أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

٦١

٦٢

٦٣

٦٤

٦٥
٦٦

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه التّوفيق والإعانة ولا حول ولا قوّة إلا بالله (١).

الحمد لله الّذي لا يبلغ مدى عظمته الواصفون ، ولا يدرك كنه حقيقته العارفون ، ولا يحيط بجلال صمديته العالمون ، تعالى عن أن تحيط به الأوهام والظّنون ، وجل [عن (٢)] أن تخلقه الأعوام والسّنون ، الخالق لكلّ موجود سواه ؛ فهو كائن بعد ما لم يكن ، وفاسد بعد أن يكون.

والصّلاة على محمد رسوله القائم بشرعه ، والمظهر لدينه بعد أن كان مكنونا ، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ، ومعادن السّرّ المصون. وبعد :

فإنه لما كان كمال كلّ شيء وتماميّته بحصول كمالاته الممكنة له ؛ كان كمال الأنفس الإنسانية بحصول ما لها من الكمالات : وهى الإحاطة بالمعقولات ، والعلم بالمجهولات.

ولمّا كانت العلوم متكثّرة ، والمعارف متعدّدة ، وكان الزمان لا يتّسع لتحصيل جملتها ، والعمر يقصر عن الإحاطة بكليّتها ، مع تقاصر الهمم وقصورها ، وضعف الدّواعى وفتورها ، وكثرة القواطع واستيلاء الموانع ، كان (٣) الواجب السّعى في تحصيل أكملها ، والإحاطة بأفضلها ؛ تقديما لما هو الأهمّ فالمهم (٤) وما الفائدة في معرفته (٥) أتم.

ولا يخفى أن أولى ما تترامى إليه بالنّظر أبصار البصائر ، وتمتدّ نحوه أعناق الهمم والخواطر ؛ ما كان موضوعه أجلّ الموضوعات ، وغايته أشرف الغايات ، والحاجة إليه في تحصيل السّعادة الأبديّة من الأبديات ، وإليه مرجع العلوم الدّينيّة ، ومستند النواميس الشرعية ، وبه صلاح العالم (٦) ونظامه ، وحلّه وإبرامه ، والطّرق الموصلة (٧) إليه يقينيّات ،

__________________

(١) من أول (وبه التوفيق ...) ساقط من (ب).

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى أ (وكان).

(٤) فى أ (فالأهم).

(٥) (فى معرفته) ساقط من (ب).

(٦) فى ب (العلم).

(٧) فى ب (الواصلة).

٦٧

والمسالك المرشدة نحوه قطعيّات ، وذلك هو العلم الملقّب بعلم الكلام ، الباحث في ذات واجب الوجود ، وصفاته ، وأفعاله ، ومتعلّقاته ؛ فكان أولى بالاهتمام بتعجيله ، والنّظر في تحقيقه وتحصيله.

ولمّا كنّا مع ذلك قد حقّقنا أصوله ، ونقّحنا فصوله ، وأحطنا بمعانيه ، وأوضحنا مبانيه ، وأظهرنا أغواره ، وكشفنا أسراره ، وفزنا فيه بقصب سبق الأولين ، وحزنا غايات أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ، واستترعنا منه خلاصة الألباب ، وفصلنا القشر عن اللّباب. سألنى بعض الأصحاب (١) ، والفضلاء من الطّلاب ؛ جمع كتاب حاو لمسائل الأصول ، جامع (٢) لأبكار أفكار أرباب العقول. مقتصد لا يخرجه التّطويل إلى الملل ، ولا فرط (٣) الاختصار إلى النّقص والخلل ؛ فأجبته إلى دعوته ، والحقته (٤) بأمنيته / رجاء للفوز يوم المعاد ، والغبطة عند قيام الأشهاد ، وهو المسئول أن يلهمنا الرّشد فيما رمناه ، ويسدّدنا لما قصدناه ، وأن يقيلنا من العثار ، وسوء الإكثار ، إنّه قريب ممّن دعاه ، مجيب لمن قصده واستجداه ، وسمّيته :

أبكار الأفكار

وجعلته مشتملا على ثمانى قواعد ؛ متضمّنة لجميع مسائل الأصول :

الأولى (٥) : في العلم وأقسامه.

الثانية : في النّظر وأقسامه وما يتعلّق به.

الثالثة : في الطّرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية (٦).

الرابعة : في انقسام المعلوم إلى الموجود والمعدوم ، وما ليس بموجود ولا معدوم.

__________________

(١) فى ب (أصحابى)

(٢) كلمة (جامع) ساقطة من (ب).

(٣) فى ب (وافراط)

(٤) فى ب (واتحفته)

(٥) الأعداد في (أ) وردت مخالفة للقاعدة وقد صححتها ، وأما في (ب) فوردت مرقمة بالحروف الأبجدية أ ، ب ... الخ.

(٦) ساقط من (ب)

٦٨

الخامسة : في النبوّات.

السادسة : في المعاد وما يتعلّق به من السّمعيّات ، وأحكام الثّواب والعقاب.

السابعة : في الأسماء والأحكام.

الثامنة : في الإمامة ومن له الأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر.

٦٩
٧٠

القاعدة الأولى

في حقيقة العلم وأقسامه

وتشتمل على أربعة أقسام :

الأول (١) : في حدّ العلم وحقيقته.

الثّاني : في العلم الضرورى ، واختلاف العلماء فيه.

الثّالث : في العلم الكسبى.

الرّابع : في أحكام العلم.

__________________

(١) ورد الترقيم خطأ في (ب) حيث ذكر الأول : في العلم الضرورى ، واختلاف العلماء فيه. ونسى ترقيم الأول : في حد العلم وحقيقته ـ وبالتالى فقد ذكرها ثلاثة أقسام فقط.

٧١
٧٢

القسم الأول

في حدّ العلم وحقيقته (١)

أمّا حقيقة العلم : فقد اختلف العلماء في العبارات الدّالّة عليها.

فقال بعض المعتزلة (٢) : العلم اعتقاد الشيء على ما هو عليه.

وهو باطل بالمعتقد عن تقليد وجود الرّبّ تعالى ؛ فإنّه معتقد للشىء على ما هو عليه ، وليس اعتقاده علما. (٣) وهذا ممّا لا يندفع وإن زيد في الحدّ : مع سكون النّفس إليه (٣). ثم إنّه يخرج منه العلم بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فإنّه علم ، وما تعلّق به ليس بشيء بالاتفاق.

ومنهم (٤) من زاد في الحدّ : إذا وقع عن ضرورة أو دليل. وهذه الزّيادة ، وإن اندفع بها الإشكال الأول فلا يندفع بها الإشكال الثّاني.

ومن زعم أن العلم لا يتعلّق بالمعدوم المستحيل الوجود ؛ فحكمه بذلك علم تصديقى ، والعلم التّصديقى يستدعى علمين تصوريين ، وأحد التّصورين المعدوم المستحيل الوجود ؛ فيكون مناقضا لقوله : والعلم التّصديقى. مع كونه مكابرا للبديهة ، وما يجده كلّ عاقل من نفسه من العلم باستحالة الجمع بين النفى والإثبات ، وهو غير متصوّر مع كون النفى غير معلوم.

__________________

(١) عن حقيقة العلم وآراء العلماء فيه : انظر المغنى للقاضى عبد الجبار ج ١٢. ص ١٣ ـ ٢٢. ط أولى نشر المؤسسة المصرية حيث يعرض آراء متقدمى المعتزلة ، ثم يرد عليها. كما يعرض آراء متقدمى الأشاعرة ـ الواردة هنا ـ كالأشعرى ، والباقلانى ، وابن فورك. عرضا واضحا يدل على معرفته التامة بمذهبهم ؛ فقد عاش شبابه بينهم قبل تحوله إلى الاعتزال. ثم يرد عليهم.

وانظر الإنصاف للباقلانى. طبع الخانجى ص ١٣. والتمهيد له أيضا طبع دار الفكر العربى ص ٣٤ وأصول الدين للبغدادى. طبع مطبعة الدولة باستانبول ص ٥ ، ٦ والإرشاد لإمام الحرمين. نشر الخانجى ص ١٢ ، ١٣ والمحصل للرازى. طبع الحسنية ص ٦٩ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٥ على هامش المحصل.

وانظر شرح المواقف للجرجانى. ط دار الطباعة العامرة ص ٢٩ ـ ٣٦ حيث يختصر صاحب المواقف ما أورده الآمدي مفصلا هنا. وأيضا شرح المقاصد للتفتازانى. ط دار الطباعة العامرة باستانبول ص ١٣ ـ ١٥.

(٢) القائل : هو الكعبى ، انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.

(٣) من أول (وهذا مما لا يندفع ...) ساقط من ب. أما صاحب الزيادة : فهو أبو هاشم. انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.

(٤) هو الجبائى ، انظر أصول الدين للبغدادى ص ٥.

٧٣

وقال القاضى أبو بكر (١) : العلم (٢) معرفة المعلوم على ما هو به (٣)

وهو باطل من وجهين :

الأول (٤) : أنّ لله تعالى علما عنده بعلم ، ولا يقال لعلمه معرفة بالإجماع ؛ فلا يكون الحدّ جامعا.

الثانى : أنّه عرّف العلم بالمعلوم. والمعلوم مشتقّ من العلم ، والمشتق من الشيء يكون أخفى من ذلك الشّيء ، وتعريف / الأظهر (٥) بالأخفى ممتنع. كيف وفيه زيادة لا حاجة إليها وهى قوله : على ما هو به ؛ فإنّ المعرفة بالمعلوم لا تكون إلا على ما هو به.

وقال الشيخ الأشعرىّ (٦) : فيه عبارات :

الأولى : العلم هو الّذي يوجب كون من قام به يكون عالما.

الثانية : هو الّذي يوجب لمن قام به اسم العالم.

الثالثة : العلم إدراك المعلوم على ما هو به.

والعبارتان الأوليان مدخولتان ؛ من حيث أنه أخذ العالم في حدّ العلم ؛ وهو أخفى من العلم. والثالثة [مدخولة أيضا (٧)] من جهة أنه أخذ المعلوم في تعريف العلم ؛ وهو أخفى منه (٨).

__________________

(١) القاضى الباقلاني : محمد بن الطّيّب بن محمد بن جعفر بن القاسم. البصرى ، ثم البغدادى ، المعروف بالباقلانى (أبو بكر) متكلم أشعرى ولد بالبصرة سنة ٣٣٨ ه‍. وسكن بغداد ، له مؤلفات كثيرة في الرد على المعتزلة ، والشيعة ، والخوارج ، والجهمية وغيرهم وتوفى سنة ٤٠٣ ه‍. يقول عنه ابن تيمية : إنه أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعرى ، وليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده. (انظر وفيات الأعيان ٣ / ٤٠٠ ، وشذرات الذهب ٣ / ١٦٩).

(٢) ساقط من (ب).

(٣) انظر التمهيد ص ٣٤ والإنصاف ص ١٣.

(٤) ورد الترقيم في (ب) بالحروف الأبجدية في كل الكتاب وسأكتفى بذكر ما ورد في (أ) بدون تنبيه ، اكتفاء بما أوردته هنا.

(٥) فى ب (الشيء).

(٦) أبو الحسن على بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم. من نسل الصحابى الجليل أبو موسى الأشعرى. مؤسس مذهب الأشاعرة ولد في البصرة سنة ٢٦٠ ه‍ وتوفى في بغداد سنة ٣٢٤ ه‍ (انظر وفيات الأعيان ٢ / ٤٤٦ وطبقات الشافعية ٢ / ٢٤٥).

(٧) فى أ (أيضا فمدخولة).

(٨) فى ب (من العلم).

٧٤

وأيضا : فإنه أخذ الإدراك في حدّ العلم ، والإدراك ـ على أصله ـ نوع من العلم ؛ وتعريف الجنس بنوعه ممتنع. ثم لا حاجة إلى الزيادة وهى : على ما هو به ؛ كما تقدّم.

قال الأستاذ أبو بكر بن فورك (١) : العلم ما صحّ بوجوده من الّذي قام به إتقان الفعل وإحكامه.

وهو باطل ؛ فإنّه إن أراد به ما يصحّ به إحكام الفعل وإتقانه بطريق الاستقلال ؛ فهو محال ، فإنّ إتقان الفعل كما يتوقّف على العلم ، يتوقّف على القدرة. وإن أراد به أنّه يتوقّف عليه الإتقان ولا يستقلّ به ؛ فيلزم عليه القدرة ؛ فإنّها أيضا كذلك ؛ وليست علما.

وأيضا : فإنّ الواحد منّا له علم ، وهو غير مؤثّر في إتقان فعل من الأفعال القائمة به ، ولا الخارجة عنه ؛ إذ هو غير موجد لهما على أصلنا.

وقد قيل في إبطاله أيضا : إنّ العلم قد يكون بما لا يصحّ به إتقانه [كعلم (٢)] الواحد منا بنفسه وبالله تعالى ، وبالمستحيلات ؛ فإن ما تعلق به ليس فعلا ، ولا ممّا يصح إتقانه [به (٣)] وإنما يلزم هذا الإبطال أن لو قيل : العلم هو ما يصحّ به إتقان كلّ ما يتعلق به. وأما إذا أريد به ما يصحّ به في الجملة إتقان الفعل ، فلا.

وقال الشيخ أبو القاسم الأسفرايينى (٤) : العلم ما يعلم به.

وفيه أيضا : تعريف العلم بما هو أخفى منه.

__________________

(١) فى ب (وقال الأستاذ وابن فورك).

الأستاذ أبو بكر بن فورك : محمد بن الحسن بن فورك : المتكلم ، الأصولى ، الأديب ، النحوى ، الواعظ. من متكلمى الأشاعرة ، له تصانيف كثيرة في أصول الدين ، وأصول الفقه توفى سنة ٤٠٦ ه‍.

(انظر وفيات الأعيان ٣ / ٤٠٢ والأعلام ٦ / ٣١٣ ومعجم المؤلفين ٩ / ٢٠٨).

(٢) فى أ (لعلم).

(٣) كلمة (به) ساقطة من (أ).

(٤) أبو القاسم الأسفرايينى :

هو أبو القاسم عبد الجبار بن على بن محمد بن حسكان الأسفرايينى الإسكافى ، المتوفى سنة ٤٥٢ ه‍ ، كان تلميذا لأبى إسحاق الأسفرايينى ، وكان من كبار المتكلمين الآخذين بمذهب الأشعرى ، وكان يشتغل بالمناظرة والتدريس والفتوى.

من أهم تلاميذه إمام الحرمين الجوينى.

(انظر طبقات الشافعية الكبرى للسبكى ٣ / ٢٢).

٧٥

وقال بعض الأصحاب : العلم إثبات المعلوم على ما هو به.

وهو فاسد من ثلاثة أوجه (١) :

الأول : أنّ فيه تعريف العلم بالمعلوم ؛ وهو فاسد ؛ على ما تقدم.

الثانى : أنّه إذا كان العلم إثبات المعلوم ؛ فالعالم بالمعلوم يكون مثبتا للمعلوم ؛ ويلزم من ذلك أن يكون علمنا بوجود الرّب تعالى : إثباتا له ؛ وهو محال.

الثالث : أنّ الإثبات قد يطلق ويراد به إيجاد الشّيء ، وقد يطلق ويراد به تسكين الشيء عن الحركة ، وقد يطلق تجوّزا على العلم.

ولا يخفى أنّ إرادة الإثبات بالاعتبار الأول والثّاني فيما نحن فيه ؛ ممتنع. والثالث / فيه تعريف العلم بالعلم ؛ وهو ممتنع.

وقال غيره من الأصحاب : العلم تبيين المعلوم على ما هو به.

ولا يخفى ما فيه من الزّيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه. والّذي يخصه أن التبيين مشعر بالظّهور بعد الخفاء ، والوضوح بعد الإبهام ؛ وذلك ممّا يوجب خروج علم الرّبّ تعالى عن الحدّ.

وقال غيره : العلم هو الثّقة (٢) بأن المعلوم على ما هو عليه.

ولا يخفى ما فيه من الزّيادة ، وتعريف العلم بما هو أخفى منه.

كيف وأنّه يلزم من كون العلم هو الثقة (٢) بالمعلوم ؛ أن يكون من قام [به] (٣) العلم واثقا ؛ وذلك يوجب كون البارى تعالى واثقا بما هو عالم به ، وإطلاق ذلك على الله ـ تعالى ـ ممتنع شرعا.

وقالت الفلاسفة : العلم عبارة عن انطباع صورة المعلوم في النّفس.

ويلزم عليه أنّ من علم الحرارة والبرودة : أن تكون صورة الحرارة ، والبرودة ؛ منطبعة في نفسه ؛ ويلزم من ذلك أن يكون العالم بهما حارا ، أو باردا ؛ وهو محال.

__________________

(١) قارن بما ورد في شرح المواقف ١ / ٨١ فمن الواضح أنه نقل هذا عن الآمدي.

(٢) من أول (بأن المعلوم على ما هو ...) ساقط من (ب).

(٣) كلمة (به) ساقطة من (أ).

٧٦

فإن قيل : المنطبع إنّما هو مثال الحرارة ، والبرودة ، لا نفس الحرارة والبرودة.

قيل : فالمثال إن كان مساويا في الحقيقة للمثل ؛ فالإشكال لازم ، وإلا فليس مثلا له ، ولا العلم متعلّقا به (١).

ولعسر تحديد العلم ؛ اختلف العلماء المتأخرون.

(٢) فقال بعضهم (٢) : إنّه لا طريق إلى تعريفه بالحدّ ؛ بل تعريفه إنّما هو بالقسمة ، والمثال.

وقال بعضهم (٣) : العلم بالعلم بديهى ؛ لأن ما عدا العلم لا يعرف إلا بالعلم ، فلو كان غيره معرّفا له ؛ لكان دورا ؛ ولأن الإنسان يعلم بالضرورة وجود نفسه ، والعلم أحد تصورى هذا التصديق البديهى ، وما يتوقّف عليه البديهى يكون بديهيا ؛ فتصوّر العلم بديهى ؛ وهما باطلان :

أما القول الأول : فلأن الطريق المذكور في التعريف إن حصلت به معرفة العلم وتمييزه عن غيره ؛ فلا معنى للحدّ إلا هذا. وإن لم يحصل به تمييز العلم عن غيره ، فلا يكون معرفا للعلم.

وأما القول الثانى : فغير لازم ، فإنّ الدّور يوجب أن لا يكون التّحديد بأمر خارج عن العلم ، فلا يلزم من ذلك امتناع التّحديد مطلقا ؛ إذ الحدّ أعمّ من الحدّ بأمر خارج عن المحدود على ما لا يخفى إلا أن يكون العلم بسيطا ، وليس كذلك (٤) ؛ إذ هو نوع من مقولة الكيف ؛ على رأى. ومن مقولة المضاف ، على رأى ؛ فيكون مركبا.

كيف وأنه لا دور ؛ (٥) إذ الدّور إنمّا يكون (٥) مع اتحاد جهة التّوقّف ، وتوقّف غير العلم على العلم لا من جهة (٦) كون العلم (٦) صفة مميّزة له ؛ بل من جهة كونه مدركا به ، وتوقف / العلم على الغير بالضّد ؛ فلا دور أصلا.

__________________

(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي). وهى زيادة من الناسخ ، وهذه العبارة ترد كثيرا في النسخة (ب) عند ما يصرح الآمدي برأيه ، وأرجح أن بعض من اقتنوا النسخة ذكر ذلك للتوضيح ، فلما نقلت عنها هذه النسخة ظنه الناسخ ـ خطأ ـ من كلام الآمدي.

(٢) فى ب (فمنهم من قال). انظر الإحكام للآمدى ١ / ٩ ، ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ ، حيث يحدد هذا البعض بأنهما : إمام الحرمين ، والغزالى. ثم انظر شرح المواقف للجرجانى ص ٢٨ حيث يوضح أنهما : إمام الحرمين والغزالى أيضا. قالا : وطريق معرفته بالقسمة والمثال. ثم يرد عليهما مختصرا ما أورده الآمدي هنا.

(٣) انظر الإحكام للآمدى ١ / ٩ ، ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ ، وانظر شرح المواقف للجرجانى ص ٢٦ حيث يحدده بالإمام الرازى ثم يرد عليه موضحا ما أورده الآمدي هنا. ثم انظر ص ٦٩ من المحصل للرازى.

(٤) ساقط من (ب).

(٥) فى ب (فالدور إنما يلزم).

(٦) فى ب (كونه).

٧٧

وعلم الإنسان بوجود نفسه وإن كان بديهيا ، فلا يلزم أن تكون العلوم التصورية بديهية لوقوع النسبة البديهية بينهما ؛ فإنه لا معنى للقضية البديهية إلا إذا ما حصل العلم بمفرداتها بادر العقل إلى النّسبة الواجبة لها من غير توقّف على نظر ولا استدلال. وسواء كانت المفردات معلومة بالبديهية ، أو النظر. ولهذا فإن النفس أحد التصورات في المثال المذكور ؛ والعلم بمعنى النّفس غير بديهى (١).

والأشبه في تحديده أن يقال :

العلم عبارة عن (٢) صفة يحصل بها لنفس المتّصف تمييز حقيقة ما ، غير محسوسة في النفس ـ احترازا من المحسوسات ـ حصل عليه حصولا لا يتطرق إليه احتمال كونه على غير الوجه الّذي حصل عليه (٢) ، ويدخل فيه العلم بالإثبات ، والنفى ، والمفرد ، والمركب (٣). وتخرج عنه الاعتقادات والظّنون حيث (٤) أنّه لا يبعد (٤) فى النّفس احتمال كون المعتقد والمظنون على غير الوجه الّذي حصل عليه في النفس ، وهو وجودى لا سلبى ؛ لأنّه لو كان سلبيا ؛ فسلبه يكون إثباتا ؛ لأنّ سلب السّلب إثبات. ولو كان كذلك ؛ لما صحّ سلب العلم عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من اتّصاف العدم المحض بالصّفة الثبوتيّة ؛ وهو محال.

فإن قيل : هذا وإن دلّ على أنّ العلم ثبوتى ؛ فهو معارض بما يدل على كونه سلبيّا ؛ وذلك لأن الجهل البسيط نقيض العلم. والجهل البسيط ليس أمرا سلبيا وإلا كان سلبه إثباتا كما ذكرتموه. ولو كان إثباتا ؛ لما صحّ سلب الجهل عن المعدوم المستحيل الوجود ؛ لما فيه من إثبات الصّفة الثبوتيّة للعدم المحض ؛ وهو محال.

وإذا كان الجهل البسيط ثبوتيّا ؛ فالعلم المناقض له يكون سلبيا.

__________________

(١) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٢) فى ب (حصول صورة معنى في النفس لا يتطرق إليه في النفس احتمال كونه على غير الوجه الّذي حصل عليه ، ونعنى بحصول المعنى في النفس تميزه في النفس عما سواه).

(٣) انظر الإحكام ١ / ١٠ حيث يعرف العلم بأنه عبارة عن (صفة يحصل بها لنفس المتصف بها التمييز بين حقائق المعانى الكلية حصولا لا يتطرق إليه احتمال نقيضه).

وانظر أيضا : تعريفه في منتهى السئول ١ / ٥. حيث يعرفه بأنه عبارة عن (صفة يحصل بها لنفس المتصف بها الميز بين حقائق الأمور الكلية ميزا لا يتطرق إليه احتمال مقابله).

(٤) فى ب (حيث لا يبعد له).

٧٨

قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان الجهل البسيط نقيضا للعلم ؛ وليس كذلك ؛ [بل (١) هو مقابل له ؛ والمتقابلان (١)] أعم من المتناقضين. ولا يلزم من كون أحد المتقابلين ثبوتيا أن يكون الأخر سلبيا ؛ (٢) ولهذا فإنّهما يجتمعان في الكذب بالنسبة إلى ما هو غير قابل للعلم ، ولو كانا متناقضين لما اجتمعا في الكذب (٢). وقد قيل : إنّ العلم صفة إضافيّة بين العالم والمعلوم ؛ وفيه نظر.

فإنّه إن قيل : إنّ الإضافة عدم ؛ فسلب الإضافة يكون ثبوتيا. ويلزم منه أن يكون سلب الإضافة عن الأعدام المحضة ؛ موجبا لاتصاف العدم المحض بالصّفة الثّبوتيّة ؛ وهو محال.

وإن قيل : إن الإضافة وجود ـ فيلزم [أن تكون الإضافة بين] (٣) المتقدم والمتأخر ؛ صفة ثبوتية لهما. مع أنّ أحدهما معدوم. وأن تكون الإضافة / بالتقابل بين السّلب والإيجاب صفة ثبوتية لهما ؛ والسلب عدم محض.

وإذا كان كلّ واحد من الأمرين محالا ؛ فالعلم لا يكون صفة إضافية.

وإذا عرف معنى العلم ؛ فهو حاصل متحقّق باتفاق العقلاء. ولم يخالف في ذلك غير السّوفسطائية (٤) ، وسيأتى (٥) الكلام معهم فيما بعد إن شاء الله تعالى (٥).

وهو ينقسم إلى : قديم ، وإلى حادث.

أما العلم القديم : فهو علم الله ـ تعالى ـ وسيأتي الكلام فيه فيما بعد (٦).

وأمّا العلم الحادث : فينقسم إلى ضرورى ، وإلى كسبى ؛ فلا بدّ من الإشارة إليهما (٧).

__________________

(١) فى أ ـ (بل مقابل له فالمتقابلان).

(٢) من أول (ولهذا فإنهما ...) ساقط من (ب).

(٣) فى أ ـ (أن للإضافة من).

(٤) السّوفسطائيّة : هم الذين شكوا في وجود الحقائق ، وقالوا : إن حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد ، وصححوا جميع الاعتقادات مع تضادها وتنافيها ، وكانوا يستخدمون مقدمات خاطئة ليتوصلوا بها إلى نتائج الغرض منها إسكات الخصم. ومن أشهر رجالهم بروتاجوراس المتوفى ق. م ، ومعاصره جورجياس المتوفى عام ٣٨٠ ق. م. ولمزيد من البحث والدراسة انظر الفصل لابن حزم ١ / ٤٣ ـ ٤٥ القسم الأول : السوفسطائية.

(٥) فى ب (وبيان الكلام معهم ما يأتى فيما بعد).

(٦) انظر ل ٧٢ / ب وما بعدها.

(٧) فى ب (إليه).

٧٩

القسم الثانى

في العلم الضّرورى (١)

واختلف النّاس فيه.

وقد قال القاضى أبو بكر : (٢)

العلم الضّرورى : هو الّذي يلزم نفس المخلوق لزوما لا يجد عن الانفكاك عنه سبيلا.

وهذه العبارة وإن وقع (٣) الاحتراز فيها (٣) عن علم الله ـ تعالى ـ إلا أنّه لا مانع من زوال العلم الضّرورى ، وثبوت أضداده كما يأتى ؛ فلا يكون جامعا.

وإن قيل : المراد به منع الانفكاك مقدورا للعبد ، أو عادة (٤) ، فيدخل العلم النظرى (٤) بعد حصوله ، فإنّه كذلك وليس ضروريّا عنده ؛ فلا يكون الحدّ مانعا ، وإنّما يصح أن لو أريد به منع الانفكاك قبل النّظر مقدورا للمكلّف ، أو عادة (٥).

والحقّ أن الضّرورى قد يطلق على ما أكره عليه ، وعلى ما تدعو الحاجة إليه دعوا قويّا : كالحاجة إلى الأكل في المخمصة ، وعلى (٦) ما سلب فيه الاقتدار على الفعل والترك : كحركة المرتعش. إلا أنّ إطلاق العلم الضّرورى على العلم الحادث ؛ إنّما هو بهذا الاعتبار الأخير.

وعلى هذا : فالعلم الضّرورى : هو العلم الحادث الّذي لا قدرة للمخلوق على تحصيله بالنّظر والاستدلال. (٧)

وذلك كالعلم بالمحسوسات (٨) الظّاهرة (٨) : كالعلم بالمسموعات ، والمبصرات ، والمشمومات ، والمذاقات ، والملموسات.

__________________

(١) انظر أصول الدين للبغدادى ص ٨ ، ٩ ، ٣١ ، ٣٢ والمغنى للقاضى عبد الجبار ١٢ / ٥٩ ، وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٤٨ والإرشاد للجوينى ص ١٣ ـ ١٥ والشامل له أيضا ص ١١١ ـ ١١٤ وشرح المواقف للجرجانى ص ٣٨ وشرح المقاصد للتفتازانى ص ١٥.

(٢) انظر التمهيد ص ٣٥ والإنصاف ص ١٤.

(٣) فى ب (فيها الاحتراز).

(٤) فى ب (فيدخل فيه العلم النظرى وثبوت أضداده).

(٥) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٦) فى ب (وإلى).

(٧) انظر الإحكام للآمدى ١ / ١٠ ومنتهى السئول ١ / ٥ له أيضا.

(٨) فى ب (بالحس الظاهر).

٨٠