أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

سلمنا امتناع التعليل بالحدوث ؛ ولكن لا يلزم منه أن يكون الوجود علة مصححة للرؤية ؛ لأن الوجود المشترك عند القائل به حال ؛ والحال لا (١) يصح أن تكون (١) علة على أصلكم.

سلمنا إمكان التعليل بالوجود ، ولكن مشروطا / بالحدوث ، أو لا مشروطا بالحدوث (٢). الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

والحدوث وإن كان عدما ، فلا يمتنع أن يكون شرطا في الصحة ؛ فإن انتفاء أحد الضدين عن المحل شرط لصحة اتصاف المحل بالضد الآخر ، وإن لم يكن علة له.

سلمنا أنه غير مشروط بالحدوث ؛ ولكن إنما يصح التعليل بالوجود أن لو لم يدل الدليل على امتناعه.

وبيان امتناع التعليل به هو أنه لا يخلو : إما أن يكون علة لرؤية نفس الوجود ، أو للماهية التى هو صفة لها لا غير ، أو لمجموع الأمرين.

فإن كان الأول : وجب أن لا يكون المدرك من السواد ، والبياض غير الوجود المشترك بينهما ، وأن لا يدرك التفرقة بينهما ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : وجب أن لا يكون البارى ـ تعالى ـ مرئيا ؛ إذ لا ماهية له خارجة عن وجوده ، كما سبق.

وإن كان الثالث : فيلزم (٣) منه أنا إذا رأينا السواد مثلا : أن ندرك التفرقة بالبصر بين وجوده ، وماهيته ؛ وهو محال.

وأيضا : فإنه لو كان الوجود هو المصحح للرؤية ؛ لكانت (٤) الطعوم ، والروائح مرئية ؛ لكونها موجودة ؛ والضرورة تشهد بخلافه.

__________________

(١) فى ب (لا تكون).

(٢) فى ب (به).

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (لما كانت).

٥٠١

سلمنا أن الوجود هو المصحح لرؤية الألوان ، والأجسام فقط ؛ ولكن إنما يلزم منه (١) صحة رؤية (١) البارى ـ تعالى ـ أن لو كان وجوده مماثلا لوجود الممكنات ؛ وليس كذلك ، وإلا لكان ما ثبت لأحدهما ثابتا للآخر.

ويلزم من ذلك أن يكون وجود الرب تعالى ممكنا ، أو أن يكون وجود الممكنات واجبا ، أو أن يكون كل واحد منهما واجبا ، وممكنا ؛ وهو محال.

سلمنا أن مسمى وجود واجب الوجود ، مماثلا لوجود الممكنات ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من وجود المصحح ، وجود الصحة في حق البارى ـ تعالى ـ ؛ لجواز أن لا يكون قابلا لها ؛ وذلك لأن الحكم كما يتوقف على وجود المصحح ، يتوقف على وجود القابل ، أو أن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ مختصة بما يمنع من صحة الرؤية عليها.

ولهذا فإن كون الواحد في الشاهد حيا ؛ مصحح لكونه متألما ، ومشتهيا ، وجائعا ، وعطشانا ، ومريضا ، وصحيحا ، إلى غير ذلك. والبارى ـ سبحانه وتعالى ـ مساو في كونه حيا للشاهد. ومع ذلك : فيمتنع ثبوت هذه الأحكام في حقه.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الرب ـ تعالى ـ مرئيا ؛ ولكن لنفسه ، أو لنا؟

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وبيانه ما / سبق في مسألة السمع ، والبصر من الأدلة (٢) المانعة من كون الرب ـ تعالى ـ بصيرا ؛ فإنها بعينها تدل على امتناع كونه مرئيا لنا.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كونه مرئيا لنا ؛ ولكنه منتقض بأمرين :

الأول : بصفة المخلوقية ؛ فإنها ثابتة للجواهر ، والأعراض ، وذلك يستدعى مصححا مشتركا ؛ ولا مشترك غير الوجود ، والحدوث ، والحدوث ليس بعلة كما بينتم ؛ فكان الوجود هو العلة ، والبارى ـ تعالى ـ مشارك للجواهر ، والأعراض في معنى الوجود ، وما لزم صحة المخلوقية عليه.

الثانى : هو أنا كما ندرك الأجسام ، والألوان بإدراك البصر ؛ فندرك الأجسام ، والأعراض الملموسة ؛ باللمس. ولا بدّ من مصحح للإدراك باللمس. ولا مصحح غير

__________________

(١) فى ب (صحة الرؤية).

(٢) فى ب (الدلالة).

٥٠٢

الوجود ؛ لما سبق من التقرير. والوجود متحقق في حق الله ـ تعالى ـ ؛ وهو غير مدرك باللمس.

سلمنا جواز رؤيته لنا عقلا ؛ ولكن في الدنيا ، أو في الأخرى؟ الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

وذلك لأنه لا مانع من امتناع الرؤية في الدنيا دون الأخرى بسبب افتراقهما في الشواغل ، والموانع ، والانغماس في الرذائل ، والانهماك على الشهوات العاجلة ، والخلو عنها في الأخرى.

والجواب :

أما منع كون الألوان مرئية ؛ فباطل (١) ؛ لما سبق (١) فى المقدمة.

وأما منع كون الأجسام مرئية ؛ فباطل ؛ لما سبق في أول المسألة.

قولهم : إن الأشكال ، والمقادير عرض آخر ؛ ليس كذلك ؛ بل هى جملة أجزاء الجسم المؤتلفة ؛ ولذلك يزيد بزيادتها ، وينقص بنقصانها.

قولهم : لا نسلم أن صحة الرؤية أمر ثبوتى على ما قرروه.

قلنا : نحن إنما نعلل رؤية الأجسام ، والألوان ، ونعنى بصحة الرؤية ، وقوع الرؤية ؛ وهو أمر وجودى ؛ وليس ذلك (٢) هو نفس إمكان الرؤية ؛ فإنه فرق بين الرؤية ؛ وإمكان الرؤية ؛ وعلى هذا فقد اندفع جميع ما ذكروه في جهة التقرير.

فإن قيل : يلزم على هذا من وجود المصحح في حق الله ـ تعالى ـ وجود الرؤية.

قلنا : بلى بجواز.

وبيانه أنه لو لم تكن الرؤية ممكنة ؛ لكانت واجبة لذاتها ، أو ممتنعة لذاتها.

ولا جائز أن تكون ممتنعة لذاتها ؛ إذ الممتنع لذاته ، لا مصحح له ؛ فلم يبق إلا أن تكون ممكنة ؛ وهو المطلوب.

__________________

(١) فى ب (فجوابه ما سبق) انظر ل ١٢٣ / ب.

(٢) فى ب (كذلك).

٥٠٣

قولهم : لا نسلم أن كل أمر ثبوتى يجب أن يكون معللا.

قلنا : دليله ما سبق.

قولهم : لا نسلم امتناع رؤية المعدوم.

قلنا : اتفق جميع العقلاء ؛ ما عدا السالمية (١). على امتناع رؤية المعدوم ، ولا حاجة إلى الدلالة بالنسبة إلى الموافق. ومن خالف ؛ فطريق الرد عليه أن نقول : نحن إنما نعلل رؤية ما رؤيته واقعة ، ورؤية المعدوم غير واقعة ، على ما يجده كل عاقل من نفسه ، ولو أراد مريد رؤية المعدوم ؛ لكان طالبا شططا ؛ بخلاف رؤية الأجسام ، والألوان على ما لا يخفى.

قولهم : إن الرؤية عندكم نوع من / العلوم ؛ لا نسلم ذلك. وإن سلمنا [ذلك (٢)] ؛ فلا يلزم تعلق كل علم بكل معلوم.

قولهم : لم قلتم بأن رؤية الأجسام ، والألوان معللة؟

قلنا : لما ذكرناه.

قولهم : إن اختصاص محل الحكم بالعلة أيضا زائد عليه ، ولا يستدعى مخصصا.

قلنا : ما جعلناه ، علة مصححة إنما هو نفس الوجود ، والوجود عندنا نفس الموجود لا زائد عليه ؛ على ما يأتى ؛ بخلاف الرؤية.

قولهم : إن اختصاص العلة بكونها علة أمر زائد.

قلنا : إلا (٣) إنه ثابت لذاته ؛ فلا يستدعى مخصصا أخر (٣).

قولهم : المعلومية ، والمذكورية : غير معللة.

قلنا : لأنها عامة للموجودات ، والمعدومات ؛ فلا يستدعى مخصصا بخلاف ما ذكرناه من الرؤية حيث تخصصت بالموجود دون المعدوم.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ١٢٣ / أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (لا معنى لكون العلة علة إلا أنها مؤثرة في المعلول لذاتها فلا يستدعى مخصصا آخر قطعا للتسلسل).

٥٠٤

قولهم : اختصاص بعض المحال بالسواد أو البياض ، صفة زائدة ولا يستدعى مخصصا ؛ ليس كذلك ؛ بل لا بدّ وأن يكون ذلك لازما لذات المحل ، أو لصفة لازمة لذات المحل.

قولهم : إن وقوع الفعل من الفاعل لا يكون معللا.

قلنا : وقوع الفعل من الفاعل لا معنى له غير وجود الفعل ، ووجود الشيء في نفسه لا يكون معللا ؛ إذ ليس وجوده زائدا على ذاته ، وإسناده إلى الفاعل لا بدى ؛ ضرورة كونه ممكنا ، وإلا كان واجبا لذاته ؛ وليس الفاعل هو المصحح.

قولهم : إن التماثل ، والاختلاف حال زائد ، وليس معللا.

لا نسلم أن التماثل ، والاختلاف حال زائد ؛ فإنه لا معنى للتماثل غير الاشتراك في أخص صفات النفس ، وليس ذلك حالا زائدا.

وأما الاختلاف : فحاصله راجع إلى أن أخص أوصاف النفس لكل واحد لا تحقق له في الآخر ؛ وذلك سلب لا ثبوت ؛ فلا يكون معللا كما تقدم.

وعلى هذا أيضا : يمتنع تعليل التضاد ، والغيرية ؛ إذ لا معنى للتضاد غير امتناع الجمع. ولا معنى للغيرية : إلا أن أحد الشيئين ليس هو الآخر ، وليس حكما إثباتيا ؛ بل حاصله يرجع (٢) إلى السلب ، والعدم المحض.

قولهم : لا نسلم التماثل بين رؤية الأجسام ، والألوان.

قلنا : الرؤية من حيث هى رؤية لا اختلاف فيها ؛ ولذلك يمكن تحديدها بحد واحد ؛ وإنما الاختلاف في التعلق ، والمتعلق ؛ وذلك لا يوجب الاختلاف في نفس الرؤية كما سبق في العلوم والقدر ، والإرادات / ونحوها من الصفات.

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من منع التماثل مطلقا ، ومن منع التماثل في رؤية الجسم ، واللون ، ومن قولهم بالتماثل من وجه دون وجه.

قولهم : لا نسلم امتناع تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة.

__________________

(٢) فى ب (راجع).

٥٠٥

قلنا : دليله ما ذكرناه (١).

وأما ما ذكروه من الإشكال الأول : فمندفع فإن الملازمة بين ما به الاتفاق ، والافتراق في كل نوع إنما هى من الجانبين ، لا من أحد (٢) الجانبين (٢) دون الأخر. والملازمة من الجانبين ليست تدل على أن كل واحد علة للآخر أو أن أحدهما علة للآخر ، من غير عكس ؛ بل الملازمة بين الشيئين أعم من ذلك.

ولهذا فإن الملازمة بين المتضايفات ثابتة من الجانبين ، ولا علية ولا معلولية لأحدهما ، بالنسبة إلى الأخر.

وأما الإشكال الثانى : فإنما يصح أن لو كان العلم القديم غير مماثل للعلم الحادث من حيث هو علم ؛ وليس كذلك ؛ بل هما مثلان (٣) من هذا الوجه. وإن وقع الاختلاف بينهما ؛ فليس في ذاتيهما ؛ بل في عوارض خارجة عنهما. وعلية العالمية إنما هى القدر المشترك بينهما دون غيره. هذا إن قلنا بالأحوال. وإلا فالعالمية لا تزيد على قيام العلم بالذات.

وأما الإشكال الثالث : فإنما يلزم أن لو ثبت أن الاختلاف والتضاد أمر ثبوتى زائد على ذات المختلفين ، والمتضادين ؛ وليس كذلك على ما سبق قبل.

وأما الإشكال الرابع : فإنما يلزم أن لو كان القبح صفة ثبوتية من صفات الكذب ، والجهل ، وهو غير مسلم ، بل هو راجع إلى حكم الشارع ، أو مخالفة الأعراض على ما يأتى في مسألة التحسين ، والتقبيح (٤).

وأما الإشكال الخامس : فمندفع أيضا ؛ فإن اتفاق السواد والبياض في الافتقار إلى المحل ليس حكما ثبوتيا ؛ بل حاصله يرجع إلى صفة سلبية ؛ وهو أنه لا وجود لكل واحد منهما دون المحل ؛ فلا يكون معللا كما سبق.

قولهم : لا نسلم أن مسمى الوجود مشترك بين الأجسام ، والألوان.

قلنا : هذا المنع إن صدر ممن يعترف بأن الوجود زائد على الموجود ، وأنه مشترك بين الموجودات من المعتزلة وغيرهم ؛ فهو فاسد.

__________________

(١) فى ب (ما سبق).

(٢) فى ب (أحدهما).

(٣) فى ب (متلازمان).

(٤) انظر ما سيأتى في النوع السادس ـ الأصل الأول ـ المسألة الأولى : فى التحسين والتقبيح ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

٥٠٦

وإن صدر ممن لا يعترف بذلك : كأبي الحسين البصرى ، وغيره ؛ فموقفه صعب جدا ، وأقصى ما فيه أن يقال :

قد ثبت أن الأجسام ، والألوان مرئية فمحل الرؤية ـ وهو المعنى بمصحح / الرؤية ـ إما أن يكون وجودا ، أو عدما.

لا جائز أن يكون عدما : لما سبق ؛ فلم يبق إلا أن يكون وجودا. وقد ثبت أن المصحح لا يكون مختلفا بما سبق ؛ فتعين أن يكون مماثلا. فإذا سلمت هذه المقدمات ؛ فمنع التساوى في الوجود الّذي هو متعلق الرؤية يكون منعا لما سلم من المقدمات ؛ وهو ممتنع.

قولهم : إن الوجود على أصلكم غير مشترك.

قلنا : ما يذكر (١) بطريق الإلزام ؛ لا يلزم أن يكون معتقدا للملزم.

وعلى هذا فلا حاجة بنا إلى دعوى حصر الأوصاف المشتركة في الوجود والحدوث ؛ فإنه لا سبيل إلى إثبات ذلك بغير (٢) البحث (٢) والسبر ؛ وهو غير يقينى [كما (٣) سبق (٣)].

وبما ذكرناه (٤) أيضا يندفع ما عارضوا به من صفة الإمكان ، والعرضية ، والمعلومية ، والمذكورية ، وغيرها.

على أنا نجيب عن كل واحد بما يخصه :

أما الإمكان : فحاصله يرجع إلى صفة سلبية كما تقدم. كيف وأن الإمكان متحقق في المعدومات ؛ وهى غير مرئية.

وأما الاشتراك في العرضية : فلا يصلح أن يكون مصححا للرؤية على أصل الخصم ، وإلا كانت الطعوم ، والروائح مرئية على أصلهم ؛ وليس كذلك.

__________________

(١) فى ب (نذكره).

(٢) فى ب (الا بالبحث).

(٣) ساقط من أأنظر ل ٣٩ / ب.

(٤) فى ب (وبما ذكروه).

٥٠٧

وأما المعلومية ، والمقدورية ، والمذكورية : فلا يمكن أن تكون مصححة للرؤية لوجهين :

الأول : إنها إما أن تكون صفة لما قيل إنه معلوم ، ومقدور ، ومذكور ، وإما أن لا تكون صفة له.

فإن كان الأول : فيلزم أن لا تكون صفة وجودية ؛ ضرورة صحة اتصاف المعدوم بها.

وإن لم تكن صفة له : فلا يكون علة مصححة لرؤيته ؛ إذ العلة لا تخرج عن محل حكمها كما تقدم.

الثانى : أن هذه الصفات ثابتة للمعدوم ، وليس بمرئى.

قولهم : لم قلتم إن الحدوث لا يكون علة؟

قلنا : لما ذكرناه.

قولهم : إن سبقية العدم عارض للحدوث.

قلنا : الوجود إذا سبقه العدم صدق عليه اسم الحدوث. فإن كان العدم داخلا في مفهوم الحدوث ؛ فهو المطلوب.

وإن كان عارضا : فهو عارض للوجود.

وعلى كلا التقديرين : فيمتنع (١) أخذه في المصحح ؛ فلم يبق إلا التعليل بالوجود.

قولهم : إن الوجود حال. لا نسلم أنه حال ؛ بل هو نفس الموجود. وإن كان حالا ؛ فلا نسلم أنه يمتنع التعليل به. وإن امتنع التعليل بما عداه من الأحوال التى ليست من الصفات الوجودية.

قولهم : / إن التعليل بالوجود مشروط بالحدوث.

قلنا : إذا كان الحدوث لا تحقق له دون سبق العدم ؛ فالعدم السابق ، يكون (٢) شرطا (٢) فى تصحيح الرؤية. والشرط يجب أن يكون متحققا مع المشروط ، والعدم السابق على الوجود المرئى لا يكون معه ؛ فلا يكون شرطا في رؤيته.

__________________

(١) فى ب (يمتنع).

(٢) فى ب (يجب أن يكون شرطا).

٥٠٨

قولهم : إن الدليل قد دل على امتناع التعليل بالوجود على ما قرروه إنما يصح أن لو كان الوجود زائدا على (١) الموجود ؛ وهو غير مسلم (١).

وإن كان زائدا على الموجود ؛ فما المانع من كونه مصححا لرؤية الذات المتصفة به.

قولهم : إن وجود الرب ـ تعالى ـ لا يزيد على ذاته. ممنوع على رأى بعض الأصحاب.

قولهم : لو كان الوجود مصححا ؛ لصحت رؤية الطعوم ، والروائح ، وهى غير مرئية.

[قلنا (٢)] : لا نسلم أنها غير جائزة الرؤية.

قولهم : لا نسلم أن وجود الرب ـ تعالى ـ مماثل لوجود الممكنات. ممنوع على رأى بعض الأصحاب أيضا.

قولهم : لو كان مماثلا ؛ لاشتركا في الوجوب ، أو الإمكان.

قلنا : لا معنى لكون وجوب واجب الوجود واجبا لذاته ، غير أن ذات واجب الوجود (٣) لذاتها ، لا تفتقر في اتصافها بالوجود إلى علة خارجة (٣) ، ولا معنى لكون الممكنات ممكنات الوجود ، غير أن ذات ما قيل أنه ممكن لذاته ، لا يقتضي الوجود لذاته (٤) ، ولا العدم ؛ فالاختلاف إنما هو عائد إلى الذوات ، لا إلى صفة (٥) الوجود المشترك ؛ والذوات مختلفة.

قولهم : لا نسلم أنه يلزم من وجود المصحح ، [وجود (٦)] الصحة.

قلنا : إذا ثبت التساوى في المصحح ؛ فما ثبت لأحد المتماثلين (٧) يكون ثابتا للآخر.

قولهم : جاز أن لا تكون ذات الرب (٨) ـ تعالى ـ قابلة للرؤية.

__________________

(١) فى ب (وهو مسلم).

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (يقتضي أنفسها وذاتها الوجود).

(٤) فى ب (والعدم).

(٥) فى ب (صحة).

(٦) ساقط من أ.

(٧) فى ب (المثلين).

(٨) فى ب (الله).

٥٠٩

قلنا : لو لم تكن قابلة للرؤية ؛ لما كان المصحح موجودا ، ولا معنى للمصحح للرؤية غير القابل لها. وإن امتنع أن يكون مرئيا ؛ فقد فات ما لا بدّ منه في صحة الرؤية.

وعند ذلك : فالمصحح لا يكون موجودا ؛ فإنه لا معنى للمصحح إلا ما يتحقق صحة الرؤية به ، وفي ذلك منع وجود المصحح بعد تسليمه ؛ وبه يندفع القول باحتمال وجود المانع أيضا.

كيف وأنه يلزم من اعتبار قبول القوابل المختلفة في صحة الرؤية ، اختلاف المصحح ؛ وهو محال على ما تقدم.

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من احتمال وجود المانع.

قولهم : إن المصحح في الشاهد للألم ، والجوع ، وغير ذلك ؛ إنما هو الحياة ؛ لا نسلم ذلك.

قولهم : / الرب ـ تعالى ـ مرئى له ، أو لنا.

قلنا : بل لنا ؛ فإن ما بيناه من المصحح للرؤية ؛ إنما هو مصحح لها بالنسبة إلينا.

وما ذكروه في (١) مسألة الإدراكات مما يقتضي كون الرب ـ تعالى ـ غير مدرك لنا ، فقد سبق جوابه (٢).

وأما ما ذكروه من النقض بصفة المخلوقية : فمندفع ؛ فإنه لا معنى لكون الأجسام والأعراض مخلوقة. غير أنها موجودة غير مستغنية عن الفاعل لها ، ووجودها ليس زائدا عليها ؛ فلا يكون وجودها معللا ، وكونها غير مستغنية عن الفاعل ؛ فصفة (٣) سلبية ؛ فلا تكون معللة أيضا.

وأما النقض بالإدراك اللمسى ؛ فمندفع ؛ فإنا لا نمنع من كون الرب تعالى ـ مدركا بجميع (٤) الإدراكات عندنا ؛ وإنما الّذي يمتنع عليه أن يكون طريق إدراكه مماسة الأجسام ، وما يقع الإدراك عنده في الشاهد عادة.

__________________

(١) فى ب (من).

(٢) انظر ل ١٠٤ / أ.

(٣) فى ب (صفة).

(٤) فى ب (لجميع).

٥١٠

قولهم : لا نسلم جواز ذلك في الدنيا.

قلنا : إذا ثبت أن المصحح للرؤية في الأجسام ، والألوان هو المصحح في حق الله ـ تعالى ـ فذلك المصحح ، مصحح في الدنيا ؛ فكان (البارى (١) تعالى (١)) جائز الرؤية في الدنيا ، وسواء تحققت الرؤية في الدنيا ، أم لا.

وفي التحقيق فهذه (٢) الإشكالات مشكلة ، وما ذكرناه في جوابها ؛ فهو أقصى جهد (٣) المقل (٣).

الحجة الثانية : وهى قريبة من الأولى (٤).

قولهم : إن الرؤية تتعلق بالموجودات المختلفة : كالأجسام ، والألوان ، ومتعلق الرؤية منها (٥) ليس إلا ما هو ذات ووجود ؛ وذلك لا يختلف وإن تعددت الموجودات.

وأما ما سوى ذلك مما يتعلق (٦) به الاتفاق ، والافتراق ؛ فأحوال لا تتعلق بها الرؤية ؛ إذ ليست بذوات ، ولا وجودات.

وإذا كان متعلق الرؤية ، ليس إلا نفس الوجود ، وجب تعلقها بالبارى ـ تعالى ؛ لكونه موجودا.

ولا يخفى ما يرد عليها من الأسئلة ، الواردة على الحجة الأولى ، وأجوبتها ، وتختص بإشكال مشكل ؛ وهو أن الوجود : إما أن تتفق به الذوات ، أو لا تتفق.

فإن اتفقت به الذوات : فما تتفق به الذوات عند القائل بالأحوال حال ؛ فالوجود حال ؛ فلا يكون متعلق الرؤية. اللهم إلا أن يفرق بين حال ، وحال. [كما (٧) سبق (٧)].

وإن لم تتفق به الذوات : فمتعلق الرؤية بين واجب الوجود ، وممكن الوجود لا يكون متحدا.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (فأكثر هذه).

(٣) فى ب (جهل المقال).

(٤) أورد الآمدي هذه الحجة في غاية المرام ل ٦٤ / أتحت عنوان المسلك الأول.

(٥) فى ب (هاهنا).

(٦) فى ب (يقع).

(٧) ساقط من أ.

٥١١

وعند ذلك : فلا يلزم من كون الأجسام والأعراض متعلق الرؤية أن تتعلق الرؤية بالبارى ـ تعالى ـ ؛ لعدم الاشتراك / فى المتعلق.

الحجة الثالثة :

[ولعبارات (١)] الأصحاب فيها متسع ، وأوجز ما قيل فيها. ما قاله القاضى أبو بكر : وهو أن الرؤية معنى ، لا تقتضى استحالة في ذات القديم ، ولا في صفة من صفاته ، ولا في ذات الحادث ، ولا في صفة من صفاته ، وإذا انتفت مدارك الاستحالة ؛ لزم القول بالجواز ؛ كما في العلم.

وهذه الحجة ضعيفة جدا ؛ وذلك أن للخصم أن يقول : دعواكم أن الرؤية جائزة ، وأنها لا توجب إحالة في ذات الرائى ، ولا المرئى ، ولا في صفتيهما : إما أن يكون معلوما لكم ، أو (٢) غير معلوم (٢).

فإن لم يكن معلوما. امتنع الجزم به.

وإن كان معلوما : فإما أن يكون عن ضرورة ، أو (٣) نظر (٣).

لا سبيل إلى الأول ؛ إذ هو مباهتة (٤) ، ومكابرة (٤).

كيف : وأنه لا يسلم عن مقابلته بدعوى العلم الضرورى بنقيضه ،

وإن كان نظريا ؛ فلا بد لكم من دليل.

فإن قيل : دليل الجواز انتفاء الاستحالة ، والاستحالة منتفية ؛ لبطلان دليلها فإن كل ما تشبث به الخصم في بيان الاستحالة من تعلق الرؤية بالبارى ـ تعالى ـ من جهة اشتراط مقابلة المرئى للرائى ، وانطباع صورة المرئى في عين الرائى ، وانتقال صورة المرئى إلى الرائي ، أو انتقال شيء من الرائى إلى المرئى ، أو اتصال الأشعة ، أو غير ذلك ؛ فقد أبطلناه فيما تقدم.

وإذا كانت مدارك الاستحالة باطلة ؛ فالاستحالة ممتنعة والقول بالجواز واجب. فللخصم أن يقول : وإن سلم (٥) لكم بطلان المدارك المعينة ، فلم قلتم ببطلان جميع

__________________

(١) فى أ (فعبارات).

(٢) فى ب (أولا يكون معلوما).

(٣) فى ب (أو عن نظر).

(٤) فى ب (مكابرة ومباهتة).

(٥) فى ب (سلمنا).

٥١٢

المدارك؟ وما المانع من أن يكون ثم مدرك من مدارك الاستحالة لم تعثروا عليه؟ وعدم الاطلاع عليه (١) مع البحث ، والسبر غير موجب لليقين [بعدمه (٢)] كما تقدم (٣).

قال القاضى أبو بكر : القائل من الملة (٤) قائلان : قائل بالجواز قطعا ، وقائل بالاستحالة قطعا. والقائلان متفقان على امتناع الوقف ، والتشكك (٥) فى أحد الأمرين ؛ فيمتنع القول به ؛ لما فيه من مخالفة الإجماع. فلم يبق إلا القول بالاستحالة أو الجواز جزما ومن قال بالاستحالة لم يقل بمدرك غير ما ظهر ؛ فقد اتفق القائلون بالجواز ، والاستحالة على نفى مدرك آخر ؛ فمن ادعاه يكون خارقا للإجماع.

وقال إمام الحرمين : قد أجمعنا على القطع بتجويز حدوث أمثال السماوات ، والأرض بقدرة الله ـ تعالى ـ مع إمكان / ورود هذا السؤال بعينه ؛ فكل ما يقوله الخصم في جوابه ؛ فهو جوابه هاهنا.

والجوابان ضعيفان :

أما الأول : فمع أن حاصله يرجع إلى التمسك بالإجماع ؛ وهو سمعى لا عقلى. فلقائل أن يقول : انقسام أهل الملة إلى القاطع بالجواز ، والقاطع بالاستحالة. وإن كان إجماعا منهم على القطع بنفى الوقف والتردد ؛ لكن لا نسلم إجماعهم على حصر مدارك الاستحالة ؛ بل للخصم أن يقول : مدرك الاستحالة عندى : انتفاء مدرك الجواز.

وعند ذلك : فإن لم تبينوا مدرك الجواز ؛ فقد صح ما قلته. وإن بينتموه ؛ فلا حاجة إلى هذه الحجة.

ثم وإن قدرنا انتفاء جميع مدارك الاستحالة ؛ فلا يلزم من انتفاء الدليل ، انتفاء المدلول في نفسه ؛ لجواز أن يكون المدلول متحققا ، وإن لم يخلق الله ـ تعالى ـ [دليلا عليه (٦)] كما تقدم.

وعند ذلك : فالجزم بنفى الاستحالة يكون ممتنعا.

فإن قيل : إذا كانت مدارك الاستحالة منتفية ؛ فالجزم بالاستحالة ممتنع. ولا سبيل إلى الوقف ؛ لما تقدم. فلم يبق إلا القطع بالجواز ، فللخصم أن يقول : والجزم أيضا بالجواز مع انتفاء دليله أيضا ممتنع. ولا سبيل إلى الوقف ، فيجب الجزم بالاستحالة.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) ساقط من أ.

(٣) انظر ل ٣٩ / ب.

(٤) فى ب (المسألة).

(٥) فى ب (والتشكيك).

(٦) فى ب (عليه دليلا).

٥١٣

وعند ذلك : فإن بينتم دليل الجواز ؛ فلا حاجة إلى هذه الحجة ، وإن لم (١) تبينوا دليل الجواز (١) ؛ فقد تقابل الجانبان.

وأما الجواب الثانى : فللخصم أن يقول فيه : إنما يلزمنى هذا أن لو كنت قائلا بجواز (٢) خلق (٢) أمثال السموات ، والأرض بالنظر إلى نفى مدارك الاستحالة ، وليس كذلك ؛ بل إنما قلت به بالنظر إلى وجود دليل الجواز ، حتى أنه لو لم يقم عندى دليل الجواز ؛ لما قلت به.

الحجة الرابعة : وهى أشبه الحجج.

هو أن الإدراك عبارة عن كمال يحصل به مزيد كشف وإيضاح على ما حصل في النفس من العلم بأمر ما على ما حققناه في مسألة الإدراكات.

فإذن هذا الكمال الزائد على ما حصل في النفس في كل واحدة من الحواس هو المسمي إدراكا كما مضى. وقد بينا فيما مضى أن الإدراك بالرؤية ليس بخروج شيء من البصر إلى المبصر ، ولا بانطباع صورة المبصر في البصر ، وأنه لا يفتقر إلى مقابلة ، ولا اتصال أجسام ، ولا بنية مخصوصة. وإنما هو معنى يخلقه الله ـ تعالى ـ فى الحواس المخصوصة بحكم / جرى العادة ، وأنه لو خلق ذلك الإدراك في القلب ، أو غيره من الأعضاء ؛ لكان جائزا.

وإذا عرف ذلك ؛ فالعقل يجوّز أن يخلق الله ـ تعالى ـ فى الحاسة المبصرة ؛ بل وفى غيرها ؛ زيادة كشف وإيضاح بالنظر إلى ذاته ووجوده بالنسبة إلى ما حصل بالبرهان ، والخبر اليقينى من العلم به ؛ فإن ذلك في نفسه ممكن ، والقدرة لا تقصر عنه ؛ وذلك هو المسمى بالرؤية.

وعلى هذا فقد ظهر جواز تعلق الرؤية بجميع الإدراكات ، والطعوم ، والروائح وكل موجود من العلوم ، والقدر ، والإرادات ، وغير ذلك مما لا تتعلق به الرؤية في مجارى العادات.

فإن قيل : ما ذكرتموه في جواز إثبات الرؤية. إما أن تعمموا به كل إدراك ، أو تحكموا بكونه خاصا بالرؤية (٣).

__________________

(١) فى ب (نفيتم الجواز).

(٢) فى ب (يخلق).

(٣) فى ب (فى الرؤية).

٥١٤

فإن كان الأول : فيلزمكم على سياقه أن يكون الرب تعالى مسموعا ، ومشموما ، ومذاقا ، وملموسا ؛ وذلك مما يتحاشى عن القول به أرباب العقول.

وإن أوجبتم تخصصه بالرؤية : فالفرق تحكم غير معقول (١).

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه على جواز الرؤية ، غير أنه معارض بما يدل على عدم الجواز (٢) ؛ وبيانه من وجهين :

الأول : أنه لو جاز أن يكون [البارى (٣) تعالى (٣)] مرئيا ؛ لجاز أن يكون مرئيا في الدنيا ؛ لأن الموانع من القرب المفرط ، والبعد المفرط والحجب ؛ منتفية. وإلا لجاز أن يكون بين أيدينا جبل شامخ ، أو جمل واقف ؛ ونحن لا نراه ، مع سلامة الآلة ، وانتفاء الموانع ؛ وهو محال. فحيث لم ير مع انتفاء الموانع ، لم يكن ذلك إلا لكونه غير مرئى في نفسه.

الثانى : أنه لو جاز أن يكون مرئيا : فإما أن يكون في مقابلة الرائى ، أو لا في مقابلته.

فإن كان الأول : فيلزم أن يكون في جهة ، ويلزم من كونه في (٤) الجهة (٤) أن يكون جوهرا ، أو عرضا ؛ وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وإن لم يكن في مقابلة الرائى : فالرؤية متعذرة غير معقولة.

وربما عضدوا ذلك بالشبه التى سبق ذكرها في تحقيق الإدراكات ، وما يفضى إليه من التجسيم والأينية على تفاصيله.

والجواب :

أما الإشكال الأول : فقد اختلف في جوابه أصحابنا :

__________________

(١) هذا الاعتراض ذكره الشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٣٦١ منسوبا إلى المعتزلة. وهو في المغنى للقاضى عبد الجبار ٤ / ١٣٤ ـ ١٣٨.

(٢) وهذا الاعتراض للمعتزلة أيضا. انظر المغنى ٤ / ٤٨ ـ ٥٥ ، ٩٥ ـ ١٠١ والأصول الخمسة ص ٢٥٤ ـ ٢٦١ ، ثم انظر الإرشاد للجوينى ص ١٧٨ ، ١٧٩.

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (لا في جهة).

٥١٥

فمنهم (١) : من عمم وقال : الرب ـ تعالى ـ مدرك (٢) بالإدراكات الخمسة (٢) طردا للدليل المذكور ، غير أنه لا يجوز تعلق الأسباب المقارنة لهذه الإدراكات في الشاهد عادة بالله تعالى : كتقليب الحدقة / نحوه ، والإصغاء بالاذن إلى جهته ، والتحرك إليه لقصد إدراكه ؛ لكنه لا يطلق عليه هذه الأسماء ؛ لعدم ورود الشرع بها ، وهذا هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى.

ومنهم من قال (٣) : إن باقى الإدراكات لا تعم كل موجود ؛ بل إدراك السمع يختص بالأصوات ، والبارى ـ تعالى ـ ليس بصوت ، ولا الصوت من صفاته ؛ فلا يتعلق به السمع ، والشم يتعلق بالروائح ، والرب ـ تعالى ـ ليس برائحة ، ولا الرائحة من صفاته ؛ فلا يتعلق به إدراك الشم. والذوق يتعلق بالطعم ، والرب ـ تعالى ـ ليس بطعم ، ولا الطعم من صفاته ؛ فلا يتعلق به الذوق.

واللمس : يتعلق بالكيفيات الملموسة ، والرب ـ تعالى ـ ليس بكيفية ، ولا الكيفية الملموسة من صفاته ؛ فلا يتعلق به إدراك اللمس.

والّذي يدل على صحة هذا : ما يجده كل عاقل في نفسه من التفرقة بين هذه الإدراكات ، ولو اتحدت في الإدراك ؛ لوقع الالتباس بين الإدراكات ؛ وهو محال. وهذا هو مذهب عبد الله بن سعيد ، والقلانسى وكثير من أصحابنا.

وعلى هذا. فحصول مثل هذه الإدراكات لله ـ تعالى ـ واتصافه بها غير ممتنع عقلا. وإن لم يجز إطلاقها عليه ؛ لعدم ورود الشرع بها. وإن حصول الإدراكات المختلفة لمدرك واحد غير ممتنع.

وأما تعلق الإدراكات المختلفة بمدرك واحد من جهة واحدة ؛ فممتنع كما بيناه.

وأما انتفاء الرؤية من وقتنا هذا : فإنما يلزم منه انتفاء جواز تعلق الرؤية بالله ـ تعالى ـ أن لو لم يقدر ثم مانع يمنع من الرؤية ، ولا مستند لهم في حصر الموانع غير البحث ، والسير ؛ وهو غير يقينى كما سبق (٤).

__________________

(١) هو الإمام الأشعرى رضى الله عنه انظر اللمع ص ٦١ ـ ٦٧ ، والإبانة ص ١٨ ، ١٩.

(٢) فى ب (مدركا بجميع الإدراكات الخمس).

(٣) القائل عبد الله بن سعيد الكلابى ، والقلانسى ، وغيرهم.

انظر اللمع للأشعرى ص ٦٢ ـ ٦٣.

ثم انظر ما أورده الشهرستانى في الرد على هذا الاعتراض في نهاية الأقدام ص ٢٦٥ ـ ٣٦٦.

(٤) انظر ل ٣٩ / ب.

٥١٦

كيف : وأنه من المحتمل أن يكون المانع من الإدراك تكدر النفس بالشواغل البدنية ، وانغماسها في الرذائل الشهوانية ، وعند صفوها في الدار الأخرى (١) ، وزوال كدورتها بانقطاع علائقها (٢) ، وانفصال عوائقها (٣) يتحقق لها ما كانت مستعدة لقبوله ، ومتهيئة لإدراكه.

وإن سلمنا انتفاء الموانع مطلقا ، فلا نسلم وجوب تعلق الرؤية ووقوعها ؛ لجواز أن لا يخلقها الله ـ تعالى ـ كما سلف بيانه.

وما ذكروه من الاستشهاد بالصورة المذكورة ؛ فغير ممتنع عدم الرؤية فيها عقلا. وإن كان ممتنعا عادة كما سبق.

ثم كيف ينكر ذلك مع (٤) ما قد ورد من الأخبار (٤) المتواترة الصادقة عن النبي الصادق بما أوجب لنا العلم / بأنه كان عليه‌السلام يرى جبريل ، ويسمع كلامه عند نزوله عليه ، ومن هو حاضر عنده لا يدرك شيئا من ذلك : مع سلامة آلة الإدراك ، وانتفاء الموانع.

وأما الإشكال الأخير فمندفع بما حققناه من امتناع اشتراط المقابلة ، وكل ما ذكروه من الشروط ؛ فإن الإدراك مع ذلك غير ممتنع.

كيف وأن هذا بعينه لازم على من اعترف منهم بأن الله ـ تعالى ـ يرى نفسه ، ويرى غيره ؛ فما هو جوابه في رؤية الله ـ تعالى ـ للغير ؛ هو الجواب في رؤية الله ـ تعالى ـ برؤية غيره.

وأما الحجة السمعية :

فقوله (٥) ـ تعالى ـ : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) (٦). ووجه الاحتجاج به من وجهين (٧) :

__________________

(١) فى ب (الآخرة).

(٢) فى ب (العلائق).

(٣) فى ب (العوائق).

(٤) فى ب (مع ما ورد في الأخبار).

(٥) فى ب (فى قوله).

(٦) سورة الأعراف ٧ / ١٤٣.

(٧) هذه الآية الكريمة استدل بها الأشاعرة على جواز الرؤية. واستدل بها المعتزلة على نفيها. انظر المغنى ٤ / ١٦١ ـ ١٦٢. وما أورده الآمدي هنا على أنه شبه. أورده القاضى على أنه حجج. ثم انظر المغنى أيضا ٤ / ٢١٧ ـ ٢٢٠ حيث يورد هذه الحجة بأنها شبهة ويرد عليها. أما إجابته عنها : فهى الشبه التى أوردها الآمدي هنا ؛ ليرد عليها.

ثم انظر الأصول الخمسة ص ٢٦٢ ـ ٢٦٥.

٥١٧

الأول : أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه الرؤية بقوله : (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولو كانت الرؤية مستحيلة. فإما أن يكون موسى عالما بالإحالة ، أو جاهلا بها.

فإن كان عالما بالإحالة : فالعاقل لا يسأل المحال ، ولا يطلبه ، فضلا عن كونه نبيا كريما. وإن كان جاهلا بالإحالة ؛ فيلزم أن يكون آحاد المعتزلة ومن حصل طرفا من علومهم ، أعلم بالله ـ تعالى ـ وبما يجوز عليه ، وما لا يجوز عليه من النبي الصفى ؛ والقول بذلك غاية التجاهل ، والرعونة.

وإذا بطل القول بالإحالة لما يلزم عنه من المحال ؛ تعين القول بالجواز وهو المطلوب.

الوجه الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي) علق الرؤية على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل ممكن في نفسه ، وما علق وجوده على الممكن ؛ فهو ممكن.

فإن قيل :

أما الوجه الأول : فالكلام عليه من وجوه.

الأول : لا نسلم أن موسى سأل الرؤية ، وإنما سأله أن يعلمه به علما ضروريا. وعبر بالرؤية عن العلم ؛ إذ العلم ملازم للرؤية ، والتعبير باسم أحد المتلازمين عن الآخر سائغ لغة بطريق التجوز كما في قولهم جرى النهر والميزاب. والمراد به الماء الّذي فيه. وهذا هو تأويل أبي الهذيل العلاف وتابعه عليه الجبائى ، وأكثر البصريين (١).

سلمنا أنه ما سأل العلم بربه ؛ ولكن إنما سأل أن يريه علما من أعلام الساعة بطريق حذف المضاف ، وإقامة المضاف إليه مقامه كما فى قوله ـ تعالى ـ : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (٢) والمراد به أهل القرية.

ويكون معنى قوله (أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) : أى إلى علم من أعلامك الدالة على / الساعة. وهذا هو تأويل الكعبى ، والبغداديين من المعتزلة.

__________________

(١) انظر الأصول الخمسة ص ٢٦٢ ؛ حيث يذكر هذا الرأى لأبى الهذيل ، ثم يضعفه. وانظر أيضا المغنى ٤ / ١٦٢ ، ٢١٨.

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٨٢.

٥١٨

سلمنا أنه سأل الرؤية ؛ ولكن لنفسه ، أو لأجل دفع قومه في قولهم : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) (١) الأول ؛ ممنوع ، والثانى ؛ مسلم ؛ وذلك لأنهم لما سألوه الرؤية أضاف الرؤية إلى نفسه ؛ ليكون منعه أبلغ في دفعهم ، وردعهم عما سألوه تنبيها بالأعلى على الأدنى ، وهذا هو تأويل الجاحظ ، ومتبعيه.

سلمنا أنه سأل الرؤية لنفسه ؛ ولكن لا نسلم أن ذلك ينافى العلم بالإحالة ؛ إذ المقصود من سؤال الرؤية إنما هو أن يعلم الإحالة بطريق سمعى مضاف إلى ما عنده من الدليل العقلى ؛ لقصد التأكيد ، وذلك جائز بدليل قول إبراهيم الخليل عليه‌السلام (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٢) بضم دليل المشاهدة إلى دليل العقل.

سلمنا أنه سأل الرؤية مع عدم علمه باستحالتها ؛ ولكن ذلك غير قادح في نبوته مع كونه عالما بعدل الله تعالى ، ووحدانيته ، ولهذا سأل وقوع الرؤية في الدنيا ؛ وهى غير واقعة إجماعا.

سلمنا أنه كان عالما بإحالة الرؤية ؛ ولكن لم قلتم بامتناع السؤال؟ وإنما يكون ممتنعا أن لو كان ذلك محرما في شرعه. وإن كان محرما في شرعه ؛ فالصغائر غير ممتنعة على الأنبياء على ما يأتى (٣) :

وأما الوجه الثانى : فالكلام عليه أيضا من وجهين :

الأول : لا نسلم أنه علق الرؤية على أمر ممكن.

قولكم : إنه علقها على استقرار الجبل ، واستقرار الجبل ممكن.

فنقول : علقها على استقرار الجبل حال سكونه ، أو حال حركته. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لوجدت الرؤية ضرورة وجود الشرط ؛ فإن الجبل حال سكونه كان مستقرا ؛ فلم يبق إلا الثانى.

ولا يخفى أن استقرار الجبل حال حركته محال لذاته.

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١٥٣.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٦٠.

(٣) انظر الجزء الثانى ـ القاعدة الخامسة ـ الأصل الخامس ل ١٦٨ / ب وما بعدها.

٥١٩

الثانى : وإن سلمنا أن استقرار الجبل ممكن. غير أن المقصود من تعليق الرؤية عليه ليس هو بيان جواز الرؤية ، أو عدم جوازها ؛ إذ هو غير مسئول عنه ؛ بل المقصود إنما هو بيان أن الرؤية لا تقع ؛ لعدم وقوع الشرط المعلق به ؛ ليكون ذلك مطابقا للسؤال ؛ وهو حاصل بعدم الشرط. وسواء كانت الرؤية جائزة في نفس الأمر ، أم لا.

ثم وإن سلمنا دلالة ما ذكرتموه من الوجهين على جواز الرؤية ؛ فهو معارض بما يدل على عدم الجواز وهو قوله ـ تعالى ـ : (لَنْ تَرانِي) وكلمة / لن للتأبيد ، والتخليد ، وتحقيق النفى ، وتأكيده.

وأيضا : قول موسى عليه‌السلام (تُبْتُ إِلَيْكَ) (١) دليل كونه مخطئا في سؤاله ، ولو كانت الرؤية جائزة ؛ لما كان مخطئا.

والجواب :

أما قولهم : أنه إنما سأل العلم الضرورى بربه فمندفع لوجهين :

الأول : أن النظر وإن أطلق بمعنى العلم ؛ لكنه إذا وصل بإلى فيبعد حمله عليه ، ويكون ظاهرا في الرؤية على ما يأتى (٢). ولا سبيل إلي مخالفة الظاهر من غير دليل.

الثانى : وإن أمكن حمله على العلم ؛ لكن يمتنع الحمل على العلم هاهنا ، وبيانه من ثلاثة أوجه.

الأول : أنه يلزم منه أن يكون موسى غير عالم بربه ، وإلا لما سأل حصول ما هو حاصل له. ولا يخفى أن نسبة ذلك [للمصطفى (٣) بالنبوة] المكرم بالرسالة المختص بالمخاطبة ، مع معرفة آحاد المعتزلة ، ومن شدا طرفا من العلم بالله من أعظم الجهالات ، كما تقدم (٤).

الثانى : أن قوله ـ تعالى ـ (لَنْ تَرانِي) جواب عن سؤاله. والمعتزلة مجمعون على أن قوله : (لَنْ تَرانِي) محمول على نفى الرؤية. فلو كان طلب موسى للعلم ؛ لما كان الجواب مطابقا للسؤال.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٤٣.

(٢) انظر ل ١٣٩ / أ.

(٣) فى أ (المصطفى للنبوة).

(٤) فى ب (سبق).

٥٢٠