أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

المسألة الأولى

في أن حقيقة واجب الوجود ، هل هى الآن معلومة ، أم لا (١)؟

وقد اختلف فيه (٢) :

فقال بعض المتكلمين من أصحابنا ، ومن المعتزلة : العلم بحقيقته في الآن حاصل.

ومنهم من منع من ذلك

ثم اختلف القائلون بالمنع في أنه : هل يجوز أن تصير حقيقته معلومة؟ فمنهم من منع أيضا : كالفلاسفة ، وبعض أصحابنا : كالغزالى (٣) ، وإمام الحرمين.

ومنهم من توقف : كالقاضى أبى بكر ، وضرار بن عمرو.

واحتج القائلون بالمنع مطلقا بحجج أربع :

الحجة الأولى : أن حقيقته غير متناهية ، والعقل متناه ، وإدراك غير المتناهى بالمتناهى ؛ محال.

الحجة الثانية : هو أن ذاته وحقيقته مخالفة بذاتها لسائر الحقائق ، والذوات ، وكل ما نعلمه منه : ككونه موجودا ، وعالما ، وقادرا ، ومريدا إلى غير ذلك من الصفات ؛ فغير مانع من وقوع الاشتراك فيها ؛ ولهذا يفتقر بعد معرفة ما له من الصفات إلى بيان وحدانيته ، وإذا كانت ذاته مانعة من وقوع الاشتراك فيها ، وكل ما نعلمه منه غير مانع من وقوع الاشتراك فيه ؛ فذاته غير معلومة.

__________________

(١) انظر المواقف للإيجي ص ٣١٠ ، ٣١١ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٩١ ، ٩٢.

(٢) فى ب (فى ذلك).

(٣) الغزالى (٤٥٠ ه‍ ـ ٥٠٥ ه‍)

حجة الإسلام أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد الغزالى. متكلم ، فقيه ، أصولى ، صوفى ، مشارك في أنواع من العلوم. كان الآمدي معنيا بنقده ، والرد عليه ، وإذا ذكر رأيه يقول : قال بعض المتأخرين ، ولم يصرح باسمه إلا في هذا الموضع. وقد تتبعت هذه الآراء ، ووضحت نسبتها إلى الغزالى في مواضعها ، (وفيات الأعيان ٣ / ٣٥٣ ومعجم المؤلفين ١١ / ٢٦٦ والأعلام ٧ / ٢٤٧).

٤٨١

الحجة الثالثة : أن طريق معرفة واجب الوجود ، إنما هو وجود الممكنات ، ووجوب إسنادها إلى موجود واجب ؛ قطعا للتسلسل ، والدور ، وليس في ذلك ما يدل على كنه حقيقته ، ومعرفة ماهيته ، وكل ما ندركه منه بعد ذلك ؛ فلا يخرج عن الصفات الخارجة عن الذات : كصفات النفس من العلم ، والقدرة ، ونحوه.

أو الصفات الإضافية : ككونه خالقا ، ومبدأ ، ونحوه. أو الصفات السلبية ، ككونه ليس بجوهر ، ولا جسم ، ولا عرض ، ونحوه. وكل ذلك لا يدل على كنه الحقيقة ؛ فكانت غير / معلومة.

الحجة الرابعة : قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١).

وأما القائلون بكونها معلومة ؛ فقد احتجوا بأن قالوا :

لا خفاء بجواز الحكم على ذاته بإثبات صفات الكمال ، وسلب صفات النقص ؛ وهذا الحكم فرع تصور المحكوم عليه ؛ فإن ما لا يكون متصورا في العقل لا يكون مصدقا بإثبات حكم له ، أو سلبه عنه.

وعلى هذا : فمن قال إن ذاته غير معلومة ؛ يلزمه من هذا الحكم التصديقى أن تكون ذاته معلومة.

ثم اعترضوا على حجج المذهب الأول :

أما الحجة الأولى : فإنها منقوضة بتعلق العلم بوجوده ؛ فإنه غير متناه. وسواء قلنا هو نفس الذات ، أو زائد عليها. ومع ذلك لم يمنع من تعلق العلم به ، وكذلك سائر صفاته النفسانية ؛ عند المعترف بها.

وأما الحجة الثانية : فقالوا : لا نسلم أن كل ما نعلمه منه غير مانع من وقوع الاشتراك فيه ؛ فإن وجوده معلوم بموافقة الخصم هاهنا ، وبالدليل على ما سبق ؛ وهو مانع من وقوع الاشتراك فيه ، كما سلف في النوع الأول.

وأما الحجة الثالثة : فحاصلها يرجع إلى إبطال مدرك من المدارك.

وليس في ذلك ما يدل على إبطال كل مدرك ، ونفى باقى المدارك بعدم الاطلاع عليها مع البحث عنها ؛ غير يقينى ، كما سبق.

__________________

(١) سورة طه ٢٠ / ١١٠.

٤٨٢

كيف : وأنه إذا اعترف بأن الطريق المذكور موصل إلى العلم بوجود واجب الوجود ؛ فقد بينا في النوع الأول : أن ذاته وجوده ، ووجوده ذاته ؛ فإذا كان وجوده معلوما ؛ كانت ذاته معلومة.

وأما الآية : فلا حجة فيها ؛ فإن قوله ـ تعالى ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) (١) : أى من الأمور الغيبية ، والضمير في قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (٢) عائد إلى معلوم الله ـ تعالى ـ مما بين أيديهم ، وما خلفهم من الأمور الغيبية ، لا إلى الله تعالى.

وأما نحن فنقول :

لا شك أنه معلوم الوجود ؛ فإن كان الوجود هو نفس الذات ؛ فالذات معلومة. وإن كان زائدا على الذات ؛ فالحكم بأن وجوده زائد على ذاته ، حكم تصديقى يستدعى تصور المحكوم عليه.

وعلى كلا التقديرين ؛ فيجب أن تكون ذاته متصورة.

ثم تصور الشيء تارة يكون بتصور ذاتياته ، ومقوماته (٣) ، إن كان مركبا.

وتارة بتصور خواصه ، ولوازمه. وسواء كان مركبا ، أو بسيطا ، لكن ذات واجب الوجود بسيطة غير مركبة كما يأتى (٤) ؛ فتصورها لا يكون بالطريق الأول ؛ بل بالثانى.

/ وعلى هذا : فمن قال إنها متصورة بالطريق الثانى ؛ فقد قال حقا. ومن قال إنها غير متصورة بالطريق الأول ؛ فقد قال حقا.

وأما إن وقع النزاع بالنفى ، والإثبات على أحد الطرفين ؛ فالنافى في الطريق الأول : مصيب ، وفي الثانى : مخطئ ، والمثبت بعكسه.

__________________

(١) سورة البقرة ٢ / ٢٥٥.

(٢) سورة طه ٢٠ / ١١٠.

(٣) فى ب (ومعلوماته).

(٤) انظر ل ١٤٢ / أوما بعدها.

٤٨٣

المسألة الثانية

في رؤية الله ـ تعالى ـ

وتشتمل على مقدمة وفصلين :

أما المقدمة : فنقول : قد بينا الإدراكات ، ومعناها في مسألة (١) : السمع والبصر لله ـ تعالى ـ فلا بد من الإشارة إلى متعلقاتها من المدركات ، واختلاف المتكلمين فيها ، وما هو المختار.

أما الرؤية : فيصح تعلقها بكل موجود عند أئمتنا ، وأن (٢) المصحح للرؤية الوجود ، على ما يأتى. إلا عبد الله بن سعيد ؛ فإنه نقل عنه أنه قال : لا تتعلق الرؤية بغير القائم بنفسه.

وأما الصفات : فلا تتعلق بها حتى قال : من رأى جسما أسود. فما رأى سواده ؛ بل المرئى : كونه أسود ، وكذلك المسموع ؛ هو المتكلم دون الكلام.

وذهب أكثر المعتزلة : إلى أن المدرك إنما هو الأجسام ، والألوان ، لا غير.

وذهب بعضهم ، وكثير من الكرامية : إلى أن المدرك ليس غير الألوان.

واتفقت المعتزلة : على استحالة رؤية العلوم ، والقدر ، والإرادات ، والروائح ، والطعوم شاهدا ، وغائبا.

واتفق العقلاء : عل استحالة رؤية المعدوم ، غير السّالميّة (٣) ؛ فإنهم جوزوا رؤيته.

__________________

(١) انظر ما سبق ل ٩٩ / أوما بعدها.

(٢) فى ب (فإن).

(٣) السّالميّة :

تنسب هذه الطائفة إلى رجل وابنه ـ أما الرجل : فهو : محمد بن أحمد بن سالم البصرى المتوفى عام ٢٩٧ ه‍.

وأما الابن فهو : أحمد بن محمد بن أحمد بن سالم المتوفى عام ٣٦٠ ه‍ ـ وكانوا يجمعون بين كلام أهل السنة ، وكلام المعتزلة مع ميل إلى التشبيه ، ونزعة صوفية. ومن أشهر المنتسبين إلى هذه الطائفة : أبو طالب المكى صاحب قوت القلوب المتوفى سنة ٣٨٦ ه‍ وتأثر بها كثير من أعلام التصوف في العالم الإسلامى.

أما عن رأيهم في جواز رؤية المعدوم ، فانظر الشامل لإمام الحرمين ص ٥٣٧.

ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٤٠٠ ـ ٤٠٤.

٤٨٤

وأما الهواء : فقد اختلفوا في رؤيته.

فمنهم من قال : هو مرئى الآن ليلا ، ونهارا ، كأكثر أصحابنا.

ومنهم من منع ذلك مطلقا : كالمعتزلة.

ومنهم : من جوز ذلك ليلا ، لا نهارا : وكل ما صح أن يرى ؛ فهو مرئى لكل راء ؛ خلافا للقاضى أبى بكر ، وبعض المعتزلة.

أما القاضى : فإنه قال : الرؤية المخلوقة لزيد لا يراها ، ويجوز أن يراها غيره.

وأما بعض المعتزلة : فإنهم قالوا : ذات الله ـ تعالى ـ مرئية له غير مرئية لمن سواه ، وكذلك فناء الجواهر (١) مرئى لله ـ تعالى ـ دون المخلوقين.

ومنهم : من طرد المنع من الرؤية في هاتين الصورتين مطلقا

أما صحة تعلق الرؤية بكل موجود على أصل أصحابنا : فمبنى على أن مصحح (٢) الرؤية (٢) هو الوجود ؛ فإن صح ذلك ـ على ما سيستقصى الكلام فيه في رؤية الله (٣) ـ تعالى ـ فهو الحجة على مذهبهم. وإبطال مذاهب المخالفين في امتناع رؤية بعض الموجودات ، والقائلين برؤية [بعض (٤)] المعدومات.

وعلى هذا فمن قال بالأحوال / من أصحابنا ؛ فلا سبيل إلى كونها مرئية عنده ـ وإن كانت ثابتة ـ ضرورة عدم المصحح لرؤيتها ، وهو الوجود ؛ إذ هى غير موجودة ، ولا معدومة.

والّذي يخص المنكرين رؤية (٥) الألوان ، والصفات : كعبد الله بن سعيد : ما يجده كل عاقل من نفسه من إدراك السواد ، والبياض ، وغير ذلك من الألوان. ولو ساغ إنكار ذلك ؛ لساغ إنكار كل مشاهد مرئى ؛ ولا يخفى ما فيه من المحال.

__________________

(١) فى ب (الجوهر).

(٢) فى ب (المصحح للرؤية).

(٣) انظر ل ١٢٤ / ب وما بعدها.

(٤) ساقط من أ.

(٥) فى ب (من رؤية).

٤٨٥

ولعله لم يرد ما هو الظاهر من كلامه ؛ بل لعله أراد به أن الصفات لا تدرك على حيالها عند فرض قيامها بالمحل ؛ بل المحل يدرك على (١) سواده ، وبياضه.

والّذي يخص إبطال مذهب من يرى أن المرئى ليس غير الألوان (٢) أمور ثلاثة :

الأول : أن كل عاقل يعلم من نفسه رؤية أشكال الأجسام ، ومقاديرها. كما يعلم من نفسه رؤية ألوانها. ولو ساغ إنكار ذلك ؛ لساغ إنكار رؤية الألوان ؛ لعدم الفرق.

الثانى : أنا ندرك بالضرورة كون الأجسام في بعض الجهات دون البعض ؛ وليس ذلك من الألوان في شيء.

الثالث : هو أنا ندرك وجود الأجسام المقبلة على بعد ، ولا ندرك ألوانها إلا على قرب ؛ والمدرك غير ما ليس بمدرك.

وأما أن الهواء مرئى : فلا يخفى جوازه إن صح أن المصحح للرؤية هو الوجود ؛ إذ هو موجود.

وأما أنه مرئى في وقتنا هذا : فقد استدل عليه بما نراه من اختلاف الأحوال عند طلوع الشمس ، وغروبها ، وانبساط شعاع الشمس على الأرض ، وتقلص الظل إلى ما قبل (٣) الزوال ، وازدياد الفيء فيما بعد الزوال ؛ مع بقاء الأرض على لونها في جميع الأحوال.

وإذا ثبت اختلاف الألوان في هذه الأحوال ، وتعذر عوده إلى لون الأرض ؛ لبقائها مع اختلاف الأحوال على ما هى عليه من اللون المرئى لنا ؛ تعين عوده إلى الهواء. وعلى حسب شروق النير على الهواء وغروبه. يرى الهواء تارة مضيئا ، وتارة مظلما. وهذا دليل على أن لون الهواء لذاته (٤) أسود مظلم ، وما له من الإضاءة ؛ إنما هو بسبب شروق الشمس عليه ، أو غيرها من النيرات.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) هم الكرامية وبعض المعتزلة.

(٣) فى ب (وقت).

(٤) فى ب (بذاته).

٤٨٦

ولقائل أن يقول :

لا مانع أن يقال : بأن ما نراه من الألوان عند انبساط الشمس على وجه الأرض ، ونقصان الظل ، وتقلص الشمس ، وازدياد الفيء ؛ إنما هو لون تكتسبه الأرض بسبب انبساط الشمس ، وتقلصها غير ما لها من اللون (١) فى نفسها ، لا (٢) أنه لون الهواء.

ثم وإن سلم أنه لون / الهواء ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من رؤية لون الشيء ؛ رؤية ذلك الشيء على ما ذهب إليه بعض أصحابنا. وإن خالف فيه أكثر المعتزلة ، وكثير من أصحابنا. ولعله الأظهر على أصول أصحابنا. نظرا إلى أن المصحح للرؤية إنما هو الوجود ؛ واللون موجود ؛ فلا يتوقف في رؤيته على رؤية محله.

وربما عضد من نفى رؤية الهواء : بأنه لو كان مرئيا ؛ لميز الرائى بين الراكد منه والجارى : كالماء ؛ واللازم ممتنع.

وأيضا : فإنه لو كان مرئيا ، لما خالف فيه قوم لا يتصور على مثلهم التواطؤ على الكذب ، والخطأ.

وقد خالف في ذلك أكثر المعتزلة و (أكثر (٣)) أهل الحق من المتكلمين ؛ وهم قوم لا يحصرهم عدد ، ولا يتصور من (٤) مثلهم (٤) التواطؤ على الخطأ عادة ؛ بخلاف السوفسطائية.

وأما حجة من احتج على رؤية الهواء ليلا ؛ فما نراه عليه من السواد ، والظلمة ؛ وإليه ميل القاضى أبى بكر.

ولقائل أن يقول :

إنا (٥) لا نسلم رؤية الشيء في الليل المدلهم. ولهذا فإن الإنسان لا يجد تفرقة في الليل المدلهم بين حالة كونه مغمض العين ، وبين حالة فتحها ؛ وهو غير راء حالة

__________________

(١) فى ب (الألوان).

(٢) فى ب (إلا أنها).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (منهم).

(٥) ساقط من ب.

٤٨٧

تغميض العين ؛ فكذلك حالة فتحها. ولو (١) كان رائيا في إحدى الحالتين دون الأخرى ؛ لأحس بالفرق ضرورة ؛ هذا ما يتعلق بالرؤية.

وأما باقى الإدراكات : فعلى أصل الشيخ (٢) أبى الحسن أن المصحح للإدراك هو الوجود. فكما أن الرؤية عامة لكل موجود ؛ فكذلك كل إدراك يعم كل موجود.

وذهب عبد الله بن سعيد ، والقلانسى (٣) ، وكثير من أصحابنا : إلى أن باقى الإدراكات لا تعم كل موجود ؛ بل إدراك السمع يختص بالأصوات ، والشم بالروائح ، والذوق بالطعوم ، واللمس بالحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة ، وما يتركب من هذه الكيفيات الملموسة ؛ مصيرا منهم إلى أنه لا علة جامعة بين جميع المرئيات على وجه يطرد ، وينعكس غير الوجود.

وأما في إدراك السمع فقالوا : العلة المصححة له الجامعة لجميع أنواع المسموعات على وجه يطرد ، وينعكس ؛ إنما هو الصوت وفي إدراك الشّم الرائحة ، وفي إدراك الذوق الطعم. وفي إدراك اللمس ؛ الكيفية الملموسة. وهو ظاهر بين ؛ ولعله الأظهر.

وربما قيل في تحقيق الفرق بين الرؤية ، وباقى الإدراكات : أن الرؤية لا تستدعى اتصال المرئى بالمدرك بخلاف باقى الإدراكات ؛ فإنها / لا تتم دون اتصال المدرك بالمدرك ؛ فلذلك خصت ولم تعم.

وقد أجاب عنه بعض الأصحاب : بأن الاتصال في باقى الإدراكات غير معتبر.

أما الطعم : فلأن من دلّك أسفل قدميه بالحنظل مرارا ؛ أحس بالمرارة في حلقه مع عدم الاتصال.

وأما في الرائحة : فما نراه (٤) من شم المسك الأزفر على بعد من غير اتصال.

__________________

(١) فى ب (فلو).

(٢) فى ب (شيخنا).

(٣) القلانسى : ت في حدود سنة ٣٣٥ ه‍ أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسى ، من متكلمى أهل السنة في القرن الثالث ، وزادت تصانيفه في الكلام على مائة وخمسين كتابا ، وقد تأثر بابن كلاب ، وصار على نهجه ، وهو من الأعضاء البارزين في المدرسة الكلابية التى تأثر بها الإمام الأشعرى.

(انظر الملل والنحل ١ / ٩٣ وتبيين كذب المفترى ٣٩٨ ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٣٧٤ ـ ٣٨٤).

(٤) فى ب (نجده).

٤٨٨

وأما فى الملموسات : فما نجده من الحس بحرارة النار عند القرب منها ، وبرد الثلج عند القرب منه من غير اتصال.

وهو غير سديد ؛ إذ أمكن أن يقال : سبب الذوق ؛ إنما هو نفوذ طعم الحنظل في المسام البدنية إلى الحلق. وفي الشم بسبب ما يحمله الهواء من الأجزاء اللطيفة من ذى الرائحة إلى المشم ، حتى إنه لو كان المشموم في شيء لا مساس فيه ، وهو مسدود سدا مهندما ؛ لما أدركت رائحته ، أو أن ذلك بسبب خلق الله ـ تعالى ـ الرائحة في الهواء المجاور لذى الرائحة الواصل إلى المدرك ، وكذلك فإن المدرك حره ، وبرده عند القرب من النار ، والثلج ؛ إنما هو حر الهواء المسخن بالنار ، وبرد الهواء المبرد بالثلج ؛ بل الأقرب في دفع ما قيل من الفرق أنه وإن وجد الإدراك لهذه الأمور عند الاتصالات ؛ فليس إلا بحكم جرى العادة.

وأما أن يكون ذلك شرطا في الإدراك فلا. على ما بيناه في مسألة السمع والبصر [لله (١) تعالى (١)].

ثم ما ذكروه وإن كان ظاهرا في الإدراك بالذوق (٢) ، واللمس (٢) ؛ فغير ظاهر في السمع والشم.

وعلى هذا فإن قلنا بتعلق كل إدراك بكل موجود على ما هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ؛ فليس ذلك مما يوجب اتحاد الإدراك كما في العلم ؛ إذ ليست جهة التعلق في الكل واحدة ؛ بل مختلفة على ما يجده كل عاقل من نفسه عند إدراكه للشىء بالسمع ، والبصر ، وغير ذلك من الإدراكات. وهذا بخلاف العلم ؛ فإن جهة تعلقه بجميع المعلومات واحدة ؛ وهو معرفة المعلوم على ما هو عليه ، وذلك مما لا يختلف فيه تعلق العلم بالشيء وضده ؛ فلذلك كانت الإدراكات مختلفة دون العلم. واتحاد المتعلق ؛ مع اختلاف جهة التعلق ؛ لا يوجب اتحاد الإدراكات بدليل العلم ، والقدرة ، والإرادة ؛ فإنها لما اختلفت جهة تعلقها ؛ كانت مختلفة. وإن كان متعلقها واحدا ، ومما يتصل بهذه المقدمة إدراك الأكوان باللمس.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) فى ب (باللمس والذوق).

٤٨٩

وقد اختلف فيه أصحابنا : فأنكره بعضهم ، وأوجبه آخرون / ؛ وهو الأظهر ؛ فإن كل عاقل يجد من نفسه إدراك الجسم متحركا ، وساكنا ومجتمعا ، ومفترقا باللمس ؛ وإن كان مغمض العين.

وإذا عرفت الإدراكات ، ومتعلقاتها ؛ فالإدراك الحادث هل يتعلق بمدركين ، أو لا يتعلق إلا بمدرك واحد؟ وأن الإدراكين المتعلقين بمدركين مختلفين ، مختلفان. وأن الإدراكات المختلفة هل تقوم بمحل واحد؟ وأنه هل يتصور إدراك بلا مدرك؟ فالكلام فيه على ما سبق في العلوم.

٤٩٠

الفصل الأول

في جواز رؤية الله ـ تعالى ـ عقلا

والّذي عليه إجماع الأئمة من أصحابنا (١) أن رؤية الله ـ تعالى ـ غير ممتنعة عقلا ؛ بل [هى (٢)] جائزة في الدنيا ، والأخرى ، وهل الرؤية في الدنيا جائزة سمعا؟. فمما اختلف فيه.

فجوزه بعض مثبتى الرؤية ؛ وأنكره آخرون.

وذهب بعض من أثبت جواز الرؤية إلى امتناعها في الدنيا. وهل يجوز إطلاق القول بأن الله ـ تعالى ـ يجوز أن يكون مدركا؟

فذهب القلانسى ، وعبد الله بن سعيد : إلى المنع من ذلك ، وجوزه باقى أصحابنا ، وهل يجوز أن يرى في المنام؟ فجوزه بعض المثبتة للرؤية ، وأنكره آخرون.

والحق أنه لا مانع من هذه الرؤية ، وإن لم تكن رؤية حقيقية. ولا خلاف بين أصحابنا أن الله ـ تعالى ـ يرى نفسه وجوبا.

وأما المعتزلة (٣) ، والخوارج ، وجماعة من الرافضة : فقد أجمعوا على امتناع رؤية البارى عقلا لذوى الحواس ، واختلفوا في رؤية الله ـ تعالى ـ لنفسه. فذهب الأكثرون إلى المنع من ذلك ، وجوزه الأقلون.

__________________

(١) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي انظر ما يأتى :

اللمع للأشعرى ص ٦١ ـ ٦٨ والإبانة ص ١٢ ـ ١٩ له أيضا

والإنصاف للباقلانى ص ١٧٦ ـ ١٩٣

وأصول الدين للبغدادى ص ٩٧ ـ ١٠٢ والإرشاد لإمام الحرمين ص ١٦٦ ـ ١٨٦ واللمع له أيضا ص ١٠١ ـ ١٠٥ والاقتصاد للغزالى ص ٣٠ ـ ٣٦ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٣٥٦ ـ ٣٦٩ والمحصل للرازى ص ١٣٦ ـ ١٣٩ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٥٩ ـ ٦٧.

ومن كتب الآمدي انظر : غاية المرام ص ١٥٩ ـ ١٧٨.

ومن الكتب المتأخرة التى تأثر أصحابها بالآمدي :

انظر شرح الطوالع ص ١٨٥ ـ ١٨٩ والمواقف للإيجي ص ٢٩٩ ـ ٣١٠

وشرح المقاصد ٢ / ٨٢ ـ ٩١.

(٢) ساقط من أ.

(٣) عن موقف المعتزلة من الرؤية ونفيهم لها : انظر المغنى ، الجزء الرابع ، حيث يخصص القاضى عبد الجبار معظمه للكلام عن رؤية البارى من ص ٣٣ ـ ٢٤٠ وانظر أيضا شرح الأصول الخمسة له ص ٢٣٢ ـ ٢٧٧ والمحيط بالتكليف له أيضا ص ٢٠٨ ـ ٢١٣.

٤٩١

وقد احتج المثبتون لجواز الرؤية بحجج عقلية ، وسمعية.

أما الحجج العقلية فأربع :

الحجة الأولى : وهى معتمد القاضى أبى بكر (١) ، وأكثر الأئمة.

وها نحن نذكرها بزيادة تحرير ، وتقرير ؛ فنقول : قد بينا في المقدمة أن الأجسام والألوان مرئية ؛ فالأجسام ، والألوان مشتركة في صحة تعلق الرؤية بها ، وصحة تعلق الرؤية بها يستدعى مصححا.

وإنما قلنا ذلك ؛ لأنه لو كانت الأجسام معدومة ؛ لاستحال أن تكون مرئية ، ومدركة بالاتفاق منا ، ومن المعتزلة ، ومن كل محصل ؛ فحيث استحال تعلق الرؤية بها حال عدمها ، وصح مع وجودها ؛ لزم أن يكون ذلك المخصص ، وإلا لعم الحكم نفيا ، أو إثباتا ؛ وذلك المخصص هو المعنى بالمصحح.

ولا يخفى أن بين الأجسام والألوان اتفاقا ، وافتراقا ؛ فالمصحح : إما أن يكون ما به الاتفاق ، / أو ما به الافتراق ، أو مجموع الأمرين.

لا جائز أن يكون المصحح [للرؤية (٢)] ما به الافتراق ، أو ما به الاتفاق والافتراق معا ؛ وإلا كان الحكم الواحد المشترك بين المختلفات ؛ معللا بعلل مختلفة ؛ وهو محال.

وذلك لأن كل واحدة من العلتين : إما أن تستقل بالتصحيح ، أو إحداهما دون الأخرى ، أو أنه لا استقلال لكل واحدة منهما.

فإن كان الأول : فلا معنى لكون العلة مستقلة بالتصحيح إلا أنها هى المصححة دون غيرها ، فإذا قيل كل واحدة مستقلة بالتصحيح ؛ لزم منه عدم استقلال كل واحدة منهما.

__________________

(١) قارن ما أورده الآمدي هنا بما أورده في غاية المرام ل ٦٥ / أوانظر ما أورده الشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٣٥٧ ، ٣٥٨ حيث يذكر هذه الحجة مقدما لها بقوله : قالت الأشعرية : ثم يفصل القول فيها. ثم يخلص في النهاية إلى عدم الثقة بالأدلة العقلية في هذه المسألة قائلا : (واعلم أن هذه المسألة سمعية أما وجوب الرؤية ، فلا شك في كونها سمعية. وأما جواز الرؤية فالمسلك العقلى ما ذكرناه ، وقد وردت عليه تلك الإشكالات ...

فالأولى بنا أن نجعل الجواز أيضا مسألة سمعية). نهاية الأقدام ص ٣٦٩.

(٢) ساقط من أ.

٤٩٢

وإن كان الثانى : فالمصحح أحد العلتين دون الأخرى ، ثم يلزم منه صحة الرؤية في المحل المختص بتلك العلة ، وعدم صحة (١) الرؤية (١) فى المحل الّذي لم توجد فيه تلك العلة ؛ وهو محال.

وإن كان الثالث : فيلزم منه امتناع صحة الرؤية لكل واحد من المحلين المختلفين ؛ ضرورة عدم استقلال ما اختص به بالتصحيح (٢) ؛ فلم يبق إلا أن يكون المصحح ما به الاتفاق لا غير. وما به الاتفاق : إما أن يكون عدما ، أو وجودا.

لا جائز أن يكون المصحح ما به الاتفاق من الأعدام ، والسلوب لوجهين :

الأول : أن العدم لا يصلح أن يكون علة موجبة لصحة الرؤية ؛ فإن كون العلة موجبة صفة إثبات للعلة ، والعدم المحض لا يتصف بالصفات الإثباتية ؛ فلم يبق إلا أن تكون العلة المصححة وجودية.

الثانى : [أن (٣)] العدم لا اختصاص له بمحل دون محل. ويلزم من ذلك أن يكون مصححا للرؤية بالنسبة إلى كل محل مجهول ؛ وهو محال.

وما به الاتفاق بين الأجسام والألوان من الصفات العامة الوجودية ، ليس إلا الوجود ، والحدوث.

والحدوث لا يجوز أن يكون هو المصحح لثلاثة أوجه :

الأول : أنه يصح رؤية الأجسام في حال بقائها ، ولا حدوث في حالة البقاء.

الثانى : أنه لا معنى للحدوث ، إلا سبق الوجود بالعدم. أى أنه لم يكن ؛ فكان ، أو أنه مما لا يتم وجوده بنفسه ، وهذه أعدام ، والعدم لا يكون علة على (٤) ما تقدم (٤) ، ولا جزء من العلة ؛ لأن جزء العلة لا بدّ وأن يكون مؤثرا مع الجزء الآخر. والتأثير صفة إثبات ؛ فلا يكون صفة للعدم المحض.

__________________

(١) فى ب (الصحة).

(٢) فى ب (من التصحيح).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (على ما سبق).

٤٩٣

الثالث : أنه لو كان المصحح هو الحدوث ؛ فيلزم على أصول المعتزلة صحة رؤية العلوم ، والقدر ، والإرادات (١). وكذلك (١) الطعوم ، والروائح ؛ / لكونها حادثة ؛ وهو خلاف أصولهم (٢) ؛ فلم يبق إلا أن يكون المصحح هو الوجود ، والوجود متحقق في حق الله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك صحة الرؤية عليه ؛ ضرورة وجود المصحح.

فإن قيل : لا نسلم اشتراك الأجسام والألوان في صحة الرؤية ، وما المانع من أن يقال : الألوان غير مرئية؟ كما هو مذهب عبد الله بن سعيد من أصحابكم ؛ حيث ذهب إلى أنه لا يرى غير القائم بنفسه ، أو أن الجسم غير مرئى ؛ كما هو مذهب بعض المعتزلة ، وأكثر الكرامية؟

قولكم : فى المقدمة : إنا لا نشك في رؤية أشكال الأجسام ، ومقاديرها وكونها في بعض الجهات دون البعض ؛ فغايته أنه دليل على أن المدرك عرض آخر ؛ وليس في ذلك ما يدل على كون الجسم مرئيا.

سلمنا صحة رؤية الأجسام والألوان ؛ ولكن لا نسلم أن صحة الرؤية أمر ثبوتى ؛ وما ليس بثبوتى ؛ فلا يحتاج إلى التعليل.

أما أن الصحة ليست أمرا ثبوتيا ؛ فلأنه لا معنى لصحة الرؤية إلا إمكان الرؤية. والإمكان ليس بثبوتى ؛ وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن الإمكان نقيضه لا إمكان ، [ولا (٣) إمكان (٣)] عدم لصحة اتصاف العدم الممكن به ، ولو كان صفة ثبوتية ؛ لكان صفة للعدم المحض ، والنفى الصرف ؛ وهو محال.

الثانى : هو أن الحادث قبل حدوثه متصف بالإمكان ، فلو كان الإمكان صفة وجودية : فإما أن يكون صفة للحادث ، أو لغيره.

لا جائز أن يكون صفة للحادث ؛ وإلا كانت الصفة الوجودية لما ليس بموجود.

__________________

(١) فى ب (والإدراكات).

(٢) فى ب (أصلهم).

(٣) فى أ (والإمكان).

٤٩٤

ولا جائز أن يكون صفة لغير الحادث ؛ وإلا لما وصف الحادث به. كما لا يوصف المحل بكونه أسود بسواد قائم بغيره.

الثالث : أنه لو كان الإمكان صفة وجودية : فإما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممتنعا لذاته ، أو ممكنا لذاته.

لا جائز أن يكون واجبا لذاته : وإلا لما كان صفة لغيره.

ولا جائز أن يكون ممكنا ، وإلا كان ممكنا بإمكان آخر ؛ ولزم التسلسل. فلم يبق إلا أن يكون ممتنع الوجود لذاته ؛ وهو المطلوب.

وإذا ثبت أن صحة الرؤية ليس أمرا ثبوتيا ؛ فما ليس بثبوتى لا يفتقر إلى علة ؛ لأن العلة : إما وجودية ، أو عدمية.

فإن كانت وجودية : فإما قديمة ، أو حادثة.

فإن كانت قديمة ؛ فهو ممتنع ؛ لأن القديم لا تخصص له بعدم دون عدم ؛ فيجب أن يكون علة لكل معدوم ، وأن لا يزول الإعدام أبدا ؛ ضرورة أن العلة الموجبة / لها موجودة قديمة ، وأن القديم الموجود لا يزول كما يأتى تحقيقه ، وأنه يلزم من دوام العلة دوام معلولها.

وإن كانت العلة الموجودة حادثة ؛ فهو محال ؛ لأن العدم الّذي هو معلولها سابق عليها ؛ والمعلول لا يسبق العلة. وإن كانت العلة عدمية ؛ فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول ، والثانى : ما سبق في تقرير الدليل.

والثالث : أن الأعدام من حيث هى أعدام متساوية ، بخلاف الذوات الموجودة ، فلو كان العدم علة للعدم ؛ لكان أحد المتساويين علة للآخر ؛ وليس هو أولى من العكس.

سلمنا أن صحة الرؤية أمر ثبوتى ؛ ولكن لا نسلم أن كل أمر ثبوتى لشيء يجب أن يكون معللا.

قولكم : إنه (١) لو كانت الأجسام ، والألوان معدومة استحال (٢) أن تكون مرئية. لا

__________________

(١) ساقط من ب

(٢) فى ب (لاستحالة).

٤٩٥

نسلم ذلك ، وما (١) المانع من كون المعدوم مرئيا كما ذهب إليه السالمية (١)؟ ولا سيما (٢) على أصلكم من حيث أن الإدراك نوع من العلم والمعدوم معلوم ؛ فلا يمتنع تعلق الإدراك به.

سلمنا استحالة رؤية المعدوم ؛ ولكن لم قلتم إن رؤية الأجسام ، والألوان معللة؟

قولكم : لو لم يختص بمعنى توجب صحة رؤيتها ، لما اختصت بالرؤية بل عم الحكم نفيا ، أو إثباتا.

قلنا : هذا منتقض بصور.

الصورة الأولى : أن اختصاص محل الحكم بالعلّة ، أمر زائد على المحل ، وعلى نفس العلة ، ومع ذلك فإنه لا يستدعى مخصصا آخر ، وإلا لتسلسل الأمر إلى غير النهاية ؛ وهو محال.

الصورة الثانية : أن اختصاص العلة بكونها علة للحكم أمر زائد عليها ، وعلى المعلول أيضا ، ومع ذلك فلا يستدعى مخصصا نفيا للتسلسل.

الصورة الثالثة : أن المعلومية ، والمذكورية حكم زائد على ذات المذكور والمعلوم ، وليس بمعلل ؛ لأنه يعم الوجود ، والعدم ؛ فلو كان معللا : فإما أن يعلل بصفة إثبات ، أو نفى.

فإن علل بصفة إثبات : انتقض بكون المعدوم معلوما ، ومذكورا.

وإن علل بصفة عدم : انتقض بكون الموجود معلوما ، ومذكورا.

كيف وأن العدم لا يصلح أن يكون علة على ما تقدم ، وكذلك الكلام في المقدور ، والمراد أيضا (٣).

الصورة الرابعة : أن اختصاص المحل (٤) بالسواد ، والبياض (٤) ، وغير ذلك من الأعراض صفة إثباتية زائدة / على ذات المحل ، وقد اختص به عما ليس بذى سواد ، ولا بياض ، ومع ذلك فإنه غير معلل ؛ وإلا لزم التسلسل.

__________________

(١) مكررة في أل ١٢٦ / ب س ٩.

(٢) فى ب (وسيما).

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (بالبياض والسواد).

٤٩٦

الصورة الخامسة : هو (١) أن وقوع الفعل من الفاعل ، لا يكون معللا ، وإن كان زائدا على ذات الفاعل ؛ لأنه لو كان معللا : فإما أن يعلل بذات الفاعل ، أو بصفة لازمة لذاته ، أو بما سوى ذلك.

فإن كان الأول ، والثانى : لزم أن لا يتأخر وقوع الفعل عن ذات الفاعل ، حتى لا يتأخر الحكم على علته ، كما لا يتأخر كون الأسود ، أسود عن سواده.

وإن كان الثالث : فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

فإن كان قديما : فهو ممتنع ؛ لما تحقق (٢) فى القسم الّذي قبله.

وإن كان حادثا : فهو أيضا فعل ، ويفتقر في وقوعه إلى علة أخرى ، والكلام في تلك العلة ؛ كالكلام في الأولى ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الصورة السادسة : التماثل ، والاختلاف ؛ فإنه وإن كان حالا زائدا (أبدا (٣)) ؛ فهو غير معلل على ما يأتى في العلل ، والمعلولات (٤).

فإذن قد انقسمت الأحكام ، والأحوال الزائدة : إلى ما يعلل ، وإلى ما لا يعلل ؛ فلم قلتم بأن ما نحن فيه مما يجب تعليله؟

سلمنا أن صحة الرؤية من الأحوال المعللة ؛ ولكن لم قلتم بامتناع التعليل بما به الافتراق بين الأجسام ، والألوان؟

قولكم : يلزم منه تعليل الحكم الواحد بعلل مختلفة ، إنما يلزم أن لو كانت صحة رؤية الجسم ، واللون ؛ حكمين متماثلين. ولا نسلم إمكان التماثل بين شيئين (٥) أصلا ؛ فإن كل شيئين لا بدّ من التغاير بينهما بوجه من وجوه التغاير والتمايز ، [وما به (٦) التمايز (٦)] ، لا بدّ وأن يكون مختلفا ، ولا تماثل مع الاختلاف من وجه.

سلمنا إمكان التماثل في الجملة ؛ ولكن لا نسلم مماثلة صحة رؤية الجسم ؛ لصحة رؤية اللون.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (تقدم).

(٣) ساقط من أ.

(٤) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثالث ـ الأصل الثانى : فى تحقيق معنى العلل والمعلولات ل ١١٧ / ب وما بعدها.

(٥) فى ب (الشيئين).

(٦) ساقط من أ.

٤٩٧

وبيانه : أن المثلين عبارة عن كل شيئين يسد أحدهما مسد الآخر فيما يجب ، ويجوز من الصفات ، أو ما يشتركان فيما لكل واحد من الواجبات ، والجائزات ، والممتنعات (١) عليه.

وصحة رؤية الجسم واللون ، ليس كذلك ؛ فإن رؤية كل واحد [منهما (٢)] لا تقوم مقام رؤية (٣) الآخر ، ولا تسد مسده (٤) ؛ فإن رؤية الجسم ليست رؤية اللون ، ولا رؤية اللون ، رؤية الجسم ؛ فلا تماثل.

سلمنا التماثل بينهما ؛ ولكن من وجه ، أو من كل وجه.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع. وتقريره / ما سبق قبله.

سلمنا التماثل من كل وجه ؛ ولكن لا نسلم امتناع تعليل الحكم الواحد بالعلل المختلفة ، وما به الافتراق. وما ذكرتموه من الدليل على امتناع تعليل الحكم الواحد بعلتين مختلفتين ؛ فهو منتقض من خمسة أوجه :

الأول : أن الحقائق المتفقة بالجنسية ، المختلفة بالنوعية ؛ لا تتم حقيقة كل واحد منها دون ما به الاتفاق ، والافتراق.

وعند ذلك : فإما أن يكون بين ما به الاتفاق والافتراق ، في كل واحد من الأنواع المختلفة تحت الجنس الواحد ملازمة ، أو لا ملازمة بينهما أصلا.

لا جائز أن يقال بعدم الملازمة : وإلا لجاز الانفكاك ، وخرج كل نوع عن حقيقته ؛ وخروج الشيء عن حقيقته محال.

وإن كان بينهما ملازمة ؛ فلا جائز أن يقال : بأن ما به الاتفاق مستلزم لما به الافتراق في كل واحد من الأنواع ، وإلا كان ما اختص بكل واحد من الأنواع مجتمعا في كل واحد من الأنواع ؛ ضرورة اتحاد المستلزم في الكل ؛ وذلك (٥) محال ؛ فلم يبق إلا أن يكون ما به الافتراق مستلزما لما به الاتفاق ؛ وفيه تعليل المتحد بالمختلف.

__________________

(١) فى ب (والمختلفات) ،

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (الأخرى).

(٤) فى ب (مسدها).

(٥) ساقط من ب.

٤٩٨

الثانى : هو أن عالمية الله ـ تعالى ـ بالسواد مثلا ؛ مماثلة لعالمية الواحد منا به ، وعالمية الله ـ تعالى ـ عندكم معللة بعلمه القديم. وعالمية الواحد منا ، معللة بالعلم الحادث ، ولا مماثلة بين العلم القديم ، والحادث ؛ وفيه تعليل المتحد ، بالمختلف.

الثالث : هو أن الاختلاف مشترك بين المختلفات ؛ فإن كل واحد من المختلفين مخالف للآخر ، ومخالفته للآخر : إما لذاته ، أو للازم ذاته ؛ وفيه تعليل المتفق بالمختلف.

الرابع : هو أن الكذب ، والجهل متفقان في صفة القبح ، وقبح (١) كل واحد منهما (١) لذاته ، أو للازم ذاته ؛ وهما مختلفان مع الاقتضاء لحكم واحد.

الخامس : أن السواد ، والبياض متفقان في اللونية ، ومختلفان في السوادية والبياضية. وقد اتفقا في الافتقار إلى محل (٢) يقومان به ؛ وهو حكم واحد.

وعند ذلك : فإما أن يكون كل واحد من السواد والبياض ، مفتقرا إلى المحل من جهة ما به الاتفاق من اللونية ، أو من جهة ما به الافتراق من السوادية ، والبياضية ، أو من الجهتين.

لا جائز أن يقال بالأول فقط ، وإلا كان السواد ، والبياض من جهة سواديته ، وبياضيته / مستغنيا عن المحل ؛ وهو محال.

فلم يبق إلا الثانى ، والثالث ؛ وفيه تعليل المتفق بالمختلف.

سلمنا أنه لا بدّ من اتحاد العلة ؛ ولكن لا نسلم أن مسمى الوجود واحد مشترك فيه بين الأجسام والألوان ؛ إذ الوجود هو نفس الموجود على ما سيأتى في مسألة المعدوم (٣) ، ولا سيما على أصلكم ، والموجودات مختلفة بذواتها ؛ فلا اتحاد.

سلمنا أن مسمى الوجود واحد ؛ ولكن لم قلتم إنه هو المصحح؟

__________________

(١) فى ب (وصفة كل واحد منها).

(٢) فى ب (المحل الّذي).

(٣) انظر الجزء الثانى ـ الباب الثانى : فى المعدوم وأحكامه ل ١٠٦ / ب.

٤٩٩

قولكم : لا مشترك غير الوجود ، والحدوث ؛ لا نسلم [ذلك (١)]. والبحث ، والسبر مع عدم الاطلاع على غيره بما لا يوجب العلم بعدمه ؛ بل غايته عدم العلم به ، أو غلبة الظن بعدمه ، ولا يلزم أن يكون الغير معدوما في نفسه ؛ كما سبق في تحقيق الدليل (٢).

سلمنا أن البحث حجة ؛ ولكن مع الاطلاع على شيء آخر ، أو لا مع الاطلاع الأول : ممنوع. والثانى : مسلم.

وبيان وجود أمر آخر من الأوصاف العامة من ثلاثة أوجه :

الأول : هو أن الاشتراك متحقق في صفة الإمكان. وهو إما أن يكون وجوديا ، أو عدميا.

فإن كان وجوديا : فأمكن أن يكون هو العلة.

وإن كان عدميا : فصحة الرؤية تكون عدمية ؛ إذ الصحة هى الإمكان كما تقدم.

وعند ذلك : فيلزم منه أن لا تكون معللة ، أو أن يصح تعليلها بأمر عدمى.

الثانى : هو أن ما يسلم الخصم كونه مرئيا ؛ إنما هو الأجسام ، والألوان ، والألوان أعراض. والجسم : فعبارة عما تألف من جوهرين فصاعدا على أصلكم ، أو من ستة جواهر ، أو ثمانية على أصل المعتزلة ؛ فالتأليف داخل في مسمى الجسم ، أو ملازم له ؛ وهو عرض مشارك للألوان في صفة العرضية ، فلا يمتنع أن يكون هو العلة. وهذان الوصفان لا تحقق لهما بالنسبة إلى الله تعالى.

الثالث : الاشتراك في المعلومية ، والمقدورية ، والمذكورية.

سلمنا أنه لا مشترك في الأوصاف غير (٣) الوجود ، والحدوث ؛ ولكن لم قلتم الحدوث ليس بعلة؟

قولكم : الحدوث عبارة عن سبق الوجود بالعدم ، والعدم الداخل في مفهوم الحدوث لا يكون علة ؛ لا نسلم أن العدم السابق داخل في مفهوم الحدوث ؛ بل هو عارض للحدوث.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) انظر ل ٣٩ / ب.

(٣) فى ب (إلا).

٥٠٠