أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

قولهم : إذا ظرف زمان مختص بالاستقبال. عنه جوابان :

الأول : أن الاستقبال مختص بإرادة الكائنات : / أى بتعلق الإرادة بها ، لا أنه عائد إلى القول.

الثانى : أنه وإن كان الاستقبال مختصا بالقول ؛ لكن بتعلقه بالأمور ، لا بنفس القول.

قولهم : أن الخفيفة إذا اتصلت بالفعل المضارع خلصته للاستقبال.

عنه جوابان أيضا :

الأول : المنع. ويدل عليه قول أفاضل النحاة : إن الفعل المضارع مع أن الخفيفة في حكم المصدر. فإذا قال القائل : أريد أن أقوم. فهو كما لو قال : أريد القيام. والمصدر لا تخصص له بحال ، ولا استقبال ؛ فما هو في معناه كذلك ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (١) وليس المراد به إيمانا متوقعا في الاستقبال ؛ فإنهم لم ينقموا منهم ما سيكون ؛ بل ما هو كائن منهم.

الثانى : أن ذلك وإن أوجب التخصيص بالاستقبال ؛ لكنه عائد إلى تعلق القول لا إلى نفس القول ؛ وهذا كما إذا قال القائل : أريد أن يعلم الله نصحى لفلان ؛ فليس المراد به غير تجدد تعلق العلم به ، لا تجدد علم الله ـ تعالى ـ به.

قولهم : إنه رتب التكوين عليه بفاء التعقيب ؛ فيكون حادثا.

قلنا : المرتب عليه التكوين بفاء التعقيب إنما هو تعلق القول لا نفس القول ؛ فلا يلزم منه حدوث القول ، وإن لزم منه حدوث التعلق.

قولهم : إنه فسر أمره بقوله : (كُنْ) وهو مركب من حرفين مترتبين ؛ فيكون حادثا.

قلنا : الحروف ، والأصوات ليست هى كلام الله ـ تعالى ـ ، ولا هى نفس الأمر ؛ بل [هى (٢)] عبارة عنه على ما سيأتى : فقوله (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ

__________________

(١) سورة البروج ٨٥ / ٨.

(٢) ساقط من أ.

٣٦١

فَيَكُونُ) (١) أى مدلول قولنا (٢) : (كُنْ). ولا يلزم من حدوث الدّال حدوث المدلول ، وإلا فلو كان (كُنْ) تفسيرا للأمر ، للزم التسلسل على (٣) ما سبق (٣).

قولهم : هذا استدلال بالكلام على الكلام.

قلنا : اتفق المسلمون على أن هذا من كلام الله ـ تعالى وأنه حق صدق ؛ فيكون دليلا على القدم بالنسبة إلى المنازع منهم في الحدوث ، ولا دور ، ومن أنكر كونه من كلام الله ـ تعالى استدل عليه بأخبار من دلت المعجزة على صدقه عنه أنه كلام الله ـ تعالى ـ على ما يأتى في النبوات (٤) ، وما ذكروه من المعارضة بالنصوص.

أما قوله ـ تعالى ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٥) ؛ فهو دليل اللعب عند ورود الذكر الحادث من الرب تعالى ، وليس في ذلك ما يدل على حدوث كل ذكر يأتى منه ؛ فلا يلزم منه حدوث القرآن. ولهذا أخبر / باللعب عند استماعه ، والقرآن لم يحدث عندهم لعبا وضحكا ؛ بل إفحاما ، واضطرابا.

وعند هذا قال كثير من أهل التفسير ـ المراد به : إنما هو التذاكير ، والمواعظ الواردة على لسان الرسول الخارجة عن القرآن.

ومنهم من قال : المراد به الرسول (٦) المبلغ ؛ فإنه يسمى ذكرا : ومنه قوله ـ تعالى ـ (ذِكْراً* رَسُولاً) (٧).

ويحتمل أن يكون المراد منه الذكر الحادث ، المركب من الحروف ، والأصوات الدالة على الكلام القديم دون المدلولات.

وعلى هذا يجب حمل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٨) ،

__________________

(١) وردت الآية هنا أيضا خطأ وقد صححتها. سورة النحل ١٦ / ٤٠.

(٢) فى ب (قوله).

(٣) فى ب (كما سبق).

(٤) انظر ل ١٢٨ / أمن الجزء الثانى وما بعدها ـ القاعدة الخامسة : فى النبوات.

(٥) سورة الأنبياء ٢١ / ٢.

(٦) فى ب (إنما هو الرسول).

(٧) سورة الطلاق ٦٥ / ١٠ ، ١١.

(٨) سورة الحجر ١٥ / ٩.

٣٦٢

وقوله ـ تعالى ـ : (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (١). وأما قوله ـ تعالى ـ : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٢). فيحتمل أنه أراد به فعله من الثواب ، والعقاب ، ونحوه ؛ فإن الأمر قد يطلق بإزاء الفعل. كما قال ـ تعالى ـ : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) (٣) : أى فعلنا ، وقوله ـ تعالى ـ : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (٤) : أى فعله. ويحتمل أنه أراد به الأمر القولى المركب من الحروف ، والأصوات دون مدلوله. وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٥) ؛ فالمراد بالجعل التسمية : أى سميناه بذلك ؛ فإن الجعل قد يطلق بمعنى التسمية ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) (٦) : أى يسمونه كذبا. وقوله ـ تعالى ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٧) : أى سموهم بذلك.

ويحتمل أنه أراد به القرآن : بمعنى القراءة دون مدلولها ؛ فإن القرآن قد يطلق بمعنى القراءة. ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام : «ما أذن الله لشيء (٨) إذنه لنبىّ حسن التّرنّم بالقرآن» (٩) : أى القراءة.

ومنه قول الشاعر :

ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به

يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا (١٠)

أى قراءة.

وأما الأخبار : فيجب حملها على الدلائل دون المدلولات ، وهى الحروف والأصوات ؛ لما فيه من الجمع بين الدليلين.

قولهم : إن الأمة مجمعة على أن القرآن مؤلف من الحروف والأصوات.

__________________

(١) سورة الزمر ٣٩ / ٢٣.

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٧.

(٣) سورة القمر ٥٤ / ٥٠.

(٤) سورة هود ١١ / ٩٧.

(٥) سورة الزخرف ٤٣ / ٣.

(٦) سورة الحجر ١٥ / ٩١.

(٧) سورة الزخرف ٤٣ / ١٩.

(٨) فى أ (لبنى).

(٩) هذا الحديث أورده البيهقى في الأسماء والصفات (ص ٢٦٢) وقال :

(رواه البخارى ومسلم في الصحيح عن ابراهيم بن حمزة وأخرجه مسلم من وجه آخر).

(١٠) هذا البيت من شعر حسان بن ثابت ـ شاعر الرسول عليه الصلاة والسلام ـ قاله في رثاء عثمان بن عفان.

انظر (ديوان حسان بن ثابت) نشر دار صادر. بيروت سنة ١٩٦١ ص ٢٤٨.

٣٦٣

قلنا : الإجماع إنما انعقد على ذلك بمعنى القراءة لا بمعنى المقروء ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١).

قولهم : ولو لا ذلك لما تصور أن يسمعه موسى عليه‌السلام.

قلنا : السماع قد يطلق على الإدراك بحاسة الأذن ، وقد يطلق بمعنى الانقياد ، والطاعة ، وقد يطلق بمعنى الفهم ، والإحاطة ؛ ومنه يقال : سمعت كلام فلان ، أى فهمته.

وعند ذلك فمن الجائز / أن يكون سماع موسى ـ عليه‌السلام ـ لكلام الله ـ تعالى ـ القديم القائم بنفسه ؛ بمعنى : أنه خلق له فهمه ، والعلم به : إما بواسطة ، أو بغير واسطة ؛ وذلك المسموع لا يستدعى أن يكون حرفا ، ولا صوتا.

قولهم : إن الأمة مجمعة على أن القرآن منزل مقرؤ بألسنتنا محفوظ في صدورنا ، إلى آخر ما قالوه (٢).

قلنا : ما أجمعوا على كونه منزلا ، إنما هو العبارات الدالة على المعنى القديم ، لا نفس المعنى القديم.

وأما كونه مقروءا بألسنتنا : فمعناه أنه مدلول للقراءة القائمة بألسنتنا ، والقراءة مخلوقة قائمة بألسنتنا. ولا يلزم من حدوث القراءة ، وقيامها [بنا (٣)] أن يكون المقروء كذلك ؛ فإن القراءة ، والمقروء بمنزلة الذكر ، والمذكور.

ومن ذكر الله ـ تعالى ـ بلسانه ؛ فذكره حادث قائم به دون الله ـ تعالى ـ ، وكما لا يلزم ذلك (٤) فى الذكر ، والمذكور ؛ فكذلك في القراءة والمقروء.

وعلى هذا التحقيق يكون الكلام في الحفظ ، والمحفوظ ، والكتابة ، والمكتوب. ثم كيف يكون المكتوب حالا فيما فيه الكتابة؟ والله ـ تعالى ـ مكتوب في المصاحف ؛

__________________

(١) سورة القيامة ٧٥ / ١٧.

(٢) فى ب (ما قرروه).

(٣) فى أ (بيان).

(٤) ساقط من ب.

٣٦٤

وهو غير حال فيها ؛ وقد قال الله ـ تعالى ـ فى حق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (١) وصفه بكونه مكتوبا في التوراة ، والإنجيل ، وإن لم يكن ـ عليه‌السلام ـ حالا فيهما.

وعلى هذا : فقد اختلف أصحابنا :

فمنهم : من لم يجوز الإطلاق بكون القرآن في المصحف ، حتى يقرن به أنه مكتوب فيه ؛ دفعا لوهم الحلول.

ومنهم : من لم يتحاش عن ذلك مع عنايته أنه مكتوب فيه ، متمسكا في جواز الإطلاق بقوله ـ تعالى ـ (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (٢) ولم يخالف في أن القراءة غير المقروء ، والكتابة غير المكتوب ، أحد من المعتزلة. غير النّجّار ـ وهو مذهب الحشوية ـ مع زيادة القول بالقدم ، ومن وافق منهم على أن القراءة ، غير المقروء.

واتفقوا على أن المقروء لا قيام له بالقارئ ، غير الجبّائى ، وأبو الهذيل ؛ فإنهما قالا : بوجود كلام الله ـ تعالى ـ فى القارئ مع القراءة ، وطردا ذلك في الكتابة ، والحفظ أيضا ـ مع موافقتهما على أن كلام الله غير الكتابة ، والقراءة. ثم التزما ـ على ذلك قيام كلام الله ـ تعالى ـ مع وحدته بكل قارئ في ساعة واحدة ـ وأنه يكون مسموعا عند قراءة كل قارئ ، وإن لم يكن صوتا. / واختلفا. فقال الجبّائى : إذا قرأ القارئ آية : فيقوم به كلام الله ـ تعالى ـ وكلام له مثل كلام الله تعالى ـ متولد من قراءته.

وطريق الرد على النّجّار من وجهين :

الأول : أن القراءة تختلف برفع الصوت ، وحفظه ، والإعراب ، واللحن وغير ذلك ؛ والمقروء غير مختلف.

الثانى : أنه لا يحسن أن يقول القائل : قرأت القراءة. كما يحسن ذلك في القرآن ، ولو اتحدا لما اختلفا.

__________________

(١) سورة الأعراف ٧ / ١٥٧.

(٢) سورة الواقعة ٥٦ / ٧٧ ، ٧٨.

٣٦٥

وأما قول الجبّائى : بقيام كلام الله ـ تعالى ـ بالقارئ ، والمصحف ، والحافظ مع مغايرته للقراءة ، والكتابة ، والحفظ ، فمع أنه مجاحد العقل ؛ مناقض لأصوله من ثلاثة أوجه :

الأول : أن البنية المخصوصة ـ وهى مخارج الحروف ـ شرط في وجود الكلام ، والشرط غير متحقق في أوراق المصحف.

الثانى : يلزمه قيام الكلام بنفس الحافظ لكلام الله ـ تعالى ـ ، مع إنكاره قيام الكلام بالنفس.

الثالث : أن من أصله : أن الكلام المفيد لا يكون إلا من حروف مترتبة متوالية بعضها بعد بعض ، وقبل بعض.

وعند هذا : فالكتابة الحادثة دفعة واحدة في قطعة شمع من طابع عليه كتابة منقوشة.

إن قيل : بتوالى حروفها مرتبة في أزمنة ؛ فهو خلاف الفرض.

وإن قيل : بوقوعها معا. فقد اختل شرط الإفادة ؛ فلا يكون الكلام المفيد قائما بالسمع ؛ وهو خلاف مذهبه.

والقول بقيام الكلام مع وحدته بجميع القراء في ساعة واحدة : ممتنع. وإلا لزم منه تعدد المتحد ، أو اتحاد المتعدد ؛ والكل محال.

ثم لو جاز قيام كلام واحد بمحلين ؛ لجاز قيام لون واحد بمحلين ؛ ولم يقل به قائل.

والقول بأن الكلام مسموع ، وليس بصوت ، يوجب كون الكلام هو الحروف ؛ اذ الكلام هو الحروف المرتبة عند هذا القائل. فإذا كان الكلام ليس بصوت ؛ فالحروف ليست أصواتا ؛ وليس كذلك. فإنا لا نشعر عند كلام المتكلم بمعنى خارج عن صوته ، ومقاطع صوته ، ومقاطع الأصوات [أصوات] (١) ، وتلك هى الحروف ؛ فمن ادعى الشعور ،

__________________

(١) ساقط من أ.

٣٦٦

والسماع لمعنى خارج عن ذلك ؛ فهو مباهت. كمن ادعى أنه يرى مع الجواهر ، والأعراض القائمة بها ما يخالفها.

فإن قيل : لو كانت الحروف أصواتا ؛ لكانت موصوفة بالارتفاع والانخفاض ، والحسن وضده ، وغير ذلك من صفات الأصوات / ؛ وليس كذلك.

فنقول : لا بدّ في اتصاف الحرف بذلك من حيث هو صوت ، وإن لم يكن متصفا به من حيث أنه مقطع الصوت.

وقوله : إنه إذا قرأ القارئ آية قام كلام الله ـ تعالى ـ بنفسه. وكلام (١) له مثل كلام الله بنفسه أيضا متولد من قراءته ؛ فبطلانه ببطلان القول بالتولد كما سيأتى (٢) إن شاء الله ـ تعالى ـ

وأما كون القرآن مسموعا بحاسة الأذن ؛ فقد اختلف (٣) أصحابنا فيه (٣).

فأصل شيخنا رحمه‌الله : أنه يجوز تعلق كل إدراك بكل موجود. وعلى هذا فلا يمتنع سماع كلام الله القديم بحاسة الأذن.

وذهب عبد الله بن سعيد : إلى أن إدراك السمع لا يتعلق بغير الأصوات.

وعلى هذا فالمجمع على كونه مسموعا ، إنما هو القرآن بمعنى القراءة على ما تقدم ، وهو المراد من سماع موسى لكلام الله تعالى.

ومن أصحابنا : من زعم أن المسموع هو المتكلم ، دون الكلام. وهو مردود بما تدركه ضرورة من صوت المتكلم عند كلامه.

وأما الملموس المنظور إليه بالأعين ؛ فليس هو المقروء ، والأصوات ، والحروف المنتظمة منها بالإجماع. وإنما هو الكتابة الدالة على القرآن القديم.

ولا يلزم من حدوثها ، حدوث مدلولها. وما أجمع عليه أنه مركب من الحروف والأصوات ؛ فإنما هو القرآن بمعنى القراءة. لا نفس المقروء على ما تقدم.

__________________

(١) مكررة في أواحداهما زائدة. أما في ب فقد وردت صحيحة.

(٢) انظر ل ٢٧٣ / أوما بعدها.

(٣) فى ب (فيه أصحابنا).

٣٦٧

وعلى هذا فقد اندفع ما ذكروه من الظواهر الخبرية.

قولهم : الإجماع منعقد على أن القرآن معجزة الرسول.

قلنا : المراد به القراءة. وإلا فالإجماع منعقد على أن القرآن الحقيقى الّذي (١) كلام الرسول (١) حكاية عنه ليس معجزة للرسول ، وإنما الاختلاف فيما وراءه ، وهو أن ذلك القرآن ما هو؟

فنحن نقول : إنه المعنى القائم بالنفس. والخصم يقول : إنه حروف وأصوات أوجدها الله ـ تعالى ـ وعند وجودها انعدمت ، وانقضت ، وأن ما أتى به الرسول من العبارات ، وكذلك قراءتنا نحن ؛ ليس هو ذلك القرآن. وإنما هو دليل عليه. وهل يقال هو حكاية عنه إطلاقا؟ فذلك مما جوزه عبد الله بن سعيد ، وامتنع عنه الباقون من أصحابنا ؛ لأن الحكاية مشعرة بالمماثلة ، وما هذا شأنه ؛ فيتوقف إطلاقه على ورود الشرع به.

وعلى هذا منعوا من إطلاق القول : بأن لفظ القارئ بالقرآن مخلوق ؛ لأن اللفظ منبئ عن الطرح ، والإلقاء ، ولم يرد به الشرع / ؛ ولم يمنعوا من ذلك في قول القائل : لفظ القارئ بقراءته مخلوق.

وأما ما يذكرونه من المعنى ؛ فسيأتى الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأعلم أن التمسك بمثل هذا المسلك غير خارج عن الظنون ؛ فلا يكون مفيدا لليقين فيما المطلوب منه اليقين.

المسلك الثانى : قوله ـ تعالى ـ : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (٢) ووجه الدلالة منه : أنه أثبت له الخلق ، والأمر ، وفصل بينهما. ولو كان الأمر مخلوقا ؛ لما حسن الفصل بينهما ، ولكان معنى الكلام ألا له الخلق ، والخلق ؛ وهو ممتنع.

وهو من النمط الأول في عدم إفادة اليقين أيضا ؛ وذلك لأن الأمر المذكور مع الخلق ، وإن (٣) كان من الخلق (٣) ؛ إلا أن المفهوم من خصوص كونه أمرا يزيد على المفهوم من عموم كونه خلقا.

__________________

(١) فى ب (الّذي هو كلام الله ـ تعالى ـ وكلام الرسول).

(٢) سورة الأعراف ٧ / ٥٤.

(٣) من أول (وإن كان ...) ساقط من ب.

٣٦٨

وإذا اختلف المفهومان ؛ فقد تحقق الفصل بين (١) الخلق ، والأمر (١) ، وامتنع أن يكون الحاصل من الآية ألا له الخلق ، والخلق. وإن قدر اتحاد المفهومين ؛ فالعطف غير ممتنع نظرا إلى الاختلاف في اللفظ ، ومنه قول العبسى :

حيّيت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم (٢)

وأقوى وأقفر بمعنى واحد

المسلك الثالث : (٣)

قولهم : العقل الصريح يقضى بتجويز تردد الخلق بين الأمر ، والنهى ، ووقوعهم تحت التكليف ، فما وقع به التكليف من الأمر ، والنهى : إما قديم ، أو حادث.

فإن كان قديما : فهو المطلوب.

وإن كان حادثا : فكل صفة حادثة لا بد وأن تستند إلى صفة قديمة للرب ـ تعالى ـ قطعا للتسلسل.

وإذ كان كذلك ؛ وجب أن يستند تكليفهم إلى أمر ، ونهى ، هو صفة قديمة للرب ـ تعالى ـ وهذا أيضا مما يمتنع التمسك به ؛ فإن الخصم وإن سلم إمكان تردد الخلق بين الأمر ، والنهى ؛ فما المانع من أن يكون ذلك الأمر ، والنهى حادثا قائما لا في ذات الله ـ صفة قديمة : هى أمر ، ونهى. حتى لا يكون أمرا حادثا ، إلا عن أمر قديم ، ولا نهيا حادثا ، إلا عن نهى قديم ؛ فإن افتقار الجائز في الوجود لا يدل إلا على شيء قديم يجب الانتهاء إليه ، والوقوف عليه ؛ وهو أهم من كون ذلك الشيء القديم أمرا ، أو نهيا.

كيف : وأنه لو لزم / ذلك ؛ لكان البارى ـ تعالى ـ متصفا بمثل كل ما يوجد في عالم الكون ، والفساد من الكائنات المخلوقة لله ـ تعالى ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) فى ب (بينهما).

(٢) انظر ديوان عنتر بن شداد ص ١٤٣ البيت الثامن من المعلقة تحقيق عبد المنع شلبى نشر المكتبة التجارية الكبرى.

(٣) هذا المسلك ذكره الآمدي في غاية المرام ص ٨٩ ، ٩٠ وناقشه بمثل ما ذكر هنا وقد أورده الغزالى في الاقتصاد والشهرستانى في نهاية الأقدام ص ٢٦٨ ، ٢٦٩.

٣٦٩

المسلك الرابع (١) :

قالوا : قد ثبت أن البارى ـ تعالى ـ عالم بالأشياء. ومن علم شيئا يستحيل أن لا يخبر عنه ؛ فالعلم بالشيء ، والخبر عنه متلازمان ؛ فلا علم إلا بخبر ، ولا خبر إلا بعلم.

وهو بعيد عن التحقيق أيضا ؛ فإن الخصم قد لا يسلم ملازمة الإخبار عن الشيء للعلم به ؛ فإن الإخبار عن الشيء يلازمه العلم به ضرورة. فلو لزم من كون الإخبار عن الشيء معلوما ، أن يخبر عنه ؛ لزم الإخبار عن الخبر الأول ، وهلم جرا ، إلى ما لا يتناهى ؛ وذلك مما يحسن من النفس بطلانه. ثم وإن قدر ملازمة الإخبار عن الشيء ، للعلم به ، ولكن الخبر الّذي هو عبارة عن العبارة ، أو عبارة عن معنى قائم بالنفس ، غير العلم بالشيء ، والإرادة له. الأول : مسلم ، ولكن لا يلزم أن يكون قائما بنفس البارى ـ تعالى ـ على مذهب هذا الدال ، والثانى : ممنوع.

ثم وإن سلم أن الخبر النفسانى يكون ملازما للعلم بالشيء ، ولكن مطلقا ، أو في حق الخالق دون المخلوق. الأول : ممتنع ؛ لما فيه من المصادرة على المطلوب ، والثانى : مسلم ؛ ولكن لا يلزم مثله في حق الرب (٢) ـ تعالى ؛ لجواز أن يكون الحدوث شرطا في الملازمة ، أو القدم مانعا منها.

المسلك الخامس (٣)

قالوا : البارى ـ تعالى ـ يجب أن يكون حيا ؛ لما سنبينه (٤) ، والحى قابل للكلام ، وكل ما قبل شيئا ، فإن خلا عنه ؛ فلا يتصور خلوه عن ضد من أضداده ، وأضداد الكلام من صفات النقص ، وذلك كالغفلة ، والبهيمية ، والخرس ، ونحوه ؛ فلا يكون البارى ـ تعالى ـ متصفا بها.

__________________

(١) نسب الشهرستانى هذا المسلك إلى الأسفرايينى انظر نهاية الأقدام ص ٢٦٩.

(٢) فى ب (البارى).

(٣) انظر اللمع للأشعرى ص ٣٦ ؛ حيث يورد الأشعرى هذا الدليل. ثم انظر نهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٦٨ ؛ حيث يذكر هذا المسلك ويسميه طريق الأشعرية.

ثم انظر الفصل لابن حزم ٣ / ٩.

(٤) فى ب (سيأتى). انظر ل ١١١ / أوما بعدها.

٣٧٠

وهذا المحال : إنما لزم من عدم اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالكلام النفسانى ؛ فيكون محالا وهذا المسلك أيضا ضعيف ؛ لما سلف.

والّذي يخصه هاهنا أن يقال :

وإن سلمنا أن البارى ـ تعالى ـ حىّ مع إمكان النّزاع فيه ؛ كما يأتى ؛ فلا نسلم أن كل حي قابل لاتصافه بصفة الكلام ؛ فإن الحيوانات العجماوات حية مع عدم قبولها لذلك.

سلمنا أن كل حي قابل لاتصافه بصفة الكلام ، ولكن بشرط الحدوث ، أو لا بشرط الحدوث. الأول : مسلم ، والثانى : ممنوع.

ولا يلزم من قبول الحادث لذلك قبول القديم ـ تعالى ـ لذلك ؛ لجواز أن يكون الحدوث شرطا ، أو القدم مانعا /.

وربما أورد عليه أسئلة يمكن التقصى عنها منها :

قولهم : سلمنا أن كل حي قابل لصفة الكلام ؛ ولكن ما الّذي عنيتم بالضد؟

إن عنيتم به عدم الكلام ؛ فهو حق ؛ ولكن دعوى إحالته عين محل (١) النزاع (١).

وإن عنيتم به أمرا وجوديا : يكون منافيا للكلام ؛ فلا نسلم أن الكلام له ضد. حتى يصح اتصاف الحىّ به.

وبيانه : هو أن الكلام من صفات الأفعال ؛ فإن المتكلم من فعل الكلام ، لا من قام به الكلام ، على ما سيأتى. والفعل لا ضد له.

وبيانه : أنه لو كان للفعل من حيث هو فعل ضد ؛ لم يخل : إما أن يكون ذلك الضد فعلا ، أو لا (٢) يكون فعلا (٢).

لا جائز أن يكون فعلا لوجهين :

الأول : أنه لو كان الفعل ضدا للفعل من حيث هو فعل ؛ لكان (٣) مضادا (٣) لنفسه وهو محال.

__________________

(١) فى ب (المصادرة عن المطلوب).

(٢) فى ب (أولا فعلا).

(٣) فى ب (لكان الفعل مضادا).

٣٧١

الثانى : أنه لو كان الفعل ضدا للفعل ، لما اجتمع في المحل الواحد عرضان مختلفان من حيث هما فعلان ؛ وهو محال.

ولا جائز أن لا يكون فعلا ، فإن ما ليس بفعل من الموجودات ليس إلا القديم وصفاته ـ تعالى ـ ؛ وهو قد يكون مضادا للأفعال لوجهين :

الأول : أنه كان يلزم امتناع وجودها معه ؛ وهو محال.

الثانى : أن التضاد بين القديم ، والأفعال الحادثة : إنما يكون باجتماعهما في محل واحد ؛ وهو غير متصور في حق القديم تعالى.

سلمنا أن الكلام ليس من صفات الأفعال ؛ ولكن مع ذلك يمتنع أن يكون له ضد ، وبيانه من وجهين :

الأول (١) : أنه لو كان للكلام ضد ؛ لكان مدركا بالإدراك الّذي يدرك به الكلام ، كما أن السواد لما كان ضدا للبياض ؛ كان مدركا بما به إدراك البياض ؛ وهو البصر ، وليس كذلك ؛ فإن الكلام مدرك بالسمع بخلاف أضداده.

الثانى : أنه لو كان للكلام ضد ، لتصور أن يتكلم المتكلم بضرب من الكلام. وإن قام به ضد ، بالنسبة إلى ضرب آخر حتى يقال : إنه متكلم أخرس معا. بالنسبة إلى ضربين : كالعلم ، والجهل ؛ فإنهما لما كانا متضادين صح أن يكون الواحد عالما ، جاهلا بالنظر إلى شيئين مختلفين ؛ وليس كذلك.

سلمنا أن للكلام ضدا ؛ لكن للكلام القائم بالمتكلم ، أو للكلام الّذي لم يقم به.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وعلى هذا فالخرس وغيره ، من أضداد الكلام ؛ إنما هو ضد لكلام المخلوقين / لقيامه به دون كلام الخالق ؛ لعدم قيامه به كما يأتى. وهذا هو مذهب النجار من المعتزلة. والّذي يدل على أن كلام الله ـ تعالى ـ لا ضد له على أصل الأشعرى أمران :

__________________

(١) فى ب (أحدهما).

٣٧٢

الأول : أن الكلام عنده قديم ، وتقدير ضد للقديم محال ؛ لأنه إنما يجوز تقدير الضد فيما يجوز تقدير انتفائه ؛ وانتفاء القديم محال.

الثانى : أن الرب ـ تعالى ـ على أصله آمر بأشياء ، وغير آمر بأشياء يمكن أن يكون آمرا بها ، ولم يكن متصفا بضد الأمر فيما لم يأمر به عنده. وإذا جاز أن لا يكون متصفا بضد الأمر فيما لم يأمر به ، جاز أن لا يكون متصفا بضد الكلام مع إمكان تكلمه.

سلمنا أن الكلام له ضد مطلقا ، ولكن لم قلتم بامتناع الخلو عن جميع الأضداد؟ وبم الرد على (١) الصّالحى من المعتزلة في قوله بذلك؟

سلمنا استحالة الخلو ؛ ولكن متى يكون الخرس ، أو غيره (٢) صفة نقص (٢)؟ إذا كان الكلام صفة كمال ، أو إذا لم يكن؟ الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

وذلك لأنه مهما لم يكن الكلام صفة كمال ؛ فلا يلزم أن يكون ضده صفة نقص ، ولم (٣) يثبتوا (٣) أن الكلام صفة كمال بالنسبة إلى الرب ـ تعالى ـ ؛ فلا يثبت أن أضداد الكلام من صفات النقص.

والجواب :

أما السؤال الأول : فمندفع ؛ فإنه إذا سلم جواز اتصاف كل حي بصفة الكلام ، فالكلام الّذي هو صفته :

إما العبارات المؤلفة من الحروف والأصوات ، كما يقوله الخصوم ، أو المعنى القائم بالنفس كما نقوله نحن.

وعلى كلا التقديرين : فله ضد ؛ فإن كل ما ينافى كلام النفس : كالغفلة ، والسهو ، والطفولية ، والبهيمية ، فهو ضد له ، إذ لا معنى للضد إلا هذا. وكل معنى يمنع من خطور الكلام في النفس مطلقا على وجه لا يوجد معه الكلام أبدا ؛ فهو المعنى بالخرس ، وليس

__________________

(١) الصّالحى :

صالح بن عمرو الصّالحى. شيخ الصّالحية التى نسبت إليه وهو من مرجئة القدرية.

(الملل والنحل ١ / ١٤٥).

(٢) فى ب (ونحوه صفة كمال).

(٣) فى ب (ومتى لم يثبتوا).

٣٧٣

الخرس المضاد للكلام بهذا المعنى : هو جفاف اللسان ، واختلاف مخارج حروفه بحيث لا يتمكن معه من التعبير ؛ فإنه لا مانع من الجمع بين ذلك ، وبين خطور الحديث في النفس ؛ فيكون الكلام في النفس ، فإن وجد الخرس في اللسان ؛ فالخرس في اللسان مضاد للكلام اللسانى دون النفسانى ، وكذلك كل ما ينافيه ؛ فهو ضد له : كالسكون ، وغيره.

قولهم : إن الكلام صفة فعلية ؛ لأن المتكلم من فعل الكلام لا من قام به الكلام ؛ فسيأتى إبطاله عن قرب (١).

ثم وإن سلمنا أن الكلام صفة / فعلية ؛ فلا نسلم أنه ضد (٢) له (٢).

قولهم : إما أن يكون ذلك الضد فعلا ، أو لا يكون؟

قلنا : ما المانع أن يكون [فعلا (٣)].

قولهم : فى الوجه الأول : فيلزم من ذلك أن يكون الفعل ضدا لنفسه ، إنما يلزم أن لو كان التضاد بينهما باعتبار ما به الاشتراك ، وليس كذلك ؛ بل جاز أن يكون التضاد بينهما مع اشتراكهما في صفة الفعلية باعتبار ما به التعين ، والتمايز.

وعلى هذا فلا يخفى الجواب عن الوجه الثانى أيضا.

قولهم : لا نسلم أن الخرس ضد للكلام ، دليله ما سبق.

قولهم : إنه لو كان ضدا للكلام ؛ لكان مدركا بما به إدراك الكلام.

قلنا : هذه دعوى عريّة عن البرهان ، وهى غير مسلمة. ولا يلزم من إدراك بعض الأضداد بما به إدراك ضده طرد ذلك في جميع الأضداد.

ثم يلزمهم على ذلك فناء الجواهر ، فإنه مضاد لها ، وهى مدركة بحاسة البصر ، واللمس ، بخلاف الفناء.

__________________

(١) فى ب (قريب).

(٢) فى ب (لا ضد له).

(٣) ساقط من أ.

٣٧٤

ثم وإن سلمنا ذلك ؛ ولكن لا نسلم امتناع إدراك أضداد الكلام بما به إدراك الكلام ؛ فإن كل موجود يصح أن يسمع على أصلنا.

قولهم : لو كان الخرس ، أو غيره ضدا للكلام ؛ لتصور أن يكون الواحد متكلما ، أخرس بالنسبة إلى ضربين من الكلام.

قلنا : أما الكلام النفسانى : إن قلنا إنه معنى (١) واحد لا تعدد فيه ـ كما هو مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى ـ ، فلا يتصور أن يكون المتكلم متكلما ببعضه دون بعض ؛ لعدم التبعيض فيه ـ وإن قلنا إنه متعدد : فلا مانع من ثبوت ضرب من الكلام ، وانتفاء بعض آخر لمانع يمتنع وجوده معه ، ويكون في حكم الخرس ؛ ولكن ربما لا يسمى ذلك المانع من البعض خرسا ؛ فيكون النزاع واقعا في التسمية لا في المعنى.

وعلى هذا يكون الكلام في الكلام اللسانى أيضا.

قولهم : الخرس وغيره ضد لكلام المخلوق ؛ لقيامه به ، وليس ضدا لكلام الخالق ؛ لعدم قيامه به.

قلنا : إذا سلم أن كل حىّ قابل للكلام ، وأن الرب ـ تعالى ـ حىّ ؛ فيكون قابلا للكلام ؛ فالمعنى الموجب لمنع الكلام في حقه يكون خرسا على ما سبق.

قولهم : كلام الله ـ تعالى ـ عندكم قديم لا يجوز تقدير انتفائه ، وما ليس كذلك ؛ فلا يكون له ضد.

قلنا : وإن امتنع العدم في كلام الله ـ تعالى ـ فبتقدير وجود الضدين تقدير عدمه لا يكون مجوزا لعدمه في نفسه. ولهذا قال ـ تعالى ـ : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (٢).

وما / لزم من تقديره الفساد ، من تقدير اجتماع الآلهة ، جواز اجتماع الآلهة.

قولهم : إن الله ـ تعالى ـ عندكم آمر بأشياء ، وغير آمر بأشياء يمكن أن يكون آمرا بها على ما قرروه.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) سورة الأنبياء ٢١ / ٢٢.

٣٧٥

قلنا : إن قلنا بما ذهب إليه عبد الله بن سعيد ـ من أصحابنا ـ أن الأمر ، والنهى ، وسائر أقسام الكلام ؛ ليس مما يتصف به الكلام القديم في الأزل ؛ بل فيما لا يزال ، وأنه من الصفات الفعلية ؛ فالأمر ليس من الصفات القديمة ، حتى يلزم من عدم اتصاف الرب ـ تعالى ـ به أن يكون متصفا بضده.

وإن قلنا : بما ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعرى : من أنه موصوف به في الأزل.

فنقول : كلام الله ـ تعالى ـ صفة واحدة. وحاصله يرجع إلى الإخبار عن كل ما يصح الإخبار عنه على ما هو عليه ؛ فما أمر الله ـ تعالى ـ به ؛ فهو مخبر عن كونه (١) مأمورا. وما لم يأمر به (١) ؛ فهو مخبر عن كونه غير مأمور به ؛ فكلامه مع وحدته يتعلق بجميع المتعلقات على اختلاف أوصافها.

فعلى هذا : لو قدرنا وجود الأمر فيما أخبر (٢) به الله ـ تعالى ـ أنه غير مأمور (٢) ؛ لكان ذلك كذبا ، وتناقضا محالا ؛ فوجود الأمر فيما لم يأمر به لا يكون متصورا ، وعدم اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالأمر فيما لا يكون الأمر به متصورا ، لا يوجب اتصافه بالضد ، كما لا يلزم الجهل في حق الحجر من عدم العلم فيه لما لم يكن العلم في حقه متصورا ، بخلاف الكلام ؛ فإنه قد سلم تصور اتصاف الرب ـ تعالى ـ به على ما سبق.

كيف وأن ما لم يأمر به فالمنتفى فيه إنما هو تعلق الأمر به ، لا نفس الأمر ؛ فلا يلزم أن يكون الرب ـ تعالى ـ متصفا بضد الأمر.

قولهم : لم قلتم بامتناع الخلو عن جميع الأضداد؟

قلنا : إذا ثبت أن كل حي قابل للكلام ، فامتناع قيام الكلام به لا بدّ وأن يكون لمانع. وإلا لما كان ممتنعا ؛ وذلك هو المعنى بالضد.

وعلى هذا : فقد اندفع مذهب الصّالحى من المعتزلة في قوله : بجواز خلو المحل عن جميع الأضداد ، التى هو قابل لها.

__________________

(١) فى ب (مأمورا به وما لم يخبر به).

(٢) فى ب (أخبر الله ـ تعالى ـ أنه غير مأمور به).

٣٧٦

قولهم : إنما يكون الخرس صفة نقص أن لو بينتم (١) أن الكلام صفة كمال.

قلنا : إذا ثبت أن الرب تعالى حىّ ، ونسلم أن كل حىّ قابل لصفة الكلام ، فالرب ـ تعالى ـ قابل له ، والعقل الاضطرارى يشهد بأن الكلام في حق من هو قابل للكلام صفة كمال ، وعدمه صفة نقص.

/ ولهذا فإن من لم يتصف بالكلام من الأحياء كان حاله أنقص من حال من (٢) اتصف به (٢) ، وحال من اتصف به أكمل من حال من لم يتصف به على ما لا يخفى.

المسلك السادس :

وهو مسلك الأستاذ أبى إسحاق الأسفرايينى ، وهو أن قال : أجمع المسلمون على أننا مأمورون ، منهيون في وقتنا هذا بأمر الله ـ تعالى ـ ونهيه. وهو إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : فإنه لا قائل بأن الله ـ تعالى ـ يخلق (٣) لنفسه في وقتنا هذا (٣) أوامر ، ونواهى فإنها لا تبلغنا ، ولا نحن في زمن تبليغ ؛ فلم يبق إلا أن يكون أمره ونهيه قديما ، ولا قديم من الموجودات غير [ذات (٤)] الله ـ تعالى ـ وصفاته على ما يأتى : فكان أمره ، ونهيه صفة قديمة قائمة به.

وهو ضعيف أيضا ؛ إذ للخصم أن يقول : إنما وافق على أمرنا ونهينا ؛ بالأمر والنهى الحادث في زمن الوحى. ولا يلزم من عدم ذلك في وقتنا هذا ؛ امتناع التكليف به في وقتنا هذا بواسطة حكاية النبي له ـ ومن بعده العلماء القائمين بأمر الشريعة.

ولهذا فإن السيد لو أمر عبده بفعل شيء في الغد ؛ فإنه يعد مأمورا بأمر سيده ، وإن كان أمر (٥) سيده (٥) قد عدم في الغد. وكذلك لو وصى (٦) أولاده بصدقة بعد موته ؛ فإنهم

__________________

(١) فى ب (ثبت).

(٢) فى ب (من لم يتصف به).

(٣) فى ب (يخلق في وقتنا هذا لنفسه).

(٤) ساقط من أ.

(٥) فى ب (أمره).

(٦) فى ب (قد أوصى).

٣٧٧

يعدون مأمورين بأمر والدهم بعد موته ، وإن كان أمره معدوما بعد موته ، ولهذا يوصفون بالطاعة (١) بعد الموت لأمره (١) : بتقدير الامتثال ، وبالعصيان له : بتقدير المخالفة.

وبالجملة فهذا المسلك غير خارج عن رتب الظنون.

المسلك السابع :

قالوا : أجمع المسلمون. على أن الله ـ تعالى ـ متكلم بكلام ، وأجمعوا على أنه لا بدّ من تقدير ضرب من الاختصاص بالكلام ؛ فذلك الاختصاص : إما بمعنى قيامه به ، أو بمعنى أنه فعله ، أو بمعنى مشاركته (٢) له في كونه لا في محل ، كما قيل في الإرادة.

فجهات اختصاص الكلام بالله ـ تعالى ـ لا تزيد على هذه باتفاق الخصوم.

لا سبيل إلى تفسير الاختصاص بكونه فاعلا له ؛ لسبعة أوجه :

الأول : أن الواحد منا لو تكلم بكلام مفيد ؛ فهو كلامه لا محالة ، ولذلك يقال تكلم ، وهو متكلم. ولا جائز أن تكون جهة نسبته إليه هو كونه فاعلا له. وإلا لما كان متكلما من خلق الكلام فيه اضطرارا : كالمبرسم (٣) / والنائم.

الثانى : أنه يلزم على سياق ذلك لمن اعترف من المعتزلة بأن أفعال العباد مخلوقة لله ـ تعالى ـ كالنّجّارية (٤) ـ أن يكون الرب ـ تعالى ـ هو (٥) المتكلم (٥) بكلامنا لا نحن ؛ وهو جحد للضرورة.

الثالث : أنه لو كان المتكلم من فعل الكلام ؛ لوجب أن يكون البارى ـ تعالى ـ عندهم مصوتا ؛ لكونه فاعلا للصوت ؛ إذ الكلام عندهم مركب من الحروف ، والأصوات ، والصوت أعم من الكلام.

__________________

(١) فى ب (لأمره بعد الموت).

(٢) فى ب (أنه مشارك).

(٣) المبرسم : هو المريض بالبرسام. وفي القاموس المحيط باب الميم فصل الباء البرسام بالكسر : علة يهذى فيها ، برسم بالضمّ فهو مبرسم.

(٤) يقول النّجار : الله خالق أعمال العباد خيرها وشرها ، حسنها وقبيحها والعبد مكتسب لها. وأثبت تأثيرا للقدرة الحادثة ؛ وسمى ذلك كسبا على حسب ما يثبته الأشعرى. (الملل والنحل ١ / ٨٩).

(٥) فى ب (متكلما).

٣٧٨

ولهذا يصح عندهم أن يقال : كل كلام صوت ، وليس كل صوت كلاما. ومن ضرورة فعل الأخص. فعل ما يندرج في معناه من الأعم.

ويلزم أيضا أن يكون متحركا بما يفعله من الحركات ، ومسمى بكل ما (١) ينسب إليه (١) من التكوينات ؛ وهو محال.

الرابع : أن الصفة الحادثة لها نسبة إلى الفاعل ، ونسبة إلى المحل ؛ فنسبتها إلى الفاعل : بأنه محدثها ، ونسبتها إلى المحل ؛ بأنها فيه ؛ وهما معنيان مختلفان ، وما نسب إلى الشيء بأنه فيه. يقال بأنه موصوف به لا محالة حتى أن من قامت به حركة (٢) ، يقال إنه متحرك. وإن لم يخطر بالذهن كونه فاعلا ؛ بل ويحكم عليه بذلك مع القطع بكونه غير فاعل لما قام به : كالمرتعش ، والمتحرك قصرا.

وعند ذلك فلو وصف الفاعل به ؛ لأثرت النسبتان المختلفتان في حكم واحد ؛ وهو ممتنع على ما سيأتى.

الخامس : هو أن اتصاف من قام به الكلام إذا لم يكن هو الفاعل للكلام ـ بكونه متكلما على ما حققناه ـ يبطل رسم المتكلم على أصلهم بأنه الفاعل للكلام ؛ إذ هو غير جامع.

السادس : أنه لو كان المتكلم من فعل الكلام ؛ لوجب أن يكون المريد (٣) ، والقادر ، والعالم (٣) ، من فعل الإرادة (٤) ، والقدرة ، والعلم (٤) ؛ وليس كذلك بالإجماع. ولا فرق بين هذه الصور على ما لا يخفى.

السابع : أنهم إذا قالوا بأن معنى كون البارى ـ تعالى ـ متكلما بمعنى أنه فاعل للكلام.

فيقال (٥) لهم : فما طريقكم (٥) فى إثبات هذه الصفة الفعلية؟.

__________________

(١) فى ب (ما ينشئه).

(٢) فى ب (الحركة).

(٣) فى ب (المريد والعالم والقادر).

(٤) فى ب (الإرادة والعلم والقدرة).

(٥) فى ب (فإن يقال لهم طريقكم).

٣٧٩

فإن قالوا : دليل وقوعها كونها مقدورة لله ـ تعالى ـ ؛ فيلزم أن يكون كل مقدور واقع ؛ وهو محال.

وإن قالوا : طريقنا ليس إلا قول الأنبياء الذين دلت المعجزة (١) على صدقهم ، وقد قالوا. إن الله ـ تعالى ـ متكلم بأمر ، ونهى ، وغيرهما.

قلنا : فلو لم يبعث الله ـ تعالى ـ رسولا ، فعندكم أنه يجب على العاقل معرفة الله ـ تعالى ـ معرفة تتعلق بذاته وصفاته.

/ فكيف يعرف كونه متكلما ؛ وذلك لا يعرف إلا بالرسول ، ولا رسول ؛ فلا بد لهم من المناقضة في أحد أمرين : إما في القول بإيجاب المعرفة بالعقل. وإما في القول بأن المعرفة منوطة بالرسول.

وهذه المحالات : إنما لزمت من القول بأن المتكلم من فعل الكلام ؛ فالقول به ممتنع.

ولا سبيل إلى القول بالثالث ؛ لما سبق في الإرادة.

فلم يبق إلا الاختصاص. بمعنى القيام به.

وعند ذلك. فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو محال ، كما سيأتى (٢) ؛ فلم يبق إلا أن يكون قديما.

وهو ضعيف أيضا : فإنه وإن سلم اتفاق المسلمين على كونه متكلما بكلام ؛ لكن للخصم أن يقول : إنما وافقت على كونه متكلما بكلام ، بمعنى أنه خالق للكلام.

وعند هذا فمنازعته. إما في تحقيق هذا المعنى وجوازه ، أو في إطلاق اسم المتكلم بهذا الاعتبار.

__________________

(١) فى ب (المعجزات).

(٢) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

٣٨٠