أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

«المسألة السادسة»

«فى إثبات الإدراك لله تعالى»

والإدراك وإن أطلق بمعنى العلم بالشيء ؛ فإنه يصح أن يقال : أدرك فلان الشيء إذا علمه. وبمعنى اللحوق ؛ إذ يقال : أدرك فلان العصر الفلانى. إذا لحقه. وبمعنى البلوغ لحالة من أحوال الكمال. ومنه يقال : أدرك الغلام. إذا بلغ سن كمال العقل ، وأدركت الثمار. إذا زهت ، واستوت. إلا أن المقصود فيما نحن فيه ؛ إنما هو الإدراك بمعنى السمع ، والبصر.

وقد أجمع العقلاء ، على أن الواحد منا مدرك. ثم اختلفوا :

فمن قال بنفى الأعراض : قال : هو مدرك ، لا بإدراك.

ومن أثبت الأعراض : قال هو مدرك ، بإدراك ، وإن الإدراك معنى ، غير أن الإدراك عرض قائم بجزء من المدرك عند المعتزلة ، وقائم بنفس المدرك عند من لا يرى تعدى حكم الصفة عن محلها.

وعند هذا اختلف المتكلمون في الرب تعالى :

فذهب أصحابنا (١) : إلى أنه سميع بسمع ، بصير ببصر.

وذهبت المعتزلة : إلى أنه سميع بلا سمع ، بصير بلا بصر.

وذهب ابن الجبائى (٢) : إلى أن معنى كونه سميعا ، بصيرا : أنه حي لا آفة به.

__________________

(١) من كتب الأشاعرة المتقدمين على الآمدي :

انظر اللمع للأشعرى ص ٢٥ ، ٢٦ والإبانة له أيضا ص ٣٥ ، والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ والإنصاف له أيضا ص ٣٧ وأصول الدين للبغدادى ص ٩٦ ، ٩٧.

والإرشاد لإمام الحرمين ص ٧٢ ـ ٧٦ ولمع الأدلة له أيضا ص ٥٨.

والاقتصاد للغزالى ص ٥١ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٣٤١ ـ ٣٥٥.

والمحصل للرازى ص ١٢٣ ، ١٢٤ ومعالم أصول الدين له أيضا ص ٤٥ ـ ٤٧.

ومن كتب الآمدي : انظر غاية المرام ص ١٢١ ـ ١٣٣.

ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي :

انظر شرح الطوالع ص ١٨٢ ـ ١٨٣ ، والمواقف للإيجي ص ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ، ٢ / ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) لتوضيح رأى الجبائى انظر الفرق بين الفرق ص ١٨٣ ، ١٨٤ والملل ١ / ٨٣.

٤٠١

وذهب الكعبى (١) : إلى أن معناه : أنه عالم بالمسموعات ، والمبصرات.

وقد اعتمد أصحابنا (٢) فى المسألة. على (٣) المسلك المشهور. وهو أنهم قالوا : البارى تعالى حي ، والحى إذا قبل حكما لا يخلو عنه ، أو عن ضده. وهو كونه حيا موجب لقبول السمع ، والبصر ، فلو لم يتصف البارى ـ تعالى ـ بالسمع (٤) ، والبصر (٤). لكان متصفا (بضدهما (٥)) وضد البصر (٦) ، والسمع (٦) ، صفة نقص ؛ فيمتنع اتصاف البارى ـ تعالى ـ به.

وبيان أن الموجب لقبوله (٧) للسمع (٧) ، والبصر كونه حيا : ما نراه في الشاهد ؛ فإن الموجب لقبول الإنسان ، وغيره من الحيوان لذلك : إنما هو كونه حيا ؛ فإنه لو قدر أن الموجب لذلك غير الحياة من الأوصاف ؛ لكان منتقضا.

وإذا كان الموجب لقبول ذلك : إنما هو كونه حيا : فالبارى ـ تعالى ـ حي كما يأتى ؛ فيجب أن يكون متصفا بهما وإلا كان متصفا بأضدادهما : وهو ممتنع.

واعلم أن هذا المسلك : مما لا يقوى نظرا إلى ما حققناه في مسألة (٨) الكلام (٨).

والّذي نعده هاهنا أن نقول :

حاصل الطريقة آئل إلى قياس التمثيل ؛ وهو الحكم على الغائب / بمثل ما حكم به على الشاهد بجامع الحياة. وهو إنما يصح أن لو ثبت أن الحكم في الأصل الممثل به

__________________

(١) لتوضيح رأى الكعبى انظر الفرق بين الفرق ص ١٨١ والملل ١ / ٧٨.

(٢) منهم : الأشعرى في اللمع ص ٢٥ ، ٢٦ ، ٤٠ والإبانة ص ٣٥ ، وتابعه الباقلانى في التمهيد ص ٤٧ ، والشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٣٤١ ـ ٣٤٣.

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (بهما).

(٥) فى أ (بضده).

(٦) فى ب (السمع والبصر).

(٧) فى ب (لقبول السمع).

(٨) فى ب (الصفات بجهة العموم).

انظر ل ٨٨ / ب وما بعدها : المسلك الخامس ـ من المسألة الخامسة في إثبات صفة الكلام لله تعالى ، وهذا المسلك قد نقده القاضى عبد الجبار في المغنى ٤ / ٣٩ ، ٥١ وشرح الأصول الخمسة ص ٢٥٧.

٤٠٢

لمعنى ، لا أنه ثابت لنفسه ، أو بخلق علم (١) الله ـ تعالى ـ له في ذلك من غير افتقار إلى أمر خارج ، يكون مصححا له ، وموجبا.

وإن سلم (٢) أنه ثبت لمعنى ؛ لكن لا بدّ من حصر أوصاف المحل ؛ وذلك لا يتم إلا (٣) بالبحث ، والسبر ؛ وهو غير مفيد لليقين (٣) كما سلف (٤).

ثم وإن أفاد علما للباحث ؛ فلا يكون حجة على غيره ؛ فإن بحث زيد لا يفيد العلم في حق عمرو.

ثم وإن سلم (٥) الحصر ؛ فلا بد (٥) من التعرض لإبطال التأثير في كل رتبة تحصل له مع إضافته إلى غيره ؛ وذلك مما يعسر ويشق.

وإن سلم التعرض لإبطال غير المستبقى ، غير أن ما به إبطال غير المستبقى ؛ فهو لازم على إبطال المستبقى ؛ فإنه منتقض بباقى أعضاء الإنسان ، وأعضاء غيره من الحيوان ؛ فإنها حية مع انتفاء السمع ، والبصر ، وأضدادهما عنها.

وإن سلم أن الحكم لغير ما عين ؛ لكن من الجائز أن يكون ذلك له باعتبار الشيء الموصوف به. ومهما لم يتبين أن الموصوف به في محل النزاع هو الموصوف به في محل الوفاق ، لم يلزم الحكم.

وإن سلم أن المصحح كونه حيا لا غير ؛ فإنما يلزم ذلك في حق الله تعالى أن لو كان إطلاق اسم الحى على الله ـ تعالى ـ وعلى الواحد منا بمعنى واحد ؛ وهو غير مسلم.

ولا يلزم من كون الحياة في حق الله ـ تعالى ـ شرطا لصحة الاتصاف بالعالمية ، والقادرية ، كما في الحياة في الشاهد ، التماثل بين الحياتين ؛ لجواز اشتراك المختلفات في لازم واحد.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (سلمنا).

(٣) فى ب (إلا بالبحث وهو غير يقينى).

(٤) انظر ل ٣٩ / ب.

(٥) فى ب (سلمنا الحصر ولكن لا بدّ).

٤٠٣

سلمنا اتحاد مسمى الحى بين الشاهد والغائب ، ولكن لم قلتم إنه يلزم من وجود المصحح ؛ وجود الصحة ، وما المانع من أن تكون ذات البارى ـ تعالى ـ مانعة؟ إذ لا يلزم من (وجود (١)) المصحح انتفاء المانع. ولهذا : فإن كونه حيا كما أنه مصحح لهذه الإدراكات ؛ فهو مصحح في الشاهد لأضدادها. وما لزم من وجوده في حق الله ـ تعالى ـ صحة اتصافه بأضداد الإدراكات.

وقد ترد عليه أسئلة أخرى يمكن الانفصال عنها وهى أن يقال :

سلمنا أنه يلزم من وجود المصحح ؛ صحة اتصافه بالإدراكات ؛ ولكن ما الّذي تعنون بأضداد الإدراكات؟

إن أردتم بها عدم الاتصاف بالإدراكات فهو حق ؛ ولكن لا نسلم أن الاتصاف بعدم / الإدراك ممتنع ؛ والقول بأنه صفة نقص ؛ عين محل النزاع.

وإن أردتم به معنى ثبوتيا : فهو غير مسلم.

وبيانه : أنه لو كان معنى ؛ لوجب أن يدركه الحى من نفسه :

كإدراكه جميع صفاته التى شرطها الحياة ؛ وذلك كما إذا قدر أو علم ، فإنه يدرك كونه عالما ، أو قادرا ، والعلم الاضطرارى يشهد بأنا لا ندرك معنى عند عدم إدراكنا للأمور الغائبة عنا.

سلمنا وجود أضداد الإدراكات ، ولكن لا نسلم امتناع خلو الحى عنهما كما ذهب إليه أبو الهذيل.

سلمنا امتناع الخلو ؛ ولكن لا نسلم أن أضداد الإدراكات من صفات النقص كما تقدم في مسألة الكلام.

سلمنا أنها نقص ؛ ولكن لم قلتم بامتناع اتصاف الرب ـ تعالى ـ بها؟ فلئن رجعتم إلى الإجماع ؛ فمدرك كون الإجماع حجة. إنما هو النصوص من الكتاب ، والسنة ، فلنرجع في إثبات السمع ، والبصر إليهما ؛ إذ هو أولى من هذا التطويل مع ضعفه.

__________________

(١) ساقط من أ.

٤٠٤

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالسمع ، والبصر ، لكنه ينتقض بباقى الإدراكات من الشم ، والذوق ، واللمس ؛ فإن ما ذكرتموه يوجب كونه ـ تعالى ـ متصفا بها ؛ ولم يقل به قائل.

والجواب :

أما السؤال الأول : فمندفع ؛ وذلك لأنه إذا ثبت كون الرب ـ تعالى ـ حيّا ، وأن كونه حيا : مصحح لاتصافه بالسمع ، والبصر ؛ فالسمع ، والبصر صفة كمال للحى على ما تقدم تقريره. فإذا لم يكن متصفا بهما ، فهو ناقص ، وسواء كان (ضدهما (١)) هو عدم السمع ، والبصر ، أو معنى ثابتا.

كيف وإن الأدلة (الدالة (٢)) على ثبوت الأعراض بعينها دالة على كون أضداد السمع ، والبصر معنى ، وسنبين ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

قولهم : لو كان صفة ثبوتية لكان مدركا ، ليس كذلك لوجوه ثلاثة :

الأول : هو أن السهو من أضداد العلم ، وهو معنى ، وما لزم أن يكون مدركا ؛ فإنه لو كان مدركا لكونه ساهيا ؛ لما كان ساهيا ، فإذن ليس كل معنى يكون مدركا.

الثانى : هو أنا لا نسلم أن كل معنى يجب أن يكون مدركا ؛ ولكن فيما كان من صفات الحى ، أو فيما لا يكون من صفات الحى.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع ؛ ولكن لم قلتم بأن المانع من صفات / الحى ـ إذ المانع من الإدراك بالسمع ، والبصر ، في اليد ، والرجل عندنا ؛ مجانس للمانع في الجماد.

الثالث : سلمنا أن كل معنى يجب أن يكون مدركا ؛ ولكن متى؟ إذا لزم منه التسلسل ، أو إذا لم يلزم ، الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

والموانع لو لزم أن تكون مدركة ؛ للزم من عدم إدراكها ، إدراك مانعها ، وهلم جرا ، إلى غير النهاية ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى أ (ضده).

(٢) ساقط من أ.

٤٠٥

وأما منع إحالة الخلو من الأضداد ؛ فقد سبق جوابه في مسألة الكلام (١).

وأما الأصحاب (٢) : فقد استدلوا على موقع المنع من أربعة أوجه :

الأول : أن الاتفاق واقع على أن المحل بعد اتصافه ببعض الصفات لا يخلو عنها إلا بضدها. فإما أن يكون ذلك لازما ، أو لا يكون لازما.

فإن لم يكن لازما : جاز أن لا يقع ؛ وهو خلاف الإجماع ،

وإن كان لازما : فاللزوم إما لنفس الذات ، أو للازم الذات.

وعلى كلا التقديرين يلزم استمرار هذا الحكم بدوام الذات.

الثانى : أنه لو جاز خلو المحل عن جميع الأضداد : فإما أن يكون التعاقب بينهما واجبا ، أو لا يكون واجبا.

فإن كان غير واجب : فلا يمتنع وجودهما معا ؛ وهو محال. وإن كان التعاقب واجبا ؛ فهو المطلوب.

الثالث : هو أن المحل لو جاز خلوه عن الأضداد : فإما أن يكون ذلك لذاته ، أو لمعنى.

فإن كان الأول فيلزم منه امتناع اتصافه بواحد منها ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فيلزم أن يكون متصفا ببعض الأضداد حالة خلوه عنها ؛ وهو محال.

الرابع : أنه لو جاز خلو المحل عن جميع الأضداد ؛ لامتنعت الدلالة على استحالة حلول الحوادث بذات الرب تعالى ؛ إذ لا طريق إلى ذلك غير قولنا : لو جاز أن يكون محلا للحوادث ، لما خلا عنها ، أو عن أضدادها في الأزل ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من وجود حوادث متعاقبة إلى غير النهاية.

ويمكن أن يجاب عن الأول : بأنه لا مانع أن يكون ذلك من لوازم اتصاف المحل بالصفة ، لا أنه من لوازم الذات ، ولا لازم الذات.

__________________

(١) انظر ل ٩٠ / أالجواب عن السؤال الرابع.

(٢) ذكر الآمدي استدلال الأصحاب على موقع المنع ثم رد عليهم.

٤٠٦

وعن الثانى : بنفى وجوب التعاقب ، ولا يلزم من انتفاء وجوب التعاقب ، جواز الاجتماع.

وعن الثالث : أن خلو المحل عن الأضداد لا لذاته ، ولا لمعنى.

وعن الرابع : بما فيه من تصحيح الأصل ؛ ضرورة صحة ما لا يصح إلا به.

وأما / السؤال الثالث ، والرابع : فمندفع بما حققناه في جواب السؤال الأول.

وأما السؤال الخامس : فقد سبق جوابه في مسألة إثبات الصفات بجهة العموم (١).

المسلك الثانى :

وهو مناسب لأصول المعتزلة (٢). وهو أن الله ـ تعالى ـ حي لذاته ، وكل حي لذاته ؛ فإنه يدرك المدرك عند وجوده ؛ فالبارى ـ تعالى ـ يدرك المدرك عند وجوده.

أما (٣) أنه حي : فمجمع عليه مع قيام الدليل عليه فيما يأتى (٤).

وأما أن كل حي لذاته (فهو (٥)) يدرك المدرك عند وجوده ؛ فهو : أن الحى في الشاهد مدرك ومدركيته معللة بكونه حيا ، ومفهوم الحياة متحد في الغائب والشاهد ؛ فيلزم من كونها علة المدركية في الشاهد ؛ أن تكون علة في الغائب.

أما بيان كون الحياة في الشاهد علة المدركية : فمن ثلاثة أوجه :

الأول : أن بعض الحى إذا كان حيا ؛ كان مدركا. وإذا خرج عن كونه حيا بالقطع ، وغيره خرج عن كونه مدركا. ودوران المدركية معه وجودا وعدما ؛ دليل كونه علة لها.

الثانى : أن الحى ـ السليم الحاسة ـ إذا حضر المدرك ، وانتفت الموانع ، ووجدت الشرائط ؛ كان إدراكه له واجبا.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٥٨ / ب.

(٢) قارن بالأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ١٦٧ وما بعدها ، والمغنى في أبواب التوحيد والعدل : ٥ / ٢٤١ وما بعدها ، والمحيط بالتكليف له أيضا ص ١٣٥ وما بعدها.

(٣) فى ب (وأما).

(٤) انظر ل ١١١ / أوما بعدها.

(٥) ساقط من أ.

٤٠٧

وإدراكه : إما أن يكون معللا بكونه حيا ، أو بانتفاء الموانع ، أو بصحة الحاسة ، أو لوجود المدرك ، أو لأمر آخر.

لا جائز أن يكون معللا بانتفاء الموانع لثلاثة أوجه :

الأول : هو أن انتفاء الموانع يعم الحى ، والميت ؛ وذلك يوجب كون الميت مدركا ؛ وهو محال.

الثانى : هو أن العدم لا يكون علة لأمر ثبوتى.

الثالث : هو أن الموانع المنتفية كثيرة : فإما أن تعلل المدركية بواحد منها ، وإما (١) بالكل ، أو لا بشيء منها.

والأول (١) ممتنع ؛ إذ لا أولوية لبعضها دون البعض.

والثانى : ممتنع ؛ لأنها عند الاجتماع : إما أن يكون كل واحد مؤثرا في جملة الحكم ، أو في بعضه ، أو أنه لا تأثير لكل واحد منها في شيء ما.

لا سبيل إلى الأول : وإلا كان كل واحد منها مستقلا بالحكم. ومعنى استقلاله ، أنه (٢) ثبت (٢) به لا غير ، وفي ذلك إبطال استقلال كل واحد منها.

ولا سبيل إلى الثانى ؛ لعدم التبعيض في الحكم.

وإن كان الثالث ؛ فهو المطلوب.

ولا جائز أن يكون معللا بصحة الحاسة ؛ لأنه لا معنى لصحة الحاسة غير انتفاء الآفات / عنها ، وهو عود إلى القسم الّذي تقدم.

ولا جائز أن يكون معللا بوجود المدرك : فإن المدركية تكون (٣) موجودة في غير المدرك (٣) ، والعلة لا توجب حكما في غير محلها. كما يأتى في العلل والمعلولات (٤).

ولا جائز أن تكون المدركية معللة بأمر خارج عن هذه الأقسام : وإلا لزم من فرض عدمه امتناع الإدراك مع فرض الحياة ، ووجود المدرك ، وصحة الحاسة ، وامتناع الموانع ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (أو بالكل أو بشيء منها الأول).

(٢) فى ب (به أنه أثبت).

(٣) فى ب (تكون في غير المدرك موجودة).

(٤) انظر الجزء الثانى ل ١١٧ / ب وما بعدها.

٤٠٨

الوجه الثالث : هو أنه إذا كان المحل حيا مع صحة الحاسة ، وانتفاء الموانع ، والمدرك موجود ؛ فإنا نعلم حصول المدركية ، ولا شك أنها موقوفة على وجود المدرك.

وعند ذلك ، إما أن تتوقف المدركية على شرط آخر ، أو لا.

فإن توقفت على شرط آخر : فإما أن يكون من الشرائط (١) المذكورة من صحة الحاسة ، وانتفاء الموانع ، من القرب المفرط ، والبعد المفرط ، وارتفاع الحجب ، أو خارجا عنها.

لا جائز أن يقال بالأول : لأن هذه الشروط إنما يعقل ثبوتها في حق الأجسام ، والله ـ تعالى ـ ليس بجسم ؛ فلا يتصور ثبوتها في حقه. وما استحال ثبوته لشيء (٢) ، استحال كونه شرطا في ثبوت غيره لذلك الشيء ؛ لأن كونه شرطا : صفة ثبوتية. والصفة الثبوتية : لا تكون صفة للعدم الصرف.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا لزم عدم الإدراك عند فرض عدمه مع وجود ما قيل من الشرائط ؛ وهو ممتنع ، مخالف لما هو معلوم لنا بالضرورة.

وإن كان الثانى ؛ فهو المطلوب.

وهو ضعيف أيضا ؛ إذ لقائل أن يقول :

لا نسلم أن علة المدركية في الشاهد ، كون المدرك حيا.

وأما ما ذكروه من الدوران ؛ فباطل بما سبق في قاعدة الدليل (٣) كيف وقد أمكن أن يكون حلول الحياة في العضو مع اتصاله بالجملة الحية من جملة المصحح.

وأما الوجه الثانى : فباطل ؛ إذ لا مانع من كون العلة صحة الحاسة.

قولهم : معنى صحة الحاسة ، انتفاء الآفات ، لا نسلم [ذلك (٤)] ؛ بل هو عبارة عن اعتدال المزاج ، وهو أمر وجودى لا عدمى.

__________________

(١) فى ب (الشروط).

(٢) فى ب (للشىء).

(٣) انظر ل ٤٠ / أ.

(٤) ساقط من أ.

٤٠٩

فلئن قالوا : المزاج المعتدل كيفية حادثة عن تفاعل الكيفيات الملموسة للعناصر. ولا يكون ذلك إلا من اجتماع أمور ؛ وهو باطل بما سبق في تقرير امتناع التعليل بانتفاء الموانع / ؛ فهو باطل على أصلهم (١) ؛ حيث قضوا باستحالة قيام الحياة بالجوهر الفرد ، وجواز قيامها بالجسم المركب من الجواهر المجتمعة ؛ وفيه توقف الحياة علي كل واحد من أفراد (٢) الجسم لا محالة.

وأما الوجه الثالث : لأن إلحاق الغائب بالشاهد ؛ إنما هو بواسطة الاشتراك في العلة المصححة للمدركية في الشاهد. فإذا (٣) أمكن أن يكون المصحح هو الحياة ، وحصول المدرك ، وصحة الحاسة ، وانتفاء الموانع ؛ فإن استحال تحقق هذه الشرائط ، أو بعضها في حق الله ـ تعالى ـ فلم يوجد في حقه ، ما كان هو المصحح في الشاهد ؛ فكان الإلحاق ممتنعا.

كيف ، وأن (٤) كل (٤) ما أوردناه على المسلك المتقدم (٥) ؛ فهو وارد هاهنا (٦).

وربما استروح بعض الأصحاب (٧) في إثبات السمع ، والبصر لله (٨) ـ تعالى ـ (٨) إلى ظواهر واردة في الكتاب ، والسنة.

منها ما يدل على كونه سميعا بصيرا ، كقوله ـ تعالى ـ (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٩).

ومنها ما يدل على نفس السمع ، والبصر ، كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (١٠). إلى غير ذلك من الظواهر ؛ وهى غير مفيدة لليقين ، ولا خروج لها عن الظن ، والتخمين ، والتمسك بما هذا شأنه في إثبات الصفات النفسية ، وما يطلب فيه اليقين ، ممتنع.

__________________

(١) فى ب (أصولهم).

(٢) فى ب (أجزاء).

(٣) فى ب (فإن).

(٤) فى ب (وكل).

(٥) فى ب (الأول).

(٦) فى ب (هنا).

(٧) منهم : الغزالى في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد ص ٥١ ، والرازى في كتابيه المحصل ص ١٢٤ ومعالم أصول الدين ص ٤٦.

(٨) فى ب (به).

(٩) سورة الحج ٢٢ / ٧٥.

(١٠) سورة طه ٢٠ / ٤٦.

٤١٠

والمعتمد في ذلك : ما ذكرناه من الطريقة العامة في إثبات الصفات ؛ فعليك بنقلها إلى هاهنا (١).

غير أنه قد يرد عليه (٢) هاهنا شبه وتشكيكات خاصة بهذه المسألة غير ما ورد فيما تقدم ، لا بدّ من إيرادها ، والإشارة إلى وجه الانفصال عنها.

الأول منها : لا نسلم أن كون السميع سميعا ، والبصير بصيرا معنى إثباتيا ، لا شاهدا ، ولا غائبا ؛ بل المفهوم منه إنما هو عدمى ؛ إذ هو عبارة عن كونه حيا لا آفة به كما هو مذهب ابن الجبائى (٣).

سلمنا أنه أمر ثبوتى ؛ ولكن لا نسلم خروجه عن كونه عالما بالمسموعات ، والمبصرات كما هو مذهب الكعبى (٤) ؛ فلا يكون زائدا على ما سبق من الصفات.

سلمنا أن معنى كون السميع سميعا. معنى ثبوتيا ، وأنه زائد على كونه عالما بالمسموعات ، والمبصرات ؛ ولكن لا نسلم أن المدرك في الشاهد ، والغائب ، مدرك بإدراك زائد على المدركية. وبيانه من أربعة أوجه.

الأول : أنه لو كان مدركا بإدراك / ؛ لجاز أن يدرك الواحد منا أخفى ما يكون بحضرته ، وأن لا يدرك ما هو أعظم منه ؛ لجواز أن يخلق له الإدراك بالأخفى دون الأظهر ، وذلك بأن يرى ابره ولا يرى ما بين يديه من الجبال الراسية ، والجمال السائرة ، وأن يسمع الهمس الخفى من الأصوات ، دون ما بحضرته من أصوات الدبادب ، والبوقات.

الثانى : هو أنه إذا صحت الحاسة ، وكان المرئى في مقابلة الرائى ولم يكن في غاية الصغر ، واللطف ، ولا في غاية القرب المفرط ، والبعد المفرط ، وانتفت الحجب ؛ فالمدركية واجبة الحصول ، وممتنعة الحصول عند فوات هذه الشروط ، أو بعضها على ما تشهد به الفطر ، وتقضى به العقول.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٥٨ / أ.

(٢) فى ب (عليها).

(٣) انظر ما سبق ل ٩٩ / أ.

(٤) انظر ما سبق في أول المسألة ل ٩٩ / أ.

٤١١

وعند ذلك : فلو كانت المدركية معللة بمعنى ، فذلك المعنى : إما أن يكون ملازما لهذه الشروط وجودا وعدما ، أو (١) هو منفك عنها بأن (٢) يوجد مع عدمها ، ويعدم مع وجودها.

لا جائز أن يقال بالانفكاك : وإلا لزم وجود المدركية عند وجود ذلك المعنى ، وإن انتفت تلك الشروط ، أو انتفاء المدركية عند انتفائه ، وإن وجدت تلك الشروط ؛ وهو محال.

ولا جائز أن يقال بالملازمة (٣) : لوجوه ثلاثة :

الأول : أنه يلزم (منه (٤)) أن تكون تلك الشروط علة له ضرورة دورانه معها ، وعدم تعلقه بغيرها ، وشهادة العقل بأن المدار على هذا الوجه ، يكون علة للدائر لا شرطا.

الثانى : هو أن العقل جازم بوجوب وجود المدركية ، عند تحقق هذه الشروط ، وإن قطع النظر عما سواها ، وبانتفاء المدركية عند انتفائها ، أو انتفاء بعضها ، وإن وجد غيرها ، فلو كانت المدركية معللة بمعنى ؛ للزم انتفاؤها عند وجود هذه الشروط وتقدير عدم ذلك المعنى ، أو وجودها عند وجوده ، وتقدير عدم هذه الشروط ؛ وهو خلاف ما يشهد به العقل.

الثالث : هو أنه يلزم من ملازمة المعنى لهذه الشروط ، أن يكون بينهما تعلق ، وإلا لما كانت الملازمة أولى من عدم الملازمة وذلك إما تعلق اشتراط ، أو علية.

وعند ذلك : فإما أن يكون التعلق من الجانبين ، أو من أحد الجانبين.

لا جائز أن يقال بالأول : لما فيه من الدور الممتنع.

ولا جائز أن يقال بالتعلق من أحد الجانبين : لأنه لا يخلو من أن يكون ذلك المعنى / مشروطا بتلك الشروط ، أو هى مشروطة به ، أو هى معلولة (٥) له ، أو هو معلول لها (٥).

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) فى ب (وهو أن).

(٣) فى ب (بالتلازم).

(٤) ساقط من أ.

(٥) فى ب (معلولة به أو معلول بها).

٤١٢

لا جائز أن يقال بالأول : فإنه يمتنع (١) حصول الشرط دون المشروط.

وعند ذلك : فلو قدر وجود هذه الشرائط دون ذلك المعنى ؛ فيلزم (٢) منه (٢) انتفاء المدركية ؛ لانتفاء ذلك المعنى ، مع (٣) وجود تلك الشروط ، وهو محال.

ولا جائز أن يقال بالثانى : لوجهين :

الأول : أنه لا مانع من وجود ذلك المعنى دون تلك الشرائط (٤) ؛ لكونه شرطا لها.

وعند ذلك : فيلزم وجود المدركية ، لوجود علتها دون تلك الشروط ؛ وهو ممتنع.

الثانى : أن كل واحد من تلك الشروط غير متوقف على ذلك المعنى المعبر عنه بالإدراك ، وكذا كل اثنين منها ؛ فالجملة لا تكون متوقفة عليه ؛ فإن الآحاد من الجملة.

ولا جائز أن يقال بالثالث : وهو أن يكون المعنى علة لتلك الشروط لوجوه خمسة.

الأول : أن كل واحد من تلك الشروط متحقق ، دون الإدراك فلا يكون منها ما هو معلول له.

الثانى : هو أنه إذا كان الإدراك علة للمدركية : فإما أن يتوقف على تلك الشروط ، أو لا يتوقف عليها.

فإن قيل بالتوقف : فهو ممتنع على أصلكم في امتناع توقف العلة في اقتضائها على معلولها.

__________________

(١) فى ب (لا يمتنع).

(٢) فى ب (للزم).

(٣) فى ب (جواز).

(٤) فى ب (الشروط) وقد وردت هاتان اللفظتان كثيرا في أ ، ب فمرة تأتى شروط في أوفي ب شرائط وأخرى بالعكس وبالبحث في المصباح المنير والقاموس المحيط اتضح الآتى :

الشرط جمعه شروط والشريطة في معنى الشرط وجمعها (شرائط).

(المصباح المنير كتاب الشين مع الراء وما يثلثهما).

الشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه كالشريطة ج شروط.

(القاموس المحيط باء الطاء فصل الشين).

وبناء عليه فسأكتفى بما ورد في نسخة أدون الإشارة إلى ما ورد مخالفا لها في نسخة ب نظرا لاتحاد المعنى.

٤١٣

وإن لم يتوقف : فيلزم عند وجود ذلك المعنى وجود المدركية مع تقدير انتفاء تلك الشروط ؛ وهو محال. كما سبق.

الثالث : هو أن الإدراك متوقف على كل واحد من تلك الشروط ؛ فلا يكون علة له نفيا للدور.

الرابع : هو أن الإدراك إذا كان علة للمدركية ، وهو علة لتلك الشروط ؛ فيلزم أن تكون العلة الواحدة لمعلولين مختلفين ؛ وهو محال.

الخامس : هو أن عندكم إدراك كل شيء مخالف لإدراك غيره.

وعند ذلك : فصحة كل واحد من تلك الشروط : إما أن تكون معللة بواحد من تلك الإدراكات ، أو بكل واحد منها على سبيل الاستقلال ، أو أنه غير معلل بشيء منها.

لا سبيل إلى الأول والثانى : لما تقدم قبل.

وإن كان الثالث : فهو المطلوب.

ولا جائز أن يقال بالرابع : وهو كون الشروط علة للإدراك ؛ لأنه إما أن تكون العلة هو الواحد منها ، أو كل واحد علة ، أو أنه لا شيء منها علة.

لا جائز أن يقال بالأول ، والثالث : إذ هو خلاف الفرض.

والثانى : باطل بما سبق.

الوجه الثالث : أنه / لو كان المدرك مدركا بإدراك ؛ لجاز على القادر خلق إدراك المعدوم في العين. كما جاز تعلقه باللون ، والطعم ، وغيره ؛ وإدراك المعدوم محال.

الرابع : أنه لو كان الإدراك معنى ؛ لصح إدراكه بإدراك آخر ؛ لأن كل موجود يصح أن يكون مدركا عندكم.

وعند ذلك : فلا يتصور الخلو عن إدراكه (١) ، أو عن ضده. وضده أيضا يكون معنى ؛ فيصح إدراكه.

__________________

(١) فى ب (إدراك).

٤١٤

وعند ذلك : فيجب أن لا تخلو عن إدراكه ، أو (١) عن ضده (١) والكلام في ذلك الثانى ؛ كالكلام في الأول ، وهو تسلسل ممتنع.

سلمنا أن المدرك في الشاهد ، مدرك بإدراك ؛ ولكن لا نسلم لزوم ذلك في حق الله ـ تعالى ـ وبيانه بخمسة (٢) أوجه :

الأول : أنه لا يخلو : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يقال بكونه حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال.

ولا جائز أن يكون قديما : وإلا للزم أن يكون له مسموعات ، ومبصرات في القدم ؛ إذ السمع ، والبصر من غير مسموع ؛ ولا مبصر محال ؛ وذلك يجر إلى القول (٣) بقدم (٣) العالم ، أو أن يكون المعدوم مدركا ؛ وهو محال.

الثانى : هو أن الإدراك في الشاهد : إما أن يكون مشروطا بالبنية المخصوصة ، أو لا يكون مشروطا بها.

لا جائز أن لا يكون مشروطا : وإلا للزم الالتباس بين الإدراكات ، وأن تكون حاسة واحدة مدركة بإدراكات مختلفة ؛ وهو ممتنع.

وإن كان مشروطا بالبنية المخصوصة : كما ذكرناه فيما تقدم في تحقيق كل واحدة من الحواس ؛ فهو في حق الله ـ تعالى ـ محال.

الثالث : أنه لا مانع من تفسير الإدراك بانطباع صور المحسوسات في حاسة المدرك كما هو مذهب ابن سينا (٤) ، أو أن يكون الانطباع شرطا فيه كما هو مذهب الطبيعيين ، ويدل على ذلك ما سيأتى عن قرب ؛ وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال.

الرابع : أنه لا مانع من أن يكون الإدراك مشروطا بخروج شعاع من العين متصل بالمدرك كما هو مذهب الرياضيين ، ولهذا فإنا لا ندرك الهبا في غير شعاع الشمس النازل

__________________

(١) فى ب (أو ضده).

(٢) فى ب (من خمسة).

(٣) فى ب (قدم).

(٤) انظر النجاة ص ١٦٠ ـ ١٦٢.

٤١٥

من الكوى ، وأن الناظر إذا وقف بين مرآتين متقابلتين ؛ فإنه يرى ظهره في المرآة التى في قبالة ناظره ، وليس ذلك إلا / بسبب تردد الأشعة بين المرآتين.

وكذلك يرى وجهه مستطيلا ، أو معرضا (١) عند نظره في السيف طولا ، وعرضا ؛ وذلك بسبب ما ينعكس عند ذلك الشكل من الشعاع ، ولتعدد الشعاع ، واجتماعه بسبب البعد ، والقرب ، ومخالطة الأبخرة (٢) له ، يرى الشيء على البعد صغيرا ، أو على القرب كبيرا على ما سلف ؛ وهو أيضا محال في حق الله تعالى.

الخامس : أنه لا مانع من كونه مشروطا باستحالة الهواء المشف المتوسط بين الناظر ، والمنظور آلة إدراكه ، كما هو مذهب جالينوس (٣) ؛ وذلك كله غير متصور في حق الله تعالى.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون الرب ـ تعالى ـ مدركا بإدراك ؛ ولكنه ينتقض بباقى الإدراكات ، وغيرها من الكمالات المفروضة في الشاهد.

سلمنا أنه مدرك بإدراك ؛ ولكن لا نسلم خروج الإدراك عن جنس العلوم (٤) ، وبيانه من وجهين :

الأول : أنه لا يتصور أن يدرك المدرك شيئا ولا يعلمه ؛ وذلك دليل على (٥) الاتحاد.

الثانى : هو أن أحكام العلوم ثابتة للإدراكات بدليل أن العلم لا يؤثر في متعلقه لا شاهدا ، ولا غائبا. وكذلك الإدراك ؛ فدل على الاتحاد.

__________________

(١) فى ب (عريضا).

(٢) بياض في ب.

(٣) جالينوس :

الفيلسوف الطبيب كانت له شهرة طبية في العالم الإسلامى : إذ أنه نقل إلى الإسلاميين خلال كتاباته ـ المذاهب اليونانية التى تعارض المذهب المشائى الأرسطى. ولد سنة ١٣٠ م. وكانت له مجالس علمية في مدينة روما ، وله مؤلفات كثيرة في الطب والحكمة.

انظر عنه (طبقات الأطباء ص ٤١ ـ ٥١ وتاريخ الحكماء ص ١٢٣ ـ ١٣٢ ، ونشأة الفكر الفلسفى ١ / ٢٠٥ ، ٢٠٦).

(٤) فى ب (العلم).

(٥) ساقط من ب.

٤١٦

والجواب :

قولهم : لا نسلم أن مفهوم المدرك ثبوتى ؛ بل المدرك هو الحى الّذي لا آفة به.

قلنا : دليل كون المدرك مدركا أمرا ثبوتيا ؛ ما يجده كل عاقل من نفسه عند سماعه الأصوات ، وإبصاره المبصرات. من أمور تجددت بعد أن لم تكن. كما يجد من نفسه : أنه عالم ، وقادر ونحو ذلك ؛ وذلك مما لا مراء فيه ، ولا سبيل إلى جحده ، ومكابرته. ثم ذلك الّذي يجده كل عاقل من نفسه : إما أن يكون ثبوتيا أو نفييا.

لا جائز أن يكون نفييا : فإن نقيض كون السميع سميعا ، والبصير بصيرا ؛ لا سميع ، ولا بصير ، ولا سميع ، عدم محض ؛ إذ يصح وصف العدم المحض به ، ولو كان ثبوتيا ؛ لكان العدم المحض متصفا بالصفة الثبوتية ؛ وهو محال ، فثبت أن مفهوم السميع ، والبصير ثبوتيا.

قولهم : المدرك هو الحى الّذي لا آفة به باطل ، لوجوه سبعة :

الأول : هو أن الحياة ، ونفى الآفة ، غير مختلف ، وكل عاقل يجد من نفسه اختلاف أحواله عند كونه سميعا ، وبصيرا ، وشاما ، وذائقا ، ولامسا ؛ والمختلف غير ما ليس بمختلف.

الثانى : هو أن المدرك : إما أن يكون / هو الحى الّذي انتفت عنه جميع الآفات ، أو (١) بعض الآفات (١) :

فإن كان الأول : فهو ممتنع ؛ فإنا قد نجد من حلت به بعض الآفات : كالسقيم المدنف (٢) مدركا ، والأعمى سامعا ، والأطرش مبصرا إلى غير ذلك. ولو كانت الحياة مع انتفاء جميع الآفات. هى معنى كون المدرك مدركا ؛ لما كان كذلك.

وإن كان الثانى : فيلزم أن يكون مدركا من انتفت عنه بعض الآفات ، وإن حلت به الآفة المانعة له من كونه مدركا ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (أو بعضها).

(٢) (السّقيم المدنف). الدّنف المرض الملازم ـ والمدنف هو الّذي لازمه المرض ، انظر القاموس المحيط (باب الفاء فصل الدال).

٤١٧

وإن قيل : المدرك هو الحى الّذي انتفت عنه الآفة المانعة له من كونه مدركا ؛ فهو اعتراف بأن المدركية ثبوتية ، وأن لها ضدا مانعا ، وهو خلاف مذهب ابن الجبائى القائل بهذا المذهب.

الوجه الثالث : أنه يلزم من كون المدرك هو الحى الّذي لا آفة به.

أن يكون الحى عند انتفاء الآفات ، مدركا للطيف ، والبعيد المفرط ، والقريب المفرط ، ولما هو محجوب بالحجب الكثيفة ؛ ضرورة تحقق مفهوم المدرك ، وتساوى نسبته إلى كل شيء.

فإن قيل : بأن انتفاء هذه الأمور شرط للمدركية.

فنقول : إذا كان حد المدرك : هو الحى الّذي لا آفة به. فمن كان حيا ، ولا آفة به ؛ فقد وجد فيه حد المدرك ؛ ويلزم من وجود الحد ؛ وجود المحدود ، فلو كانت هذه الأمور شروطا لكونه مدركا ؛ فيلزم من تقدير انتفائها ، انتفاء المدركية مع وجود حدها ؛ وهو ممتنع.

كيف وأنه لو قيل لابن الجبائى : ما المانع من (١) أن يكون المدرك : هو الحى الّذي انتفت عنه هذه الأمور ، وانتفاء الآفات شرط؟ لم يجد إلى الفرق سبيلا.

الوجه (٢) الرابع : هو (٢) أن العين مدركة للمبصرات ، والأذن مدركة للمسموعات ، ويلزم من ذلك : كون كل واحد من العضوين حيا ، لا آفة به ؛ ضرورة أنه يلزم من وجود المحدود وجود الحد ؛ ويلزم من ذلك : أن يكون كل واحد من العضوين مدركا لما يدركه الآخر ؛ ضرورة تساوى نسبة الحياة ، ونفى الآفات إلى جميع المدركات.

وإن قيل : باشتراط البنية المخصوصة في كل عضو ، بالنسبة إلى ما يدركه ، وبنية كل واحد من العضوين فانية في العضو الآخر ؛ فهو فاسد ؛ على ما سيأتى عن قرب. ثم جوابه ما سبق في الوجه الثالث.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (الرابع).

٤١٨

الوجه الخامس : أنا نجد من أنفسنا اشتهاء / كوننا مدركين لبعض المدركات : كسماع الأصوات اللذيذة ، وشم الرائحة الطيبة ، إلى غير ذلك ، ولو كانت المدركية : هى انتفاء الآفات عن الحى ، فإذا كان المشتهى حيا لا آفة به ؛ فذلك مما لا تتعلق به الشهوة لحصوله ؛ فإن الشهوة إنما تتعلق بحصول ما ليس بحاصل.

السادس : أنا قد نجد من أنفسنا كراهية الرؤية ، لبعض الأشياء وسماع بعض الأصوات.

وبالجملة : نكره كوننا مدركين لكثير من الأشياء ، والحياة ، ونفى الآفات لا تكره ؛ والمكروه غير ما ليس بمكروه.

السابع : أنه لو قيل لابن الجبائى على قياس مذهبه : ما المانع من أن يكون العالم : هو الحى الّذي لا آفة به؟ ، وكذلك في القادر ، والمريد ، ونحوه ؛ لم يجد إلى الفرق سبيلا.

قولهم : لا نسلم خروجه عن كونه عالما بالمسموعات ، والمبصرات.

قلنا : دليل خروجه عن ذلك من خمسة أوجه :

الأول : هو أنا إذا علمنا الشيء بطريق من الطرق ، ثم رأيناه فإنا نجد تفرقة ضرورية بين الحالتين ، وليس ما نجده من الحالة الثانية ـ وهو الرؤية ـ عائدا إلى كوننا قادرين ، ولا مريدين ، ولا متكلمين ؛ ضرورة ، ولا إلى الحياة ، ونفى الآفات. كما تقدم ؛ فبقى أن يكون قسما آخر ؛ وهو المعنى بالمدركية.

فإن قيل : ما المانع أن تكون التفرقة عائدة إلى الجملة ، والتفصيل ، والإطلاق ، والتقييد في الشيء المعلوم؟ ، بأن نكون عالمين بالشيء جملة ، أو على وجه مطلق ؛ فإذا رأيناه علمناه مفصلا ، أو مقيدا ؛ وذلك لا يوجب خروجه عن العالمية.

سلمنا خروجه عن العالمية ؛ ولكن ما المانع من عود التفرقة إلى تأثير الحاسة من الشيء المحسوس؟ ؛ فإن الحواس قابلة للانفصال عن المحسوس ؛ وذلك كما نجده من تأثير العين الباصرة عند التحدق إلى جرم الشمس ، والصدمة الداخلة في الأذن عند

٤١٩

الأصوات الشديدة كالبوقات ، وغيرها ، والانقباض والانبساط من بعض (١) المشمومات والمطعومات (١) ، والملموسات.

قلنا : أما الأول : فمندفع ، وذلك أنا لو رأينا جرما صغيرا ، ثم غمزنا العين عنه ؛ فإنا نبقى عالمين به على ما رأيناه.

ثم إذا فتحنا العين نحوه مرة ثانية ؛ فإنا نجد من أنفسنا حصول أمر زائد على ما كان معلوما لنا منه حالة غمز العين عنه ، ونجد تفرقة ضرورية بين الحالتين. فما نجده من الحالة الثانية : هو / المعنى بالمدركية ؛ فإن سميت تلك الحالة عالمية ؛ فهو نزاع في اللفظ ، لا في المعنى.

وقولهم : ما المانع من عود التفرقة إلى تأثير الحاسة؟

قلنا : ليس كذلك ؛ فإن الحاسة وإن كانت قابلة للتأثير كما ذكروه. إلا أن ما نجده من أنفسنا عند الإحساس بالشيء بعد العلم به ، إنما هو عائد إلى زيادة كشف ، وإحاطة بالشيء (٢) المحسوس (٢) ، بالنسبة إلى حالة كونه معلوما ؛ وذلك وجدان لا مراء فيه.

الوجه الثانى : هو أنا نجد من أنفسنا ، الكراهة لرؤية بعض الصور دون العلم بها ؛ وذلك دليل على الاختلاف بين المدركية ، والعالمية. (ومع (٣)) هذا الاختلاف ، فلا مبالاة بالمنازعة ، في تسمية المدركية نوعا من العالمية.

الوجه الثالث : هو (٤) أن العالمية باتفاق العقلاء يجوز تعلقها بكل موجود (٤) ، والمدركية الحاصلة بكل واحدة من الحواس عند الخصوم ، وعند بعض أصحابنا ؛ لا تتعلق بكل موجود ؛ وهو دليل الاختلاف.

الرابع : أنه قد يعلم ما لا يدرك : كالعلم بالمعدومات. وقد يدرك ما لا يعلم : كمن يرى شيئا وهو منغمس في سهوه ، ووسواسه ؛ فإنه مع رؤيته للشىء ؛ لا يكون عالما به ؛ وهو دليل الاختلاف.

__________________

(١) فى ب (المطعومات والمشمومات).

(٢) فى ب (شيء).

(٣) فى أ (مع).

(٤) فى ب (أن العالمية يجوز تعقلها بكل معلوم).

٤٢٠