أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٣١

والقبح أعم من ورود الشرع كما عرف ، ولا يلزم من تحقيق معنى الحسن ، والقبح بغير (١) ورود الشرع بالمنع والإطلاق أن يكون ذاتيا للأفعال.

وعن الشبهة السادسة : أنه إذا كان حسن الطاعة ؛ بمعنى ورود الشرع بالأمر بها ، وقبح المعصية ؛ بمعنى ورود النهى عنها ؛ فلا يمتنع عندنا (٢) الأمر (٢) بما كان معصية وقبيحا ؛ بسبب ورود النهى نحوه ، وكذا لا يمتنع أن يرد النهى بما كان طاعة وحسنا بسبب ورود الأمر به ، ويصير ما كان حسنا قبيحا ، وما كان قبيحا حسنا بهذا الاعتبار.

وعن (الشبهة) (٣) السابعة : من وجهين :

الأول : أنا لا ندعى أن الحسن ، والقبح لا يكون إلا بورود الشرع كما قررناه. وعند ذلك ؛ فلا (٤) يلزم انتفاء الحسن ، والقبح قبل ورود الشرع.

الثانى : وإن كان لا معنى للحسن (٥) إلا ما حسنه الشرع. ولا معنى للقبيح إلا ما قبحه الشرع ؛ فلا نسلم أنه يلزم من انتفاء القبح قبل ورود الشرع ؛ جواز إظهار المعجزة على يد الكاذب فى الرسالة ، اللهم إلا أن يكون مدرك امتناع ذلك القبح ؛ وليس كذلك.

وهذا هو الجوب عن (٦) الشبهة الثامنة ، والتاسعة :

والجواب عن (٦) الشبهة العاشرة :

أنه وإن امتنع الحكم بالحسن ، والقبح على المصالح ؛ والمفاسد / باعتبار ورود الشرع قبل وروده ؛ فلا يمتنع ذلك باعتبار آخر كما سلف ؛ إذا أمكن تعليل الفعل بما فيه من المصلحة الحسنة باعتبار موافقتها للغرض ، وبما فيه من المفسدة القبيحة باعتبار مخالفتها للغرض.

وعلى هذا فالقياس لا يكون منقطعا.

__________________

(١) فى ب (من غير).

(٢) فى ب (الأمر عندنا).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (لا يلزم).

(٥) فى ب (للحسن والقبح).

(٦) من أول (الشبهة الثامنة ...) ساقط من أ.

١٤١

سلمنا حسن الأفعال وقبحها لذواتها ؛ ولكن لا نسلم أن حسن الحسن ، وقبح القبيح لوجه هو فى نفسه علته كما هو مذهب المتأخرين من المعتزلة.

وبيان امتناعه من أربعة أوجه :

الأول : أن ما اختص بالحسن (١) ، والقبيح من الوجه ، والصفة جائز أن يكون مجهولا غير معلوم عندهم. ولو جاز اختصاص أحد الفعلين المتماثلين بوجه مجهول يوجب تقبيحه ، أو تحسينه ؛ فما المانع من اختصاص أحد المتماثلين بصفة نفسية غير معلومة ؛ وذلك مما لا ينفى معه تعين التماثل بين شيئين أصلا.

الثانى : أنه لا مانع من اختصاص الفعل عند هذا القائل بوجه يوجب حسنه ، وبوجه يوجب قبحه.

ولهذا قال فى حدّ الحسن : ما اختص بوجه من وجوه الحسن مع عروه عن وجوه القبح. وكذلك القبيح : ما اختص بوجه من وجوه القبح مع عروه عن وجوه الحسن.

وعند ذلك : فإما أن يقال : يكون الفعل الواحد حسنا ، وقبيحا ، وليس ذلك من أصل هذا القائل.

وإما أن يقال بأنه لا حسن ، ولا قبيح ؛ فيلزم انتفاء الحسن ، والقبح مع وجود علته ؛ فلا يكون ما قيل إنه علة ، علة ؛ لأن شرط العلة ، الاطراد كما يأتى ؛ وهو (٢) خلاف الفرض.

وإن قيل : بثبوت حكم أحد الوجهين دون الآخر ؛ فليس هو أولى من العكس على أنه مخالف لمذهب هذا القائل.

الثالث : هو أن من مذهب الجبائى القائل بهذا القول : انتفاء الأحوال ، ومع القول بانتفاء الأحوال يمتنع التعليل.

الرابع : هو أن قبح الكذب عندهم معلل بخصوص الكذب ، وقبح الظلم معلل بخصوص الظلم. وكذلك حسن الإيمان ، معلل بخصوص الإيمان ، وحسن الصدق معلل بخصوص الصدق.

__________________

(١) فى ب (به الحسن).

(٢) فى ب (وهذا).

١٤٢

ولهذا قالوا : إنا إذا علمنا جهة الكذب ؛ علمنا القبح ؛ وإن جهلنا ما عداه. وكذلك فى باقى الصور والقبح ، فحكم واحد ، وكذلك الحسن. وقد بان أن تعليل الحكم المتحد بعلل مختلفة ممتنع فيما تقدم ، وسيأتى بيانه أيضا بزيادة (١) شرح (١) وإيضاح ، فى العلل ، والمعلولات (٢).

وإن سلمنا أن حسن الحسن ، وقبح القبيح معلل / بوجود (٣) عائد إلى الفعل (٣) ؛ ولكن لا نسلم أن من فعل فعلا حسنا ، واستحق عليه الثواب والثناء ، أو فعل فعلا قبيحا ، واستحق عليه الذم والعقاب ، لا بد وأن يكون ذلك لصفة عائدة إلى نفس المحسن والمسىء ، كما هو مذهب القائلين بالتحسين والتقبيح العقلى ؛ كما سبق إيضاحه.

وبيانه : أن تعليل استحقاق المحسن ؛ للثواب ، والمسىء ؛ للوم (٤) والعقاب : إما أن يكون القائل به قائلا بالأحوال ، أو نفيها.

فإن كان قائلا بنفى الأحوال : فلا حكم ، ولا علة.

وإن كان قائلا بالأحوال : فالوصف الموجب لاستحقاق الثواب ، أو العقاب بفعل الحسن ، والقبيح : إما أن يكون معلوما ، أو مجهولا.

لا جائز أن يقال بكونه غير معلوم : لما سبق فى إبطال تعليل الحسن والقبيح ، بوجوه عائدة على الفعل غير معلومة.

وإن كان معلوما : فإما أن يكون هو نفس فعل الإحسان والإساءة ، أو كون الفاعل عالما بقبح ما يفعله ومريدا له ، أو عالما بحسن ما يفعله ومريدا له ، أو معنى آخر.

فإن كان الأول : فالإحسان والإساءة ، من صفات الأفعال ، والأفعال لا توجب للفاعل حالا. وأقرب دليل يدل عليه أن الفعل لا معنى له إلا وجود الأثر عن المؤثر ، ووجود الأثر ليس من صفات المؤثر ؛ فلا يكون موجبا لحكم فى المؤثر. كما يأتى تقريره فى العلل ، والمعلولات (٥).

__________________

(١) فى ب (لشرح).

(٢) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثالث ـ الأصل الثانى ل ١١٧ / ب وما بعدها.

(٣) فى ب (بوجوه عائدة إلى الأفعال).

(٤) فى ب (للذم).

(٥) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثالث ـ الأصل الثانى : فى تحقيق معنى العلل والمعلولات ل ١١٧ / ب وما بعدها.

١٤٣

وأيضا : فإن الفعل حادث : فلو أوجب حكما فى الفاعل ؛ لتجدد للبارى ـ تعالى ـ من أفعاله أحكام وصفات قائمة بذاته لم تكن قبل وجود الفعل ؛ ويلزم من ذلك أن تكون ذات الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال على ما سبق (١).

وأيضا : فإن ترك الواجب إساءة. وهو نفى محض ، والنفى لا يكون علة للحكم الخالى. وإن كان الوصف هو كون الفاعل عالما بالحسن ، أو القبح مع القصد والإرادة ؛ فهو ممتنع على أصلهم أيضا.

وبيانه : أن (٢) من كان عالما بضرر إنسان ، وقصد إيجاده ؛ فيجب أن يكون مسيئا ، مستحقا للوم والعقاب ؛ على أصلهم. وكذلك من علم مصلحة إنسان وقصد إيجادها ؛ فهو محسن ، ومستحق للثناء والمدح.

وعلى هذا : فيلزم أن يكون محسنا ، ومسيئا عند اجتماع الأمرين ؛ لضرورة وجود حقيقة الإحسان والإساءة على ما ذكروه ، ومع ذلك لو كان النفع المتأخر عن العذر السابق مرجوحا ؛ فإنه لا يكون محسنا عندهم. وكذلك لا يكون مسيئا عندنا إذا كان الأمر / بالعكس مع أن حقيقة الإحسان موجودة ، وما سبق من الإساءة غير مخلة بالإحسان اللاحق. وكذلك بالعكس.

وإن كان ما به التعليل شيئا آخر ؛ فلا بد من تصويره ، وإقامة الدليل عليه.

وبما استقصيناه إلى هاهنا تمام مسألة التحسين ، والتقبيح.

__________________

(١) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٢) فى ب (أن كل من).

١٤٤

«المسألة الثانية»

فى أنه لا حكم قبل ورود السمع

مذهب أهل الحق من الأشاعرة ، وغيرهم : أن الأحكام بأجمعها سمعية ، وأنه لا حكم قبل ورود السمع.

وذهب المعتزلة ـ بناء على فاسد أصولهم فى التحسين ، والتقبيح عقلا ـ : إلى أن الأفعال منقسمة إلى حسنة ، وقبيحة كما عرف.

فأما الحسن : فقالوا : ينقسم إلى ما يقضى العقل فيه باستواء فعله وتركه فى النفع ، وانتفاء الضرر عنه : ويسمى مباحا. وربما قال بعضهم إن المباح ليس حسنا ـ ، وإلى ما فعله أولى من تركه.

ثم ما فعله أولى من تركه : منه ما يلحق للذم بتركه : فيسمى واجبا. ومنه ما لا يلحق الذم بتركه : فيسمى مندوبا.

ثم قسموا الواجب العقلى فقالوا : لا يخلو : إما أن يكون وجوبه لمعنى فى نفسه ، أو لا لمعنى فى نفسه ؛ بل لغيره.

فإن كان الأول : فهو كشكر (١) المنعم ، والإيمان ، والعدل ، والإنصاف ، ونحو ذلك.

وإن كان الثانى : فمنه ما يستقل العقل بدركه : كوجوب النظر. ومنه ما لا يستقل العقل بدركه دون السمع : كوجوب العبادات من جهة ما فيها من اللطف المانع من الفحشاء.

واختلفوا فى وجوب الفعل ، الّذي يلزم منه ترك القبيح ، من حيث هو ترك للقبيح (٢).

فقال بعضهم : إن اتحد الترك كان واجبا ، وإن تعدد لا يكون الواحد من التروك واجبا ، وإلا كان المباح الّذي يلزم منه ترك الحرام واجبا.

وقال الكعبى : ما كان تركا للحرام ؛ فهو واجب. من حيث هو ترك [الحرام] (٣) وإن كان مباحا.

واختلفوا أيضا فى عدم فعل القبيح ، هل هو واجب ، أم لا؟

__________________

(١) فى ب (شكر).

(٢) فى ب (القبيح).

(٣) فى أ (للواجب).

١٤٥

واتفقوا على أنه يجب على (١) العاقل (١) دفع الضرر عن نفسه عقلا ، وعن غيره شرعا.

وأما القبيح :

فمنقسم أيضا : إلى ما يلحق الذم بفعله : ويسمى حراما. ثم منه ما هو حرام لعينه : كالكذب ، والظلم. ومنه ما هو حرام لغيره : كالفعل الّذي يلزم منه ترك واجب.

ثم اختلفوا : فيما لم يقض العقل فيه بحسن ، ولا قبح.

فمنهم من قال : إنه قبل ورود الشرع على الحظر.

ومنهم / من قال : هو على الإباحة.

ومنهم من قال : هو على الوقف.

وقد احتجّ الأصحاب بالنقل ، والعقل :

أما النقل : فقوله ـ تعالى ـ : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (٢) ووجه الاحتجاج به : أنه أمن من العذاب قبل بعثة الرسل ؛ فدل على أنه لا وجوب ، ولا حرمة قبل بعثة الرسل ، من حيث أن الواجب : ما لا يؤمن من العذاب على تركه. والحرام : ما لا يؤمن العذاب على فعله. وأن العقل غير موجب ، ولا محرم. وإلا لقال : وما كنا معذبين حتى نرزقهم (٣) عقولا (٣).

فإن قيل : ليس فى الآية ما يدل على ثبوت الأحكام بالشرع.

أما قبل ورود الشرع : فلعدم وروده.

وأما بعد ورود (٤) الشرع (٤) : فمسكوت عنه فى الآية ، والمسكوت عنه ، لا تكون الآية دليلا على ثبوت حكم فيه ، أو نفيه عنه إلا بطريق المفهوم ، ولا نسلم كونه حجة.

__________________

(١) فى ب (للعاقل).

(٢) سورة الإسراء ١٧ / ١٥.

(٣) فى ب (نبعث عقلا).

(٤) فى ب (وروده).

١٤٦

سلمنا دلالة الآية على لزوم العذاب بعد بعثة الرسل ، ونفيه قبل البعثة ؛ ولكن ليس فيها ما يدل على لزوم العذاب بالبعثة ، وإن كان لازما عندها. وهذا كما يقال : لا أكرمك حتى يجيء رأس الشهر ؛ فإنه لا يدل على أن الموجب للإكرام مجىء رأس الشهر ، وإن كان الإكرام متحققا عنده.

سلمنا لزوم العذاب بالبعثة ؛ ولكن لا نسلم أن لزوم العذاب من لوازم الوجوب ، والحظر.

ولهذا : فإنه قد لا يعذب من ترك الواجب ، وفعل (١) المحرم (١) بناء على عفو ، أو شفاعة.

وإذا لم يكن لازما : لم يلزم من وجوده ولا نفيه وجود الحكم ، ولا نفيه.

سلمنا ملازمة العذاب للوجوب ، والحظر ؛ ولكن بعد ورود الشرع ، أو قبله. الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء العذاب قبل ورود الشرع ، انتفاء الوجوب والحظر قبله.

سلمنا أنه من لوازم الوجوب والحظر ؛ ولكن الوجوب والحظر المستفادان من الشرع ، أو العقل. الأول ؛ مسلم. والثانى ؛ ممنوع.

وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء الوجوب والحظر (المستندين) (٢) إلى الشرع قبل ورود الشرع انتفاء الحظر ، والوجوب مطلقا.

سلمنا أنه من لوازم الوجوب ، والحظر مطلقا ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من إسناد لازم الحكم ، إلى الشرع ، إسناد الملزوم إلى الشرع.

سلمنا أنه يلزم من ذلك إسناد الوجوب ، والحظر إلى الشرع ، وأنه لا تحقق له قبل [ورود] (٣) الشرع ؛ ولكن ليس فيه دلالة على امتناع ما عدا الوجوب والحظر قبل الشرع. وذلك كالمندوب ، والمباح ، والصحة / والبطلان ، وغير ذلك من الأحكام.

__________________

(١) فى ب (أو فعل القبيح).

(٢) فى أ (المستند).

(٣) ساقط من أ.

١٤٧

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على حصر مدارك الأحكام فى الشرع ؛ ولكنه معارض بما يدل على امتناعه ؛ وذلك أنا لو حصرنا مدارك الأحكام فى الشرع ؛ لأفضى إلى إفحام الرسل ، كما أسلفناه فى وجوب النظر (١).

والجواب عن السؤال الأول : أن المقصود من الآية إنما هو انتفاء الأحكام قبل ورود الشرع لا بعده ؛ لوقوع الاتفاق عليه ، ووقوع الخلاف قبله (٢) ، وبه جواب السؤال الثانى أيضا.

وعن الثالث : أن وقوع العذاب بالفعل ، وإن لم يكن لازما للوجوب والحظر ملازمة عدم الأمن من العذاب ـ كما تقدم ـ واللازم قبل ورود الشرع منتف ـ على ما نطقت به الآية ـ ؛ فلا ملزوم.

وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الرابع ، والخامس.

والجواب عن السادس : أنه إذا سلم لزوم عدم الأمن من العذاب للوجوب والحظر ، وسلم انتفاء اللازم قبل ورود الشرع ؛ فيلزمه انتفاء الملزوم ؛ وهو المطلوب.

وعن السابع : أنه ليس المقصود من دلالة الآية غير انتفاء الوجوب والحظر ، وما عداه فإنما يثبته بدليل آخر.

وعن الثامن : ما سبق فى وجوب النظر (٣).

ومما (٤) تمسك (٤) به من جهة النقل أيضا : قوله ـ تعالى ـ : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٥).

ووجه الاحتجاج به أنه نفى احتجاجهم على المؤاخذة بترك الواجبات ، وارتكاب المحرمات ، بعد بعثة الرسل. وأثبت بمفهومه الحجة قبل البعثة ؛ وذلك يدل على نفى

__________________

(١) انظر ل ٢٦ / ب وما بعدها. الإشكال العاشر.

(٢) فى ب (فيما قبله).

(٣) انظر ل ٢٩ / أوما بعدها. الرد على الإشكال العاشر.

(٤) فى ب (وما يتمسك).

(٥) سورة النساء ٤ / ١٦٥.

١٤٨

الموجب ، والمحرم قبل البعثة ، وعلى إثباته بعد (١) البعثة (١). غير أن دلالته دون دلالة الأول ، لكونه مفهوما ، ودلالة الأول منطوق بها ، ولا يخفى وجه الكلام عليه نفيا ، وإثباتا.

وأما المسلك العقلى :

فما بيناه فى وجوب النظر من امتناع الإيجاب والتحريم ، بالعقل ، وقد استقصيناه تقريرا ، واعتراضا ، وانفصالا ؛ فعليك بنقله إلى هاهنا (٢) ؛ غير أنه مختص بنفى الوجوب ، والتحريم.

وأما دليل إبطال (٣) الإباحة : فهو أن المباح : إما أن يراد به ما لا حرج فى فعله ، ولا تركه ، وإما أن يراد به ما خير فيه بين الفعل ، والترك ، أو معنى آخر.

فإن كان الأول : فلا ننكر كون الأفعال قبل ورود الشرع مباحة بهذا التفسير. غير أن النزاع واقع فى التسمية ، ولهذا فإن أفعال البارى ـ تعالى ـ لا حرج عليه فى فعلها ، ولا تركها ، وكذلك / أفعال البهائم ، والصبيان ، ولا توصف بكونها مباحة لفظا.

وإن كان الثانى : فالمخيّر بالإجماع لا يخرج عن الشرع والعقل ، ولا شرع قبل ورود الشرع. والعقل : فإنما يخير عندهم فيما لم يقض العقل فيه بحسن ولا قبح ، وإلا فلو كان الفعل حسنا ؛ لكان واجبا ، أو مندوبا عندهم. ولو كان قبيحا ؛ لكان حراما ، أو مكروها ؛ كما سبق من تفصيل مذهبهم.

وعلى هذا : فتخيير العقل ، فرع تحسين (٤) العقل (٤) وتقبيحه ؛ وقد أبطلناه (٥).

ثم يلزم عليه شبهة القائلين بالحظر ، وهو أن العالم ، وما فيه ملك لله ـ تعالى ـ وأن التصرف فى ملك الغير بغير إذنه قبيح. والقبيح لا يكون مخيرا فيه ، ولا يلزم من عدم

__________________

(١) فى ب (بعدها).

(٢) انظر الفصل السابع ل ٢٤ / ب ـ ل ٢٩ / ب.

(٣) فى ب (بطلان).

(٤) فى ب (تحسينه).

(٥) انظر ل ١٧٥ / أوما بعدها.

١٤٩

ورود النهى من الشرع انتفاء القبح. وإلا للزم (١) من انتفاء التخيير من الشرع ، انتفاء التساوى ؛ وليس أحد الأمرين أولى من الآخر.

وإن كان الثالث : فلا بد من تصويره ، وإقامة الدليل عليه.

فإن قيل : المباح : هو المأذون فى فعله ، وقد ورد دليل الإذن ، وإن لم ترد صورة الإذن.

وبيانه : هو أن الله خلق الطعوم فى المأكولات ، والذوق فينا ، وعرفنا بالأدلة العقلية أنها نافعة لنا غير مضرة ، مع تمكينه لنا منها بخلق قدرنا عليها. [وهو (٢) دليل] (٢) الإذن منه لنا فى الأكل ؛ وذلك كما لو قدم المالك (٣) الطعام بين يدى إنسان ، وعرفه أنه نافع له غير مضر ، ومكنه منه ؛ فإنه يكون إذنا منه له فى الأكل عرفا.

قلنا : فإذا كان مأذونا فيه من جهة الشرع ؛ فإباحته من جهة الشرع لا من جهة العقل ؛ وهو المطلوب.

وإن كان ممتنعا : ففيه تسليم المطلوب.

وأما القائلون بالوقف : فإن أرادوا به : أنه الحكم على الأفعال بالوجوب ، والحظر ، والإباحة ؛ موقوف على ورود الشرع ؛ فهو المطلوب.

وإن أرادوا به التوقف فى الحكم للتردد بين دليل الوجوب ، والحظر والإباحة ؛ فخطأ ؛ لاستحالة دليل هذه الأحكام قبل ورود الشرع كما تقدم.

__________________

(١) فى ب (لزم).

(٢) فى أ (ودليل).

(٣) فى ب (الملك).

١٥٠

«المسألة الثالثة»

فى أنه لا يجب رعاية الغرض ، والمقصود فى أفعال الله ـ تعالى ـ

وأنه لا يجب عليه شيء أصلا

مذهب أهل الحق (١) : أن رعاية الحكمة (٢) ، والغرض (٢) فى أفعال الله ـ تعالى ـ غير واجب ، وأنه لا يجب عليه فعل شيء ، ولا تركه.

ووافقهم على ذلك طوائف الإلهين ، وجهابذة الحكماء المتقدمين (٣).

وأجمعت المعتزلة (٤) : / على أن البارى ـ تعالى ـ لا يخلو فعله عن غرض (٥) ومقصود وصلاح للخلق ؛ إذ هو يتعالى ، ويتقدس عن الأغراض ، وعن الضرر ، والانتفاع ، وهو واجب فى فعله ؛ نفيا للعبث عنه فى إبداعه ، وصنعه.

ثم اتفقوا بناء على وجوب رعاية الصلاح فى فعله ، على أن وجوب الثواب على الطاعات والآلام الغير مستحقة كما فى أفعال البهائم ، والصبيان. ووجوب العقاب ، وإحباط العمل الصالح على المعاصى ، وإحباط الصغائر ، عند اجتناب الكبائر ، ووجوب قبول التوبة ، والإرشاد بعد الخلق ، وإكمال العقل إلى وجوه المصالح بالإقدار عليها ، وإقامة الحجج الدالة عليها.

__________________

(١) لتوضيح مذهب أهل الحق وردهم على خصومهم فى هذه المسألة : انظر اللمع للأشعرى ص ١١٥ ـ ١٢٢ والإبانة له أيضا ص ٤٩ والتمهيد للباقلانى ص ٥٠ وأصول الدين للبغدادى ص ٨٢ ، ٨٣ والإرشاد لإمام الحرمين ص ٢٦٨ ـ ٢٧٢ والاقتصاد فى الاعتقاد للغزالى ص ٨١ ، ٨٢ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٣٩٧ ـ ٤١٦ والمحصل للرازى ص ١٤٨.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام ص ٢٢٤.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي : انظر شرح طوالع الأنوار ص ١٩٦ ـ ١٩٧ ، وشرح المواقف ٢ / ٤٠١ ـ ٤٠٣ وشرح المقاصد ٢ / ١١٣ ـ ١١٧.

(٢) فى ب (الغرض والحكمة).

(٣) انظر الإشارات لابن سينا ٣ / ١٤٧ ـ ١٥٩ والنجاة له أيضا ٢٨٤ ـ ٢٩١.

ومن الدراسات الحديثة الجانب الإلهي للبهى ص ١٨١ وما بعدها.

(٤) لتوضيح رأى المعتزلة فى هذه المسألة. انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ٦ / ٩ ـ ١٢٦ ، ١١ / ٥٨ ـ ١٣٣ ، ١٤ / ٧ ـ ١٨٠ وشرح الأصول الخمسة له ص ٣٠١ وما بعدها والمحيط بالتكليف ص ٢٣٠ وما بعدها.

(٥) فى ب (ضرر).

١٥١

ثم التزموا على فاسد أصولهم : أن ما ينال العبد فى الحال ، أو المآل من الآلام ، والأوجاع (١) ، والضر (٢) ، والشر ؛ فهو الصالح له ، ولم يتحاشوا جحد الضرورة ، ومكابرة العقل فى أن (٣) خلود أهل النار ، فى النار ؛ هو الصالح لهم ، والأنفع لنفوسهم.

وما فارق به البغداديون البصريين القول بوجوب ابتداء خلق الخلق ، وتهيئة أسباب التكليف (٤) من إكمال العقل ، واستعداد آلات التكليف. والبصريون لا يرون ذلك واجبا ؛ بل ابتداؤه تفضل من الله ـ تعالى ـ.

وأما الأصلح : فهم فيه مختلفون.

فمنهم من أوجبه : ومنهم من نفاه ؛ بناء على أنه ما من صالح ، إلا وفوقه ما هو أصلح منه ، إلى غير النهاية. ومنهم من قال بوجوب رعاية الأصلح : فى الدين دون الدنيا.

وعند ذلك : فلا بد من تحقيق مسالك أهل الحق. ثم التنبيه على شبه أهل الضلال فى معرض الاعتراض ، والانفصال.

وقد احتج الأصحاب : على امتناع وجوب رعاية الحكمة فى أفعال الله ـ تعالى ـ بمسالك.

المسلك الأول :

أنه لو كان فعل الله ـ تعالى ـ لا يخلو عن حكمة وغرض ؛ فذلك الغرض إما قديم ، أو حادث.

فإن كان قديما : فإما أن يلزم قدم الفعل لقدم غرضه ، أو لا يلزم.

فإن لزم فهو محال. على ما سنبينه من حدوث أفعاله.

وإن لم يلزم قدم الفعل لقدم غرضه ؛ فالغرض غير حاصل من ذلك الفعل ؛ لحصوله دونه. وما لا يكون الغرض حاصلا من فعله ، فلا يكون فى فعله غرض ؛ وهو المطلوب.

__________________

(١) فى ب (الأوجاع والآلام).

(٢) فى ب (والضرر).

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (التكاليف).

١٥٢

وإن كان الغرض حادثا بحدوث الفعل : فإما أن يفتقر إلى فاعل ، أو لا يفتقر إلى فاعل.

فإن لم / يفتقر إلى فاعل : لزم حدوث حادث من غير فاعل ؛ وهو محال لما فيه من سد باب إثبات واجب الوجود.

وإن افتقر إلى فاعل : فذلك الفاعل إما أن يكون هو الله ـ تعالى ـ ، أو غيره.

لا جائز أن يكون غيره : لما سنبينه من أنه لا خالق غير الله ـ تعالى ـ

وإن كان هو الله ـ تعالى ـ فإما أن يكون له أيضا فى فعله (١) غرض ، أو لا غرض له فى (٢) فعله (٢).

فإن كان الأول : فالكلام فيه ، كالكلام فى الأول ؛ ولزم (٣) التسلسل.

وإن كان الثانى : فقد خلا فعله عن الغرض ؛ وهو المطلوب.

فإن قيل : فعله لذلك الغرض ، لغرض هو نفسه ، فما خلا عن غرض من غير تسلسل.

قلنا : فيلزم مثله فى كل مفعول مخلوق ؛ وهو أن يقال : الغرض منه هو نفسه ، من غير حاجة إلى غرض آخر غيره ؛ وهو المطلوب.

المسلك الثانى :

أنه لو كان فعله لغرض ؛ فذلك الغرض : إما أن يرجع إلى البارى ـ تعالى ـ أو إلى المخلوق.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ البارى ـ تعالى ـ يتقدس عن الأغراض ، والضرر ، والانتفاع.

وإن عاد إلى المخلوق : فقد قيل فى إبطاله لا يخلو : إما أن يكون حصول ذلك الغرض بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ أولى من عدم الحصول ، أو العدم أولى ، أو أن الحصول ، وعدم الحصول متساويان بالنسبة إليه.

__________________

(١) فى ب (فعل).

(٢) فى ب (فيه).

(٣) فى ب (ويلزم منه).

١٥٣

فإن كان الأول : فهو ناقص بذاته مستكمل بغيره ؛ وهو محال.

وبه يمتنع القسم الثانى. كيف : ويلزم منه عدم الحصول ، لا الحصول.

وإن كان الثالث : فليس القول بالحصول أولى ، من عدمه.

وهو فاسد. فإنه وإن كان حصول الغرض ، وعدم حصوله بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ سواء ؛ فلا يمتنع الفعل ، لعود الغرض إلى المخلوق. وإن أورد التقسيم أيضا على عود الغرض إلى المخلوق. وقيل إما أن يكون حصوله وعدم حصوله بالنسبة إلى الله ـ تعالى ـ سواء ، أو أن أحدهما أولى ، فالجواب الجواب.

وإنما الطريق فى إبطال عودة الغرض إلى المخلوق من وجهين :

الأول : هو أنا لو فرضنا ثلاثة أشخاص : مات أحدهم مسلما قبل البلوغ ، وبلغ الآخران ، ومات أحدهما مسلما ، والآخر كافرا. فمن مقتضى أصول الخصوم (١) على ما استدعاه التعديل أن تكون رتبة المسلم البالغ (٢) فوق (٢) رتبة الصبى المسلم ؛ لكونه أطاع بالغا ، وتخليد الكافر فى الجحيم لكفره.

فلو قال الصبى : يا رب العالمين. لم حرمتنى هذه الرتبة العلية التى أعطيتها للمسلم البالغ ، ولم تمنعه إياها. فلو قدر الجواب : لأنه أطاع بالغا. وقال (٣) الصبى : / فلم لا أحييتني إلى أن أبلغ ، وأطيع ؛ فتحصل لى هذه الرتبة. فلو قدر الجواب : لأنى علمت أنك لو بلغت لعصيتنى ؛ فكان اخترامك هو الأنفع لك ، وانحطاطك إلى هذه الرتبة أصلح لنفسك ؛ فللبالغ الكافر أن يقول : فلم لا أمتنى قبل البلوغ لعلمك بكفرى بتقدير البلوغ ، فلا يبقى لموجب الغرض جواب.

وهذا قاطع فى نفى لزوم الغرض ، لا غبار عليه.

الوجه الثانى : أنا نعلم علما ضروريا أن خلود أهل النار فى النار ، من فعل الله ـ تعالى ـ ونعلم أنه لا فائدة لهم ، ولا غرض فى خلودهم فى النار ، ولا لغيرهم فيه ؛ بل

__________________

(١) فى ب (الخصم).

(٢) فى ب (البالغ أن يكون فوق).

(٣) فى ب (فقد قال).

١٥٤

والعاقل إذا فتش علم أيضا ، أنه لا فائدة للجمادات والعناصر ، والمعدنيات ، وغيرها من أنواع النبات فى وجودها ؛ إذ لا تجد بذلك لذة ، ولا ألما. ولا فرق بين كونها ، ولا كونها (١). ولا غرض فى إماتة الأنبياء ، وإنظار إبليس ، وتكليف نوع الإنسان مع ما فيه من الآلام والمشاق ولزوم الحرج ؛ بل وكل عاقل أيضا راجع نفسه ، وأمعن فى النظر بين الوجود ، ولا وجود ؛ فإنه يود أنه لم يوجد ؛ لما يعترضه من الآفات الدنيوية ، والأخروية.

ولهذا نقل عن المقتدى بهم من الأولين التكره لذلك ، والتبرم به حتى قال : يا ليتنى كنت نسيا منسيا ، وقال آخر : يا ليت أمى لم تلدنى ، وقال آخر : يا ليتنى لم أك شيئا. إلى غير ذلك من الأقوال الدالة على كراهة الوجود. وما فيه الغرض ، والصلاح للعبد ؛ لا يكون مكروها له.

فإن قيل : لو لم يكن فعل البارى ـ تعالى ـ لغرض ومقصود ، مع أن الدليل قد دل على كونه حكيما فى فعله ، عالما بصنعه ؛ لكان عابثا ، والعبث قبيح ، والقبيح لا يصدر من الحكيم المطلق. والخير المحض إذا كان عالما بقبحه ، وعالما باستغنائه عنه (٢) ؛ فإذن لا بد له فى فعله من غرض يقصده ، وحكمة يطلبها من فعله ؛ نفيا للتقصير (٣) ، والعبث عنه.

ولا ننكر امتناع عود الغرض من فعله إليه ؛ ولكن ما المانع من عوده إلى المخلوق؟

وما ذكرتموه فغاية ما فيه عدم العلم بوجود الغرض فيما فرضتموه من الصور ، وليس فيه ما يدل على عدم الغرض فى نفسه ؛ فإنه (٤) لا يلزم من عدم العلم بالشيء. العلم بعدم الشيء ، ولا عدمه فى نفسه.

كيف : وأنه ممكن أن يكون خلود أهل النار فى النار ، هو الأنفع لهم ؛ لعلم البارى ـ تعالى ـ بهم. أنهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٥) كما أخبر به الكتاب العزيز ، ويلزم من ذلك زيادة العقاب فى حقهم / مضافا إلى ما كان مستحقا عليهم.

ولا يخفى أن التزام شر قليل ، دفعا للشر الكثير ، أولى من التزام الشر الكثير.

__________________

(١) فى ب (وعدم).

(٢) فى ب (عنها).

(٣) فى ب (للنقص).

(٤) فى ب (إذ).

(٥) سورة الأنعام ٦ / ٢٨.

١٥٥

وأمكن أن تكون (١) الغاية ما فى (١) ذلك نفى الخلف عن خبر البارى (٢) ـ تعالى عنهم بالخلود ، أو الجهل عنه. حيث تعلق علمه بذلك.

وأما الفائدة فى خلق الجمادات ، وغيرها [فالعناية] (٣) بنوع الإنسان ؛ لأجل انتظام أحواله فى مهماته وأفعاله ، والاستدلال بما فى طيها من الآيات ، والدلائل الباهرات على وجود واجب الوجود ، ووحدانية المعبود ؛ ليعبد ويعظم ؛ فيستحق على عبادته وتعظيمه الثواب الجزيل ، وبالإعراض عنها وعن النظر فيها العذاب الأليم ، وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام حكاية عن الله ـ تعالى ـ : «كنت كنزا لم أعرف فخلقت خلقا لأعرف به» (٤). وقال ـ تعالى ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥). وقد قال عليه‌السلام لعائشة رضى الله عنها عند نزول هذه الآية ـ : «قد نزل عليّ اللّيلة آية ويل لمن لاكها بين لحييه ولا يتفكّر فيها» (٦) ثم قرأ هذه الآية وقال ـ تعالى ـ (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٧). وقال إخبارا عن المؤمنين فى معرض الثناء والمدح لهم : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٨). وقال (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩). إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن خلق مثل هذه الأشياء إنما هو لغرض الاستدلال بها عليه ؛ ليعبد ، ويعظم ؛ تحصيلا للثواب الجزيل ؛ كما سبق.

__________________

(١) فى ب (الفائدة فى).

(٢) فى ب (الله).

(٣) فى أ (العناية).

(٤) أخرجه ابن عرامة فى كتابه تنزيه الشريعة ١ / ١٤٨ كتاب التوحيد. الفصل الثالث ـ حديث رقم ٤٤ فقال : حديث كنت كنزا لا يعرف فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق وتعرفت لهم فبى عرفونى.

قال ابن تيمية موضوع.

(٥) سورة آل عمران ٣ / ١٩٠.

(٦) الموجود فى ب.

(قد نزل هذه الليلة عليّ آية ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها).

(٧) سورة ص ٣٨ / ٢٧.

(٨) سورة آل عمران ٣ / ١٩١.

(٩) سورة الطلاق ٦٥ / ١٢.

١٥٦

وأما إماتة الأنبياء : فلعله النافع (١) لعلم الله ـ تعالى (١) ـ أنهم لو عاشوا لتضرروا فى أبدانهم ، أو أديانهم ؛ فكان اخترامهم هو الأنفع لهم ، ويحتمل أن يكون البارى ـ تعالى ـ قد علم أنهم لو عاشوا ؛ لأفضى ذلك إلى فساد بعض الأمة ؛ فكان اخترامهم لذلك ، أولى.

وأما فائدة إنظار إبليس : فيحتمل أن يكون لما فيه من زيادة امتحان المكلفين ؛ لينالوا بسبب مقاومته الثواب الجزيل.

وأما تكليف نوع الإنسان مع ما يلزمه من المشاق ، والآلام فى الدنيا : فلغرض تحصيل الثواب الجزيل فى الآخرة.

وما نقل عن بعض المتقدمين من الكراهية للوجود ، فغايته أنه لم يظهر له الغرض من وجوده ، وما هو النافع له ، وليس فى ذلك ما يدل على عدم الغرض فى / وجوده ؛ بل لعل وجوده الأنفع له. وقد استأثر الله ـ تعالى ـ بعلمه بذلك دونه.

والجواب :

أنا لا ننكر كون الله ـ تعالى ـ حكيما فى فعله ؛ ولكن ذلك يتحقق فيما (٢) يتقنه فى صنعه (٢) ؛ وتحققه على وفق علمه به ، وإرادته ، ولا يتوقف ذلك على أن يكون له فى فعله غرض وغاية ، والعبث إنما يلزم فى فعله بانتفاء الغرض فيه. أن لو كان فعله مما يطلب فيه الغرض ؛ وهو محل النزاع ، وتقبيح صدور ما لا غرض فيه من البارى ـ تعالى ـ فمبنى على فاسد أصولهم بالتحسين (٣) ، والتقبيح الذاتى ، وقياس الغائب على الشاهد وقد أبطلناه فيما تقدم (٤).

وقولهم : غاية ما ذكرتموه عدم العلم بوجود الحكمة والغرض ـ وليس فى ذلك ما يدل على نفى الغرض فى نفسه ـ ليس كذلك.

__________________

(١) فى ب (لا يقع بهم على الله).

(٢) فى ب (بما يتقنه فى صنعته).

(٣) فى ب (من التحسين).

(٤) انظر ل ٤٠ / أ.

١٥٧

قيل : بل العلم بانتفاء الغرض فيما ذكرناه من الصورة الأولى والثانية ضرورى ، وإن انقدح الاحتمال فيما وراء ذلك من صور الاستشهاد مع بعده.

وقولهم : يحتمل أن يكون خلود أهل النار فى النار ، أنفع لهم من النعيم المقيم ؛ خروج عن المعقول ، ومكابرة لضرورة العقل.

قولهم : ذلك أنفع (١) لهم لعلمه ـ تعالى ـ أنهم (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (٢). فإنما يلزم أن لو أعادهم مكلفين ، وهو قادر على إخراجهم من غير تكليف ، وإن كلفهم ؛ فهو قادر على منعهم من المعاصى بإماتتهم قبل فعلها ، وعدم إقدارهم عليها ، أو إقدارهم على التوبة بعد الفعل ، والعفو ، والصفح بعد الفعل ؛ بل وهو الأليق بحكمته ، والأقرب إلى رأفته ورحمته من أن يعذبهم ، وينتقم منهم ، مع أنه لا ينتفع بعذابهم ، ولا يتضرر بالعفو عنهم ؛ بل العفو ، والعقوبة بالنسبة إلى جلاله سيان ؛ فكان إخراجهم هو الأصلح (٣) ، والأنفع لهم (٣).

كيف وقد وجدنا فى الشاهد : المدحة للعافى ، دون المنتقم ؛ بل والعقلاء بأسرهم يقبحون مقابلة معصية واحدة ، بالخلود فى العذاب الأبدى السرمدى ؛ فما باله استأثر العقوبة على العفو مع ذلك ، وليس مستندهم فيما قضوا به غير التحسين ، والتقبيح ، وقياس الغائب على الشاهد ؛ والتخليد فى العذاب (٤) على خلاف هذه القواعد.

قولهم : الغرض من ذلك إنما هو نفى الخلف فى خبر الله ـ تعالى ـ والجهل عنه.

قلنا : فالغرض إذن غير عائد إليهم ؛ إذ لا نفع لهم فى ذلك ؛ وهو خلاف الغرض.

كيف : وأن النزاع / إنما هو فى اعتبار الأغراض العائدة إلى المنافع ، والمضار ، والمصلحة ، والمفسدة الدنيوية ، والأخروية ؛ وليس النزاع فى وجوب وقوع الفعل من الله تعالى ـ ضرورة استحالة الخلف فى خبره ، واستحالة وقوع خلاف معلومه ؛ فإن ذلك متفق عليه.

__________________

(١) فى ب (أبلغ).

(٢) سورة الأنعام ٦ / ٢٨.

(٣) فى ب (الأنفع لهم والأصلح).

(٤) فى ب (النار).

١٥٨

ومن أطلق الغرض فى أفعال الله ـ تعالى ـ (على) (١) مثل هذه الأمور ؛ فلا نزاع معه فى غير اللفظ.

وما ذكروه من الغرض فى خلق السموات ، والأرض ، وما بينهما ؛ فجوابه من أربعة أوجه.

الأول : أنه لو كان ما ذكروه غرضا ؛ لوجب حصوله من كل وجه ، وإلا كان البارى ـ تعالى ـ عاجزا عن تحصيل غرضه من الوجه الّذي لم يحصل ، وليس كذلك ؛ فإنه (٢) كم (٢) من هالك بما خلق لأجل صلاحه ، وانتظام أحواله ، واستدلاله على ما ينفعه : كالغرقى (٣) ، والحرقى (٣) ، والهلكى بالأسباب السماوية ، والأرضية ، وليس من الصلاح خلق شيء لمنفعة شخص ، يكون هلاكه فيه ، مع علم الخالق به.

ولو قال الخالق : إنما قصدت صلاحه بم علمت أن هلاكه فيه ، كان قوله مردودا مستنكرا ؛ بل وكم من تارك النظر ، والاستدلال بموجودات الأعيان ؛ ولهذا لو نسبنا الناظر (٤) المؤمن إلى غيره لم نجده إلا قليلا من كثير.

الثانى : أن الفائدة فى معرفة وجود الله ـ تعالى ـ وما يجب له من الصفات ، وما يجوز وما لا يجوز ؛ لا يمكن عودها إلى (٥) الله (٥) ـ تعالى ؛ إذ هو يتعالى ، ويتقدس عن الأغراض كما سبق. فلا بد وأن تكون عائدة إلى العبد (٦) ، وتلك (٦) الفائدة عند البحث عنها (لا تخرج) (٧) عن الالتذاذ بالمعرفة والثواب عليها ؛ وذلك كله مقدور أن يجعله (٨) الله ـ تعالى ـ للعبد من غير واسطة. بأن يخلق له العلم الضرورى به ، وبصفاته ، وأن ينله الثواب الجزيل ، بدون النظر ، والطاعة ؛ فلا حاجة إلى هذا التكليف والمشقة ، مع إمكان حصول الغرض دونه ؛ بل ربما كان التكليف ، مع إمكان حصول الغرض دونه عبثا ، والعبث فى حق الله (٩) ممتنع.

وبه يخرج الجواب عما ذكروه فى القول (١٠) بالتكاليف ، وإيجاب العبادات.

__________________

(١) فى أ (على ما).

(٢) فى ب (بل وكم).

(٣) فى ب (كالحرقى والغرقى).

(٤) فى ب (النظر).

(٥) فى ب (إليه).

(٦) فى ب (الخلق وذلك).

(٧) ساقط من أ.

(٨) فى ب (يحصله).

(٩) فى ب (على الله تعالى).

(١٠) فى ب (القول الأول).

١٥٩

فإن قيل : الثواب جزاء على النظر ، والمشاق اللازمة بالتزام الطاعات وفعل (١) المأمورات ، واجتناب المنهيات ؛ ألذ من ابتدائه ، وأنفى للمنة ؛ فهو خروج عن الدين ، وتكبر عن الدخول فى منن الله ـ تعالى ـ وإسباغ نعمه. وكيف السبيل إلى ذلك ، وأين المفر عنه مع القول : بإيجاده مبرأ عن الآفات ، ممكنا من تحصيل اللذات ، وإقداره على ما يصدر عنه من الطاعات ، وتكميل عقله للفهم والإدراك إلى غير ذلك من النعم التى لا تعد ولا تحصى ، وذلك / منه بدا من غير سابقة طاعة ، أو فعل عبادة.

الثالث : هو أن الخصم معترف بأن ما يفعله العبد من الطاعات ، واجب عليه وملجأ إليه ؛ شكرا لله ـ تعالى ـ على ما أولاه من مننه ، وأسبغ عليه من جزيل نعمه. فكيف يستحق الثواب على ما أداه من الواجبات؟ والجزاء على ما حتم عليه من العبادات. وكيف السبيل إلى الجمع بين القول بوجوب الطاعة على العبد شكرا ، والثواب على البارى ـ تعالى ـ جزاء. وذلك من جهة أنّ الشّكر لا يجب ، إلا بعد سابقة النعم (٢) المتطوّل بها ابتداء ، لا بطريق الوجوب. والجزاء الواجب ، لا يكون ؛ إلا بعد سابقة خدمة (٢) ، وطاعة متبرع بها ، لا (٣) على (٣) ما وقع بطريق الوجوب فى مقابلة النعم السابقة. وقوله ـ تعالى ـ : (وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٤) وقوله ـ تعالى ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٥) فليس المراد به التعليل ؛ وإنما المراد به تعريف الحال فى المآل كما فى قوله ـ تعالى ـ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٦). وقوله ـ تعالى ـ (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (٧).

ونحن لا ننكر وقوع مثل ذلك ، وإنما ننكر كونه مقصودا بالتكليف حتى يقال إنه كلف بكذا ، أو لعله كذا ، وبهذا يخرج الجواب عما ذكروه من النصوص الدالة على أن المقصود من خلق السموات ، والأرض وما بينهما ، إنما هو النظر ، والاعتبار.

__________________

(١) فى ب (بفعل).

(٢) من أول (النعم المتطول ... الى قوله سابقة) مكرر فى أ.

(٣) فى ب (على).

(٤) سورة الجاثية ٤٥ / ٢٢.

(٥) سورة النجم ٥٣ / ٣١.

(٦) سورة القصص ٢٨ / ٨.

(٧) سورة القصص ٢٨ / ٧٣.

١٦٠