أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١

الزمن : إنما يلزم أن يكون بالعجز المضاد للقدرة ، أن لو لم تكن البنية المخصوصة قد اختلت ، ولم يفت شرط من شرائط القدرة ، ولا سبيل إلى إثباته.

الشبهة الثانية :

أنه قال : من أثبت العجز : استدل عليه بتعذر الفعل معه ، وليس ذلك من الأحكام المختصة بالعجز ؛ لإمكان ربطه بنفى القدرة ، وكذلك كل حكم يفرض مرتبا على العجز ـ وهو دليل العجز ؛ فإنه يمكن تقديره مع فرض عدم العجز ، وإذا (١) كان كل أثر يستدل به على العجز غير مختص به ؛ امتنع الاستدلال به عليه.

الشبهة الثالثة :

أن العجز غير محسوس فى نفسه : كالألوان ، والطعوم ، ولا هو موجب لحال زائدة عليه يستدل بها عليه ؛ فلا سبيل إلى إثباته (٢).

والجواب عن الشبهة الأولى من وجهين :

الأول : أن (ما (٣) ذكروه) إنما يلزم المعتزلة القائلين باشتراط البنية.

وأما نحن : فلا نسلم وجود شرط للقدرة وراء الحياة ، وقد بينا كونها مشتركة بين حالة / العجز ، والاختيار ؛ فلا تصلح للتخصيص.

الثانى : أن (ما (٤) ذكروه) فى العجز ينعكس عليه فى القدرة : وذلك أنه أمكن أن يضاف التمكن من الفعل إلى صحة البنية لا إلى القدرة كما أمكن إضافة عدم التمكن إلى اختلال البنية لا إلى العجز ، ولا جواب له عنه.

وعن الشبهة الثانية : لا نسلم أن الاستدلال على العجز بمجرد تعدد الفعل ، وعدم صحة الاستدلال على العجز بحكمه ، لا يوجب عدم العجز ؛ بدليل الروائح ، والطعوم ، وكل ما لا يوجب لمحله حالا ؛ فإنه ثابت ، وإن تعذر الاستدلال عليه بحكمه.

__________________

(١) فى ب (وأن).

(٢) فى ب (بقائه).

(٣) فى أ (ما ذكره).

(٤) فى أ (ما ذكره).

٣٤١

وعن الشبهة الثالثة : فإن (١) العجز ، وإن لم يكن محسوسا ؛ فلا نسلم أنه لا حال له ؛ بل الزمن يجد من نفسه : أنه عاجز عن القيام. كما يجد من قامت به القدرة من نفسه كونه قادرا.

ثم وإن سلمنا انتفاء الحال ؛ فلا نسلم أنه يلزم منه انتفاء كل دليل.

وإن (٢) سلمنا انتفاء كل دليل ؛ فلا يلزم منه انتفاء المدلول فى نفسه كما سبق تقريره (٣).

__________________

(١) فى ب (بأن).

(٢) فى ب (ثم وإن).

(٣) انظر ل ٣٨ / ب.

٣٤٢

«الفصل الثانى عشر»

فى متعلق العجز

الأصح فى (١) قولى الشيخ أبى الحسن الأشعرى : أن العجز لا يتعلق بالمعدوم ؛ بل بالموجود. فالمقعد الزمن عاجز عن القعود الموجود ، لا عن القيام المعدوم ، وأنه لا يسبق المعجوز عنه ، ولا يتعلق بالضدين على نحو قوله فى القدرة. ووافقه على ذلك كثير من أصحابنا.

وله قول ضعيف : أن العجز أنما يتعلق بالمعدوم دون الموجود ، فالمقعد : عاجز عن القيام المعدوم ، دون القعود الموجود ، وإن كان مضطرا إليه (٢). وقضى بناء على ذلك بجواز تعلق العجز الواحد بالضّدين دون القدرة كما تقدم ؛ لأن القدرة متعلقة بالوجود ، والعجز بالعدم ، ولا يمتنع اجتماع الضدّين اللذين هما متعلق العجز فى العدم بخلاف الوجود.

وإلى هذا ذهب كثير من أصحابنا ؛ وهو مذهب المعتزلة.

ومعتمد القول الأول : أن العجز هو الضّد الخاص بالقدرة فى جهة التعلق ، فمتعلقه : إما أن يكون هو متعلق القدرة ، أو غيره.

لا جائز أن يكون غير متعلق القدرة : وإلا لما تضادا فى التعلق.

وإن كان عينه : فقد بينا أن متعلق القدرة الوجود ، وأنه يمتنع تعلقها بالضّدين ؛ فكذلك العجز. وضار ذلك كما فى الإرادة ، والكراهة : فإنهما لما تضادا كان متعلقهما واحدا ، ولو اختلف متعلقهما بأن كانت الإرادة لشيء ، والكراهة لغيرها ؛ لما تضادا.

فإن قيل : التفرقة بين / القدرة ، والعجز ، واقعة (٣) بالضرورة. فإذا قيل : بأن متعلق القدرة (٤) ، والعجز واحد. ومن مذهبكم : أنه لا أثر للقدرة فى متعلقها ، ولا للعجز فى متعلقه ؛ فلا يبقى للتفرقة وجه.

__________________

(١) فى ب (من).

(٢) فى ب (عليه).

(٣) فى أ (واقع).

(٤) فى ب (الإرادة).

٣٤٣

وإن سلمنا كون التعلق واحدا : ولكن لا نسلم وجوب مقارنة العجز للمعجوز عنه ،

وبيانه من وجهين :

الأول : أن القاعد قادر على قعوده ، وليس قادرا على قيامه عندكم ، لأنكم (١) قضيتم بوجوب مقارنة القدرة لمقدورها ، ولا يتصور القيام مع فرض القعود ؛ فلا يكون مقدورا قبل وجوده. فإذا كانت القدرة على القيام منتفية قبل وجوده ؛ وجب اتصافه بالعجز عنه ؛ فإن المقدور جنسه لا يخلو عن القدرة عليه ، أو العجز عنه ، ويلزم من تحقق العجز عن القيام حالة القعود ، أن يكون العجز عنه متقدما عليه.

الثانى : أن العقلاء مجمعون على كون الزمن المقعد عاجزا عن القيام مع عدم القيام.

سلمنا وجوب مقارنة العجز للمعجوز عنه : ولكن لا نسلم وجوب تعلقه بمعجوز واحد ؛ وذلك لأنه يلزم من وجوب تخصيص كل عجز بمعجوز واحد ، وجود إعجاز لا نهاية لها ، لضرورة (٢) أن ما يجوز (٢) تقدير القدرة عليه لا يتناهى ، وما لا قدرة عليه مما يجوز تقدير القدرة عليه يستدعى العجز عنه ، لما سبق تقريره ، فإذا كان ما لا قدرة عليه مما يجوز تقدير تعلق القدرة به غير متناه ، ولكل واحد عجز متعلق به ؛ فالإعجاز غير متناهية ؛ وذلك محال.

والجواب عن السؤال الأول :

أنا لا نسلم أنه لا يلزم من امتناع تأثير المتعلقين فى المتعلق الواحد ؛ امتناع الاختلاف ؛ بدليل العلم مع الإدراك.

وعن السؤال الثانى من وجهين :

الأول : أن القاعد : وإن لم يكن قادرا على القيام ؛ فلا نسلم أنه لا بد وأن يكون عاجزا عنه. وما لا يخلوا عن الضدين : إنما هو ما كان قابلا لاتصافه بأحدهما على البدل. والقاعد حال قعوده ، لا نسلم تصور قدرته على القيام ، ولا عجزه عنه.

__________________

(١) فى ب (لكن).

(٢) فى ب (ضرورة أن ما يجب).

٣٤٤

الثانى : أنا وإن سلمنا : امتناع خلو القيام حالة القعود عن القدرة عليه ، وعن ضد القدرة ؛ ولكن لا نسلم أنه خلا عن ضد القدرة عليه ؛ فإنه كما أن العجز عن (١) القيام (١). يضاد القدرة على القيام ؛ فالقدرة على القعود. مضادة للقدرة على القيام ؛ لاستحالة اجتماعهما. والقدرة على القعود وإن كانت ضدا للقدرة على القيام ؛ فلا يلزم أن تكون عجزا (٢) عن القيام.

حتى يقال بتقدم العجز على / المعجوز عنه ، فإن الموت ضد للقدرة (٣) على القيام ، وليس الموت عجزا عن القيام ، ومن أطلق اسم العجز على الموت بمعنى مشابهته للعجز فى امتناع الفعل ؛ فهو متجوز ، وإن أراد حقيقة العجز ؛ فقد أخطأ ، وهذا هو الجواب عن الإطلاق فى الوجه الثانى أيضا.

وأما السؤال الثالث :

فإنما يلزم وجود أعجاز لا نهاية لها : أن لو كان متعلق العجز العدم ؛ وليس كذلك ؛ كما بيناه ، بل متعلقه إنما هو الوجود ، والوجود منحصر لا أنه غير متناه.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (عاجزا).

(٣) فى ب (القدرة).

٣٤٥

«الفصل الثالث عشر»

فى تعلق العجز بالمعجوز عنه

مذهب أصحابنا : أن العجز لا بد وأن يكون وجوده (١) مقارنا للمعجوز عنه كما فى القدرة ، والمقدور.

وأما المعتزلة : فمن أثبت (٢) العجز منهم (٢) اختلفوا.

فمنهم : من صار إلى وجوب تقدم العجز (على (٣)) المعجوز عنه فى الوجود كما قالوا فى القدرة ، والمقدور. ثم بنوا على ذلك امتناع وجود العجز فى الحالة الأولى من وجود المقدور ؛ مع فرض وجود القدرة فيها ، وجوزوا وجود العجز فى الزمن الثانى من وجود القدرة ؛ لكنه لا يمنع وجود القدرة السابقة ولا من تعلقها ؛ بل هو عجز عما سيكون فى الزمن الثالث.

ومنهم من لم يوجب تقدم العجز على المعجوز عنه : مع مصيرهم إلى وجوب تقدم القدرة على المقدور. ثم بنوا على ذلك امتناع الجمع بين وجود القدرة فى الحالة الأولى ، ووجود العجز فى الحالة الثانية ، وأنه مهما فرض وجود القدرة فى حالة ، امتنع وجود العجز فى الحالة الثانية منها. وإن وجد العجز فى الحالة الثانية : امتنع وجود القدرة فى الحالة الأولى. وبينا أنه لا قدرة فى الحال الأولى ، ولا مقدور لها فى الحالة الثانية ، وهذا هو مذهب هشام.

وأما مذهب أهل الحق : فمعتمدهم فيه : أنه لو لم يكن العجز مقارنا للمعجوز عنه ؛ لما كان ضدا للقدرة ؛ واللازم ممتنع.

وبيان الملازمة : هو أنا قد بينا أن متعلق العجز : هو متعلق القدرة. وأن القدرة يجب أن تكون فى تعلقها بالمقدور مقارنة له : فلو كان العجز متقدما على المعجوز عنه ؛ لكان متقدما على القدرة المقارنة له ، لأن المتقدم على أحد المقترنين في الوجود ؛ يكون متقدما على الآخر. ويلزم من لزوم تقدم العجز على القدرة ، أن لا يكون ضدا للقدرة ،

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (منهم العجز).

(٣) فى أ (عن).

٣٤٦

ولا منافيا لها ؛ لأن الضد الموجود فى زمان ؛ لا يلزم أن يكون منافيا لضده فى زمان آخر ؛ إذ لا مانع من التعاقب. وإنما يكون منافيا له ، ومضادا : فى حال وجوده / والقول بامتناع التضاد (١) بين العجز والقدرة ، عند المعترفين بالعجز محال ؛ فإن القادر على الفعل حال كونه قادرا : لا يكون عاجزا عنه ؛ وكذلك بالعكس.

وعلى هذا : فقد بطل القول بجواز تقدم العجز على المعجوز عنه ، وبطل القول يكون العجز فى الزمن الثانى من وجود القدرة منافيا لمقدورها ، فإن مقدورها متحقق معها ، والعجز الطارئ بعده لا يكون منافيا ((٢) له فى (٢)) وقت وجوده ، ولو كان منافيا له فى الزمن الثانى من وجود القدرة.

كيف : وأنه إذا وجدت القدرة فى وقت ، وفرض وجود العجز فى الوقت الثانى من وجودها ؛ فإن انتفت القدرة السابقة ؛ فقد بينا أنه لا تنافى مع اختلاف الزمان ؛ فإن نفى مقدورها مع وجودها ؛ فقد خرج من قامت به عن كونه قادرا مع قيام القدرة به ؛ لوجود العجز المانع من مقدوره. ولو ساغ وجود قدرة ولا قادر ؛ لساغ وجود علم ، ولا عالم ، وإرادة ولا مريد ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (ضدين).

(٢) ساقط من أ.

٣٤٧

«الفصل الرابع عشر»

فى اختلاف المعتزلة فى عجز القادر على حمل مائة رطل

لا يتمكن معها (١) من حمل مائة أخرى ، ومناقضتهم فى ذلك

وقد اختلفت المعتزلة : فى أن من تمكن من حمل مائة رطل ، ولا يتمكن من (٢) حمل مائة رطل أخرى معها (٢).

فذهب بعضهم : إلى كونه عاجزا عن حمل المائة الأخرى.

ومنهم : من لم يجوز إطلاق العجز ، ولا القدرة ، وأنه لا يوصف بكونه قادرا على حمل المائة الأخرى ، ولا عاجزا عنها.

ومنهم : من فصل وقال : هو قادر على حمل مائة من الجملة غير معينة ، وغير قادر على حمل مائة غير معينة.

وعلى كل قول ؛ فقد ناقضوا مذهبهم فى وجوب تعلق القدرة الواحدة الحادثة بجميع أجناس مقدورات العبد ، والمائة الأخرى معينة كانت ، أو غير معينة من جنس مقدورات العبد.

فإذا قيل : إنه عاجز عنها ، أو غير قادر عليها ؛ كان مناقضا لأصلهم.

فإن قيل : هذا : وإن كان أصلنا ؛ لكن لا مطلقا ، بل بشرط أن لا تتعلق مع اتحادها فى الوقت الواحد ، فى محل واحد ، من الجنس الواحد ، بأكثر من واحد ، والقدرة على حمل المائة ، لو كانت قدرة على حمل المائة الأخرى ؛ لكان على خلاف هذا الأصل.

قلنا : إنما يكون على خلاف هذا الأصل ، أن لو كان ما تعلقت به القدرة مع اتحادها ، واتحاد الوقت فى محل واحد كما هو أصلكم ، وليس كذلك ؛ فإن المقدور : إنما هو الحركة ، ومحلها مختلف ، وهو المائة ، والمائة.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (معها من حمل مائة رطل أخرى).

٣٤٨

/ فإن قالوا : المحل وإن كان مختلفا ، إلا أنه إذا لم يوجد له من القدر غير ما يوازى الاعتمادات فى إحدى المائتين ؛ فهو لا يقدر على رفع الجميع إلا بزيادة قدر ((١) أخر موازية لاعتمادات) (١) المائة الأخرى حتى أنه لو خلق له ذلك ؛ لكان قادرا.

قلنا : هذا وإن تخيل فى المائتين المتلاصقتين ، فما يقولون فى مائة رطل أخرى منفصلة عن المائة المحمولة ؛ إن قلتم بأنه يكون متمكنا من حملها مع حمل المائة الأخرى ، مع أنه لم يوجد له من القدر غير ما يوازى جواهر (٢) المائة المحمولة ؛ فهلا جاز ذلك فى المائتين المتصلتين.

وإن قلتم : لا يكون متمكنا من حملها بالقدرة التى بها تمكن من حمل المائة المحمولة : مع أن المقدورين من جنس واحد فى محلين ؛ فقد ناقضتم أصلكم لا محالة.

__________________

(١) فى أ (أخرى مع موازنة الاعتمادات).

(٢) فى ب (فى جواهر).

٣٤٩

«الفصل الخامس عشر»

فى أن القادر هل يكون ممنوعا عن مقدوره مع وجود قدرته

عليه ، أم لا؟

مذهب أهل الحق من أصحابنا : أن القادر حالة كونه قادرا ، لا يتصور أن يكون ممنوعا عن الفعل المقدور له.

وذهبت المعتزلة : إلى جواز ذلك ، وفرقوا بين العجز ، والمنع ؛ من جهة أن العجز : ما يضاد القدرة دون المقدور. والمنع بعكسه : وهو ما يضاد المقدور وينافيه ، مع بقاء القدرة. وسواء كان وجوديا مضادا للمقدور : كالسكون بالنسبة إلى الحركة المقدورة ، أو مولدا لضد المقدور : كالاعتمادات فى الجسم الثقيل المولدة (١) للحركة السفلية ؛ فإنها مضادة للحركة العلوية. أو عدميا : كانتفاء ما يشترط ثبوته فى وقوع المقدور : كانتفاء العلم بالفعل المحكم ؛ فإنه يمنع من وقوعه مقدورا ، وإن لم يمنع من نفس القدرة.

والمعتمد لأهل الحق فى ذلك مسلكان : استدلالى ، وإلزامى.

أما الاستدلالى :

فهو أنه لو تصور منع القادر عن مقدوره ؛ لما كانت القدرة مقارنة للمقدور وجوبا ؛ واللازم ممتنع.

وبيان الملازمة : أنه إذا تصور وجود القدرة مع امتناع وجود المقدور بالمانع ؛ فالانفكاك بين القدرة الحادثة ، والمقدور ، لازم قطعا ، واللازم ممتنع ؛ لما بيناه من وجود مقارنة القدرة لمقدورها ، ويلزم من الملازمة ، وانتفاء اللازم ، انتفاء الملزوم لا محالة ؛ وهو تصور منع القادر عن مقدوره.

فإن قيل : ما ذكرتموه : وإن دل على امتناع المنع ، لكنه معارض بما يدل على وقوعه ، وبيانه من ثلاث أوجه :

__________________

(١) فى ب (المولد).

٣٥٠

الأول : أنه لو لم يتصور منع القادر عن مقدوره / مع وجود قدرته عليه ، وإلا لما تصور الفرق بين حال المقيد إذا كان لا ينافى مكان ، وبين حاله مطلقا عن ذلك مع الصحة ، والسلامة عن الآفات المانعة من الحركة ؛ حيث أن كل واحد منهما غير قادر حالة لبثه عن الحركة ، والانتقال عن مكانه ؛ وهو خلاف ما تشهد به العقول.

الثانى : هو أنا لو فرضنا شخصا لم تبدل ذاته ، ولم تتغير صفاته فى حالتى القيد ، والإطلاق ، ماشيا ؛ فإنه يلزم أن يكون قادرا حالة القيد ؛ لكونه قادرا حالة الاطلاق ، ضرورة عدم تغير ذاته ، وصفاته ، ومع ذلك : فإنا نعلم كونه ممنوعا من الفعل حالة القيد.

ولهذا ، فإن العقلاء إذا أرادوا منع شخص من الحركة ، والانتقال ؛ أوثقوه بالقيود ، وقدروه منعا من ذلك.

الثالث : هو أن القدرة من الأعراض الباقية ، والباقى لا ينتفى إلا بضده على ما يأتى تحقيقه. والقيد ليس ضدا للقدرة الحادثة ؛ فوجب أن تكون القدرة موجودة معه.

والجواب عن الشبهة الأولى :

أنه وإن لم يتحقق الفرق بين حال المقيد ، والمطلق من كون الفعل غير مقدور له فى الحالتين على أصلنا ؛ فلا يمنع ذلك من الفرق من جهة أخرى ؛ وذلك أن العادة جارية بعدم خلق الله ـ تعالى ـ للمقيد القدرة على الحركة ، بخلاف المطلق ، وذلك هو مستند أهل العرف في الحبس والتقييد ، والتفرقة بين الحالتين : أما أن يكون مستند ذلك المنع فى إحدى الصورتين ، وعدمه فى الأخرى. فلا.

كيف : وأن التمسك فى القضايا العقلية بالأمور العرفية ممتنع.

وأما الشبهة الثانية :

فمبنية على امتناع تغير الصفات فى إحدى الحالتين ؛ وهو غير مسلم. فإنا نعتقد أن الله ـ تعالى ـ خلق له القدرة حالة كونه ماشيا مطلقا دون الحالة الأخرى بحكم جرى العادة ، واتفاق أهل العرف والعقل على أن التقييد كان لما ذكرناه فى جواب الشبهة الأولى.

٣٥١

وأما الشبهة الثالثة : فالجواب عنها من وجهين :

الأول : لا نسلم أن القدرة باقية.

الثانى : وإن سلمنا أنها باقية ؛ ولكن ما المانع من انتفائها بوجود (١) ضد خلق الله ـ تعالى ـ مقارنا للقيد ، وإن لم يكن القيد ضدا لها.

وأما المسلك الإلزامى : فمن أربعة أوجه :

الأول : هو أنهم قالوا : القدرة مشاركة لباقى الأعراض فى كل صفة ، ولم تتميز عن باقى الأعراض على أصل الخصوم بغير صفة التمكن من الفعل ؛ فإذا امتنع التمكن من (٢) الفعل (٢) : بالمانع مع / وجود القدرة ؛ ففيه قلب لحقيقتها ، وإبطال لخاصيتها ؛ وهو محال.

الثانى : هو أن العجز : إنما كان مضادا للقدرة من جهة اقتضائه ؛ لامتناع الفعل ، فلو جاز أن يمتنع الفعل مع بقاء القدرة ؛ لما لزم كون (٣) العجز ضدا.

الثالث : هو أن مقتضى القدرة على أصل الخصوم : التمكن من الفعل ، ومقتضى المنع : امتناع التمكن ، فلو جاز اجتماع القدرة ، والمنع ؛ إما أن يثبت مقتضاهما ، أو لا يثبت مقتضى واحد منهما ، أو يثبت مقتضى أحدهما دون الآخر. لا جائز أن يقال بالأول : إذ هو جمع بين النفى ، والإثبات معا ؛ وهو محال. ولا جائر أن يقال بالثانى : لما فيه من إثبات واسطة بين النفى ، والإثبات ؛ وهو ممتنع.

ولا جائز أن يقال بالثالث : إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.

الرابع : هو أن القول باستمرار القدرة مع ارتفاع التمكن بالمنع وثبوته مع زوال المنع يوجب تغيير حكم الذات ، وتغيير حكم الذات يوجب ثبوت معنى زائد على الذات ؛ وهو محال مخالف للمعقول.

__________________

(١) فى ب (بوجوب).

(٢) فى ب (بالفعل).

(٣) فى ب (من كون).

٣٥٢

وفى هذه الإلزامات نظر.

أما الأول : فلأنه لا مانع من أن يقال : إن (١) مقتضى القدرة التمكن مشروطا بعدم المانع ؛ فانتفاء التمكن من وجود المنع ؛ لا يكون قلبا لحقيقة القدرة.

وأما الثانى : فلأنه قد يمتنع كون العجز مضادا للقدرة ؛ لاقتضائه امتناع (٢) الفعل ؛ بل إنما كان مضادا للقدرة بذاته ، وامتناع الفعل كان لامتناع القدرة عليه ؛ لا للعجز المانع له.

وأما الثالث : فجوابه ما سبق عن الإلزام الأول : وهو جواب الإلزام الرابع (أيضا (٣)).

__________________

(١) فى ب (من أن).

(٢) فى ب (بامتناع).

(٣) ساقط من أ.

٣٥٣

«الفصل السادس عشر»

فى اختلافات متفرعة على المنع بين المعتزلة ، والإشارة

إلى مناقضتهم فيها

الاختلاف الأول :

ذهب الجبائى : إلى أن المنع المضاد للمقدور ، منع (١) له فى الحال الثانى من وجوده ، كما فى القدرة ، والعجز. وطرد ذلك فى التخلية ، والإطلاق فى اقتضائه للتمكن ، وهو الإقدار على الفعل.

وخالفه أبو هاشم فى ذلك : وزعم أن المنع : منع للمقدور فى حال حدوثه ، وكذلك التخلية ، والإطلاق مقتضيان للتمكن فى حال حدوثه (٢).

وعلى هذا ؛ فلو خلق الله القدرة فى وقت ، وخلق معها المنع ، فعند الجبائى : يمتنع وقوع المقدور فى الحالة الثانية من وجود المنع.

وعند أبى هاشم : لا يمتنع به المقدور فى الحالة الثانية إلى أن يستمر إلى الحالة الثانية.

ولو خلق الله المنع فى الحالة الثانية من وجود القدرة : فعند أبى هاشم : يمتنع به وجود المقدور فى الحالة الثانية من وجود القدرة.

وعند الجبائى : لا يمتنع ؛ بل إنما يمتنع به المقدور فى الحالة / الثالثة من وجود القدرة. وكذلك لو خلق الله القدرة فى وقت ، ووجد معها الإطلاق والتخلية ؛ أمكن وقوع المقدور فى الوقت الثانى ، وإن لم يكن الإطلاق محققا فيه. ولو كان الإطلاق متحققا : وقت وجود المقدور دون الأول لما أمكن وجود المقدور فى ذلك الوقت : عند الجبائى.

وعند أبى هاشم : لا بد من تحقق الإطلاق والتخلية فى وقت وجود المقدور ، ولا أثر له قبل ذلك فى المقدور فى الوقت الثانى.

__________________

(١) فى ب (مضاد).

(٢) فى ب (حدوثها).

٣٥٤

وأما نحن : فقد عرف من مذهبنا أنه لا أثر للمنع ، والإطلاق ، والتخلية فحاصله (١) عندنا لا يرجع إلا (١) إلى الإقدار ، وعدم الإقدار.

ثم لقائل أن يقول :

من جعل المانع مؤثرا فى الحالة الثانية من وجوده : كالجبائى لا (٢) يخلو : إما أن يشترط استمرار تحققه فى الحالة الثانية ، أو لا يشترط.

فإن لم يشترط الاستمرار : أمكن أن يكون المانع فى الحالة الثانية معدوما ، ويلزم من ذلك الامتناع في الحالة الثانية ، والمانع معدوم ؛ وهو محال.

وإن اشترط الاستمرار : فالمؤثر إما ذات المانع ، أو خصوصية وجوده (٣) فى الحالة الأولى ، أو فى الحالة الثانية.

فإن كان الأول : فالمؤثر فى الامتناع مقارن للامتناع ؛ وهو خلاف مذهبه.

وإن كان الثانى : فخصوصية المانع فى الحالة الأولى غير متحقق فى الحالة الثانية ، وذلك يجر إلى تحقق الامتناع ، والمانع معدوم ؛ وهو محال.

وإن كان الثالث : فالمانع مقارن للامتناع فى الحالة الثانية ، وهو خلاف مذهبه.

وأما من شرط مقارنة المانع للامتناع : كأبي هاشم : فلو قيل له ما الفارق بين تأثير القدرة فى المقدور ، وتأثير المانع فى المنع حتى قيل باشتراط تقدم القدرة على المقدور ، واشتراط مقارنة المانع للممنوع ؛ لم يجد إلى الفرق سبيلا.

كيف : وأنه ليس المنع من حكم القدرة السابقة بالمنع الطارئ ؛ أولى من منع القدرة السابقة لحكم المنع.

فإن قال : بل نفى حكم السابق الطارئ أولى ؛ لقوة الطارئ ؛ لقربه من السبب. وضعف السابق ، لبعده من السبب ، ولهذا : فإن الأيد القوى إذا اعتمد على صخرة ، وأراد الضعيف حملها ؛ فإنه لا يقدر على إثبات أضداد السكنات الحادثة بالاعتماد وقت

__________________

(١) فى ب (بل فحاصله عندنا يرجع).

(٢) فى ب (فلا).

(٣) فى ب (وجود).

٣٥٥

حدوثها بالاعتمادات ، ويقدر على ذلك فى حالة دوام تلك السكنات إذا زال ذلك بالاعتماد. وكذلك / أيضا ؛ فإنه ينتفى السابق من الضدين بالطارئ منهما : كالبياض ، والسواد مثلا.

قلنا : بل إبطال حكم الطارئ السابق (١) المستمر أولى من جهة استقلاله بنفسه في طرف استمراره ، وعدم الاستقلال الطارئ دون سببه.

وأما صورة الاستشهاد : فغير لازمة : من جهة أن امتناع حمل الصخرة عند اعتماد الأيد عليها ، إنما كان لعدم خلق الله ـ تعالى ـ له القدرة على الحمل (٢) بحكم جرى العادة.

وأما الأضداد : فلا نسلم أن الطارئ منها يبطل السابق ؛ بل كل واحد منهما لعرضيته زائل بنفسه من غير مزيل ؛ على ما يأتى تحقيقه.

وإن سلمنا بقاء الأعراض : غير أن ما ذكره منتقض على أصله حيث أنه زعم أن التأليف منع من المباينة عند حدوثه ودوامه ، وأنه أولى بنفى المباينة فى دوامه من نفى التأليف بالمباينة الطارئة.

الاختلاف الثانى :

أن الممنوع عن جميع أضداد الشيء : هل يكون ممنوعا من ذلك الشيء؟ وذلك كمن أحاط به بناء محكم من جميع جوانبه مانع له من الحركة إلى جميع الجهات ، هل يكون ممنوعا من السكون فى ذلك المكان؟

والذي ذهب إليه الجبائى : المنع. واستدل على ذلك بثلاثة مسالك :

الأول : أنه لو لم يكن المحاط به ممنوعا من السكون ؛ لكان مع قدرته عليه متمكنا منه ؛ واللازم ممتنع.

وبيان الملازمة : أنه إذا كان قادرا على السكون ، وقدر عدم كل مانع ؛ فالتمكن لازم بالضرورة.

__________________

(١) فى ب (للسابق).

(٢) فى ب (الحكم).

٣٥٦

وأما بيان انتفاء اللازم : هو أن التمكن من فعل الشيء يستدعى عندنا أن يكون متمكنا من فعله ، وتركه ، والسكون غير متمكن من تركه ، بل هو مضطر إليه على ما لا يخفى.

المسلك الثانى :

أنه قال : من تردى من شاهق كان فى هويه ممنوعا من الحركة إلى جميع الجهات غير جهة هويه ؛ ويلزم من ذلك أن يكون ممنوعا من الحركة فى (١) جهة هويه ؛ لأنه لو لم يكن ممنوعا من الحركة فى جهة هويه ؛ لكان متمكنا من السكون فى الهوى ؛ لما تقرر : أن الفاعل لا بد وأن يكون متمكنا من ذلك الفعل ، وضده ، وإلا (٢) كان مضطرا لا فاعلا. وهو غير متمكن من السكون ؛ بل ممنوعا منه. ومنعه من السكون : يدل على كونه ممنوعا من الحركة في جهة الهوى.

المسلك الثالث :

هو أن المحاط : لو كان غير ممنوع من السكون ، وقادرا عليه ؛ لما كان أمره بالسكون قبيحا ؛ لكن أمره بالسكون قبيح ؛ فلا يكون متمكنا منه.

وصار أبو / هاشم فى آخر أقواله : إلى مخالفة أبيه فى ذلك. واستدل عليه بأن قال : لو كان البناء المحيط بالشخص مانعا له من السكون ؛ لكان منافيا له ؛ إذ الممانعة مع عدم المنافاة محال. ولا منافاة بين الأجسام فى باقى الجهات ، وبين السكون فى الجهة المحاطة ؛ فلا يكون مانعا.

هذا وأما نحن : فعلى أصلنا وقولنا بانتفاء المنع كما تقدم ؛ فالسكون غير ممنوع فى حق المحاط به ، ولكن لا بد من التنبيه على وجه الضعف فيما ذكر.

أما المسلك الأول للجبائى : فغير صحيح ؛ فإن التمكن من الفعل عندنا : يرجع حاصله على خلق القدرة ، وعدم التمكن : إلى عدم خلق القدرة عليه. فقوله على هذا : لو لم يكن ممنوعا منه مع قدرته عليه ؛ لكان متمكنا منه : إما أن يريد به : أنه يكون

__________________

(١) فى ب (إلى).

(٢) فى ب (وانما).

٣٥٧

متمكنا منه ، بمعنى كونه قادرا عليه ، أو بمعنى : أنه لا يكون ممنوعا منه ، أو بمعنى : أنه يكون قادرا على تركه مع قدرته على فعله ، أو بمعنى آخر.

فإن كان الأول : فيرجع حاصل الشرطية : أنه لو كان قادرا عليه ؛ لكان قادرا عليه ؛ وهو غير مفيد.

وإن كان الثانى : فيرجع حاصله : إلى أنه لو لم يكن ممنوعا منه ؛ لما كان ممنوعا منه ؛ وهو من النمط الأول.

وإن كان الثالث : فهو أيضا ممتنع ؛ لأن القدرة على ما تقدم لا بد وأن تكون مقارنة للمقدور ، فإذا (١) كان قادرا على السكون ؛ فالسكون يجب أن يكون مقارنا للقدرة ، ويلزم من ذلك استحالة كونه قادرا على عدم السكون ، أو ضد من أضداده : حالة وجود السكون ؛ لأنه لو كان قادرا عليه ؛ لكان وجوده مقارنا للقدرة ؛ وهو محال ؛ لاستحالة الجمع بين السكون ، وضده. وإن أراد غير ذلك ؛ فلا بد من تصويره ، والدلالة عليه.

وأيضا : فإنه لو لم يكن السكون فعلا للمحاط به ؛ لكان من فعل الله ـ تعالى ـ وكما أنه لا يمكن ترك السكون للمحاط به مع فرض إحاطة الأجسام به ؛ فلا يمكن ترك السكون بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ مع فرض إحاطة الأجسام به ، ولم يكن ذلك مانعا من فعل الله ـ تعالى ـ للسكون ؛ فكذلك فى فعل المحاط به. غير أن الفرق هاهنا منقدح من جهة أن الله ـ تعالى ـ قادر على ترك السكون بإزالة الموانع بخلاف المحاط به.

وأيضا : فإن أبا هاشم : قد نقل عن أبيه : أنه لو لم يكن المحاط به عالما بالإحاطة ، لم يكن ممنوعا من السكون ، فإن صحت هذه الرواية. لم يبق للفرق بين حالة العلم ، وعدمه معنى ، فيما يرجع إلى جهة المنع.

وأما / المسلك الثانى : فلا نسلم أن المتردى ممنوع من (٢) الحركة (٢) إلى جميع الجهات ؛ بل هو غير قادر : أى لم يخلق له القدرة عليها على ما سبق. وعلي هذا : فقد بطل قوله ؛ فيلزم أن يكون ممنوعا من الحركة فى جهة هويه.

__________________

(١) فى ب (فإن).

(٢) فى ب (الحركات).

٣٥٨

ثم وإن سلمنا : أنه ممنوع من الحركة إلى غير جهة الهوى ؛ فلا نسلم أنه يجب أن يكون ممنوعا منها فى جهة الهوى.

قوله : لو لم يكن ممنوعا من الحركة فى جهة الهوى ؛ لكان متمكنا من السكون فى الهوى. لا نسلم ذلك. فإنه لا مانع من كونه غير ممنوع من (١) الحركة (١) ، ولا متمكنا منها ؛ لعدم القدرة عليها.

وإذا لم يكن متمكنا من الحركة ؛ فلا يلزم أن يكون متمكنا من السكون ؛ لجواز اشتراكهما في عدم خلق القدرة عليهما.

سلمنا : أنه قادر على الحركة فى جهة الهوى ، ولكن لا نسلم لزوم تمكنه من السكون ؛ لما تقرر فى المسلك الأول.

وأما المسلك الثالث : فمبنى على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح ، وقد أبطلناه (٢).

ثم وإن سلمنا صحة ذلك ؛ ولكن لا يلزم من كونه غير ممنوع أن يكون قادرا ؛ خلق القدرة عليه. وإذا لم يكن قادرا ، كان أمره قبيحا.

وإن سلمنا كونه قادرا : فما المانع من أن يكون امتناع الأمر لعدم شعوره بكونه فعلا له؟ وتصور وقوع الامتثال به.

وأما مسلك أبى هاشم : فخارج عن التحقيق ؛ فإنه لا يلزم من كون وجود الأجسام فى باقى الجهات غير منافية للسكون فى الجهة المحاطة أن لا تكون منافية لكون السكون فعلا للمحاط به.

ولا يخفى : أن ادعاء ذلك عين محل النزاع ؛ فلا يمكن أخذه فى الدليل.

الاختلاف الثالث.

ذهب الجبائى : إلى أن العلم الضرورى مانع عند حدوثه ، ودوامه من حدوث العلم المكتسب الواحد ، وإنما ينتفى العلم الضرورى الباقى بعلمين كسبيين ، وبالجملة بضدين من أضداده.

__________________

(١) فى ب (منه).

(٢) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

٣٥٩

ووافقه أبو هاشم فى قول. وخالفه فى قول.

وزعم : أن العلم الضرورى يكون مانعا فى ابتداء حدوثه من حدوث العلم الكسبى ، ولا يكون مانعا منه فى دوامه (١) ، وأنه يكفى فى امتناع وجود العلم الضرورى فى دوامه ، وجود ضد واحد من أضداده.

احتج الجبائى على مذهبه بمسلكين :

الأول : أنه لو لم يكن العلم الضرورى في بقائه مانعا من حدوث العلم الكسبى ؛ لأمكن حدوث العلم الكسبى ، ولو حدث العلم الكسبى ؛ لكان مانعا من بقاء / العلم الضرورى ؛ وهو ممتنع. فإنه لا يخفى أن جعل الباقى مانعا من حدوث الحادث لاستقلاله بالوجود فى حالة البقاء. أولى من جعل الحادث مانعا من بقاء الباقى. مع كونه غير مستغن فى حدوثه عن العلة الموجبة لحدوثه ، وخرج عليه ما إذا اجتمع ضدان ، أو أكثر من أضداد العلم الضرورى ؛ حيث أنها تكون مانعة من بقائه ؛ لقوتها فى الممانعة بالنسبة إلى الواحد منها.

المسلك الثانى :

أنه لو لم يكن العلم الضرورى فى حال بقائه مانعا من ضده ؛ لأمكن العالم بنفسه ، وألمه ، ولذته. من إزالة علمه بذلك ، وهو ممتنع مخالف للمعقول.

واحتج أبو هاشم على القول المخالف لأبيه : بأن العلم الضرورى بالشيء يماثل العلم الكسبى به ، ومن علم شيئا علما كسبيا ، أمكنه نفيه بإيجاد ضد واحد من أضداده ؛ فكذلك العلم الضرورى ؛ ضرورة أن ما ثبت لأحد المثلين يكون ثابتا للمثل الآخر.

ولا بد من التنبيه على ما فى هذه الحجج.

أما الحجة الأولى للجبائى.

قوله : لو لم يكن العلم الضرورى فى بقائه مانعا من العلم الكسبى ؛ لأمكن حدوث العلم الكسبى ؛ مسلم.

__________________

(١) فى ب (رواية).

٣٦٠