أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

أو بالحواسّ الباطنة : كعلم الإنسان بلذّته وألمه ، والعلم بالأمور العاديّة : كعلمنا بأن الجبال المعهودة لنا ثابتة ، والبحار غير غائرة ، وكالعلم بالأمور التى لا سبب لها ولا يجد الإنسان نفسه خالية عنها : كالعلم بأنّه لا واسطة بين النّفى والإثبات ، وأن الضّدين لا يجتمعان ، وأن الكلّ أكثر من الجزء ونحوه. وربما خصّت هذه بالبديهيات.

وإذا عرف معنى العلم الضّرورى ؛ فقد اختلف فيه :

فقال قوم من المعتزلة : إنّ جميع العلوم الواقعة ضروريّة غير مقدورة للعباد.

لكن من هؤلاء من قال : إن الجميع غير مقدور للعباد ، ولا يتوقف على نظر واستدلال.

ومنهم من قال : العلوم كلّها ـ وإن كانت غير مقدورة ـ فمنها : ما حصوله لا عن نظر ، ومنها : ما حصوله عن نظر ، لكن بعد تمام النّظر يقع العلم ضروريّا غير مقدور عليه.

وقال قوم : العلوم المتعلقة بذات الله ـ تعالى ـ وصفاته والاعتقادات الصحيحة ضرورية غير نظريّة. وما عدا ذلك ؛ فلا يمتنع أن يكون نظريّا. (١)

وقال بعض الجهميّة (٢) : جميع العلوم نظريّة لا ضرورة فيها.

وقال بعض المتأخرين (٣) : ما كان من العلوم التّصورية ؛ فهى ضروريّة. وما كان من العلوم التّصديقيّة ؛ فمنقسمة إلى ضرورى ، ونظرى.

والّذي عليه المحصّلون : أنه ليس كلّ علم ضروريّا ؛ إذ هو خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه في المسائل المختلف فيها. كحدوث العالم ، ووجود الصّانع ، والجوهر الفرد وبقاء الأعراض. إلى غير ذلك.

__________________

(١) انظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٨ وما بعدها ؛ حيث يوضح القاضى عبد الجبار : العلم الضرورى وآراء المعتزلة فيه.

(٢) الجهمية : أصحاب جهم بن صفوان. وهو من الجبريّة الخالصة ظهرت بدعته بترمذ وقتل في آخر عهد بنى أمية سنة ١٢٨ ه‍. وهو تلميذ الجعد بن درهم أول من ابتدع القول بخلق القرآن ، وتعطيل الله عن صفاته. والّذي توفى سنة ١١٨ ه‍. (الملل والنحل ١ / ٨٦ ، الفرق بين الفرق ٢١١).

(٣) المقصود به الإمام الرازى.

انظر المحصل ص ٧١ ، وشرح المواقف ص ٤٣.

٨١

ثم لو كانت العلوم كلها ضرورية ؛ لما ساغ الخلاف فيها من الجمع الكثير من العقلاء ممّن تقوم الحجة بقولهم ، ولما وجد واحد من نفسه الخلوّ عنها.

وعلى هذا أيضا : يبطل قول من فصل بين العلوم المتعلقة بالإله ـ تعالى ـ وصفاته ، والاعتقادات الصّحيحة ، وبين غيرها.

ومن قال بكون العلم ضروريّا ـ مع حصوله عن النّظر ـ فلا نزاع معه في غير التّسمية ، فإنا لا نعنى بكونه مقدورا وغير ضرورى ؛ غير كون الطريق المفضى إليه مقدورا للعبد. لا بمعنى أن العلم الحاصل عنه مقدور.

كيف وأنّ معرفة الله ـ تعالى ـ واجبة بالإجماع : إما بالعقل ، أو بالشّرع.

فإن كان بالعقل : فالعقل لا يوجب فعل ما ليس بمقدوره.

وإن كان ذلك بالشرع : فالشّارع أيضا لا يوجب فعل ما ليس بمقدور على ما يأتى ، وكما أنه ليس كل علم ضروريّا ؛ فليس كل علم نظريا. وإلا لزم التسلسل الممتنع ؛ بل البعض ضرورى ، والبعض نظرى ؛ وسيأتى الردّ على شبه منكرى الضّروريّات فيما بعد. (١)

ومن قال بالفرق بين التصور ، والتصديق ؛ فقد احتجّ عليه بحجج (٢) أبطلناها في كتاب دقائق الحقائق (٢).

__________________

(١) انظر ل ١٧ / ب.

(٢) فى ب (بحجج وقد أبطلناها في دقائق الحقائق).

والقائل بالفرق بين التصور ، والتصديق : هو الإمام الرازى. انظر المحصل ص ٣ ـ ٥ وقد نقل الآمدي رأى الرازى المذكور في المحصل بالتفصيل في كتابه دقائق الحقائق في ل ٥ / أ ، ل ٥ / ب. وقد قابلته على ما ورد بالمحصل وتأكد لى صحة نقل الآمدي. الّذي بدأه بقوله : قال بعض المتأخرين : ثم بدأ في نقده ، والرد عليه فقال بعد نقله رأى الرازى بالتفصيل ـ وهذا منه تساهل في التحقيق ، ثم نقده نقدا تفصيليا في ل ٥ / ب ـ ل ٧ / ب.

٨٢

القسم الثالث

في العلم الكسبى (١)

والعلم المكتسب : هو العلم المقدور بالقدرة الحادثة.

وقد اختلف أصحابنا في جواز وقوع العلم المكتسب من غير نظر ، واستدلال. فجوّزه قوم ـ وإن كانت العادة على خلافه ـ كالأستاذ أبى إسحاق (٢) ومنع منه آخرون.

وعلى هذا فمن لم يجوّز انفكاك العلم المكتسب عن النّظر ؛ فحدّ المكتسب عنده مطّرد في العلم النظرى ؛ فكل علم مكتسب عنده نظرى ؛ وكل نظرى مكتسب.

ومن جوّز الانفكاك : لم يطرّد / حدّ المكتسب عنده في النّظرى ؛ فإن اطّرد حدّ النظرى في المكتسب ؛ فكلّ نظرى مكتسب ، وليس كل مكتسب نظريا.

وعلى هذا فقد اختلف أرباب هذا (٣) المذهب في العبارات (٣) الدّالة على العلم النّظرى.

فمنهم من قال : هو العلم الواقع عقيب النّظر الصّحيح.

ومنهم من قال : ما يوجبه النّظر الصحيح.

ومنهم من قال : هو الواقع عن النظر الصّحيح.

ومنهم من قال : هو المقدور المنظور فيه نظرا صحيحا.

ومنهم من قال : ما يتضمنه النّظر الصّحيح (٤).

والعبارة الأولى : مدخولة بما يقع من العلوم الضّرورية عقيب النّظر الصّحيح : كالعلم بما يحدث من الألم ، واللّذة ، والفرح ، والغم ونحوه ؛ فإنه ليس نظريا مع وجود الحدّ.

__________________

(١) انظر أصول الدين للبغدادى ص ٨ ، ٩ والمغنى للقاضى عبد الجبار ج ١٢ ص ٥٩ ـ ٦٨ ، وشرح الأصول الخمسة ص ٥٢ وما بعدها ، والإرشاد لإمام الحرمين ص ١٣ ـ ١٥ والشامل له أيضا ص ١١١ ـ ١١٤ وشرح المواقف للجرجانى ص ٣٨ وشرح المقاصد للتفتازانى ص ١٥.

(٢) الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الأسفرايينى الفقيه الشافعى ، المتكلم ، الأصولى ، الملقب بركن الدين ، من أئمة المذهب الأشعرى. نشأ في أسفراين ، وانتقل إلى نيسابور ، وتوفى بها سنة ٤١٨ ه‍. (وفيات الأعيان ١ / ٨ ، طبقات السبكى ٣ / ١١ ، معجم المؤلفين ١ / ٨٣).

(٣) فى ب (هذه المذاهب والعبارات).

(٤) القائل هو القاضى الباقلانى : انظر التمهيد ص ٣٦ والإنصاف ص ١٤ وانظر الإحكام للآمدى ١ / ١٠ ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٥.

٨٣

والعبارة الثّانية ، والثالثة فغير مرضية على رأى أصحابنا ؛ لإشعارهما بوجود العلم ووجوبه بالنّظر ؛ وليس كذلك على ما سيأتى في النّظر (١).

والعبارة الرّابعة : فغير مطّردة على رأى من يرى من أصحابنا أنّ العلم الحاصل بالنّظر غير مقدور للعبد.

وأما العبارة الخامسة : فهى عبارة القاضى أبى بكر. وهى موافقة لأصول أهل الحقّ من أصحابنا ، وإن كان فيها نوع غموض بسبب غموض معنى التضمّن.

وكشفه أن يقال : معنى تضمّن النّظر الصّحيح للعلم : أنهما بحال لو قدّرنا انتفاء الآفات ، وأضداد العلم ؛ لا ينفكّ أحدهما عن الآخر (٢) من غير إيجاب ولا تولّد : كالعرض مع الجوهر ، وتذكّر النظر وإن لم يكن هو نفس النّظر ؛ فالعلم الحاصل عنده لا يخرج عن أن يكون النّظر متضمّنا له ؛ فعبارة القاضى تكون مطّردة في هذه الصّورة أيضا.

__________________

(١) انظر ل ١٨ / ب.

(٢) فى ب (آخر عن آخر).

٨٤

القسم الرابع : في أحكام العلم

ويشتمل على تسعة فصول :

الأول : في تجويز وقوع العلم (١) الضّرورى نظريّا ، وبالعكس

الثانى : في مراتب العلوم.

الثالث : في العلم الواحد الحادث. هل يتعلّق بمعلومين ، أم لا؟

الرابع : في جواز تعلق علم بمعلوم ، (٢) أو معلومات على الجملة (٢).

الخامس : في اختلاف العلوم وتماثلها.

السادس : في تعلّق العلم بالشّيء من وجه دون وجه.

السابع : في امتناع وجود علم لا معلوم له.

الثامن : في محلّ العلم الحادث ، وأنه لا بقاء له.

التاسع : في أضداد العلم الحادث ، وأحكامها.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) فى ب (أو بمعلومات في الجملة).

٨٥
٨٦

الفصل الأول

في تجويز وقوع العلم الضّرورى نظريّا وبالعكس

أما أن العلم الضّرورى هل يجوز وقوعه نظريّا (١)؟

فقد قال به القاضى أبو بكر ـ فى بعض أقاويله ـ وجماعة من المتكلّمين. ونفاه آخرون.

ومنهم من لم يجوز ذلك فيما كان من العلوم الضّرورية شرطا في كمال العقل. وجوّزه فيما عداه.

وقد ذهب القاضى أبو بكر إلى هذا التفصيل في قول أخر. وإليه ميل (٢) أبى المعالى (٣) من أصحابنا.

وأحتج من قال بتجويز ذلك في العلوم الضّروريّة مطلقا : بأنّ العلوم من جنس واحد ؛ فما جاز في البعض جاز على الكل ، وقد جاز في بعض العلوم أن تكون نظريّة ؛ فكذلك في الباقى (٤).

ولقائل أن يقول :

وإن كانت من جنس واحد ؛ فلا يمنع ذلك من اختلافها ، وتميز كلّ واحد بتعيّن غير تعيّن الآخر.

ومع ذلك فلا يلزم أن ما جاز على أحدهما يجوز على الآخر ؛ لجواز أن يكون ما جاز على أحدهما بسبب تعيّنه ، أو أن تعيّن الآخر يكون مانعا منه ، واشتراك العلوم كلّها في عارض واحد وهو الإدراك والإحاطة ، أو غير ذلك. غير دالّ على الاتحاد ؛ إذ لا مانع من اشتراك المختلفات في لازم واحد عام لها.

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٦ وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٢.

(٢) فى ب (ذهب).

(٣) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف الجوينى النّيسابورى الشافعى الأشعرى المعروف بإمام الحرمين (ضياء الدين ، أبو المعالى) فقيه ، أصولى ، متكلم ، مفسر ، أديب. من أهم تلاميذه حجة الإسلام الغزالى. ولد في جوين سنة ٤١٩ ه‍ ، وتوفى سنة ٤٧٨ ه‍. (وفيات الأعيان ٢ / ٣٤١ وطبقات الشافعية ٣ / ٢٤٩).

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

٨٧

وأيضا : فإنّه لو جاز وقوع جميع العلوم الضّرورية نظريّة ؛ فكل ما هو جائز أن يكون ؛ لا يلزم من فرض وقوعه المحال. فلنفرض وقوع جميع العلوم الضّروريّة نظريّة. ولو كان كذلك ؛ لاستحال وقوع شيء من العلوم النّظرية ؛ لأنّ العلم النّظرى لا بدّ وأن ينتهى إلى العلم الضّرورى وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النّهاية ؛ وهو ممتنع.

وأيضا : فإنه إذا جاز وقوع جميع العلوم الضّرورية نظريّة ، لجاز وقوع العلوم الضّرورية التى هى شرط كمال العقل في النّظر نظرية. (١) وإذا كانت نظريّة (١) ؛ فتكون متوقفة على النّظر ، والنّظر متوقّف على كمال العقل ، الّذي لا يتمّ النّظر إلا به. وكمال العقل الّذي لا يتمّ النّظر إلّا به ، متوقّف على تلك العلوم الضرورية ؛ فيكون دورا.

وأيضا : فإنّه لو جاز وقوع جميع العلوم الضّروريّة نظريّة ؛ (٢) فالنّظر ـ على ما يأتى ـ مضادّ (٢) وقوع المنظور فيه. ففى حالة النّظر لا يكون عالما بها. وذلك يجرّ إلى تجويز أن يكون العاقل حالة النّظر [غير] (٣) عالم باستحالة اجتماع الضّدين ، وأن لا واسطة بين النّفى والإثبات ، وأنّ الواحد أقلّ من الاثنين ، وأنّ الجسم في آن واحد لا يكون في مكانين.

ولا يخفى ما في ذلك من الإحالة ، واتّجاه قول منكرى البديهيّات.

فإن قيل : هذا وإن دل على امتناع وقوع الضّروريات نظرية ؛ فما المانع من وقوعها كسبية مقدورة للعبد ، وإن لم تفتقر إلى نظر واستدلال؟ كما قال الأستاذ أبو إسحاق في بعض مذاهبه.

فنقول : لو وقعت كسبية مقدورة للعبد ، لصحّ الإضراب عنها ؛ لكونها مقدورة ؛ فإنّه لا معنى للمقدور إلا ما يصحّ فعله / وتركه وإلا كان (٤) مضطرا إليه وملجأ ؛ فلا يكون مقدورا. ولا يخفى أن إضراب العاقل عن العلوم البديهية محال.

كيف وأنّ هذا ممّا لا يطّرد في العقل عنده ؛ إذ هو من العلوم الضروريّة. فلو جاز وقوعه مقدورا ؛ لصحّ الإضراب عنه. وإضراب العاقل عن عقله محال. ثم إنّ حصول العلم مقدورا ؛ يستدعى حصول العقل. وحصول العقل إذا كان من العلوم المقدورة ، فحصوله مقدورا ؛ يتوقّف على حصوله في نفسه. وحصوله في نفسه ؛ يتوقّف على كونه مقدورا ؛ وهو دور ممتنع.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) في. ب (والنظر على ما يأتى يضاد) انظر ل ١٨ / ب.

(٣) في أ (غيره).

(٤) في ب (ولما كان).

٨٨

وربما قيل في إبطاله : لو جاز حصول العلم الضّرورى مقدورا من غير نظر ؛ لجاز حصول العلم النّظري من غير نظر واستدلال. ولو جاز ذلك لا يتحتّم علينا الدعاء إلى النّظر والاستدلال المفضى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ مع وجوبه ـ ؛ لجواز أن يقول المدعوّ : ذلك حاصل لى من غير نظر ولا استدلال.

وهو إنّما يلزم أن لو لزم من جواز وقوع الضّرورى مقدورا من غير نظر ، جواز ذلك في النّظرى ، ولا بدّ من دليل جامع ؛ ولا دليل عليه.

وأيضا : فإنّ حصول ذلك ـ مع تجويزه ـ خارق للعادة ، والمخبر عن نفسه مما يخرق العادة غير مصدّق فيه.

وأما من منع من جواز ذلك مطلقا. فحجّته ما أشرنا إليه (١) في الاعتراض (١).

وربما احتجّ : بأنه لو جاز وقوع العلم الضرورى نظريّا ؛ لجاز وقوع الآلام والأوجاع ، وغير ذلك مما وقوعه غير مكتسب مكتسبا.

وهو تمثيل من غير دليل جامع ؛ فلا يكون صحيحا كما تقدّم.

ومن قال بالتفصيل (٢) بين العلوم الضروريّة التى بها كمال العقل وغيرها فمستنده : أما فيما قضى فيه بالجواز ؛ فمستند (٣) القائلين بتعميم الجواز ، وقد عرف ما فيه (٤) وفيما قضى فيه بنفي الجواز ؛ فما أسلفناه من الدّور في الاعتراض على القائلين بالجواز مطلقا (٥).

وأما أنّ العلوم النظريّة هل يجوز أن تقع ضروريّة غير مقدورة للعبد؟ (٦) فهذا ممّا اتّفق عليه أهل الحقّ من أصحابنا.

__________________

(١) في ب (من الأعراض). انظر الإشكالات الواردة على من قال بالجواز فهى حجة النفاة.

(٢) من القائلين بالتفصيل القاضى أبو بكر وإمام الحرمين الجوينى.

(٣) في ب (فمستنده).

(٤) انظر ل ٦ / أ.

(٥) انظر الإشكال الثالث ل ٦ / أ.

(٦) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٧.

٨٩

وأما المعتزلة : فموافقون على الجواز في الكل. غير أنهم يمنعون من الوقوع في البعض : كالعلم بالله تعالى ـ وصفاته. من حيث أنّ العلم بالله ـ تعالى ـ وصفاته واجب على العبد فلو لم يكن ذلك مقدورا له ؛ لكان الإيجاب قبيحا.

ومستندهم في الجواز : أنّ العلوم من جنس واحد ؛ فما يثبت للبعض ، جاز أن يكون ثابتا للكلّ. والله ـ تعالى ـ قادر على خلق العلوم الضّروريّة للعبد غير (١) مقدورة له ؛ فكذلك في الباقى.

ويرد عليه من الإشكال ما ورد على / حجّة القائلين بجواز وقوع العلوم الضّروريّة نظريّة على ما سبق (٢).

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) انظر ل ٦ / أ.

٩٠

الفصل الثانى

في مراتب العلوم

لا نعرف خلافا في جواز كون العلم النّظرى مستندا إلى علم ضرورى ، أو إلى علم نظرى يستند في الآخرة إلى علم ضرورى.

وإنّما الخلاف في جواز استناد العلم الضّرورى إلى النّظري ، أو إلى ضرورى آخر. أما استناد العلم الضّرورى إلى النظرى (١) ؛ فقد اختلف أصحابنا فيه :

فمنهم من جوّزه اعتمادا منه على أنّ العلم باستحالة اجتماع الضّدين ضرورى ، والتّضاد لا يكون إلا بين الأعراض. والعلم بوجود الأعراض نظرى لا ضرورى ؛ فالعلم باستحالة اجتماع الأضداد (٢) ضرورى ؛ وهو مستند إلى العلم بوجود الأضداد ؛ وهو نظرى ؛ ولهذا فإن (٣) من لا يعلم وجود الأضداد ، لا يحكم باستحالة اجتماعها.

وأنكره الباقون : من حيث أن العلم الضّرورى لا خلوّ للنفس عنه. بخلاف العلم النظرى فإنه لا يمتنع الخلوّ عنه بتقدير عدم النظر. فلو كان العلم الضرورى مستندا إلى العلم النّظرى ؛ لأفضى إلى جواز خلو النفس عن الأصل مع امتناع خلوها عن التابع ؛ وهو محال.

ثمّ اختلف هذا الفريق في الجواب عن مستند الفريق الأول :

فمنهم من قال بأنّ العلم باستحالة اجتماع الضّدين نظرى ، وليس بضرورى ، ولهذا يحسن إقامة الدّليل عليه على من قال : بجواز اجتماع الحركة ، والسّكون. والسّواد ، والبياض في محلّ واحد من أرباب الكمون والظّهور (٤).

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٧ وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٢.

(٢) في ب (الدين).

(٣) في ب (قال).

(٤) والذين اشتهروا بهذا الاسم هم النظامية أتباع النّظّام ؛ إذ أن الخلق عند النّظّام فعل واحد ؛ فالله خلق الدنيا جملة ، والموجودات خلقت كلها دفعة واحدة ؛ ولكن بعضها يكون كامنا في بعض ، وبمرور الزمن تخرج أنواع المعادن ، والنبات ، والإنسان من مكامنها.

(انظر الملل والنحل ١ / ٥٦ وتاريخ الفلسفة في الإسلام لديبور ص ٤٧).

٩١

ومنهم من قال : العلم باستحالة اجتماع الضّدين وإن كان ضروريّا ؛ إلا أنّه مستند إلى علم ضرورى ؛ فإنّ من نفي الأعراض لا ينكر طروّ الألم واللذة عليه ، ولا يستريب في ذلك. وإنّما هو مستريب في كون هذه الصّفات مغايرة للذّوات. والعلم باستحالة اجتماع هذه الأضداد لا يتوقف على كونها مغايرة للذوات. فإذا ما توقف عليه الضرورى ، ضرورى. وما ليس بضرورى ؛ فالضّرورى غير متوقف عليه. (١)

والحقّ عندى في ذلك متوقّف على تلخيص محلّ النّزاع ؛ ليكون التّوارد بالنفي (٢) والإثبات على محزّ (٣) واحد.

فنقول : العلم بالنسبة الواقعة بين مفردات القضيّة ـ بعد تصور مفرداتها ـ ؛ قد يقال له ضرورى. بمعنى أن العلم بها (٤) غير مكتسب ولا مقدور ، وإن كان نظريا كما أسلفناه في القسم الثانى (٥).

وقد يقال : العلم بالنسبة ضرورى ، بمعنى أنه لا يتوقّف بعد العلم بالمفردات على النظر / والاستدلال.

فإن كان الأول : فالقضية نظرية (٦). ولا منافاة بين كونها نظريّة ، وبين كون العلم بها غير مقدور.

وعلى هذا فلا يمتنع استناد مثل هذا الضّرورى الّذي هو نظرى إلى العلم النّظرى. وإن كان الثانى : فالقول باستناد مثل هذا الضّرورى إلى العلم النظرى : إما بمعنى أنه يستند إلى علم نظرى خارج عن العلم بالمفردات ، أو نظرى متعلق بالمفردات.

فإن كان الأول : فهو تناقض ؛ إذ الكلام (٧) فيما لا يفتقر بعد تصور مفرداته إلى النظر ، فإذا قيل بافتقاره إلى النّظر ؛ فقد خرج (٨) عن أن يكون ضروريا بهذا الاعتبار.

__________________

(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٢) في ب (بين النفي).

(٣) في ب (مجرى).

(٤) ساقط من (ب).

(٥) انظر ل ٥ / أ.

(٦) في ب (ضرورية).

(٧) ساقط من (ب).

(٨) في ب (يخرج).

٩٢

وإن كان الثانى : فلا خفاء بجوازه. ولا تخرج القضية بذلك عن أن تكون ضروريّة ؛ إذ القضية الضّرورية بهذا الاعتبار : هى التى يبادر العقل بالنسبة الواجبة لها بعد تصوّر مفرداتها من غير توقف على (١) نظر واستدلال ، وسواء كان العلم بالمفردات : ضروريا بهذا الاعتبار ، أو نظريا على ما أسلفنا تحقيقه.

وعلى هذا. فلا يمتنع خلوّ النفس عن العلم بهذه النسبة ، مع فرض عدم التصوّر للمفردات.

(٢) فمن سلم بأن مثل هذا (٢) العلم الضّرورى لا تخلو النفس عنه مطلقا. وإنما لا تخلو (٣) عنه مع فرض تصور المفردات (٤) ، والقول بأن العلم باستحالة (٥) الجمع بين (٥) الضّدين نظرى ؛ فلا يخفى ما فيه من إنكار البديهة ، وإمكان (٦) قول ذلك (٦) في كل بديهى.

والقول بأنه يحسن الاستدلال على القائلين بالكمون ، والظهور ؛ فإنما يلزم أن لو كان استدلالا على استحالة الجمع بين الضّدين ؛ وليس كذلك ، بل على استحالة ما يعتقدونه من الكمون والظهور. بما يفضى إليه من الجمع بين الضّدين ، وفرق بين المقامين.

ومن قال من أصحابنا : إنّ العلم بكل واحد من الضّدين ضرورى : إما أن يريد به الحقيقة ، أو الوجود.

فإن أراد به الحقيقة : فلا يخفى أن العلم بحقيقة السواد والبياض ـ مثلا ـ ؛ غير ضرورى. فإنه كم من عاقل انقضى عليه الدّهر ، ولم يعلم حقيقتهما دون نظر واستدلال.

وإن أريد به العلم بوجود السّواد والبياض عينا : بمعنى الوجود الخارجى ؛ فالوجود على أصل أصحابنا لا يزيد على الحقيقة. فإذا كانت الحقيقة غير معلومة ضرورة ، فكذلك الوجود.

__________________

(١) في ب (إلى).

(٢) في ب (لمن سلم بأن هذا مثل).

(٣) في ب (لم تخل).

(٤) في ب (عدم التصورات).

(٥) في ب (اجتماع).

(٦) في ب (قول مثل ذلك).

٩٣

وأما أنه هل يجوز استناد العلم الضّرورى إلى الضّرورى :؟ فقد (١) اختلف فيه أصحابنا أيضا :

فجوّزه القاضى أبو بكر محتجا عليه بأنّ العلم الضّرورى / بأمر من الأمور الخارجة عن نفس العالم به ؛ متوقّف على العلم بنفس العالم ؛ وعلم المرء بنفسه ضرورى.

وأنكره آخرون : اعتمادا منهم على أن الضّرورى لو افتقر إلى أمر آخر في حصوله ؛ لخرج عن كونه ضروريا. (٢)

والحقّ : أنه إن قيل : إنّ الضرورى يكون بعد معرفة مفردات القضيّة ؛ متوقفا على أمر يتضمنه ؛ فهو غير ضرورى ؛ فالحقّ ما قاله النفاة.

وإن أريد به ما يلازمه لا على وجه يكون متضمنا له ؛ فالحقّ ما قاله القاضى.

هذا ما عندى فيه ، وعسى [أن (٣)] يكون عند غيرى غيره.

__________________

(١) في ب (فقال).

(٢) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٣) ساقط من (أ).

٩٤

الفصل الثالث

في تعلق العلم الواحد الحادث بمعلومين (١)

وقد أختلف في ذلك :

فمذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ، وكثير من المعتزلة : أنّ العلم الواحد الحادث لا يتعلق بمعلومين على التفصيل.

وذهب بعض أصحابنا : إلى جواز ذلك مطلقا (٢).

ومن أصحابنا : من فصل بين العلم الضّرورى ، والنّظرى : فجوّز ذلك في العلم الضّرورى دون النّظرى : كالشّيخ أبى الحسن الباهلى (٣).

والّذي ارتضاه القاضى أبو بكر ، وأبو المعالى (٤) : أنّ كل معلومين يتصوّر العلم بأحدهما مع إمكان عدم العلم بالآخر : كالسّواد ، والبياض ، والقديم ، والحادث ، ونحوه ؛ فلا يتصوّر تعلق العلم الواحد الحادث بهما.

وكل معلومين لا يتصوّر فرض العلم بأحدهما (٥) ؛ مع إمكان عدم العلم بالآخر : كالعلم بالعلم بالشيء ، والعلم بذلك الشيء ، فإنّه لا يتصوّر العلم بالشيء مع إمكان عدم العلم بالعلم بذلك الشيء وكذلك بالعكس ، وكالعلم بمماثلة أحد الشيئين للآخر ، مع العلم بمماثلة الآخر له ؛ فإنّه لا يتصوّر انفكاك العلم بأحدهما عن العلم بالآخر ، وكذلك في طرق المضادة والمخالفة ؛ بل وكالعلم بالنسبة الواقعة بين المفردات إيجابا وسلبا ؛ فإنه لا يمكن انفكاكه عن العلم بالمفردات : كالعلم بأن الإنسان حيوان ، وأنه ليس بحجر ؛ فلا بد وأن يكون العلم بهما واحدا.

__________________

(١) انظر المحصل للرازى ص ٧٠ والمواقف للإيجي ص ١٤١ ، ١٤٢ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ١ / ١٧٢ ، ١٧٣.

(٢) منهم عبد القاهر البغدادى انظر أصول الدين ص ٣٠ ، ٣١.

(٣) الشيخ أبو الحسن الباهلى : من أشاعرة الطبقة الأولى. تلميذ إمام أهل السّنة أبى الحسن الأشعرى ، وأستاذ أبى إسحاق الأسفرايينى ، والقاضى الباقلانى.

(٤) وهذا الرأى هو الّذي ارتضاه الآمدي أيضا.

(٥) في ب (بآخر).

٩٥

أما المذهب الأول :

فحجته أنه لو جاز أن يتعلق العلم الواحد الحادث (١) بمعلومين ، لجاز أن يتعلق بثالث ، ورابع إلى ما لا يتناهى. ويلزم من ذلك أن يكون الواحد (٢) منا عالما ـ بعلم واحد ـ بمعلومات لا تتناهى ؛ وهو ممتنع.

أما المذهب الثانى :

فحجته أنه لا مانع من تعلّق العلم الواحد (٢) إذا كان قديما بمعلومات متعدّدة ؛ فكذلك العلم الحادث ؛ فإن أحكام العلل مما لا تختلف شاهدا ، وغائبا.

وأما المذهب الثالث :

القائل بالتفصيل بين الضّرورى ، والنّظري ؛ فحجّته في جواز تعلق العلم الضّرورى ، بمعلومين ما هو حجّة من قبله.

وحجّته في امتناع تعلّق العلم النّظرى بمعلومين ؛ أنّ كل واحد من المعلومين ؛ فالعلم به نظرى على ما وقع فيه (٣) الفرض. والعلم النّظرى متوقّف على النّظر ، ويلزم من ذلك اجتماع النّظرين المفضيين إلى العلم بالمعلومين. وكل نظرين (٤) صحيحين ؛ فهما متماثلان ، وكل متماثلين (٤). متضادان ـ على ما يأتى في قاعدة النّظر (٥) فصل المتماثلات ـ واجتماع الضّدين محال.

وأما المذهب الرابع :

وهو مذهب القاضى أبى بكر. فحجّته في الطرف الأول من وجهين :

الأول : أنه لو جاز تعلّق علم واحد حادث بمعلومين ، يتصوّر العلم بأحدهما مع إمكان عدم العلم بالآخر ؛ لانقلب الجائز مستحيلا ؛ وذلك محال.

__________________

(١) في ب (منا عالما بعلم واحد).

(٢) من أول (منا عالما ـ بعلم واحد ...) ساقط من (ب).

(٣) في ب (به).

(٤) من أول (صحيحين فهما ...) ساقط من (ب).

(٥) الأصح قاعدة العلم وهذا سهو من الناسخ.

انظر الفصل الخامس في اختلاف العلوم وتماثلها ل ١٠ / ب.

٩٦

وبيانه : أنّ العلم بالسّواد مثلا ، مما يجوز انفكاكه عن العلم بالبياض ؛ فلو كان العلم المتعلق بهما واحدا ؛ لما تصوّر انفكاك العلم بأحدهما عن العلم بالآخر ؛ وذلك محال ؛ لما فيه من انقلاب الجائز ممتنعا.

الثانى : أنه لو جاز أن يكون العلم الموجب لكون العالم عالما بالسواد ، وعالما بالبياض واحدا ـ مع الاتفاق على تجويز أن يكون مختلفا ـ ؛ لكانت الصّفة الواحدة موجبة لما توجبه الصفات المختلفة من الأحكام. ولو جاز ذلك ؛ لجاز وجود صفة واحدة توجب ما يوجبه العلم والقدرة ، من كون العالم عالما ، والقادر قادرا ؛ وذلك (١) محال.

وحجته في الطرف الثانى من وجهين أيضا :

الوجه الأول : أنه إذا علم الواحد منا شيئا (٢) : فإما أن يكون عالما بعلمه بذلك الشيء أولا. لا جائز أن يكون غير عالم به ؛ وإلا لساغ أن يقال : إنّ الواحد منا عالم بجميع المعلومات ؛ ولكنه لا يشعر بكونه عالما : ولا يخفى أنّ حصول علم (٣) الإنسان (٣) وهو لا يشعر به ، محال.

وإن كان عالما بعلمه بذلك الشيء : فإما أن يكون علمه بعلمه بذلك الشيء ، هو علمه بذلك الشيء ، أو غيره.

لا جائز أن يقال بالمغايرة : وإلا كان (٤) العلم بالعلم بذلك الشيء ، غير العلم بالعلم بذلك الشيء ؛ فيلزم منه التّسلسل الممتنع.

وإن كان هو هو ؛ فهو المطلوب ؛ فإن العلم واحد ، والمعلوم مختلف ؛ وهو الشيء (٥) والعلم به (٥).

الوجه الثانى : أنه لما (٦) امتنع الانفكاك بين كون العالم عالما بالشيء ، وبين كون ذلك الشيء معلوما ، ولزم من ذلك امتناع إضافة هذين الحكمين إلى علمين يكون أحدهما / موجبا لحكم العالمية ، والآخر موجبا لحكم المعلومية ، فكذلك ـ إذا كانت

__________________

(١) في ب (وهو).

(٢) زائد في ب (فهو عالم).

(٣) في ب (العلم للإنسان).

(٤) في ب (لكان).

(٥) في ب (أو العلم بذلك الشيء).

(٦) في ب (إنما).

٩٧

معلومية كل واحد من الشيئين لا تنفك عن الأخرى ـ ؛ امتنع استنادها إلى علمين ، ووجب أن يكون الموجب لهما علما واحدا.

وفي حجج هذه المذاهب نظر :

أما حجة المذهب الأول : فلقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من جواز تعلق العلم الواحد بمعلومين (١) فصاعدا على وجه يكون متناهيا ؛ جواز تعلقه بمعلومات غير متناهية (١) وإن كان المحتج بها معتزليا ؛ فيلزم عليه القدرة الحادثة ؛ (٢) فإنه يجوز عنده تعلقها بمقدورين (٢) فصاعدا مع اتحادها ، وما لزم من ذلك جواز تعلقها بمقدورات غير متناهية ـ وإن كان ذلك غير ممتنع في القدرة ـ ؛ فمثله في العلم من غير فرق.

وأما حجة المذهب الثانى : فلا يخفى أنها قياس تمثيلى ، وإلحاق شاهد بغائب من غير دليل جامع ؛ فتكون باطلة. (٣)

ثم تلزم ـ على من احتج بذلك من أصحابنا ـ القدرة الحادثة ، فإنها لا تتعلق بأكثر من مقدور واحد على أصلنا ـ كما يأتى ـ وما لزم من جواز تعلق قدرة الرب ـ تعالى ـ بمقدورين فصاعدا ؛ جواز ذلك في القدرة الحادثة ؛ ولا يخفى تعذر الفرق بين العلم والقدرة.

وأما حجة المذهب الثالث : على جواز تعلّق العلم الضّرورى بمعلومين مع اتحاده ؛ فهى حجة المذهب الثانى ، وقد عرف ما فيها.

وأما حجّته على امتناع تعلّق العلم النّظرى بمعلومين : فإنما يلزم أن لو امتنع تعلق العلم الواحد بمعلومين بناء على نظر واحد ؛ وهو غير مسلم.

وأما الحجة الأولى على الطّرف الأول من المذهب الرابع : وهو مذهب القاضى أبو بكر ، فإنما تلزم أن لو قيل بجواز انفكاك العلم بالسّواد عن العلم بالبياض مطلقا ؛ وليس كذلك ؛ بل لقائل أن يقول : إنّما يجوز الانفكاك أن لو علمنا بعلمين ، وأما إذا علمنا بعلم واحد فلا.

__________________

(١) فى ب (كتعلقه بثالث وهلم جرا. كما لا يلزم من جواز تعلقه بمعلوم واحد جواز تعلقه بمعلومين ، بل جاز أن يكون واجب التعلق بمعلومين على وجه لا يتعدى إلى الثالث. ولا يمكن الاقتصار على التعلق بأحدهما).

(٢) فى ب (وأنه يجوز تعلقهما عنده بمقدورين).

(٣) انظر ما يأتى ل ٣٩ / ب.

٩٨

فإذا حالة جواز الانفكاك ، لا تجامع حالة عدم الانفكاك ؛ فلا يلزم منه انقلاب الجائز مستحيلا.

فإن قيل : إذا جاز أن يكون السّواد والبياض [معلومين (١)] بعلمين. فلو جاز أن يكونا معلومين بعلم واحد ، فكل واحد من المعلومين يجوز أن يتعلق به علم لا يجوز تعلقه بالآخر ، (٢) وعلم يجوز تعلقه بالآخر (٢) ، والعلمان : إما متماثلين ، أو غير متماثلين : فإن كان الأوّل فيلزم من تماثلهما اشتراكهما في أخصّ صفات النفس ، وأخصّ صفات نفس أحدهما : أنه لا يجوز تعلّقه بالمعلوم / الآخر. وأخصّ صفات نفس العلم الآخر (٣) جواز تعلقه بالمعلوم الآخر ؛ وذلك يجرّ إلى أن يكون كل واحد من العلمين يجوز تعلقه بالمعلوم الآخر ، ولا يجوز ؛ وهو محال.

وإن كانا غير متماثلين : فإمّا أن يكونا من قبيل ما يجوز اجتماعهما أولا :

فإن كان الأول : فيلزم منه جواز تعلّق علمين بمعلوم واحد ؛ وهو ممتنع. وإلا كان العالم بالشيء عالما به مرتين ، وعاقل ما لا يجد ذلك من نفسه. كيف وأن أحد العلمين لا يكون مفيدا ؛ ضرورة كون ما يتعلّق به معلوما.

وإن كان الثانى : فيلزم من عدم اجتماعهما ؛ استحالة اجتماع حكمهما. وإلا كان الحكم ثابتا دون موجبه ؛ وهو محال. والاجتماع بين حكمهما غير ممتنع (٤)

فلقائل أن يقول :

المختار إنّما هو القسم الثالث : وهو استحالة الجمع بين العلمين.

والقول بأنه لو استحال الجمع بين العلمين ؛ لاستحال الجمع بين حكميهما ؛ مسلم.

ولكن لا نسلّم جواز الجمع بين الحكمين ، فإنّ حكم (٥) كل واحد من العلمين : كون من قام به عالما.

وكما يمتنع الجمع بين الموجبين ، يمتنع الجمع بين الحكمين ، وإلا كان الحكم ثابتا دون موجبه ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى أ (معلوما).

(٢) من أول (وعلم يجوز ...) ساقط من ب.

(٣) فى ب (أنه يجوز).

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٥) فى ب (علم).

٩٩

والحكمان المجتمعان ، فأحكام العلوم المجتمعة لا غير. كيف وأنا لا نسلم أنّ كون العالم عالما ؛ يزيد على قيام العلم به ، حتى يقال بالموجب والحكم.

وأما الحجة الثانية على الطّرف الأول : فإنما (١) تلزم أن لو امتنع على الصّفة الواحدة أن توجب ما توجبه الصّفات المختلفة ، ولا يلزم من امتناع ذلك في بعض الأحكام كالعالميّة ، والقادريّة ـ مع الاختلاف ـ امتناع ذلك مطلقا ، إلا أن يبين الاشتراك في دليل المنع ؛ ولا سبيل إليه.

كيف وأنه قد (٢) لا نسلم أن ثمّ موجبا وحكما ، على ما تقرر (٣) قبل هذا ، فلا يصحّ الاشتراك (٤).

وأما الحجّة الأولى على الطّرف الثانى : ففى غاية الحسن والقوّة ؛ لكن لقائل أن يقول : الكلام إنّما هو في جواز تعلق العلم الواحد بمعلومين ، وتعلّق العلم بنفسه نسبة وإضافة ، بين العلم ونفسه ، وذلك يستدعى التغاير بين العلم ونفسه ؛ وهو محال ؛ (٥) فلا تعلّق للعلم بنفسه.

وقول القائل : نفسه وذاته ـ وإن كان صحيحا ـ ؛ فنسبة في اللفظ دون المعنى (٥).

وأما الحجّة الثانية : فحاصلها أيضا يرجع إلى قياس تمثيلى ، من غير دليل عقلى موجب للاشتراك في الحكم ؛ فلا يصح (٦).

كيف ولقائل أن يقول في الفرق : إنّ العلم يستدعى وجود المعلوميّة ، والعالميّة ولا يستدعى وجود معلومتين / ؛ فلا يلزم من امتناع إسناد المعلومية والعالمية إلى علمين ؛ امتناع استناد المعلومين إلى علمين. وإن اشترك كل واحد من القائلين في عدم الانفكاك.

وبالجملة : فأقرب هذه المذاهب. إنّما هو مذهب القاضى ؛ فعليك بالاجتهاد في تحقيقه.

__________________

(١) فى ب (فإنه).

(٢) فى ب (قال).

(٣) فى ب (ما يعرف).

(٤) فى ب (الاستدلال).

(٥) فى ب (فلا يتعلق العلم بنفسه ومعنى كون الواحد عالما بعلمه لا يزيد على قيام علمه بنفسه وقوة القائل بنفسه وإن كان ظاهره نسبة الشيء إلى نفسه إلا أنه مجاز لا حقيقة له).

(٦) انظر ما يأتى ل ٣٩ / أ.

١٠٠