أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

لا سبيل إلى الأول : إذ هو خلاف إجماع المسلمين على كون الرب ـ تعالى ـ قادرا على خلق الحروف ، والأصوات ، وغيرها. وإن تورع في جواز إطلاق الاسم ؛ فهو بحث لغوى لا حظ له بالمعنى (١) [(٢) ومثل هذا لا تدار (٢)] عليه مسائل الأصول.

المسلك الثامن :

قالوا : أجمع المسلمون على أن البارى ـ تعالى ـ متكلم بكلام ، فذلك الكلام لا يخلو : إما أن يكون قائما بذاته (٣) ـ تعالى ـ ، أو لا يكون قائما بذاته.

فإن كان قائما لا في ذاته : فإما أن يكون قائما في محل ، أو لا في محل.

لا جائز أن يكون قائما لا في محل ؛ فإنه إن ادعى أنه جسم لطيف كما قاله النظام ؛ فقد كابر العقل.

وإن سلم أنه عرض ؛ فالعرض لا يقوم بنفسه [على ما يأتى (٤)].

ولا جائز أن يكون قائما بمحل. وإلا لاشتق له من عمومه ، أو خصوصه اسم : إما له ، أو للجملة التى هو منها. وإن تعذر الاشتقاق ؛ فلا بد من تقدير إضافة إليه ؛ والكل متعذر فيما نحن فيه.

وتحقيق القول فيه : أن الصفة القائمة بالمحل لها صفة عموم ، وخصوص. والاشتقاق قد يكون من جهة عمومها : كاشتقاق العالم من العلم القائم به.

وقد يكون من جهة الخصوص (٥) : كاشتقاق اسم الفقيه مما قام به من خصوص العلم بالفقه.

وقد يكون ذلك لنفس المحل الّذي قامت به / الصفة : كاشتقاق اسم الأسود للمحل الّذي قام به السواد.

__________________

(١) فى ب (فى المعنى).

(٢) فى أ (وما مثل هذا ألا تدار).

(٣) فى ب (بذات الله).

(٤) ساقط من أراجع الجزء الثانى ـ الأصل الثانى ـ الفرع الثانى :

في استحالة قيام العرض بنفسه ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٥) فى ب (خصوصها).

٣٨١

وقد يكون ذلك للجملة التى محل الصفة من جملتها : كاشتقاق اسم العالم للإنسان ، من العلم القائم بنفسه.

وإن تعذر الاشتقاق ؛ فلا بد من تقدير إضافة ، وذلك كما في رائحة المسك القائم بالمسك ؛ فإنه وإن تعذر الاشتقاق منها ؛ فلا بد من إضافتها.

وهو أن يقال : رائحة المسك. فلو كان الكلام قائما في محل ، لسمى (١) متكلما ، أو قيل (١) كلام المحل ؛ وليس كذلك.

فلم يبق إلا أن يكون قائما بذاته تعالى ؛

وهو إما قديم ، أو حادث.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ، وهو ممتنع [كما (٢) يأتى] ؛ فلم يبق إلا أن يكون قديما ؛ وهو المطلوب.

وعلى هذا التقدير : فقد اندفع بما تشكك به المعتزلة من قولهم :

إنه لو خلق الله ـ تعالى ـ الرزق في محل مخصوص ؛ فإنه يرجع منه الوصف إلى الرب ـ تعالى ـ حتى يقال له رازق. لا إلى المحل إذ لا يقال له رازق.

وكذلك لو خلق الله ـ تعالى ـ الكتابة في محل فإنه ـ تعالى ـ يقال له كاتب ، ولا يقال للمحل كاتب.

وكذا إذا خلق الحياة في محل ؛ قيل له حي. ولا يرجع إلى المحل منه وصف ؛ فكذلك إذا خلق الكلام في محل ؛ وجب أن يسمى متكلما ، ولا يسمى المحل الّذي فيه الكلام متكلما.

أما الإشكال الأول : فلأنه وإن لم يعد إلى المحل من عموم الرزق حكم ؛ فقد عاد إليه من أخص (٣) وصفه (٣) وهو كونه نفعا ، ولذة ، فيقال : المحل ملتذ ، ومنتفع [به (٤)] ولا كذلك الكلام ؛ فإنه لا يرجع منه إلى المحل حكم لا عموما ، ولا خصوصا.

__________________

(١) فى ب (يسمى متكلما وقيل).

(٢) ساقط من أانظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٣) فى ب (اختص حكمه).

(٤) ساقط من أ.

٣٨٢

وأما الإشكال الثانى : فلأن اشتقاق الكاتب إنما هو من الكتابة ، وهى تحريك الأدوات والجوارح ، التى بعضها وضع الرقوم ، والحروف المتألفة الدالة. لا أنها نفس الرقوم الحادثة.

وعلى هذا فيمتنع تسمية الرب ـ تعالى ـ كاتبا ؛ لعدم صدور الكتابة عنه.

[وأما (١) قوله (١)] ـ تعالى ـ (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (٢) : أى وعد (٣) بها ، وأوجبها (٣) على نفسه. وقوله ـ تعالى ـ : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) (٤) معناه (٥) أوحينا ، وألزمنا (٥) ، وقوله : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) (٦) : أى موجبون ، وملزمون. وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «كتب الله التوراة بيده» : أى ألزم حكمها بقدرته ، ومشيئته.

وأما / الإشكال الثالث : فمندفع أيضا ؛ فإنه يسمى المحل الّذي خلقت فيه الحياة حيا ، وذلك عين الاشتقاق من خصوص وصف الحياة.

وهذا المسلك أيضا من النمط المتقدم ؛ وذلك أنه لو قيل : لم قلتم إنه يلزم من قيام الكلام بالمحل أن يعود إليه منه وصف ، أو إضافة؟ لم يجدوا إلى ذلك سبيلا غير مجرد الدعوى ، أو القياس على بعض الصفات ؛ وهو غير لازم ؛ لجواز أن يكون ذلك لخصوص تلك الصفة ، أو أن خصوص ما نحن فيه مانع.

والمعتمد (٧) فى ذلك أن يقال (٨) :

أجمع أهل الملل قاطبة على وقوع البعثة ، وتبليغ الرسل إلى الكافة أنواع التكاليف : بالأوامر ، والنواهى ، والإعلام بما أخبر الله ـ تعالى ـ به مما كان ، وما سيكون ، وأنهم حاكمون مبلغون عن الله ـ تعالى ـ ذلك. ولو لم يكن لله ـ تعالى ـ كلام ولا أمر ، ولا

__________________

(١) فى أ (وقوله).

(٢) سورة الانعام ٦ / ٥٤.

(٣) فى ب (أى أوجبها ووعدها).

(٤) سورة المائدة ٥ / ٤٥.

(٥) فى ب (أى أوحينا وألزمنا).

(٦) سورة الأنبياء ٢١ / ٩٤.

(٧) فى ب (والأقرب).

(٨) قارن بما ورد في نهاية الأقدام ص ٢٧٤ ـ ٢٧٩.

٣٨٣

نهى ؛ لما تحقق معنى التبليغ والرسالة ؛ فإنه لا معنى للرسول إلا المبلغ لكلام المرسل ، فلو لم يكن لله تعالى كلام وراء كلام الرسول المخلوق فيه أصالة عندهم ، أو لله ـ تعالى ـ عندنا ؛ لكان هو الآمر بأمره ، والناهي بنهيه ؛ فلا يكون رسولا ، ولا مبلغا ؛ بل كان كاذبا في دعواه : إنى رسول الله إليكم فيما أمرت به ، أو نهيت : كالواحد منا إذا أمر غيره ، أو نهاه ، ولم يكن مبلغا عن الغير ؛ فإنه لا يكون رسولا ؛ بل ولما تحقق أيضا معنى الطاعة ، والعبودية لله ـ تعالى ـ ؛ فإن من لا أمر له ، ولا نهى ؛ لا يوصف بكونه مطاعا ، ولا حاكما. ومن أنكر ذلك من غير أهل الملل ؛ كان محجوجا بما دلت عليه المعجزات القاطعة ، الدالة على صدق من ظهرت على يده من الرسل المتقدمين ، الذين شاهد ذلك منهم من حضرهم ، وتواترت أخبارهم إلى من غاب عنهم.

وعند ذلك : فالإجماع أيضا من العقلاء منعقد : على أن كلام المتكلم لا يخرج عن الحروف ، والأصوات المنتظمة ، الدالة بالوضع ، وعما هى دليل عليه في نفسه.

فإن كان الأول : فلا يخلو : إما أن يكون لكلام الله تعالى معنى في نفسه ، أو لا معنى له في نفسه.

فإن لم يكن له معنى في نفسه ؛ فلا يكون آمرا ، ولا ناهيا ؛ ولهذا إن من قال لغيره ؛ افعل كذا ، أو لا تفعل كذا ، ولم يكن لعبارته معنى في نفسه ؛ لا يكون آمرا ؛ ولا ناهيا ؛ بل عابثا.

وإن كان لها / معنى في نفسه ؛ فذلك هو الّذي نروم إثباته ، ونعبر عنه بكلام النفس.

وإن كان الثانى : وهو أن معنى الكلام هو المعنى القائم بالنفس ؛ فهو (١) المطلوب. ولو لا ذلك لما تحقق كونه متكلما. وهو فلا يخلو (١) : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال.

فلم يبق إلا أن يكون قديما.

__________________

(١) فى ب (فذلك هو المطلوب ولا يخلو).

٣٨٤

فإن قيل : الاستدلال بالإجماع فرع تصوره ، وكونه حجة ؛ وهما ممنوعان على ما سبق في قاعدة النظر (١).

سلمنا أن الإجماع حجة ؛ لكن في القطعيات ، أو الظنيات.

الأول : ممنوع. والثانى : مسلم.

وذلك لأن مستند كونه حجة لا يخرج عن الظواهر الخبرية والأمور الظنية ، وما نحن فيه من القطعيات ؛ فلا يكون حجة فيه.

سلمنا أنه حجة في القطعيات ؛ ولكن فيما يتوقف عليه كون الإجماع حجة ، أو في غيره. الأول : ممنوع ، والثانى : مسلم.

وذلك لأن الاحتجاج بالإجماع على ما لا يثبت كون الإجماع حجة إلا به. يكون دورا ممتنعا ؛ أو ما هو مدلول الإجماع. إنما هو كلام الله ، والإجماع ؛ فلا يتم كونه حجة إلا به ؛ لأن كون الإجماع حجة إنما هو بالسمع ، والسمع مستند إلى قول الرسول ، وصدق الرسول في دعواه أنه رسول متوقف على إثبات كلام الله ـ تعالى ـ على ما ذكرتموه ؛ فيكون دورا.

سلمنا صحة الاحتجاج بالإجماع مطلقا ؛ ولكن لا نسلم وجود الإجماع فيما نحن فيه.

قولكم : أجمعت الملل على أن الله ـ تعالى ـ متكلم بكلام.

فنقول : أجمعوا على إطلاق ذلك لفظا ، أو معنى ـ الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

ولهذا قال بعضهم : كلام الله ـ تعالى ـ حروف ، وأصوات.

وقال بعضهم : هو مدلول الحروف ، والأصوات القائم بالنفس.

فإذن ما اتفقوا عليه من الإطلاق لفظا ، لا يدل على الكلام النفسانى ، وما لم يتفقوا عليه ؛ لا يكون ثابتا بالإجماع.

__________________

(١) انظر ل ٢٥ / أوما بعدها.

٣٨٥

سلمنا الاتفاق على المدلول ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك ثبوت كلام هو صفة نفسانية للرب ـ تعالى ـ وبيانه من وجهين :

الأول : أن تلك الصفة النفسانية : إما أن تكون من جنس كلام البشر ، أو لا (١) تكون من جنس كلام البشر.

فإن لم تكن من جنس كلام البشر ؛ فلا يكون (١) معقولا. وما ليس بمعقول لا سبيل إلى إثباته فضلا عن / اتفاق العقلاء عليه. وإن كان من جنس كلام البشر ؛ فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم أن يكون مشاركا لكلام البشر في العرضية ، والإمكان ، وأن يكون الرب ـ تعالى ـ محلا للأعراض ؛ وهو ممتنع.

الثانى : أنه لو كان من جنس كلام البشر : فإما أن يكون من جنس الكلام اللسانى ، أو لا من جنسه.

فإن كان من (٢) جنس الكلام اللسانى (٢) : فإما أن يكون بحروف ، وأصوات ، أو لا بحروف ، وأصوات ، أو هو صوت بلا حرف ، أو حرف بلا صوت.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ الأصوات لا تكون إلا عن اصطكاك أجرام صلبة من قرع ، أو قلع. والحروف عبارة عن مقاطع تلك الأصوات ، ولا تكون إلا مترتبة ، ومتعاقبة ، لا وجود للمتقدم منها مع المتأخر ، وكذلك بالعكس ؛ فتكون حادثة ، والحادث لا يكون صفة للرب ـ تعالى ـ كما يأتى (٣) :

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا فهو خارج عن جنس كلام اللسان ؛ فإن كلام اللسان ؛ عبارة عن أصوات مقطعة دالة بالوضع على عرض مطلوب.

وعلى هذا يمتنع تفسيره ، بالثالث ، والرابع أيضا.

__________________

(١) فى ب (أولا. فإن لم تكن من جنس كلام لا يكون).

(٢) فى ب (من جنسه).

(٣) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

٣٨٦

كيف وأنه يتعذر أن يكون الكلام حرفا بلا صوت ؛ فإنا لا نعقل للحرف معنى غير مقاطع الصوت ، ويتعذر أن يكون الكلام صوتا بلا حروف ؛ إذ لا تمييز له عن صوت دوى الرعود ، ونقر الطبول ، ونحوه.

وإن لم يكن من جنس الكلام اللسانى ؛ فليس بمعقول. وما ليس بمعقول ؛ لا سبيل إلى إثباته.

الثانى : أنه لو كان متصفا بصفة الكلام : فإما أن يكون ذلك الكلام قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال.

وإن كان قديما : فهو ممتنع لوجوه (١) ثلاثة (١).

الأول : أن الكلام منقسم إلى : أمر ، ونهى ، وخبر ، واستخبار ، ووعد ووعيد ، ونداء ؛ وذلك يجر إلى إثبات قديمين فصاعدا ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من تعدد الآلهة كما سبق.

الثانى : أنه يفضى إلى الكذب في الخبر في قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) (٢). وقوله ـ تعالى ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) (٣). (كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ) (٤) ، ونحو ذلك من حيث إن الخبر قديم ، والمخبر عنه حادث.

الثالث : أنه يلزم منه أن يكون أمرا (٥) ، ونهيا ، وخبرا ، واستخبارا ، أو وعدا ، ووعيدا ، ونداء (٥) ، ولا مأمور ، ولا منهى ، ولا مخبر ، ولا مستخبر عنه ، / ولا موعود ، ولا متواعد ، ولا منادى ؛ وذلك كله محال ؛ لما فيه من منافاة الحكمة ، ولزوم السفه.

قولكم : ولو لا ذلك لما تحقق معنى الطاعة ، والعبودية لله ـ تعالى ـ ولا (٦) معنى الرسالة ، والتبليغ ؛ ليس كذلك ؛ إذ أمكن أن يقال : بأن صحة الطاعة ، والعبودية لله ـ تعالى (٦) ـ يستند إلى التسخير ، والوقوع على وفق الإرادة والاختيار على ما سبق في

__________________

(١) فى ب (لثلاثة أوجه).

(٢) سورة نوح ٧١ / ١.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٥٤.

(٤) سورة الصف ٦١ / ١٤.

(٥) فى ب (له أمر ونهى وخبر واستخبار ووعد ووعيد).

(٦) من أول (ولا معنى الرسالة ...) ساقط من ب.

٣٨٧

المسلك الأول (١). وكذلك قد يشتد صفا نفس بعض الناس بحيث يقرب اتصالها بالعقول والنفوس العلوية ، بحيث يطلع على الأشياء الغيبية من غير واسطة ، ولا بعلم ؛ فيسمع من الأصوات ويرى من الصور ما لا يسمعه ، ولا يراه من ليس من أهل منزلته من البشر على نحو ما يسمعه ويراه النائم في منامه ؛ فيكون حاله إذ ذاك نازلة منزلة ما لو أوحى الله : بأن الأمر الفلانى كذا ، وكذا ؛ ولا منازعة في الإطلاقات بعد فهم المعنى.

سلمنا أنه لا بدّ من ثبوت صفة نفسانية ؛ ولكن ذلك لا يسمى كلاما ؛ إذ الكلام في اللغة : عبارة عن الأصوات ، المقطعة ، المنتظمة ، الدالة بالوضع دلالة مفيدة ـ وبتقدير أن يسمى ذلك كلاما ؛ فالمعقول من الصفات النفسانية غير خارج عن القدرة ، والإرادة ، والتميز الحاصل للنفس الحيوانية بالحواس الباطنة ؛ وذلك كما تتصوره القوة الخيالية من شكل الفرس عن شكل الحمار ، ونحوه. وما تتصوره القوة الوهمية من المعنى الّذي يوجب للشاة نفرتها من الذئب ، ونحوه. والتميز الحاصل للنفس الناطقة الإنسانية بالقوة النظرية التى بها إدراك الأمور الكلية بالفكرة ، والروية : وذلك كتصورنا معنى الإنسان من حيث هو إنسان ، وحكمنا عليه بأنه حيوان ونحوه (٢) ـ فإن أريد به القدرة ، أو الإرادة ؛ فذلك غير خارج عما سبق إثباته من الصفات.

وإن أريد به التمييز ، والتصور الحاصل للنفس الحيوانية (٣) ، والإنسانية (٣) ؛ فذلك أيضا غير خارج عن قبيل العلوم.

كيف : وأنه بتقدير أن يراد به التميز الحاصل بالحواس الباطنة ؛ فإن إدراكها لذلك لا يكون إلا بانطباع الصور المحسوسة أولا ، في إحدى الحواس الظاهرة الخمس ، ثم بتوسطها في الحس المشترك : وهى القوة المترتبة في مقدم التجويف الأول من الدماغ على نحو انطباع الصور في الأجرام الثقيلة المتقابلة ، ثم بتوسطها / فى المفكرة ، ثم في الوهمية ، ثم في الحافظة (٤). وبعض هذه القوى وإن لم يفتقر في الانطباع إلى حضور المادة : كالحس المشترك ، والمفكرة ، والوهمية ، والحافظة ؛ فهى لا تنفك في الانطباع

__________________

(١) انظر ل ٨٣ / أ.

(٢) فى ب (ناطق).

(٣) فى ب (الإنسانية والحيوانية).

(٤) قارن ما أورده هنا بما أورده في غاية المرام ص ٩٢ ، ٩٣ والمبين ل ١٢ / ب.

٣٨٨

عن علائق المادة ، وأن إدراكها لا يكون إلا بانطباع الأشكال والصور الجزئية القابلة للتجزى ، وانطباع ما يقبل التجزى لا يكون إلا فيما هو قابل للتجزى ، والبارى ـ تعالى ـ يستحيل أن يكون متجزئا.

سلمنا أنه وراء العلم ، والقدرة ، والإرادة ؛ ولكن ما المانع أن يكون هو حديث النفس؟ وهو تقديرات العبارات اللسانية ، وهو تحدث النفس بالعبارات المختلفة بالعربية ، والعجمية ، ونحوهما ؛ وذلك خارج عن العبارة وما جعلتموه مدلولا لها.

سلمنا أنه خارج عن حديث النفس بالمعنى المذكور ؛ ولكن لم قلتم بأنه ليس بحرف وصوت كما ذهبت إليه الحشوية؟

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على ثبوت كلام النفس القديم (١) ؛ ولكنه معارض بالنصوص ، والإجماعات كما سبق في المسلك الأول.

والجواب :

قولهم : هذا تمسك بالإجماع ؛ وهو فرع تصوره ، وفرع (٢) كونه حجة (٢). عنه جوابان :

الأول : أن الاحتجاج : إنما وقع بمساعدة الخصوم على ذلك ، وإجماعهم (٣) على ما ادعيناه (٣) ؛ فلا يفتقر في إثبات ما ادعيناه من أن الله ـ تعالى ـ له كلام إلى دليل مع مساعدة الخصم (٤) عليه ..

ومن أنكر ذلك من أرباب الملل ؛ فلم يحتج عليه بالإجماع ؛ بل بما ورد من التواتر القاطع بإخبار من وجب تصديقه بذلك على ما سلف.

الثانى : وإن سلمنا أن الاحتجاج بالإجماع ، فقد بينا الدلالة على تصوره ، وعلى كونه حجة في قاعدة النظر (٥).

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (ولكنه حجة).

(٣) فى ب (واجماعهم على ذلك واجماعهم على ما ذكرناه).

(٤) فى ب (الخصوم).

(٥) انظر ل ٢٥ / أوما بعدها.

٣٨٩

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من السؤال الثانى.

قولهم : هذا تمسك بالإجماع فيما يفضى إلى الدور ؛ ليس كذلك ؛ فإنا لا نسلم أن صدق الرسول يتوقف على ثبوت كلام الله ـ تعالى ـ ، ولا على وجوده من حيث أن دلالة المعجزة على صدقه معلوم بالضرورة على ما سنبينه. وبعد أن ثبت صدقه بالمعجزة ، فإذا أخبر عن وجود الله ـ تعالى ـ وصفاته ، وكلامه ؛ ثبت بإخباره من غير دور.

قولهم : الإجماع / منعقد على اللفظ ، أو المعنى؟

قلنا : على اللفظ ، والمعنى.

أما اللفظ : فمن غير خلاف.

وأما المعنى : فلا شك في إجماعهم على أن قول القائل : إن البارى ـ تعالى ـ متكلم بكلام له معنى. غير أن الاختلاف واقع في نفس ذلك المعنى والاختلاف في نفس المعنى غير مانع من الاتفاق على أن اللفظ له معنى.

وإذا ثبت أن له معنى ؛ فذلك المعنى إن كان هو العبارة ؛ فلا بد لها من معنى في نفسه على ما تقدم تقريره.

قولهم : لو كان من جنس كلام البشر ؛ لكان مشاركا له في العرضية ، والإمكان ؛ فقد سبق جوابه فيما تقدم.

قولهم : إذا لم يكن من جنس كلام اللسان ، لا يكون معقولا ؛ ليس كذلك ؛ فإنا إنما نريد به. ما يجده الإنسان من نفسه عند قوله لعبده : أفعل كذا ، أو لا تفعل كذا. وكذلك في سائر أقسام الكلام.

وهذه المعانى هى التى يدل عليها بالإشارات. وهى مغايرة للعبارات ؛ إذ هى مدلولها ، والدال غير المدلول. وأنها لا تتبدل ، وإن تبدلت العبارات الدالة عليها ، وأنها غير وضعية ، ودلائلها وضعية.

قولهم : إما أن يكون قديما ، أو حادثا؟

قلنا : قديم.

٣٩٠

قولهم : إنه يفضى إلى تعديد الآلهة. فجوابه أيضا ما سبق.

قولهم : يفضى إلى الكذب في الخبر منه وأن يكون أمرا ، ونهيا ، وخبرا ، ولا مأمور ، ولا منهى ، ولا مخبر.

فنقول : إن قلنا بمذهب عبد الله بن سعيد من أصحابنا : من أن الكلام قضية واحدة ، ولا يتصف بكونه أمرا ، ونهيا ، وخبرا ، إلى غير ذلك من الأقسام في الأزل ؛ بل فيما لا يزال ؛ فقد اندفع الإشكال. وإن سلكنا مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ـ رحمه‌الله ـ من أنه متصف في الأزل بكونه أمرا ، ونهيا ، وغيره من أقسام الكلام ؛ فغير بعيد أن يكون في نفسه صفة واحدة ، وإن اختلفت العبارات عنه بسبب اختلاف النسب ، والإضافات إلى المتعلقات ، وذلك أن يقال :

الأمر : هو الإخبار باستحقاق الثّواب على الفعل. واستحقاق العذاب على الترك ، وفي النهى بعكسه.

والوعد والوعيد : الخبر بإيصال نفع ، أو ضرر في طرف الاستقبال من المخبر.

والاستخبار : الإخبار بإرادة الاستعلام.

والنداء : الإخبار بإرادة الحضور ، وعلى هذا النحو.

وعند / هذا ؛ فغير بعيد أن يقوم بذات الله ـ تعالى ـ خبر عن إرسال نوح مثلا ، وتكون التعبرة عنه قبل الإرسال : إنّا نرسله. وبعد الإرسال : إنا أرسلنا نوحا ؛ فالمعبر عنه يكون واحدا.

وإن اختلفت التعبيرات عنه بسبب اختلاف الأحوال ؛ التى هى متعلق الخبر القديم ، وذلك لا يفضى إلى الكذب في المعنى القائم بالنّفس المعبر عنه ، ولا بالنسبة إلى المعبر به أيضا.

وكذلك أيضا يجوز أن يقوم بذات الله ـ تعالى ـ طلب خلع النعل من موسى على جبل الطور ، واقتضاه منه على تقدير وجوده. وتكون التعبرة عنه قبل الوجود : بصيغة إنّا سنأمر ، وعند الوجود بصيغة اخلع الدّالة على الطّلب ، والاقتضاء القديم الأزلى.

٣٩١

ولهذا لو قدرنا الواحد منا في نفسه ، اقتضى فعلا من شخص معدوم ، واستمر ذلك الاقتضاء إلى حين وجود المقتضى منه ؛ فإنّه إذا علم به إما بواسطة ، أو بغير واسطة ، وكان الطالب ممن يجب الانقياد له ؛ كان ذلك الاقتضاء بعينه أمرا له ، وموجبا لانقياده ، وطاعته من غير استئناف طلب آخر.

فعلى هذا النحو هو أمر الله ـ تعالى ـ للمعدوم ، وتعلقه به. واشتراط فهم [المأمور (١)] ، إنما يكون عند تعلق الخطاب به في حال وجوده لا غير. ومن فهم معنى كلام النفس (٢) ، ودفع عن وهمه الأزمان المتعاقبة ، والأحوال المختلفة لم يخف عليه ما قررناه.

وربما استروح بعض (٣) الأصحاب في (٤) هذا الباب إلى المناقضة ، والإلزام فقال :

كيف يصح استبعاد تعلق الأمر بمأمور معدوم (٤)؟ وعندكم أنه لا يتناول المأمور به إلا قبل حدوثه. ومهما وجد. خرج عن أن يكون مأمورا به ، وهو أحد متعلقى الأمر. فإذا لم يبعد تعلق الأمر بالفعل المعدوم ؛ لم يبعد تعلقه بالفاعل المعدوم.

وأيضا : فإن الأمة مجمعة على أننا في وقتنا هذا مأمورون (٥). وعندكم أن الأمر قد تقضى ، ومضى ، فإذا لم يبعد وجود مأمور ولا أمر ، لم يبعد وجود أمر بلا مأمور. ولو لزم من وجود الأمر وجود المأمور ؛ للزم من وجود القدرة ، وجود المقدور ؛ وذلك يجر إلى قدم المقدور ، لقدم القدرة ؛ وهو محال على كلا المذهبين.

وفيه نظر ؛ وذلك أن الأمر ، والنّهي من خطاب / التكليف ، والتكليف يستدعى مكلفا به ، والمكلف به يجب أن يكون معلوما مفهوما ؛ ليصح قصده لغرض الإتيان به ، والانتهاء عنه ؛ إذ هو مقصود التكليف.

فإذن الفهم شرط في التكليف. ولهذا خرج من لا فهم له عن أن يكون داخلا في التكليف : كالجمادات ، وأنواع الحيوانات العجماوات ، ونحو ذلك ؛ لعدم شرط التكليف في حقهم.

__________________

(١) فى أ (المأموم).

(٢) فى ب (الله النفسى).

(٣) لعله الغزالى انظر الاقتصاد في الاعتقاد ص ٩١ ـ ٩٢.

(٤) فى ب (فى الباب للمناقصة والإلزام فيقال كيف يستبعد تعلق الأمر بالمعدوم).

(٥) فى ب (مأمورون منهيون).

٣٩٢

وعند ذلك فلا يلزم من تعلق الأمر بالمأمور به ، مع عدمه تعلقه بالمأمور ، مع عدم الفهم ؛ فإن تعلقه بالمأمور به ليس تعلق تكليف ؛ بخلاف تعلقه بالمأمور.

والقول بأنه إذا جاز وجود مأمور ، ولا أمر ؛ جاز وجود أمر ، بلا (١) مأمور (١) ؛ فدعوى مجردة عن الدليل.

كيف : وأنه لا يلزم من كون الشخص مكلفا بما كان من الأمر مع وجود شرط التكليف ، وهو الفهم ، تحقق أمر التكليف مع انتفاء شرطه ، وهو فهم المأمور.

وعلى هذا : فقد خرج الإلزام بالقدرة ؛ إذ القدرة معنى من شأنه تحقق الوجود (٢) الممكن به (٢) ، لا ما يلازمه الوجود ؛ وذلك متحقق بدون وجود المقدور بخلاف الأمر ؛ فإنه تكليف ، والتكليف بدون شرط ممتنع ؛ فإذن معنى كون المعدوم مأمورا. ليس معناه غير تعلق الأمر به بشرط الوجود والفهم ، على ما أسلفناه.

وما ذكروه في تحقق معنى الطاعة ، والعبودية ، والبعثة ؛ فغير صحيح ؛ وإلا لزم أن يكون كل تسخير بفعل شيء أمرا ، وبتركه نهيا ؛ وأن لا يكون الانقياد على وفق التسخير طاعة ، كان ذلك في نفسه عبادة ، أو معصية ؛ وهو محال ؛ فإنه ليس كل ما سخر به مأمورا ، ولا كل ما انقاد العبد إلى فعله ـ وإن كان على وفق التسخير ـ طاعة.

وعلى هذا فلا بد من تفسير الأمر والنهى بما وراء ذلك. وهو ما يعد في نظر أهل العرف تكليفا ، ولو لا ذلك لما تحقق معنى التبليغ ، والرسالة على ما أسلفناه.

قولهم : إن المعنى النفسانى لا يسمى كلاما. لا نسلم ذلك ؛ إذ (٣) لا مانع منه من جهة الإطلاق ؛ فإنه يصح أن يقال : فى نفسى كلام ، وفي نفس فلان كلام. ومنه قوله ـ تعالى ـ (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) (٤). ومنه قول الشاعر (٥) :

إنه الكلام لفى الفؤاد وإنّما

جعل اللّسان على الفؤاد دليلا

__________________

(١) فى ب (ولا مأمور).

(٢) فى ب (وجود الممكن).

(٣) فى ب (فإنه).

(٤) سورة المجادلة ٥٨ / ٨.

(٥) فى ب (الأخطل). انظر ديوان الأخطل ط ٢ ـ دار الشرق ببيروت ـ ص ٨٠٥.

٣٩٣

وهذا الاستشهاد ، والإطلاق دليل صحة إطلاق الكلام على ما في النفس / ولا نظر إلى كونه أصليا فيه ، أو فيما يدل عليه. أو فيهما.

كيف وأن حاصل النزاع هاهنا إنما هو فى قضية لغوية ، وإطلاقات لفظية ، ولا حرج فيها بعد فهم المعنى.

قولهم : المعقول من الصفات النفسانية ، غير خارج عن القدرة ، والإرادة ، والتمييز. ليس كذلك.

وبيانه : هو أنه إذا قال القائل لعبده : افعل كذا ؛ فالذى يجده من نفسه مدلولا لصيغته ليس هو الإرادة ، ولا القدرة ، ولا التمييز ؛ بل معنى آخر.

أما أنه ليس هو الإرادة ؛ فلأن الإرادة التى هى مدلول صيغة الأمر : إما أن تكون هى إرادة الفعل ، والامتثال ، أو إرادة إحداث الصفة ، أو إرادة جعل الصيغة دالة (١) على الأمر على ما هو مذهبهم.

لا جائز أن يكون هو إرادة الفعل ، والامتثال ؛ فإن الأمر قد يوجد بدون إرادة الفعل ، وبيانه من وجهين :

الأول : هو أن الإجماع منعقد على أن من علم الله ـ تعالى أنه لا يؤمن : كأبي جهل ، وغيره أنه مأمور بالإيمان ، ولم يرد منه وقوع الإيمان ، والامتثال ؛ فإن تعلق إرادة البارى ـ تعالى ـ بفعل ما علم أنه لا يقع محال.

الثانى : هو أن من الأفعال ما هو مأمور [به] (٢) بالإجماع : كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، ونحو ذلك من العبادات الخمس. وقد لا يكون مرادا ؛ لكونه غير واقع. ولو تعلقت به الإرادة ؛ لاستحال أن لا يتخصص ؛ فإنه لا معنى لتعلق الإرادة بالفعل ، غير تخصيصه بزمان حدوثه ، فلا يعقل التعلق من غير تخصيص.

وقد احتج الأصحاب في ذلك بوجهين آخرين.

__________________

(١) فى ب (دلالة).

(٢) ساقط من أ.

٣٩٤

الأول : أن السيد المعاتب من جهة السلطان على ضرب عبده. إذا اعتذر بأنه يخالف أمره. وأمره بين يدى السلطان ؛ لتحقيق عذره. فإنا نعلم أنه لا يريد منه الامتثال ؛ لما فيه من ظهور كذبه ، وتحقق عتاب السلطان له. ومع ذلك ؛ فإن أهل العرف يعدونه آمرا ، ويعدون العبد مطيعا ، بتقدير الفعل. وعاصيا ، بتقدير الترك. ولو لم يكن أمرا ، لما تمهد عذره. ولما عدّ العبد مطيعا ، وعاصيا. بتقدير المخالفة ، والفعل.

وبه يندفع قول القائل : إنه موهم بالأمر ، وليس بآمر ؛ وهو مع أنه تمسك في أمر عقلى ، بأمر عرفى ، وإطلاق لغوى ؛ فهو لازم على أصحابنا في اعتقادهم أن الأمر هو / الطلب ، واقتضاء الفعل. فإنا كما نعلم أن العاقل لا يريد ما يظهر به كذبه ، ويتحقق به عقابه ؛ فكذلك نعلم أن العاقل لا يطلب ما فيه ذلك ، ومع ذلك ، فهو أمر بدون الطلب ؛ فكما هو لازم على اعتقاد الخصم كون الأمر هو إرادة الفعل ؛ فهو لازم على أصحابنا في اعتقادهم : أن الأمر طلب الفعل.

الوجه الثانى : ما اشتهر من قصة إبراهيم الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أمره بذبح ولده مع عدم تعلق الإرادة بوقوع الذبح ، لعدم وقوعه ؛ على ما سلف بيانه.

وما يقال من أن ذلك كان (١) مناما ، لا أمرا. وأن (٢) تعلق الأمر لا يكون (٢) إلا بالعزم على الذبح ، أو الانكاء ، وإمرار السكين ، أو أن الذبح مما وقع ، واندمل الجرح.

ولهذا قال ـ تعالى ـ : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (٣) فمندفع ؛ فإن أكثر الوحى إلى الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ. إنما كان بجهة المنام ، ولو لم يكن ذلك بطريق الوحى ، وإلا كان إقدام النبي على فعل محرم بما لا أصل له ؛ وذلك محال.

وحمل الأمر على غير الذبح. من العزم ، أو الإنكاء ، وإمرار السكين ؛ باطل. وإلا لما صح تسميته بالبلاء ؛ إذ لا بلاء فيه ، ولا تسمية الذبح فداء مع وقوع المأمور به.

وبه يندفع القول بتحقيق وقوع الذبح ، واندمال الجرح ، وهو وإن كان من الظواهر المغلبة على الظن ؛ فبعيد عن اليقين.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (أو أن تعلق الأمر لم يكن).

(٣) سورة الصافات ٣٧ / ١٠٥.

٣٩٥

هذا إن قيل : هو إرادة للفعل ، ولا جائز أن يكون عبارة عن إرادة إحداث الصيغة ؛ فإنه ليس مدلولا لها ؛ فإن مدلولات أقسام الكلام مختلفة ، ولا اختلاف في إرادة إحداث الصيغة.

ولا جائز أن يكون عبارة عن إرادة جعل الصيغة دالة على الأمر لثلاثة أوجه :

الأول : أنه تصريح بأن الإرادة وراء الأمر الّذي هو مدلول قوله : افعل ، وأمرتك ، وأنت مأمور.

الثانى : أن كل عاقل يقضى بأن قول القائل : افعل. ليس ترجمة عن إرادة جعله دالا على شيء مخصوص.

الثالث : أنّ كل عاقل يجد من نفسه بقاء ما دل عليه قوله : افعل ، وأن عدم لفظه ، وإرادة جعله دالا على شيء ما.

وأما أنه يمتنع أن يكون هو القدرة : فلأن القدرة على ما سبق عبارة عن معنى يتأتى به الإيجاد بالنسبة إلى كل ممكن. والأمر ، والنهى لا يتعلق بكل ممكن ؛ فإن الطاعات ممكنة ، ولا يتعلق بها النهى. والمعاصى / ممكنة ، ولا يتعلق بها الأمر.

فإذن القدرة أعم من الأمر من هذا الوجه. والأمر عند القائلين بجواز التكليف (١) بما لا يطاق (١) أعم من القدرة من جهة أخرى. وهو تعلقه بالممكن ، وغير الممكن.

وإن قيل : إنه عبارة عن القدرة على التكلم ؛ فكل عاقل يجد من نفسه وجدانا ضروريا أن مدلول قوله : افعل ، ولا تفعل. وكذا في سائر أقسام الكلام ؛ ليس هو القدرة على التكلم ؛ بل (٢) غيره (٢).

وأما أنه لا يمكن تفسيره بالعلم ، أو بضرب منه. من حيث أن العلم أعم من الأمر ؛ إذ هو قد يتعلق بما لم يتعلق به الأمر : كالمعاصى ، وبما (٣) لا يتعلق (٣) به الأمر : كالطاعات ؛ فلا يكون الأمر هو نفس العلم.

__________________

(١) فى ب (تكليف ما لا يطاق).

(٢) فى ب (بل هو غيرها).

(٣) فى ب (ولا يتعلق).

٣٩٦

كيف : وإن كل عاقل يجد من نفسه : أن مدلول قوله : افعل ولا تفعل ، وراء كل ما يقدر من أنواع العلوم ؛ فقد بأن أن مدلول الصيغ الدالة خارج عن المعلوم ، والقدرة ، والإرادة ، وذلك هو المطلوب.

قولهم : إنه حديث النفس ؛ ليس كذلك لوجهين :

الأول : هو أن تحدث النفس بالعبارات التى تصور الحروف والكلمات الدالة ، لا تتصور مع عدم العبارات اللسانية. حتى إنا لو قدرنا إنسانا ما عرف لغة ، ولا خطرت له العبارات اللسانية ببال ؛ فإنه لا يتصور في نفسه شيئا من ذلك. وما يلزم من ذلك اختلال المعانى التى يمكن التعبرة عنها بالعبارات اللسانية من الطلب ، والاقتضاء ، وغيره من المعانى ؛ فلا يكون لديه حاضرا عندنا.

الثانى : هو أن ما نتصوره من الحروف ، والكلمات. غير حقيقية ؛ بل اصطلاحية مختلفة باختلاف الاصطلاحات في الأعصار ، والأمم ؛ ولهذا يجوز أن يحدث نفسه بعبارات مختلفة : كالعربية ، والعجمية ، ونحوهما ، وما يجده في (١) نفسه من مدلولات (١) هذه العبارات متحد لا يختلف ، ولا يتبدل.

قولهم : ما المانع أن يكون ذلك الكلام النفسانى بحروف وأصوات؟

قلنا : إن قيل إنه بحرف ، وصوت : كحروفنا ، وأصواتنا ؛ فلا شك في كونه حادثا ؛ ضرورة أن الحروف مقاطع الصوت ، وكل واحد فله أول وآخر ، ولا يتصور اجتماع حرفين منهما معا ؛ بل على التعاقب والتجدد.

فعند وجود الحرف الأخير ، ينعدم الأول. وعند وجود الأول ؛ فالأخير لا يكون موجودا ، وذلك ظاهر مستغن عن / الإطناب فيه.

فلو قيل : ثبوت مثل ذلك لله ـ تعالى ـ يلزم منه أن يكون محلا للحوادث ؛ وهو محال ؛ كما يأتى (٢).

__________________

(١) فى ب (من نفسه من مدلول).

(٢) انظر ل ١٤٦ / أ.

٣٩٧

وإن قيل : إنه بحروف ، وأصوات. لا كحروفنا ، وأصواتنا ؛ فحاصله يرجع إلى المنازعة في الإطلاق اللفظى.

ولا يخفى أن جواز إطلاق ذلك ؛ موقوف على ورود الشرع به ، والشرع وإن ورد بإطلاق الحروف والأصوات ، كما سبق ؛ فلا نسلم أنه ورد بذلك في الكلام النفسانى ، حتى يقال بجوازه.

وأما ما ذكروه من النصوص ، والإجماع ؛ فقد سبق جوابه في المسلك الأول.

وإذا ثبت (١) أنه متصف بصفة الكلام ، وأن كلامه قديم ـ على ما سبق ـ وأنه ليس بحرف ، ولا صوت ؛ فهو متحد ، لا كثرة فيه في نفسه ؛ بل التكثر إنما هو في تعلقاته ، ومتعلقاته ؛ كما سلف.

فإن قيل : عاقل ما لا يمارى نفسه في انقسام الكلام إلى أمر ، ونهى ، وغيره ، من أقسام الكلام. وأن ما انقسم إليه حقائق مختلفة ، وأمور متمايزة ، وأنها من أخص أوصاف الكلام. لا أن الاختلاف عائد إلى نفس العبارات ، والتعلقات ، والمتعلقات ودفعناها وهما لم يخرج الكلام عن كونه منقسما.

وأيضا : فإن ما أخبر عنه من القصص الماضية ، والأمور السالفة مختلفة متمايزة. وكذلك المأمورات ، والمنهيات ؛ مختلفة أيضا ؛ فلا يتصور أن يكون الخبر عما جرى لموسى (٢) ـ عليه‌السلام ؛ هو نفس الخبر عما جرى لعيسى عليه‌السلام (٢) ، ولا الأمر بالصلاة ؛ هو نفس الأمر بالزكاة ، وغيرها ، ولا أن ما تعلق بزيد ، هو نفس ما تعلق بعمرو ، ولا ما سمى خبرا هو نفس ما سمى أمرا ؛ إذ الأمر طلب ، والخبر لا طلب فيه ؛ بل حكم بنسبة مفرد إلى مفرد إيجابا ، أو سلبا ؛ فثبت أن الكلام أنواع مختلفة ، والكلام عام للكل ؛ فيكون كالجنس لها.

قلنا : قد بينا فيما تقدم أن الكلام قضية واحدة ، ومعلوم واحد ، قائم بالنفس. وأن اختلاف العبارات عنه بسبب اختلاف التعلقات والمتعلقات ، وهذا النوع من الاختلاف ليس راجعا إلى أخص صفة الكلام ، بل إلى أمر خارج عنه.

__________________

(١) من أول قول الآمدي «وإذا ثبت أنه يتصف بصفة الكلام ... الخ نقله ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ١١٥ ـ ١١٩) ثم علق عليه وناقشه من وجهة نظره.

(٢) وردت في (ب) مقدما عيسى على موسى وفي (أ) بدون ألفاظ التعظيم وقد ذكرتها تأدبا مع مقام النبوة.

٣٩٨

وعلى هذا نقول : إنه لو قطع النظر عن التعلقات ، والمتعلقات الخارجة ؛ فلا سبيل إلى توهم اختلاف في الكلام النفسانى أصلا ، ولا يلزم منه دفع الكلام في نفسه ، وزوال حقيقته.

وعلى هذا : / فلا يخفى اندفاع ما استبعدوه من اتحاد الخبر ، واختلاف المخبر ، واتحاد الأمر ، واختلاف المأمور. وكذلك اختلاف الأمر ، والخبر مع اتحاد صفة الكلام.

فإن قيل : إذا قلتم بأن الكلام قضية واحدة ، وأن اختلاف العبارات عنها بسبب المتعلقات الخارجة ، فلم لا جوزتم أن تكون الإرادة (١) ، والعلم والقدرة (١) ، وباقى الصفات راجعة إلى معنى واحد. ويكون اختلاف التعبيرات عنه بسبب المتعلقات ، لا بسبب اختلافه في ذاته ، وذلك بأن يسمى إرادة : عند تعلقه بالتخصيص ، وقدرة : عند تعلقه بالإيجاد ، وهكذا سائر الصفات.

وإن جاز ذلك ؛ فلم لا يجوز أن يعود ذلك كله إلى نفس الذات من غير احتياج إلى الصفات.

أجاب الأصحاب عن ذلك :

بأنه يمتنع أن يكون الاختلاف بين القدرة ، والإرادة بسبب التعلقات ، والمتعلقات ، إذ القدرة : معنى من شأنه تأتى الإيجادية ، والإرادة : معنى من شأنه تأتى تخصيص الحادث بحالة دون حالة.

وعند اختلاف التأثيرات لا بدّ من الاختلاف في نفس المؤثر. وهذا بخلاف الكلام ؛ فإن تعلقاته بمتعلقاته لا توجب أثرا ، فضلا عن كونه مختلفا ؛

وفيه نظر ؛ وذلك أنه وإن سلم امتناع صدور الآثار المختلفة عن المؤثر الواحد ؛ مع إمكان النزاع فيه ؛ فهو موجب للاختلاف في نفس القدرة ؛ وذلك لأن القدرة مؤثرة في الوجود ، والوجود عند أصحابنا نفس الذات ، لا أنه زائد عليها. وإلا كانت الذوات (٢) ثابتة في العدم ؛ وذلك مما لا نقول (٣) به.

__________________

(١) فى ب (الإرادة والقدرة والعلم).

(٢) فى ب (الذات).

(٣) فى ب (يقولون).

٣٩٩

وإذا كان الوجود هو نفس الذات ؛ فالذات مختلفة ؛ فتأثير القدرة في آثار مختلفة ؛ فيلزم أن تكون مختلفة كما قرروه ، وليس كذلك.

وأيضا : فإن ما ذكروه من الفرق ، وإن استمر في القدرة والإرادة ، فغير مستمر في باقى الصفات : كالعلم ، والحياة ، والسمع ، والبصر ؛ لعدم كونها مؤثرة في أثر ما.

والحق أن ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام ، وعود الاختلاف إلى التعلقات ، والمتعلقات ؛ فمشكل. وعسى أن يكون عند غيرى حله.

ولعسر جوابه فر بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله ـ تعالى ـ القائم بذاته خمس صفات مختلفة. وهى : الأمر ، والنهى ، والخبر ، / والاستخبار ، والنداء (١).

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية من كتاب أبكار الأفكار في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ١١٥ ـ ١١٩) ثم علق عليه وناقشه في ص ١١٩ وما بعدها فقال : «هذا كلامه. فيقال : قول القائل : إن الكلام خمس صفات ، أو سبع أو تسع ، أو غير ذلك من العدد ، لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام الخ».

[انظر : درء تعارض العقل والنقل ٤ / ١١٩ وما بعدها].

٤٠٠