أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١

فإن كان المؤثر غير الله ـ تعالى ـ : فعند تأثيره فيها : إما أن يقال بإمكان تأثير قدرة الله ـ تعالى ـ فيها ، أو لا يقال بذلك.

فإن قيل بعدم إمكان تأثير قدرة الله ـ تعالى ـ فيها : فهو عاجز عنها ، وليست مقدورة له. وهو مع مخالفته للفرض يوجب كون الرب ـ تعالى ـ عاجزا عن بعض / الممكنات ؛ وهو محال كما تقدم (١).

وإن قيل بإمكان تأثير القدرة القديمة فيها ، فعند اجتماع المؤثرين : إما أن يكون وجود ذلك الحادث بهما ، أو بأحدهما ، أو لا بواحد منهما.

فإن كان لا بواحد منهما : ففيه تعجيز الرب ـ تعالى ـ ؛ وهو محال. وإن وجد بهما : فهو محال ؛ لما سيأتى في امتناع مخلوق بين خالقين (٢). وإن وجد بأحدهما دون الآخر : فإن كان المعطل هو الله (٣) ؛ فقد عجز ؛ وهو على الله محال ، وإن كان المعطل غيره ؛ فهو المطلوب.

وعلى هذا : فقد بطل أن يكون المؤثر فى الوجود مجموع المؤثرين معا ، فلم يبق إلا القسم الأول ، وهو المطلوب.

فإن قيل : إنما يلزم من كونه غير قادر على بعض الممكنات ، أن يكون عاجزا أن لو أمكن أن يكون مقدورا له. وما لا يمكن أن يكون مقدورا له فلا يقال : إنه معجوز عنه ، ولهذا : فإنه لما كان الجمع بين الضدين غير ممكن أن يكون مقدورا للرب ـ تعالى ـ لم يوصف الرب ـ تعالى ـ بالعجز عنه.

وإن سلمنا أنها مقدورة للرب ـ تعالى ـ ولكن لم قلتم إنها يجب أن تكون موجودة بإيجاده؟ وما المانع من أن تكون مقدورة له غير موجودة بقدرته؟ كما قلتم فى أفعال العبيد المختارين إنها مقدورة لهم ، وإن كانت قدرتهم غير مؤثرة فيها ، مع كونها مقدورة له لا يوصف بالعجز عنها إذا لم يكن هو الموجد لها : كالعبد بالنسبة إلى أفعاله المقدورة له.

__________________

(١) انظر ل ١٦٤ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ٢١٧ / ب وما بعدها.

(٣) فى ب (الإله).

٢٤١

وإن سلمنا أنه يجب أن يكون مؤثرا فيها ؛ ولكن ما المانع من اجتماع مؤثرين على أثر واحد؟.

وما يذكرونه فى امتناع مخلوق بين خالقين ؛ فسيأتى الكلام عليه أيضا (١).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه لا خالق غير الله ـ تعالى ـ ولكنه معارض بما يدل على وجود خالق غير الله ، ودليله المعقول ، والمنقول.

أما المعقول : فما (٢) سيأتى (٢) تحقيقه فى مذهب كل فريق من المخالفين بجهة التفصيل إن شاء الله ـ تعالى ـ.

وأما المنقول : فآيات من الكتاب :

الأولى : قوله ـ تعالى ـ : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٣).

ووجه الاستدلال به من وجهين :

الأول : لفظ الآية صريح فى إثبات خالقين.

الثانى : أنه أثبت المفاضلة بينه ، وبين غيره فى الخلق ؛ وذلك يستدعى الاشتراك فى أصله.

الثانية : قوله ـ تعالى ـ إخبارا عن الخضر فى قوله لموسى (٤) (عليه‌السلام) : (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٥) أضاف الإحداث إلى نفسه والرب ـ تعالى ـ قرره على ذلك.

الثالثة : قوله ـ تعالى / : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٦) فدل على أن ما فيه التفاوت والاختلاف ، ليس خلقا لله تعالى ؛ فيكون خلقا لغيره.

__________________

(١) انظر ل ٢١٧ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (فسيأتى).

(٣) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٤.

(٤) ساقط من أ.

(٥) سورة الكهف ١٨ / ٧٠.

(٦) سورة الملك ٦٧ / ٣.

٢٤٢

الرابعة : قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (١) دل على أنه لا يخلق إلا الحسن ؛ فالقبيح يجب أن يكون مخلوقا لغيره.

الخامسة : قوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٢).

السادسة : قوله ـ تعالى ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقوله : (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (٤) (٥) إلى غير ذلك (٥) من الآيات الدالة على إضافة العمل إلى العباد. والعمل المضاف إلى شخص لا يمكن أن يكون مضافا إلى غيره.

والجواب عن الإشكال الأول : أن ما أمكن أن يكون مقدورا لله ـ تعالى ـ فلا يوصف بكونه عاجزا عنه ، وإنما يوصف بالعجز عما لا يمكن أن يكون مقدورا له مع إمكان ذلك الشيء فى نفسه. والجمع بين الضدين ؛ فغير ممكن في نفسه ؛ فلا يكون بعدم القدرة عليه عاجزا عنه ؛ كما حققناه فى مسألة العجز (٦).

وعن الثانى : أنه لا معنى لكون الشيء مقدورا بالقدرة غير إمكان تأثير القدرة فيه ، أو أن الأثر قائم بمحل القدرة ، وواقع على وفق الإرادة كما هو مذهبنا فى أفعال العبيد المختارين.

فإذا كانت قدرة الرب ـ تعالى ـ غير مؤثرة فى الحادث ، ولا هو قائم بمحل قدرة الله ـ تعالى ـ ؛ لاستحالة قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ كما سبق بيانه (٧) ، فلا معنى لكونه مقدورا لله ـ تعالى ـ ؛ وما لا يكون مقدورا له ـ مع إمكانه فى نفسه ـ ؛ فهو معجوز عنه.

__________________

(١) سورة السجدة ٣٢ / ٧.

(٢) سورة النساء ٤ / ٧٩.

(٣) سورة آل عمران ٣ / ١٥٣.

(٤) سورة فصلت ٤١ / ٤٠.

(٥) فى ب (إلى غيرها).

(٦) انظر ل ١٦٤ / ب وما بعدها.

(٧) ساقط من ب. انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

٢٤٣

وهذا بخلاف فعل العبد المختار ؛ فإنه وإن لم تكن قدرته مؤثرة فى إيجاده. غير أنه قائم بمحل قدرته ، وواقع على وفق إيثاره وإرادته ؛ وهو معنى كونه مقدورا له.

وعن الثالث : بما سنذكره فى امتناع مخلوق بين خالقين (١) ، وعن المعارضة.

أما الشبه العقلية : فما نذكره فى الرد على كل (٢) فريق من المخالفين بجهة التفصيل فى موضعه.

وأما ما ذكروه من الآيات : فظاهرة غير قطعية ، والتمسك (٣) بالظاهر فى موضع القطع ، واليقين غير مفيد ، ثم هى مؤولة ، ومعارضة :

أما التأويل : فإنه (٤) قد أمكن حمل ما ذكروه على غير الخلق بمعنى الإيجاد والاختراع ؛ فيجب الحمل عليه عملا بما ذكرناه من الدليل العقلى ، وبما نذكره من النقل أيضا.

أما قوله ـ تعالى ـ : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٥) / فلا حجة فيه.

قولهم : إنه صريح فى إثبات خالقين عنه جوابان :

الأول : أنه أمكن حمل الخالقين على المقدرين ، ويكون معنى الآية فتبارك الله أحسن المقدرين ؛ ونحن لا نمنع من كون العبد يسمى خالقا ، بمعنى كونه مقدرا ؛ كما حققناه فى المسألة الأولى.

الثانى : هو أن الخلق قد يطلق ويراد به الإيجاد ، والاختراع ، وقد يطلق ويراد به التقدير ، وقد يطلق ويراد به الكذب ؛ على ما حققناه فى المسألة الأولى.

وأحسن معانى الخلق إنما هو الإيجاد ، والاقتدار على الاختراع.

وعند ذلك : فأمكن أن يكون المراد بقوله ـ تعالى ـ (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) أنه مختص بأحسن معانى الخلق ، وهو الإيجاد ، والاختراع ، ويجب الحمل عليه عملا بما ذكرناه من الدليل العقلى.

__________________

(١) انظر ل ٢١٧ / ب وما بعدها.

(٢) ساقط من ب.

(٣) فى ب (هو التمسك).

(٤) فى ب (فلأنه).

(٥) سورة المؤمنون ٢٣ / ١٤.

٢٤٤

وعند ذلك : فتكون الآية حجة عليهم لا لهم.

قولهم : إنه أثبت التفاضل بينه ، وبين غيره في الخلق ؛ وذلك يستدعى الاشتراك فى معنى أصل الخلق. عنه جوابان :

الأول : المنع ، ولهذا فإنه يصح أن يقال : الرب ـ تعالى ـ خير من الأصنام المعبودة ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (١) مع أنه لا خير فيما أشركوا به. ويقال : النبي خير من المشرك ، وإن كان لا خير فى المشرك.

ومنه قول حسان بن ثابت فى حق من هجا النبي عليه‌السلام :

أتهجوه ولست له بكفئ

فشرّكما لخيركما الفداء

مع أنه لا خير فيمن يهجو النبي عليه الصلاة والسلام. والإطلاق العرفى شائع ذائع بقولهم : الصائد أحق بالصيد من غيره ، ورب المال أحق به من غيره ، مع أنه لا مشاركة بين الصائد وغيره ، ولا بين رب المال وغيره ، فى أصل الحق.

الثانى : هو أن العرب قد تصف أحد الشيئين بصفة الآخر عند اقترانهما بالذكر كما فى قولهم : الأسودان ، للماء ، والتمر ، وقد تسميه باسمه : كالعمرين لأبى بكر ، وعمر. وكالقمرين : للشمس ، والقمر ، فلما ذكر غير الله ـ تعالى ـ معه ؛ وصفه بصفته ، وإن لم يكن متصفا بها.

وهذا الاحتمال ، وإن لم يكن مقطوعا به ؛ فهو قائم ، ويجب الحمل عليه ؛ لما ذكرناه من الدليل العقلى.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٢) ، فيحتمل أن يكون قد أضاف إحداث الذكر إليه ؛ لأنه مكتسب له ، أو ملازم لفعله المكتسب له. وإن لم يكن خالقا له ، ولا موجدا ، وذلك كما يقال : فلان أحيى فلانا. إذا استنقذه من الهلكة ، وإن لم يكن موجدا لحياته ، ويقال : فلان / أمات فلانا ، وأزهق نفسه ، وإن لم يكن هو الموجب لإماتته ، وإزهاق نفسه. والإطلاق بذلك شائع غير منكر.

__________________

(١) سورة النمل ٢٧ / ٥٩.

(٢) سورة الكهف ١٨ / ٧٠.

٢٤٥

وقوله ـ تعالى ـ : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (١) ؛ فهو مرتب على قوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) (٢) ؛ فيكون عائدا إليه ، ومسكوتا عما سواه. وبتقدير عوده إلى خلق الله ـ تعالى ـ مطلقا. فمعناه لا تفاوت فى خلق الله ـ تعالى ـ من حيث هو خلق وإيجاد ؛ وذلك لا يدل على وجود خلق لغير الله إلا أن يكون من حيث هو خلق متفاوت ؛ وهو غير مسلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٣). معناه علم كل خلق. ومنه يقال : فلان يحسن الصناعة الفلانية : أى يعلمها. وليس المراد به خلق الحسن ، ولهذا : فإنه لا يقال لمن أوجد شيئا حسنا أنه أحسنه.

ثم وإن سلمنا أن المراد به أن خلقه حسن ؛ فليس فيه ما يدل على أن غيره خالق. إلا أن يكون ثم ما هو خلق قبيح. من حيث هو خلق ؛ وهو غير مسلم ، على ما حققناه فى مسألة التحسين والتقبيح (٤).

وقوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (٥) أى باكتسابك ، والمكتسب ليس بخلق على ما يأتى. ثم هو معارض بالقراءة الأخرى ، وهو قوله ـ تعالى ـ (فَمِنْ نَفْسِكَ) بفتح الميم ؛ إذ هو رد على وهم من توهم أن السيئة من النفس.

وقوله تعالى : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) : أى تكسبون ؛ فإن العمل قد يضاف إلى العبد بمعنى الاكتساب ، أو بسبب ملازمته للاكتساب كما ذكرناه ؛ وليس فى ذلك ما يدل على كون العمل مخلوقا للعبد ، وبه تأويل كل ما يرد من هذا القبيل.

وأما المعارضة : فبآيات منها :

قوله ـ تعالى ـ : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ). دل على أن أعمال العبيد المختارين مخلوقة لله ـ تعالى ـ

__________________

(١) سورة الملك ٦٧ / ٣.

(٢) سورة الملك ٦٧ / ٣.

(٣) سورة السجدة ٣٢ / ٧.

(٤) انظر ل ١٧٥ / أوما بعدها.

(٥) سورة النساء ٤ / ٧٩.

٢٤٦

فإن قيل : قوله ـ تعالى ـ : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ* وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (١) : أى الأصنام التي كانوا ينحتونها ، ويتخذونها آلهة ؛ وهى لا محالة مخلوقة لله ـ تعالى ـ وإطلاق اسم العمل على ما ينحت ، ويصور بصورة (٢) خاصة سائغ لغة ، ومنه يقال : هذا الباب من عمل فلان ، وإن كان الباب نفسه ، ليس من عمله. ويدل على ذلك أيضا قوله ـ تعالى ـ : (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) (٣). وإنما كانت تلقف الحبال ، والعصى ، وليست فعلا لهم.

ويدل على هذا التأويل أنه لو أراد به الأعمال المقدورة للعباد حقيقة ؛ لكان القول بأنها من أفعال الله ـ تعالى ـ تناقضا ؛ فإن ما يعمله العبد / لا يكون لغيره.

والجواب :

هو أن حمل العمل على الأصنام مجاز ، والأصل فى الإطلاق الحقيقة ، وإضافة العمل إليهم بقوله : وما تعملون ، إنما هو إضافة اكتساب لا خلق ؛ على ما تقدم.

وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٤) ، وهو ظاهر فى النعيم عند من يقول بصيغ العموم ، وعند من لا يقول بصيغ العموم ؛ فلما اقترن به من قرينة التمدح ، والاستعلاء ، ولو كان غيره خالقا لشيء من الأشياء ؛ لبطلت فائدة التمدح ، والاستعلاء ؛ وهو ممتنع.

ولا نسلم أن المخاطب يدخل فى عموم خطابه حتى يقال : إن عموم الآية قد خص بذاته ، وصفاته ؛ حيث أنها أشياء ، وليست مخلوقة له ؛ لأن التخصيص إنما يكون بإخراج ما هو داخل تحت عموم اللفظ عن كونه مرادا باللفظ ، وما لا يكون داخلا تحت عموم اللفظ ؛ فخروجه عنه لا يكون تخصيصا له.

والّذي يدل على أن المتكلم لا يدخل تحت عموم كلامه ، أنه لو قال القائل : إنى قطعت كل مناظر لا يكون نفسه داخلة (٥) فيه ، ولا يكون هو مفهوما من لفظه ، وإن كان

__________________

(١) سورة الصافات ٣٧ / ٩٥ ، ٩٦.

(٢) فى ب (بصور).

(٣) جزء من الآية رقم ١١٧ من سورة الأعراف ، وجزء من الآية رقم ٤٥ من سورة الشعراء.

(٤) سورة الأنعام ٦ / ١٠٢.

(٥) فى ب (داخلا).

٢٤٧

العموم مخصصا ؛ فهو خلاف الدليل ، ويجب حمله على غير محل التخصيص مطلقا ؛ تعليلا لمخالفة الدليل.

وأيضا قوله : ـ تعالى ـ : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) (١). وقوله ـ تعالى ـ (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٢). ذكر ذلك فى معرض الثناء على أرباب هذه الدعوات ، ولو لم يكن الزيغ والغل ، مخلوقا لله ـ تعالى ـ على رأى من يرى أن صدور ذلك من الله ـ تعالى ـ ممتنع ، لكونه ظلما ـ لما كان لسؤاله فى دفع ما لا يقدر عليه ، ولا (٣) هو مخلوق له (٣) معنى.

ولا يمكن حمل هذه الدعوات على خلق الألطاف التي يعلم الله ـ تعالى ـ أمن الراغبين عندها من هذه الأمور ؛ إذ هو تجوز ، وترك للظاهر من غير دليل.

وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤). وهو دليل على كون الضحك والبكاء ، مخلوقا لله ـ تعالى ـ ؛ فيكون حجة على من قال : هو مخلوق للعبد. وحمل ذلك على خلق الأسباب الموجبة للإضحاك ، والإبكاء ، ترك للظاهر من غير دليل ؛ فلا يسمع.

وأيضا : قوله ـ تعالى ـ : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) (٥) : أى نخلقها ؛ فدل على أن كل مصيبة مخلوقة لله ـ تعالى ـ وذلك يعم الكفر ، والمعاصى ، وكل مصيبة قيل إنها مخلوقة لله ـ تعالى ـ إلى غير ذلك من الآيات ، والظواهر ، ثم العمل بما ذكرناه أولى ؛ لاعتقاده بالدليل العقلى ، ومخالفته لما ذكروه.

__________________

(١) سورة آل عمران ٣ / ٨.

(٢) سورة الحشر ٥٩ / ١٠.

(٣) (ولا هو مخلوق له) ساقط من ب.

(٤) سورة النجم ٥٣ / ٤٣.

(٥) سورة الحديد ٥٧ / ٢٢.

٢٤٨

وأما الفروع : (فثمانية) (١)

الأول : فى امتناع / مخلوق بين خالقين.

الثانى : فى الرد على الفلاسفة الإلهيين.

الثالث : فى الرد على الطبيعيين.

الرابع : فى الرد على الصابئة فى قولهم بوجود موجد غير الله ـ تعالى ـ.

الخامس : فى الرد على المنجمين ، وأرباب الأحكام.

السادس : فى الرد على الثنوية والمجوس.

السابع : فى الرد على المعتزلة فى خلق الأفعال.

الثامن : فى الرد على القائلين بالتولد (٢).

__________________

(١) فى أ (فتسعة) وهى مخالفة للواقع ؛ حيث أن المذكور فعلا فى الشرح ثمانية.

(٢) زائد فى أ (التاسع : فى أضداد الإرادة ، ومتعلقاتها).

٢٤٩
٢٥٠

«الفرع الأول»

فى امتناع مخلوق بين خالقين

وهذا مما لا نعرف فيه خلافا بين العقلاء ، غير أن الرسم جار بالدلالة عليه ، ليكون الحق معلوما بدليله ، ودفعا لوهم من يتوهم جواز نقيضه.

ولنا فيه مسلكان :

المسلك الأول :

أنه لو جاز وجود مخلوق واحد بين خالقين لم يخل : إما أن يكون كل واحد منهما مؤثرا فيه ، أو لا تأثير لواحد منهما فيه ، أو أن أحدهما هو المؤثر فيه دون الآخر.

فإن كان لا تأثير لكل (واحد (١)) منهما فيه : فليس مخلوقا لهما.

وإن كان أحدهما هو المؤثر فيه دون الآخر : فالخالق له هو المؤثر فيه ، والآخر ليس بخالق ؛ فيكون مخلوقا لأحدهما لا لهما.

وإن كان كل واحد منهما مؤثرا فيه : فإما أن يكون كل واحد مستقلا بخلقه ، وإيجاده ، أو غير مستقل.

فإن كان كل واحد مستقلا بالخلق : فلا معنى لكونه مستقلا به ، إلا أنه وجد به دون غيره ، ويلزم من استقلال كل واحد منهما ؛ امتناع استقلال كل واحد منهما ؛ كما تقرر فيما تقدم (٢).

وإن لم يكن كل واحد مستقلا بالخلق : فتأثير كل واحد منهما فيه : إما فى كله ، أو فى بعضه.

فإن كان مؤثرا فى كله : فإما أن يكون تأثيره على وجه يتحقق به الخلق ، والإيجاد ، أو لا على وجه يتحقق به الخلق ، والإيجاد.

__________________

(١) فى أ (لواحد).

(٢) يوجد أربعة أسطر زائدة فى ب (وإن لم يكن كل واحد منهما مستقلا بخلقه وإيجاده أو غير مستقل ، فإن كان كل واحد مستقلا بالخلق فلا معنى لكونه مستقلا به إلا أنه وجد به دون غيره ، ويلزم من استقلال كل واحد منهما امتناع استقلال كل واحد منهما كما تقرر فيما تقدم).

٢٥١

فإن كان الأول : عاد قسم الاستقلال ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : فلا تأثير ؛ إذ التأثير ولا أثر محال.

وإن كان كل واحد مؤثرا فى البعض : فلا يخلوا : إما أن يكون المخلوق متبعضا ، أو غير متبعض.

فإن لم يكن متبعضا : فالقول بالتأثير فى بعض ما لا بعض له محال.

وإن كان متبعضا : فإما أن يؤثر كل واحد منهما فى كل بعض من الأبعاض ، أو كل واحد فى بعض غير البعض الّذي أثر فيه الآخر.

فإن كان الأول : عاد الكلام في كل واحد من الأبعاض ، وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان الثانى : فمخلوق كل واحد منهما غير مخلوق الآخر (١) ؛ وليس مخلوقا واحدا بين خالقين.

وهذه الطريقة / على هذا التحرير ، والتقرير ، فمما لم أجدها لأحد غيرى ، وهى عامة فى نفى خالقين لمخلوق واحد ، وسواء كان كل واحد خالقا بالذات ، أو بالقدرة ، والاختيار ، أو أحدهما بالذات ، والآخر بالاختيار (٢).

المسلك الثانى :

أنه قد ثبت فى المسألة الأولى : أنه لا خالق غير الله ـ تعالى ـ وثبت فى الوحدانية امتناع وجود إلهين (٣) ـ ويلزم من ذلك امتناع وجود خالقين مطلقا. وسواء اتحد المخلوق ، أو تعدد ؛ وهو المطلوب.

فإن قيل : لو فرضنا التصاق جوهر فرد يكفى شخصين ، وأحدهما دافع له فى حالة كون الآخر جازيا له : فإما أن يحصل من ذلك الجزء حركتان ، أو حركة واحدة.

الأول : باطل ؛ لاستحالة اجتماع المثلين فى محل واحد.

__________________

(١) فى ب (للآخر).

(٢) هذه الطريقة من متبكرات الآمدي.

(٣) انظر ل ١٦٧ / ب وما بعدها.

٢٥٢

وإن كانت حركة واحدة : فإما أن لا تكون مستندة إلى واحد منهما ، أو مستندة إلى أحدهما دون الآخر ، أو مستندة إليهما.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كان الفعل حاصلا من غير فاعل ؛ وهو محال.

ولا جائز أن يقال بالثانى ؛ لعدم الأولوية.

فلم يبق إلا الثالث ؛ وهو المطلوب.

قلنا : هذا إنما يلزم على المعتزلة.

وأما نحن : فالحركة عندنا مستندة في وجودها إلى الله ـ تعالى ـ لا إليهما.

٢٥٣

«الفرع الثانى»

فى الرد على الفلاسفة الإلهيين

والّذي عليه اعتماد الحذاق من الفلاسفة الإلهيين (١) أن البارى ـ تعالى ـ واحد من كل جهة ، وأنه ليس له صفة وجودية ، لا داخلة فى ذاته ، ولا خارجة عارضة لذاته ، كما أسلفناه (٢) من إيضاح مذهبهم ، وحكاية شبههم على ذلك فى إثبات الصفات.

ثم إنهم بنوا على ذلك أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. محتجين على ذلك بأمرين.

الأول : أنه لو صدر عنه اثنان : لم يخل : إما أن يتفقا من كل وجه ، أو يختلفا من كل وجه ، أو يتفقا من وجه ، ويختلفا من وجه.

فإن كان الأول : فلا تعدد ؛ لأن التعدد مع عدم التمايز محال.

وإن كان الثانى ، أو الثالث : فهما فى الجملة مختلفان.

وعند ذلك : فإما أن يكون صدور كل واحد منهما عنه من الجهة التى كان صدور الآخر عنه بها ، أو من جهة أخرى.

لا جائز أن يقال بالأول : لأن العلة لا بد وأن يكون بينها ، وبين المعلول ملاءمة مناسبة يتهيأ بها وجود المعلول ، وإلا لما كان صدور ذلك المعلول عنها أولى من صدور غيره ، ولا أولى من صدوره عن غيرها ؛ بل كان كل موجود صالحا لأن يكون علة لأى وجود كان ؛ وهو محال. وما ناسب به أحد المعلولين / المختلفين لا يمكن أن يناسب به المخالف الآخر ، ولهذا فإنا نستدل باختلاف الآثار من الحرارة والبرودة ، فى الجسم الواحد ، على اختلاف المؤثرات فيه ، ويلزم من ذلك أن الواحد إذا كان علة الأمرين مختلفين ؛ أن يكون علة لهما بجهتين مختلفتين ؛ وهو القسم الثانى.

__________________

(١) لتوضيح رأى الفلاسفة فى هذه المسألة : انظر من كتبهم : النجاة لابن سينا ص ٢٤٩ ـ ٢٨٤ ، وتسع رسائل فى الحكمة له ص ١٠٨ ـ ١١٤ ، والإشارات والتنبيهات له أيضا ٣ / ١١٩ ـ ١٩٢.

(٢) فى ب (كما سبق). انظر ل ٥٤ / أوما بعدها.

٢٥٤

وعند ذلك : فالجهتان المختلفتان : إما من صفات ذاته ، أو لا من صفات ذاته.

فإن كانت من صفات ذاته : فهو محال ؛ إذ لا صفة له ، لا داخلة فى ذاته ، ولا خارجة عنها (١) كما سلف تحقيقه فى الصفات ؛ بل هو واحد من كل جهة (٢) ، وإن اختلفت الأسماء ، وتعددت ، وإن لم تكن من صفات ذاته ؛ فالكلام فى صدورها عنه :

كالكلام فى الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور الممتنع.

الثانى : أنه لو صدر عنه شيئان (٣) ؛ فيكون قد صدر عنه شيء ، وما ليس ذلك الشيء ؛ وهو تناقض.

وهذه المحالات ؛ إنما لزمت عن صدور الكثرة عن واجب الوجود ؛ فلا كثرة ؛ بل (٤) يجب (٤) أن يكون ما يصدر عنه واحدا ، لا تعدد فيه. وهذا المعلول الواحد إما أن يكون موجودا فى موضوع ، أو (٥) موجودا لا فى موضوع :

لا جائز أن يكون موجودا فى موضوع : وإلا كان عرضا ، وكان علة لما بعده ؛ ويلزم من ذلك أن يكون علة لموضوعه الّذي لا قوام له فى الوجود إلا به ؛ وهو دور ممتنع.

وإن كان موجودا لا فى موضوع : فهو جوهر : ولا يخلو : إما أن يكون مركبا ، أو بسيطا.

فإن كان مركبا : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم منه صدور الكثرة عن واجب الوجود ؛ وقد قيل بامتناعه.

الثانى : أنه يلزم (منه) (٦) أن يكون علة لغيره ، ومفرداته من جملة الأعيان ؛ فيكون علة لها ، وهو فلا يتم وجوده دونها ؛ وهو أيضا دور.

وإن كان بسيطا : فإما أن يكون داخلا فى المركب ، أو لا يكون داخلا فى المركب.

__________________

(١) فى ب (عن ذاته).

(٢) فى ب (وجه).

(٣) فى ب (اثنان).

(٤) فى ب (فيجب).

(٥) فى ب (أو لا يكون).

(٦) ساقط من أ.

٢٥٥

لا جائز أن يكون داخلا فى المركب ، وإلا فهو : إما أن يكون حالا ، أو محلا (فإن) (١) كان حالا : فهو الصورة الجسمية.

ويلزم أن يكون (٢) علة لغيره ، ومن جملة الأعيان (٣) المادة التى لا وجود للصورة (٣) الجسمية دونها كما يأتى ؛ وهو دور.

وإن كان محلا : فهو المادة الجسمية ، ويلزم أن يكون علة لغيره ، ومن جملة الأعيان (٤) الصورة الجسمية ، التى لا وجود للمادة دونها ، كما يأتى أيضا ؛ وهو دور.

وإن لم يكن داخلا فى المركب : فإما أن يكون مجردا عن المادة وعلائقها ؛ فهو العقل ، أو هو مجرد عن المادة دون علائقها / ؛ فهو النفس.

ولا جائز أن يكون نفسا : وإلا كان علة لغيره ، والنفس وإن لم تكن موجودة فى المادة ؛ فلا توجد دون وجود المادة كما يأتى تحقيقه.

فلو كانت علة لها : لزم الدور الممتنع ؛ فلم يبق إلا أن يكون عقلا : وهو ماهية مجردة عن المادة ، وعلائق المادة.

وهذا المعلول يتبعه جهات : فإنه واجب بالواجب (٥) بذاته (٥) ، وممكن بذاته ؛ ضرورة كونه معلولا ، وهو عالم بنفسه ، وبمبدئه ؛ لما تقرر فى علم واجب الوجود بنفسه ، وبغيره فى صفة العلم (٦).

وهذه الجهات تابعة لذاته ومن ذاته ، ما عدا وجوب الوجود ، فإن له من الواجب بذاته وباعتبار هذه الجهات تصدر عنه الكثرة.

فباعتبار ما له من وجوب الوجود من مبدئه : يوجب عقلا آخر.

وباعتبار علمه بمبدئه : يوجب نفس الفلك الأقصى ؛ إذ الأفلاك عندهم ذوات أنفس كما (٧) يأتى تعريفه (٧).

وباعتبار علمه بنفسه : يوجب صورة جرم الفلك الأقصى.

__________________

(١) فى أ (وأن).

(٢) فى ب (يكون داخلا فى المركب لا جائز أن يكون داخلا فى المركب إلى هاهنا).

(٣) فى ب (الأغيار المادة التى فى وجود الصورة).

(٤) فى ب (الأغيار).

(٥) فى ب (بالوجود لذاته).

(٦) انظر ل ٧٣ / أوما بعدها.

(٧) فى ب (على ما يأتى). انظر الجزء الثانى ص ١٢٢ وما بعدها.

٢٥٦

وباعتبار كونه ممكنا : يوجب مادة جرم الفلك الأقصى ، ترتيبا للأشرف على الأشرف من الجهات ، والأحسن على الأحسن منها.

وهذه الجهات : فمثلها أيضا ثابت للعقل الصادر عن المعلول الأول ، وباعتبارها أيضا يصدر عنه عقل آخر ، ونفس لجرم فلك الكواكب ، ومادته ، وصورته ؛ إذ هو أقرب الأفلاك إلى الفلك الأقصى.

ثم العقل الثالث : يوجب باعتبار جهاته ، عقلا آخر ، ونفسا ، ومادة ، وصورة لفلك زحل.

ثم العقل الرابع : يصدر عنه أيضا باعتبار جهاته عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك (١) المشترى.

ثم العقل الخامس : يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك المريخ.

ثم العقل السادس : يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك الشمس.

ثم العقل السابع : يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك الزهرة.

ثم العقل الثامن : يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك عطارد.

ثم العقل التاسع : يصدر عنه باعتبار جهاته ، عقل آخر ، ونفس ، ومادة ، وصورة لجرم فلك القمر ، الّذي حشو مقعره : الكائنات ، الفاسدات.

ثم العقل العاشر : الموجود مع جرم فلك القمر ، ويعبر عنه بالعقل الفعال. يصدر عنه باعتبار جهاته ما فى مقعر / فلك القمر من الجسم المشترك بين العناصر ، وصورها ، والنفوس الإنسانية ، بمشاركة من القوابل ، وتهيؤها للقبول ، بمعاضدة أسباب سماوية مستندة إلى إرادات قديمة للأنفس الفكلية. وما زاد على ذلك من الأعراض : كالأشكال

__________________

(١) فى ب (لفلك).

٢٥٧

والأوضاع ، والحركات ، والألوان وغير ذلك من الأعراض الخاصة بالعلويات ، والسفليات فمن (١) توابع ما أشرنا (١) إليه من المعلولات كل لما يناسبه.

فهذا حاصل معتقدهم فى هذا الباب ، حكيناه على جهة الإيجاز ، والاختصار. (٢) وطريق الرد لأهل الحق عليهم فى ذلك أن يقال (٣) : ما ذكرتموه من نفى صدور الكثرة عن واجب الوجود بذاته ، مبنى على نفى الصفات الوجودية الزائدة على ذاته ، وقد (٤) سبق إبطاله فى الصفات.

وإن سلمنا أنه واحد من كل جهة ؛ فما المانع من صدور الكثرة عنه مع اتحاده؟

وقولهم (٥) : إنه لا بد ، وأن يكون بين العلة والمعلول ، مناسبة. [إما (٦) أن يراد به أنه (٦)] لا بد وأن تكون العلة بحال يصدر عنها المعلول ، أو معنى آخر.

فإن كان الأول : فمسلم ؛ ولكن لا نسلم انتفاء هذا المعنى.

وإن كان الثانى : فلا بد من تصويره ، وإقامة الدليل عليه.

وقولهم : إن اختلاف الآثار دليل على اختلاف المؤثرات ممنوع. وحيث قلنا باختلاف المؤثرات إنما كان عند علمنا أن أحدهما غير صادر عن الآخر.

وقولكم فى الوجه الثانى : إنه يفضى إلى التناقض ، ليس كذلك ؛ فإن نقيض صدور الشيء عن الشيء ، لا صدوره عنه ، لا صدور ما ليس هو ذلك الشيء.

سلمنا أنه لا بد ، وأن تكون العلة مؤثرة فى المعلولات المختلفة باعتبار صفات زائدة على ذات العلة ؛ لكن يلزم من امتناع صدور الكثرة عن الواحد الأول ، أن يكون ما صدر عنه واحدا ، ويلزم من ذلك أن يكون ما صدر عن ذلك المعلول أيضا واحدا ، وهلم جرا ، وأن لا تقع الكثرة وهى واقعة ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (وقد أشرنا).

(٢) فى ب (والتفصيل).

(٣) انظر الشامل لإمام الحرمين ص ٢٢٩ ـ ٢٣٧. ومقاصد الفلاسفة للغزالى حيث يعرض رأى الفلاسفة فى المقالة الخامسة من ص ٢٨٨. وما بعدها ثم يثبت تهافتهم فى تهافت الفلاسفة ص ١٣٤ وما بعدها.

ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٥٦ ـ ٦٥.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ٢٠٣ ـ ٢٠٥.

(٤) فى ب (فقد). انظر ل ٥٤ / أوما بعدها.

(٥) فى ب (قولكم).

(٦) فى أ (إن أريد به أنها).

٢٥٨

وما ذكرتموه من الجهات ، والصفات التى هى مبدأ الكثرة فى المعلول الأول : إما أن تكون هى نفس ذاته ، أو زائدة عليها.

فإن كان الأول : فلا تعدد ، ولا كثرة فى غير التسمية.

وإن كان الثانى : فإما أن تكون وجودية ، أو غير وجودية.

فإن كانت وجودية : فإما أن لا تفتقر إلى علته ، أو تفتقر.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا كانت واجبة الوجود عندكم ، وخرجت عن أن تكون من الصفات ضرورة افتقار / الصفة إلى الموصوف.

كيف وأن (١) ذلك مما يفضى إلى التعدد فى نوع واجب الوجود ، ولم يقولوا به.

وإن كانت مفتقرة إلى علة (٢) : فالعلة : إما ذات الموصوف بها ، أو واجب الوجود ؛ لأن ما عدا ذلك من توابعها ؛ فلا يكون علة لها.

لا جائز أن تكون هى ذات الموصوف بها : لأنه بسيط قابل لها. والقابل عندكم ليس هو الفاعل ، ولأنه يلزم منه أن تكون ذات المعلول الأول قد صدر عنها أكثر من أربعة أشياء ، ولم يقولوا به.

وإن كان علتها هو ذات واجب الوجود : فقد صدرت عنه الكثرة ؛ ولم يقولوا به.

هذا كله : إن كانت الجهات التى هى مبدأ الكثرة وجودية ، وإن كانت غير وجودية : كالسلوب ، والإضافات ؛ فلا يمكن صدور الكثرة عنها ؛ لأن ما ليس بوجود (٣) ، لا يكون سببا للوجود كما تقدم. وإن كانت سببا للوجود : فلا مانع من صدور الكثرة عن واجب الوجود باعتبارها ؛ لاتصافه بالصفات السلبية والإضافية ، كما ذكرتموه.

ثم وإن كان الأمر على ما قيل ؛ فالمعلول الأول أيضا متصف بصفات أخرى إضافية وسلبية ، ككونه مبدأ لغيره ، وعالما بمعلوله ، ومجردا عن المادة ، وعلائقها ؛ فلم لا كانت هذه الجهات أيضا مصدرا للكثرة؟ أو أن يصدر عنها ، ويسببها زيادة على ما صدر عن غيرها؟

__________________

(١) فى ب (فإن ذلك).

(٢) فى ب (العلة).

(٣) فى ب (بموجود).

٢٥٩

وإن سلم انحصار الجهات المؤثرة فيما ذكرتموه : فلم كانت العقول المعلولة منحصرة فى عشرة؟ والأفلاك ، ونفوسها فى تسعة؟ ولم لا كانت أكثر من ذلك ، أو أقل؟

وإن سلم لزوم الحصر فيما ذكرتموه : فلم كان اختصاص كل عقل بما صدر عنه ، أو من غيره من العقول؟ ولم كان العقل الفعال بما صدر عنه أولى من غيره؟ وما صدر عن غيره أولى به من العقل الفعال؟.

فلئن قلتم : إن العقول وإن اتحدت اسما ، فمختلفة نوعا ، فلذلك كان اختلاف تأثيرها ، فتحتاجون إلى بيان الاختلاف بالنوعية.

ثم إذا قيل ذلك فى العقول ؛ فما المانع من أن يقال مثله فى النفوس الفلكية ، والأجرام الفلكية؟ وأن كل نفس معلولة لنفس ، وأن كل فلك معلول لفلك ، وأن الأنفس الإنسانية صادرة عن الأنفس الفلكية ، والأجسام العنصرية صادرة عن الأجسام الفلكية ؛ بل أولى ؛ لأنكم راعيتم المناسبة بين العلة ، والمعلول.

ولا يخفى أن المناسبة بين النفوس / والنفوس ، والأجسام ، والأجسام ؛ أقرب منها بين العقول والنفوس ، والعقول والأجرام.

فهذه كلها إلزامات لازمة ، وإشكالات مشكلة ، لا جواب عنها ، إلا بمحض التحكم الّذي تأباه الفطر المستقيمة ، وتنفر عن مثله العقول السليمة.

وأما إبطال قولهم بالعقول ، والنفوس الفلكية : فسيأتى فى (١) موضعه إن شاء الله ـ تعالى.

__________________

(١) انظر الجزء الثانى ص ١١٤ وما بعدها.

٢٦٠