المولى ، المحيط ، المقيت ، المتعال ، المحيي ، المتين ، المقتدر ، المستعان ، المبدئ ، المعيد ، مالك الملك ، النّصير ، النور ، الوهّاب ، الواحد ، الولي ، الوالي ، الواسع ، الوكيل ، الودود ، الهادي.

وأمّا في السنّة ، فقد جاءت الروايات من طرق الخاصة والعامة على أنّ لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة.

فمن روايات الخاصة ما رواه الصدوق بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه‌السلام) قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «إنّ لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسما ، مائة إلّا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة وهي :

الله ، الإله ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، الأول ، الآخر ، السميع ، البصير ، القدير ، القاهر ، العلي ، الأعلى ، الباقي ، البديع ، البارئ ، الأكرم ، الظاهر ، الباطن ، الحي ، الحكيم ، العليم ، الحليم ، الحفيظ ، الحقّ ، الحسيب ، الحميد ، الحفي ، الربّ ، الرحمن ، الرحيم ، الذارئ ، الرزّاق ، الرقيب ، الرءوف ، الرائي ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبر ، السيد ، السبوح ، الشهيد ، الصادق ، الصانع ، الطاهر ، العدل ، العفوّ ، الغفور ، الغني ، الغياث ، الفاطر ، الفرد ، الفتّاح ، الفالق ، القديم ، الملك ، القدوس ، القوي ، القريب ، القيوم ، القابض ، الباسط ، قاضي الحاجات ، المجيد ، المولى ، المنان ، المحيط ، المبين ، المقيت ، المصور ، الكريم ، الكبير ، الكافي ، كاشف الضرّ ، الوتر ، النور ، الوهاب ، الناصر ، الواسع ، الودود ، الهادي ، الوفي ، الوكيل ، الوارث ، البر ، الباعث ، التوّاب ، الجليل ، الخبير ، الخالق ، خير الناصرين ، الديّان ، الشكور ،

١٤٨

العظيم ، اللطيف ، الشافي» (١).

والمذكور في الحديث مائة اسم ، لكن الظاهر أنّ لفظة الجلالة ليس من الأسماء الحسنى ، ولا بدّ أن يكون ذكر بعنوان المسمى الجاري عليه الأسماء وبذلك يستقيم العدد.

والمراد من إحصائها ليس عدّها بل الإحاطة بها والوقوف على معانيها ، أو التمثل والتشبه بها ما أمكن.

ومن روايات العامة ما في الدرّ المنثور قال : أخرج الترمذي ، وابن المنذر ، وابن حبان ، وابن مندة ، والطبراني ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : إنّ لله تسعة وتسعين اسما مائة إلّا واحد ، من أحصاها دخل الجنة ، إنّه وتر يحب الوتر : هو الله الذي لا إله إلّا هو الرّحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبّار ، المتكبّر ، الخالق ، البارئ ، المصوّر ، الغفار ، القهّار ، الوهّاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحيّ ، القيّوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، البرّ ، التواب ، المنتقم ، العفوّ ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، الوالي ، المتعال ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ،

__________________

(١) التوحيد للصدوق ، ص ١٩٤ ، ح ٨.

١٤٩

الضّارّ ، النّافع ، النّور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور (١).

هل أسماء الله تعالى توقيفية؟

نقل غير واحد من المتكلمين والمفسّرين أنّ أسماءه تعالى وصفاته توقيفية ، وجوّزوا إطلاق كل ما ورد في الكتاب والأحاديث الصحيحة دعاء أو وصفا له وإخبارا عنه. ومنعوا كل ما لم يرد فيهما ، وسمّوا ذلك إلحادا في أسمائه ، وعلى ذلك منع جمهور أهل السنّة كل ما لم يأذن به الشارع ، مطلقا. وجوّز المعتزلة ما صحّ معناه ودلّ الدليل على اتصافه به ولم يوهم إطلاقه نقصا. وقد مال إلى قول المعتزلة بعض الأشاعرة ، كالقاضي أبي بكر الباقلاني ، وتوقف إمام الحرمين الجويني.

والتفصيل يقع في مقامين :

الأول ـ تفسير ما استدلوا به من الآية.

الثاني ـ تجويز ما لم يوهم إطلاقه نقصا.

أما الأول : فقد قال سبحانه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

الاستدلال مبني على أمرين :

أ ـ إنّ اللام في الأسماء الحسنى للعهد ، تشير إلى الأسماء الواردة في الكتاب والسنّة الصحيحة.

ب ـ إنّ المراد من الإلحاد ، التعدي إلى غير ما ورد.

وكلا الأمرين غير ثابت. أمّا الأول فالظاهر أنّ اللام للاستغراق قدّم عليها لفظ الجلالة لأجل إفادة الحصر ، ومعنى الآية إنّ كل اسم أحسن في

__________________

(١) الدّرّ المنثور.

(٢) سورة الأعراف : الآية ١٨٠.

١٥٠

عالم الوجود فهو لله سبحانه ، لا يشاركه فيه أحد. فإذا كان الله سبحانه ينسب بعض هذه الأسماء إلى غيره كالعالم والحي ، فأحسنها لله ، أعني الحقائق الموجودة بنفسها الغنية عن غيرها. والثابت لغيره من العلم والحياة والقدرة المفاضة من جانبه سبحانه ، من تجليات صفاته وفروعها وشئونها. والآية بمنزلة قوله سبحانه : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١).

وقوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢) إلى غير ذلك.

وعلى ذلك فمعنى الآية أنّ لله سبحانه حقيقة كل اسم أحسن لا يشاركه غيره إلّا بما ملّكهم منه ، كيف ما أراد وشاء.

وأمّا الثاني : فلأن الإلحاد هو التطرف والميل عن الوسط إلى أحد الجانبين ، ومنه لحد القبر ، لكونه في جانبه. بخلاف الضريح الذي في الوسط ، وأمّا الإلحاد في أسمائه فيتحقق بأمور :

١ ـ إطلاق أسمائه على الأصنام بتغيير ما ، كإطلاق «اللات» المأخوذة من الإله بتغيير ، على الصنم المعروف ، وإطلاق «العزّى» المأخوذة من العزيز ، و «المناة» المأخوذة من المنان ، فيلحدون ويميلون عن الحق بسبب هذه الإطلاقات لإرادتهم التشريك والحط من مرتبة الله وتعلية ما صنعوه من الأصنام. وسيجزي هؤلاء على طبق أعمالهم فلا يصل النقص إلى الله ولا يرتفع مقام مصنوعاته.

٢ ـ تسميته بما لا يجوز وصفه به لما فيه من النقص ، كوصفه سبحانه بأبيض الوجه وجعد الشعر.

ومن هذا القبيل تسميته سبحانه بالماكر والخادع تمسكا بقوله سبحانه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٣). وقوله سبحانه : (إِنَ

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ١٦٥.

(٢) سورة يونس : الآية ٦٥.

(٣) سورة آل عمران : الآية ٥٤.

١٥١

الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (١). فإنّ المتبادر من هذين اللفظين غير ما هو المتبادر من الآية. فإنّ المتبادر منهما منفردين مفهوم يلازم النقص والعيب بخلاف المفهوم من الآيتين فإنه جزاء الخادع والماكر على وجه لا يبقى لفعلهما أثر.

٣ ـ تسميته ببعض أسمائه الحسنى دون بعض كأن يقولوا «يا الله» ولا يقولوا «يا رحمن» وقد قال الله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٢). وقال سبحانه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ، قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (٣).

إلى غير ذلك من أقسام الإلحاد والعدول عن الحق في أسمائه.

وبذلك يظهر أنّه لا مانع من توصيفه سبحانه بالواجب أو واجب الوجود أو الصانع أو الأزلي ، أو الأبدي وإن لم ترد في النصوص ، إذ ليس في إطلاقها عليه سبحانه طروء نقص أو إيماء إلى عيب ، مع أنّه سبحانه يقول : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٤).

هذا كله حول المقام الأول.

وأما المقام الثاني : وهو تجويز تسميته تعالى بكل ما يدل على الكمال أو يتنزّه عن النقص والعيب ، فذلك لأن الألفاظ التي نستعملهما في حقه سبحانه لم توضع إلّا لما نجده في حياتنا المشوبة بالنقص والعيب ، فالعلم فينا الإحاطة بالشيء من طريق أخذ صورته من الخارج بوسائل مادّيّة ، والقدرة فينا هي المنشئيّة للفعل بكيفيّة مادية موجودة في عضلاتنا. ومن

__________________

(١) سورة النساء : الآية ١٤٢.

(٢) سورة الإسراء : الآية ١١٠.

(٣) سورة الفرقان : الآية ٦٠.

(٤) سورة النمل : الآية ٨٨.

١٥٢

المعلوم أنّ هذه المعاني لا يصح نسبتها إلى الله إلّا بالتجريد. كأن يفسّر العلم بالإحاطة بالشيء بحضوره عند العالم ، والقدرة بالمنشئية للشيء بإيجاده. ومثله مفاهيم الحياة والإرادة والسمع والبصر فلا تطلق عليه سبحانه إلّا بما يليق بساحة قدسه ، منزّهة عن النقائص. فإذا كان الأمر على هذا المنوال في الأسماء التي وردت في النصوص فيسهل الأمر فيما لم يرد فيها ، وكان رمزا للكمال أو معربا عن فعله سبحانه على صفحات الوجود ، أو مشيرا إلى تنزيهه وغير ذلك من الملاكات المسوّغة لتسميته وتوصيفه.

نعم بما أنّ العوام من الناس ربما لا يتبادر إلى أذهانهم ما يدلّ على الكمال أو يرمز إلى التنزيه أو لا أقل يخلو من الإشارة إلى النقص ، فيبادرون إلى تسميته وتوصيفه بأسماء وصفات فيها أحد المحاذير السابقة ، فمقتضى الاحتياط في الدين الاقتصار في التسمية بما ورد من طريق السمع بل التجنّب عن الإجراء والإطلاق عليه سبحانه وإن لم يكن هناك تسمية.

هذا تمام الكلام في الأسماء والصفات.

* * *

١٥٣
١٥٤

الفصل الرابع

القضاء والقدر

* موقف النبي وأهل بيته.

* التقدير هو الراسم للحياة عند المشركين.

* الأمويون وتفسير القضاء بالجبر.

* مصادر القضاء والقدر في الكتاب والسنّة.

* تفسير القضاء والقدر العينيان* تفسير القضاء والقدر العلميان.

* القضاء والقدر في الصّحاح والمسانيد.

* الأحبار وإشاعة فكرة القدر بين المسلمين.

* «القدرية» في الحديث النبوي.

١٥٥
١٥٦

القضاء والقدر

إنّ القضاء والقدر من الأصول الإسلامية الواردة في الكتاب والسنّة وليس لمن له إلمام بهذين المصدرين الرئيسين أن ينكرهما أو ينكر واحدا منهما.

وربما يصل إليهما العقل الفلسفي في تحليلاته وتفسيراته للكون المستند إلى الواجب سبحانه ، ويخرج الجميع بنتيجة واحدة هي أنّ لوجود كل شيء تحديدا وتقديرا ، كما أنّ له قضاء وحكما إبراميا. وأمّا ما هو المقصود منهما في الكتاب والسنّة أو فيما يرشد إليه العقل فسوف يظهر في الفصول الآتية ، وقد أصبح لفظ «المصير» في مصطلح اليوم قائما مكان هذين اللفظين.

إنّ الوقوف على حقيقة المصير من المسائل الفلسفية التي يتشوق إليها الكل ، حتى من لم يكن فيلسوفا ، فإن المسائل الفلسفية على صنفين : صنف مطروح للخواص ولا حظّ لغيرهم فيه وهذا كمسألة «عينية الصفات مع الذات» ، أو كون «الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد» إلى غير ذلك من المسائل التي لا يقف على مغزاها ولا يتفكر فيها إلّا الباحث في المسائل العقلية.

١٥٧

وهناك صنف اخر ، وإن كان أقل من سابقه ، مطروح لكل الناس والفيلسوف وغيره في التشوق إلى فهمه متساويان ومن هذا القسم فهم القضاء والقدر في الكتاب والسنّة وموقع الإنسان بالنسبة إليهما ، وهل للإنسان في مقابل التقدير اختيار وحرية ، وأنّ ما قدّر في الأزل ، وقضي به لا يسلب حريّته ، أو أنّ الإنسان بعد التقدير والقضاء ، كالريشة المعلّقة في الهواء تقلبها الرياح كيفما مالت ، وهل الإنسان على مسرح الحياة ممثّل أو مشاهد. فالمتعمقون من الناس يميلون إلى الأول ، والسطحيون إلى الثاني. ولأجل ذلك ترى أن القضاء والقدر لعب دورا كبيرا في آداب الأمم وأشعارهم ، فترى أنّ كل شاعر وأديب يفسّر القضاء والقدر على الوجه الذي يناسب نزعاته أو يؤيده بيئته وظروفه الاجتماعية ومن هنا نرى تناقضا واضحا للغاية بين الأدباء والكتّاب في تحليل هذا الأصل.

إنّ مسألة التقدير ـ لأجل الخصيصة الماضية ـ قد ابتليت بتفسيرين مختلفين لا يجتمعان أبدا ، بينهما بعد المشرقين ، فالمأثور الصحيح عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأهل بيته وبعض الصحابة أنّه لا صلة بين الاعتقاد بالقضاء والقدر وتبرير المعاصي والمساوي عن ذلك الطريق وأنّ القضاء والقدر ليسا سالبين للاختيار بل مؤيدان لحرية الإنسان في حياته.

وفي مقابلهم جماعة سطحيون من الناس تدرعوا بالقضاء والقدر ، وأخذوا يبرّرون أفعالهم فيهما وكأنه ليس في الحياة عامل مؤثر سواهما ، وأنّ الإنسان في حياته مشاهد لما خطّط من قبل ، وليس ممثلا لشيء من الأشياء.

ولأجل إيقاف القارئ على موقف كلا الطائفتين ، نورد كلماتهم في هذا المجال :

موقف النبي وأهل بيته وبعض الصحابة

١ ـ قال النبي الأكرم (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «سيأتي زمان على أمتي

١٥٨

يؤوّلون المعاصي بالقضاء ، أولئك بريئون مني وأنا منهم براء» (١).

٢ ـ قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «خمسة لا يستجاب لهم : أحدهم مرّ بحائط مائل وهو يقبل إليه ، ولم يسرع المشي حتى سقط عليه ...» (٢).

٣ ـ قيل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «رقى يستشفى بها هل ترد من قدر الله فقال : إنها من قدر الله» (٣). والرقى جمع الرقية بمعنى العوذة. فقد جعل رسول الله التمسك بالأسباب جزءا من تقديره سبحانه ، فأعلم بذلك أن ليس التقدير سالبا للاختيار ، بل خيرة الإنسان وحريته في مجال الحياة من تقديره سبحانه.

٤ ـ قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «في كل قضاء الله عزوجل خيرة للمؤمن» (٤).

٥ ـ وهذا أمير المؤمنين ، باب علم النبي يوضح لنا مكانة التقدير بالنسبة إلى الاختيار. روى الأصبغ بن نباتة أن أمير المؤمنين (عليه‌السلام) عدل من حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء الله؟ قال : «أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزوجل» (٥).

٦ ـ لما انصرف أمير المؤمنين (عليه‌السلام) من صفين أقبل شيخ فجثا بين يديه ثم قال له يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام ، أبقضاء الله وقدره؟ فقال : أجل يا شيخ ، ما علوتم من طلعة ، ولا هبطتم من واد ، إلّا بقضاء من الله وقدر فقال الشيخ : عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين : مه يا شيخ! فو الله لقد عظّم الله لكم الأجر

__________________

(١) الصراط المستقيم ، ص ٣٢.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٥ ، باب القضاء والقدر ، ذيل الحديث ٣١ ، ص ١٠٥.

(٣) المصدر نفسه ، الحديث الأول ، ص ٨٧.

(٤) التوحيد للصدوق ذيل الحديث الحادي عشر ، ص ٣٧١.

(٥) التوحيد للصدوق ، ص ٣٦٩.

١٥٩

في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين. فقال الشيخ : كيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا. فقال أمير المؤمنين : أو تظن أنّه كان قضاء حتما ، وقدرا لازما؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثّواب والعقاب ، والأمر والنهي ، والزّجر من الله تعالى ، وسقط معنى «الوعد والوعيد» ولم تكن لائمة للمذنب ، ولا محمدة للمحسن ، ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب ... وتلك مقالة إخوان عبدة الأوثان ، وخصماء الرحمن ، وحزب الشيطان ، وقدريّة هذه الأمة ومجوسها (١). وإنّ الله كلف «تخييرا» ونهى «تحذيرا» وأعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ، ولم يملك مفوّضا ، ولم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا ، ولم يبعث النبيين مبشرين ومنذرين عبثا ، ذلك ظن الذين كفروا ، فويل للذين كفروا من النار (٢).

٧ ـ وقال أمير المؤمنين عند ما سئل عن القضاء والقدر : «لا تقولوا وكلهم الله إلى أنفسهم فتوهنوه ، ولا تقولوا أجبرهم على المعاصي فتظلموه ، ولكن قولوا الخير بتوفيق الله والشر بخذلان الله ، وكلّ سابق في

__________________

(١) قد أطلق الإمام لفظ القدرية هنا على مثبتي القدر لا نفاته على خلاف ما اشتهر بين المتكلمين.

(٢) التوحيد للصدوق ، ص ٣٨٠ ، ح ٢٨. وهذا الحديث الذي نقلناه ذكره الكليني المتوفى عام ٣٢٩ ه‍ في كافيه ، والشيخ الصدوق المتوفى عام ٣٨١ ه‍. في توحيده ، والشريف الرضي المتوفى عام ٤٠٦ في نهج البلاغة. وما أفرغه (عليه‌السلام) في هذه الخطبة لا يمتاز عن سائر خطبه وكلمه.

والعجب كل العجب من الدكتور علي سامي النشار الذي نقل الحديث في كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام ، ج ١ ، ص ٤١١ ، عن كتاب المنية لابن المرتضى ، وزعم أنه من موضوعات المعتزلة وأنّ أسلوب الكلام فيه يمتاز عن أسلوب علي (عليه‌السلام). ولكنه غفل عن أن الحديث منقول في كتب السلف من الشيعة الذين لا يمتّون إلى المعتزلة ولا إلى غيرهم من الفرق بصلة ، وللتفصيل مجال آخر.

١٦٠