أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

الثانى : هو أن العلم بأحد المعلومين مغاير للعلم بالمعلوم الآخر. وبيانه من أربعة أوجه :

الأول : هو أنه يتصور العلم بأحد المعلومين مع الشك في الآخر. ولو كان العلم بهما واحدا ؛ لما كان كذلك.

الثانى : هو أنه لا يقوم العلم بأحد المعلومين مقام العلم بالآخر ؛ ولهذا فإن العلم بالسواد ، لا يكون علما بالبياض ، وكذلك بالعكس.

الثالث : هو أن العلم بأن الشيء الفلانى واقع : مشروط بالوقوع ، والعلم بأنه سيقع : غير مشروط بالوقوع ؛ والمشروط غير ما ليس بمشروط.

الرابع : هو أن العلم بالشيء : عبارة عن انطباع صورة مطابقة له في النفس. فإذا كانت صور المعلومات ، وحقائقها مختلفة ومتغايرة ؛ كانت العلوم مختلفة ، ومتغايرة.

سلمنا صحة تعلقه بمعلومين فصاعدا ؛ ولكن لا نسلم صحة تعلقه بكل ما يصح أن يعلم. وإن سلم ذلك ؛ فلا نسلم صحة تعلقه بهما معا ؛ بل على سبيل البدل.

وإن سلمنا صحة ذلك معا ؛ ولكن لا نسلم الوقوع.

وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه لو كان عالما بكل ما يصح أن يعلم. فما يصح أن يعلم غير متناه ؛ فمعلوماته لا نهاية لها ؛ ووجود ما لا نهاية له محال كما (١) سبق (١) فى إثبات واجب الوجود.

الثانى : أنه يلزم من ذلك أن (٢) يكون عالما بكونه / عالما ، وعالما بكونه عالما بكونه عالما ، وهلم جرا (٢) ، إلى ما لا نهاية له.

ويلزم من ذلك قيام علوم بذاته لا نهاية لها ؛ وهو محال.

الثالث : هو أنه لو كان عالما بجميع الأشياء ؛ فيلزم أن ما تعلق علمه بوقوعه ؛ وجوب وقوعه ، وما علم عدم وقوعه ؛ امتناع وقوعه ؛ حتى لا يكون العلم جهلا.

__________________

(١) فى ب (على ما ثبت تحقيقه). انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (أن يكون عالما ، وعالما بكونه عالما).

٣٤١

وعند ذلك : فلا يبقى بين الفاعل بالاختيار ، وغير الفاعل بالاختيار فرق ؛ وهو محال ، وما أفضى إلى المحال ؛ فهو محال.

والجواب :

أما النقض بأفعال الحيوانات : فمندفع ؛ وذلك أن من سلم كونها هى الفاعلة ؛ لم يمنع من كونها عالمة. ومن قال أفعال الحيوانات غير مخلوقة لها ؛ بل لله ـ تعالى ـ ؛ فيجب أن تكون معلومة لله ـ تعالى ـ ؛ وإن لم تكن معلومة للحيوانات ؛ إذ ليس الإحكام ، والإتقان مستندا إليها.

قولهم : لا نسلم العلم الاضطرارى بذلك غائبا.

قلنا : العاقل لا يجد من نفسه تفرقة في العلم بعلم المختار بما يفعله شاهدا ، ولا غائبا. فإذا كان الرب ـ تعالى ـ فاعلا بالاختيار ؛ لزم العلم الاضطرارى بكونه عالما به ؛ وذلك لأن ملزوم العلم الاضطرارى بعلم الفاعل المختار بما يفعله : إنما هو كونه مختارا له ؛ ولهذا يجد العاقل من نفسه العلم (١) بذلك (١) ، وإن قطع النظر عن كل وصف خارج عن وصف الاختيار ، والعلم الاضطرارى بكون الفاعل في الشاهد حيوانا ، وجسما ، ومتحركا بالإرادة إلى غير ذلك من الصفات المختصة بالشاهد ، فمن لوازم كونه فاعلا بالحركة والانتقال. لا من لوازم كونه مختارا. والحركة والانتقال في حق الله ـ تعالى ـ محال ؛ فلذلك لم يلزم كونه حيوانا ، ولا جسما ، ولا غير ذلك من صفات (٢) المحدثات في حقه.

قولهم : لا نسلم أن المفهوم من كونه عالما ، يزيد على المفهوم من ذاته ؛ فدليله ما سبق من الوجهين (٢).

قولهم فى الوجه الأول : المعلوم ، والمجهول : إنما هو دلالة اللفظ على مسماه ؛ ليس كذلك ؛ فإنه لو اتحد المسمى ؛ لكانت (٣) كل ذات عالمة ؛ وهو محال.

وبه يبطل ما ذكروه على الوجه الثانى أيضا.

__________________

(١) فى ب (ذلك).

(٢) فى ب (الصفات التى اتصفت بها الحوادث).

(٣) فى ب (كانت).

٣٤٢

قولهم : لا نسلم أن المفهوم من كونه عالما ، أمر وجودى.

قلنا : دليله ما سبق.

قولهم : المفهوم من الجاهل مناقض للعالم. لا نسلم ذلك ؛ بل هو مقابل ، والمقابل أعم من المناقض.

غير أن / الجاهل إن كان جاهلا بالجهل المركب : وهو المعتقد لأمر ما على خلاف ما هو عليه ؛ فيكون ضدا للعالم ، ولا يمتنع اشتراكهما في الوجود : كالتقابل الواقع بين السواد ، والبياض.

وإن كان جاهلا (١) بالجهل البسيط (١) : وهو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون له العلم ؛ فيكون مقابلا للعالم : مقابلة العدم ، والملكة : كالتقابل الواقع بين البصر ، والعمى.

وعند ذلك : فلا يلزم من رفع هذا العدم المقابل للملكة ، وسلبه ؛ تحقق الوجود ؛ فلا يمتنع سلبه عن العدم المحض ؛ وذلك لأن المسلوب إنما هو خصوص عدم : لا مطلق العدم ؛ ولهذا إن من وصف شيئا ما بكونه ليس (٢) أعمى ، لا يكون واصفا له بصفة وجودية.

قولهم : ما المانع من أن يكون لا موجودا ، ولا معدوما؟

قلنا : لما يأتى في مسألة الأحوال (٣).

وأما الوجود : فهو عندنا نفس الموجود : على ما يأتى في مسألة المعدوم هل هو شيء أم لا (٤)؟ فلا يمتنع اتصافه بكونه موجودا ؛ إذ ليس الموجود هو ما اتصف به (٥) الوجود. والوجود زائد عليه ؛ ليلزم ما ذكروه.

__________________

(١) فى ب (جهلا بسيطا).

(٢) ساقط من ب.

(٣) انظر ما سيأتى في الأحوال ل ١١٤ / أوما بعدها من الجزء الثانى.

(٤) انظر ما سيأتى في الباب الثانى ل ١٠٨ / ب وما بعدها من الجزء الثانى.

(٥) فى ب (بصفة).

٣٤٣

وأما حالة الحدوث : فهى أول زمان الوجود عندنا ، لا أنها حالة متوسطة بين زمان الوجود ، والعدم ؛ ليلزم ما ذكروه ، والحادث في أول زمان وجوده ؛ موجود ، فيمن سلم أنه ليس بموجود ، ولا بمعدوم.

قولهم : معنا ما يعارض ذلك ، لا نسلم.

وأما ما أشاروا إليه من الحجج العامة ؛ فقد سبق جوابها (١).

قولهم : لو كان عالما بشيء ؛ لكان عالما بأنه عالم بذلك الشيء ، مسلم ؛ ولكن لم قالوا بالامتناع (٢)؟

قولهم (٣) : يلزم منه (٣) أن يكون عالما بذاته ؛ مسلم.

قولهم : لا معنى للعلم بالشيء غير انطباع صورته في نفس العالم (٤) ، أو إضافة (٤) بين العالم والمعلوم. عنه جوابان :

الأول : منع الحصر ؛ بل العلم صفة وجودية زائدة على الذات. وليست هى نفس الانطباع ، ولا نفس الإضافة الحاصلة بين ذات العالم والمعلوم ؛ بل (٥) النسبة ، والإضافة : إنما هى بين صفة العلم ، والمعلوم (٥). وعلى هذا : فلا يمتنع أن تكون ذاته عالمة بذاته ، بمعنى أن ذاته قامت بها صفة العلم ، وتلك الصفة متعلقة بنفس الذات على نحو تعلقها بسائر المعلومات.

كيف وأنه يمتنع تفسير العلم ، بالانطباع ، والإضافة.

أما الانطباع / : فلخمسة أوجه :

الأول : أنه لو كان العلم عبارة عن الانطباع كما ذكروه ؛ لكان كل شيء قام بذاته صفة (٦) من الصفات العرضية (٦) من كمية ، وكيفية ، وغير ذلك ، أن يكون عالما بها ؛

__________________

(١) انظر ل ٥٤ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (بامتناعه).

(٣) ب (قولكم يلزم).

(٤) فى ب (العالم بها وإضافة).

(٥) من أول (بل النسبة والإضافة ...) ساقط من ب.

(٦) فى ب (صفة عرضية).

٣٤٤

ضرورة انطباع صورتها في ذاته ؛ وليس كذلك. وسواء كان حيا مدركا ، أو لم يكن. وإن قالوا : ليس العلم هو الانطباع في الذات ؛ بل في القوة المدركة.

قلنا : فالقوة المدركة هى العلم : وهى وراء الانطباع.

الثانى : أنه لو كان العلم هو نفس انطباع صورة المعلوم في النفس ؛ لما تصور العلم باستحالة اجتماع السواد ، والبياض ؛ فإن ذلك يلازمه العلم بمعنى السواد ، والبياض ؛ فإن تصور المفردات سابق على التصديق بما لها من النسب الواجبة لها. فلو كان العلم بمعنى السواد والبياض عبارة عن انطباع صورة السواد والبياض في النفس ؛ لزم اجتماع الضدين في محل واحد ؛ وهو محال.

وإن (١) قيل : بأن (١) استحالة الاجتماع بين الضدين مشروطة بالوجود العينى ، فإنما يلزم : أن لو كان الوجود زائدا على نفس الذات ؛ وهو غير صحيح ؛ على ما سيأتى في مسألة المعدوم (٢).

الثالث : هو (٣) أنه لو كان الأمر على (٤) ما ذكر (٤) : للزم أن من علم السواد والبياض ، أو الحرارة والبرودة : أن يوصف بكونه أسود ، وأبيض ، وحارا ، وباردا ؛ ضرورة انطباع حقيقة البياض ، والسواد ، والبرودة ، والحرارة في ذاته ، ونفسه ؛ وليس كذلك.

الرابع : أنه يلزم من ذلك أن يكون المحل المنطبع فيه صورة المعلوم لا ينقص في الكمية عن كمية الصورة المنطبعة فيه ضرورة مطابقتها له ؛ وهو محال.

الخامس : أنه لو كان كذلك : فالمعلوم إذا كان جسما ؛ فالمحل المنطبع فيه شاهدا : إما أن يكون جوهرا ، أو عرضا.

لا جائز أن يكون جوهرا : وإلا لزم قيام الجسم بالجوهر ؛ وهو محال.

وإن كان عرضا : لزم قيام الجسم بالعرض ؛ وهو أيضا محال.

وأما تفسيره بالإضافة : فالوجه في إبطاله أن يقال :

__________________

(١) فى ب (فإن قيل إن)

(٢) انظر ص ٣٩٥ من الجزء الثانى.

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (كما ذكروه).

٣٤٥

إذا كان العلم صفة إضافية : فهى إما وجودية ، أو عدمية ، أو لا وجودية ولا عدمية.

لا جائز أن يقال بالثانى والثالث ؛ لما تقدم (١) ؛ فلم يبق إلا أن تكون وجودية.

وعند / ذلك : فإما أن تكون قديمة ، أو حادثة.

لا جائز أن تكون قديمة : وإلا لما تبدلت وتغيرت ؛ لأن العدم على الموجود القديم محال. ولا يخفى جواز تبدل النسب والإضافات بسبب اختلاف المعلوم في نفسه ؛ فإن النسبة المتعلقة بالمعدوم من حيث هو معدوم ، لا تبقى بعد الوجود ، وكذلك بالعكس ، وإلا كان العلم جهلا ؛ وهو محال.

ولا جائز أن تكون حادثة لوجهين :

الأول : أنه يلزم منه أن يكون الرب تعالى محلا للحوادث ؛ وهو محال على ما سيأتى (٢).

الثانى : أن الكلام في حدوث تلك الصفة ، وافتقارها إلى علم آخر ، كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل الممتنع.

الوجه الثانى ـ فى الجواب عن أصل السؤال : أنه منتقض بكون الواحد منا عالما ؛ فإنه متحقق مع لزوم ما ذكروه من المحالات ، وبه يندفع ما ذكروه في الوجه الثانى من لزوم التسلسل.

قولهم : سلمنا أنه عالم ؛ ولكن لا نسلم أنه عالم بعلم.

قلنا : إذا سلم أن المفهوم من كونه عالما : صفة وجودية زائدة على الذات ؛ فهو المعنى بقيام العلم بذاته.

وبهذا يندفع قولهم : إن كونه عالما واجب ؛ فلا يكون معللا بالعلم. كيف وأن اتصافه بالعلم : إن قيل : إنه واجب بمعنى أنه لا انفكاك له عن ذاته ـ تعالى ـ ؛ فهو مسلم ؛ ولكن ذلك لا ينافى قيام العلم [بذاته (٣)].

__________________

(١) انظر ل ٧٦ / أ.

(٢) انظر ل ١٤٥ / ب وما بعدها.

(٣) فى أ (بذلك).

٣٤٦

وإن قيل : إنه واجب بمعنى أنه لا يفتقر المفهوم من كونه عالما إلى قيام العلم بذاته ؛ فهو غير المصادرة نحو المطلوب ؛ وهو غير مقبول.

قولهم : إنه عالم بعلم قائم لا في ذاته ؛ فقد سبق جوابه في (١) إبطال القول بكونه مريدا بإرادة لا في ذاته (١).

قولهم : لو كان متصفا بالعلم ؛ فعلمه : إما ضرورى ، أو نظرى. إنما يلزم أن لو بيّن قبول علم الرب تعالى لهذا الانقسام ، وإلا فلا. ومجرد القياس على الشاهد في ذلك غير صحيح ؛ كما مضى. ثم إن الضرورى لا معنى له إلا ما لا يفتقر في حصوله إلى نظر واستدلال ، ولا تصح مفارقته للنفس مع انتفاء أضداده ، وعلم البارى ـ تعالى ـ كذلك ، غير أنه لا يصح إطلاق اسم الضرورى عليه ؛ لعدم ورود الشرع به ، فالمنازعة في ذلك ليست إلا في اللفظ ، دون المعنى.

قولهم : إن كان علمه قديما ؛ فالقدم أخص / وصف الإله ، ويلزم من ذلك تعدد الآلهة ؛ فقد سبق جوابه فيما مضى.

[قولهم (٢) : علمه إما أن يكون عبارة عن الانطباع ، أو الإضافة ؛ فقد سبق جوابه (٢)].

قولهم : لا معنى لقيام الصفة بالمحل : إلا أنها موجودة في الحيز تبعا لمحلها فيه.

لا نسلم ذلك. ولا يلزم من عدم تفسير القيام بالمحل بالافتقار إليه في الوجود ، أن يتعين ما ذكروه ؛ بل جاز أن يكون معنى أخص من الافتقار إلى الشيء في الوجود ، ومباينا لما ذكروه وهو أن يقال : إذا وجد شيئان ، واتحدت الإشارة الفعلية إليهما ، بحيث لا يمكن أن يشار إلى ذات كل واحد منهما بغير الإشارة إلى الآخر. فما كان منهما محتاجا إلى الآخر في الوجود ؛ فهو الصفة. وما لم يكن محتاجا ؛ فهو المحل.

وعلى هذا : فلا يلزم التحيز للمحل من ضرورة قيام الصفة به.

__________________

(١) من أول (فى ابطال ...) ساقط من ب. انظر ل ٦٩ / ب.

(٢) ساقط من أ.

٣٤٧

كيف وأن ما ذكروه لازم على من وصف الرب ـ تعالى ـ بكونه عالما ، وقادرا ، ومريدا ، إلى غير ذلك من صفات الأحكام ؛ فإنها قائمة بذات الرب ـ تعالى ـ وإن لم يكن متحيزا ؛ فما هو جواب له ، هو (١) جواب لنا.

قولهم : العلم : إما صفة كمال ، أو نقصان ، أو لا صفة كمال ، ولا نقصان. عنه جوابان :

الأول : ما المانع من أن يكون لا صفة كمال ، ولا نقصان؟ وليس نفى ذلك من البديهيات ؛ فلا بد من الدليل.

الثانى : ما المانع من كونه صفة كمال؟

قولهم : يلزم منه أن تكون ذات الرب تعالى مفتقرة في كمالها إلى غيرها.

قلنا : إن أردتم به أن نفس الذات تكون ناقصة دون هذه الصفة (٢) فممنوع.

وإن أردتم به أنها لا تكون متصفة بالصفات الكمالية الزائدة عليها دون هذه الصفة ؛ فهو (٣) مسلم (٣) ، ودعوى إحالته عين المصادرة على المطلوب.

قولهم : لو كان عالما بعلم ؛ لكان علمه مماثلا للعلم الحادث إنما يلزم أن لو اشتركا في أخص صفة لكل واحد منهما ، أو لأحدهما ؛ وليس كذلك ؛ فإن أخص صفة العلم الربانى ؛ وجوب تعلقه بالمعلومات بأجمعها على جهة التفصيل. وأخص وصف العلم الحادث ؛ جواز تعلقه بالمعلومات ، لا نفس وقوع التعلق ؛ فلا اشتراك.

قولهم : إما أن يكون واحدا ، أو متكثرا.

قلنا : بل واحد.

قولهم : إما أن يتعلق بجميع المتعلقات ، أو ببعضها.

__________________

(١) فى ب (عنها فهو)

(٢) فى ب (الصفات).

(٣) فى ب (فسلم).

٣٤٨

قلنا : بل بالجميع. وما ذكروه في جهة / الإحالة ؛ فهو ممنوع على ما سبق في قاعدة العلم أيضا (١).

قولهم : إما أن يعلم علمه ، أو لا يعلم علمه ، إلى آخر الشبهة ؛ فيلزم عليه علم الواحد منا ؛ فإن الواحد منا عالم بعلم بالاتفاق ، مع لزوم ما ذكروه من المحالات.

قولهم : لو كان عالما بعلم ؛ لكان فوقه عليم ؛ فقد سبق جوابه. فى أول (٢) المسألة (٢).

قولهم : إما أن يكون علمه قديما ، أو حادثا.

قلنا : بل قديم.

قولهم : فيجب أن يكون متعلقا بكل ما يصح أن يعلم.

قلنا : مسلم.

قولهم : فإذا تعلق علمه بوجود بعض الحوادث : إما أن يبقى مع عدمه ، أو لا يبقى.

قلنا : علم الله ـ تعالى ـ باق غير متغير ؛ بل المتغير إنما هو المتعلق : وهو الوجود ، والعدم ، والتعلق به ، فتعلق العلم بأن الشيء موجود ، غير تعلقه بأنه معدوم. من غير تغيير في نفس العلم ، ولا لزوم جهل في حق الله ـ تعالى ـ

قولهم : ما المانع أن يكون علمه هو نفس ذاته؟

قلنا : لو كان علمه هو ذاته ؛ فذاته قائمة بنفسها ، وليست صفة لغيرها ؛ فيلزم أن يكون علمه قائما بنفسه ، ولا يكون صفة لغيره. ولو كان كذلك ؛ لكان كل علم هكذا ؛ لأن حقيقة العلم ـ من حيث هو علم ـ لا تختلف شاهدا ، ولا غائبا ، وإن اختلفا في القدم ، والحدوث ، وغير ذلك من الصفات الخارجة عن مفهوم العلم ـ من حيث هو علم.

قولهم : وإن كان زائدا على ذاته. فما المانع من كونه حادثا؟

__________________

(١) انظر ل ١٠ / أوما بعدها.

(٢) ساقط من ب ـ انظر ل ٧٤ / ب.

٣٤٩

قلنا : لما بيناه من لزوم التسلسل (١) ، ولما سنبينه من امتناع قيام الحوادث بذاته تعالى (٢).

وما ذكروه في الوجه العاشر ؛ فقد سبق جوابه (٣).

قولهم : سلمنا أنه قديم ؛ ولكن لا نسلم أنه واحد.

قلنا : دليل وحدته ما ذكرناه في وحدة القدرة ، والإرادة. وما ذكروه في إحالته في الوجه السابع ؛ فقد سبق جوابه (٤).

قولهم : سلمنا أنه واحد ؛ ولكن لا نسلم صحة تعلقه بمعلومين فصاعدا.

قلنا : دليل صحة ذلك ما سبق في قاعدة العلم (٥). من أن العلم الواحد لا يمتنع أن يتعلق بمعلومين. كيف وأن الدليل الدال على كون علمه متعلقا ببعض الأشياء ؛ إنما هو حدوثه مقدورا مرادا له. وسنبين استناد جميع الحوادث إلى قدرته [وإرادته (٦)] واختياره ؛ فيجب أن يكون علمه متعلقا بجميعها.

وما ذكروه في قاعدة العلم / فقد سبق جوابه ثم أيضا (٧).

قولهم : العلم بأحد المعلومين مغاير للعلم بالمعلوم الآخر.

لا نسلم ذلك ؛ بل العلم في نفسه واحد ، والمتغاير إنما هو التعلق والمتعلق ، ولا يمتنع أن يكون الشيء مع وحدته متكثر التعلق والمتعلق ، كما نقول : وحدة الشمس ، وتكثر تعلقها. وما تتعلق به مما تشرق عليه ، ويستضيء بها ، وكذلك (٨) الوحدة (٨) التى هى مبدأ العدد [فإنها (٩)] واحدة ، وإن تعددت نسبتها بتعدد ما لها نسبة إليه : من كونها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة ، وهلم جرا إلى غير النهاية.

وعلى هذا : فقد خرج الجواب (١٠) عما ذكروه من التشكيكات.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ١٤٥ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٨١ / أ.

(٤) انظر ل ٨٠ / ب وما بعدها.

(٥) انظر ل ١٠ / أ.

(٦) ساقط من أ.

(٧) انظر ل ١٠ / أ.

(٨) فى ب (وكالوحدة).

(٩) ساقط من أ.

(١٠) ساقط من ب.

٣٥٠

أما قولهم : إنه يتصور العلم بأحد المعلومين مع الشك في الآخر ؛ فذلك إنما يرجع إلى تعلق العلم بأحد المعلومين دون الآخر ، لا إلى نفس العلم.

وقولهم : إن العلم بأحد المعلومين لا يقوم مقام العلم بالآخر.

قلنا : العلم بأحدهما هو العلم بالآخر ، وإنما الّذي لا يقوم فيه أحد الأمرين مقام الآخر ، إنما هو التعلق ؛ فإن تعلق العلم بالسواد ، لا يقوم مقام تعلق العلم بالبياض ، ولا نزاع في تعدده.

وقولهم : إن العلم بأحد الشيئين قد يكون مشروطا بخلاف الآخر.

قلنا : المشروط إنما هو التعلق أيضا دون العلم المتعلق ، وما ذكروه في تفسير العلم بالانطباع ؛ فقد سبق جوابه.

قولهم : لا نسلم صحة تعلقه بكل ما يصح أن يعلم.

قلنا : لو قدرنا عدم تعلقه بشيء من الأشياء التى يصح أن تكون معلومة ؛ لكان جاهلا ؛ لما تقدم تقريره ، والجهل على الله ـ تعالى ـ محال. وبه الدلالة على تعلقه بالفعل بجميع المتعلقات معا ، لا على سبيل البدل ؛ فإنا لو قدرنا عدم تعلقه بالفعل بها ، أو ببعضها ؛ لكان جاهلا بما لم يتعلق علمه به حالة عدم تعلق (١) علمه به (١) ؛ وهو محال كما سبق (٢).

قولهم : ما يصح أن يعلم ؛ غير متناه.

قلنا : هو غير متناه إمكانا ، لا أنه غير متناه بالفعل. ونحن وإن منعنا القول بعدم النهاية في الموجودات العينية ؛ فلا نمنعه في الأمور الإمكانية ؛ بل ذلك موضع الإجماع.

قولهم : يلزم من ذلك أن يكون عالما بكونه عالما ، وهلم جرا.

قلنا : لا يوجب ذلك تعدد العلم في نفسه ؛ بل تعدد التعلق ، والمتعلق ، وذلك وإن أفضى إلى غير النهاية إلا / أنه في طرف الاستقبال ، وما لا نهاية له في طرف الاستقبال ؛

__________________

(١) فى ب (تعلقه به).

(٢) انظر ل ٧٦ / أ.

٣٥١

فلا نمنع كونه غير متناه ، كنعيم أهل الجنة ، وعذاب أهل النار ؛ وإنما نمنع من ذلك في الماضى.

كيف وأن التعلقات من باب النسب والإضافات ، وليس لها وجود حقيقى ، وما ليس له وجود حقيقى ؛ فلا نمنع من عدم النهاية فيه ؛ كما تقدم في الوجه الأول.

وما ذكروه في الوجه الثالث ؛ فقد سبق جوابه في مسألة القدرة والله أعلم.

٣٥٢

المسألة الخامسة

في إثبات صفة الكلام لله تعالى

وقد أجمع المسلمون قاطبة على اتصاف الرب ـ تعالى ـ بكونه متكلما ـ وأنه تكلم ، ويتكلم ، غير الإسكافى (١) من المعتزلة ؛ فإنه نازع في كونه يتكلم. متحكما في الفرق بين تكلم ، ويتكلم.

لكن معنى كونه متكلما عند أصحابنا (٢) : أنه قام بذاته كلام ، قديم ، أزلى نفسانى ، أحدى الذات ، ليس بحروف ، ولا أصوات ، وهو مع ذلك متعلق بجميع متعلقات الكلام.

لكن اختلفوا في وصف كلام الله ـ تعالى ـ فى الأزل بكونه أمرا ونهيا ، مخاطبة تكلما.

فأثبت ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعرى (٣).

__________________

(١) الإسكافى :

محمد بن عبد الله ، أبو جعفر الإسكافى : من متكلمى المعتزلة المتشيعين وأحد أئمتهم ، تنسب إليه الطائفة (الإسكافية) منهم ، وهو بغدادى أصله من سمرقند. توفى سنة ٢٤٠ ه‍.

(لسان الميزان ٥ / ٢٢١ ومقالات الإسلاميين ١ / ٢٦٩ والفرق بين الفرق ص ١٦٩ والملل والنحل ١ / ٥٨ وانظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٥ / أ.

(٢) عن رأى الأصحاب في هذه المسألة انظر ما يأتى :

اللمع للأشعرى ص ٣٣ ـ ٤٦ والإبانة عن أصول الديانة له أيضا ص ١٩ ـ ٣١ والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ـ ٤٩ والإنصاف ص ٣٧ له أيضا

وأصول الدين للبغدادى ص ١٠٦ ـ ١٠٨.

والإرشاد لإمام الحرمين ص ٩٩ ـ ١٣٧ ولمع الأدلة ص ٨٥ له أيضا

والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٥٣ ـ ٦٠.

ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٦٨ ـ ٣٤٠.

والمحصل للرازى ص ١٢٤ ـ ١٢٦ ومعالم أصول الدين ص ٤٧ له أيضا.

ومن كتب الآمدي : غاية المرام للآمدى ص ٨٨ ـ ١٢٠.

ومن الكتب المتأخرة عن الأبكار والتى رددت معظم الآراء الواردة به وتأثر أصحابها بصاحبه إلى حد بعيد. شرح الطوالع ص ١٨٣ والمواقف للإيجي ص ٢٩٣ ـ ٢٩٦ وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٧٣ ـ ٧٩.

(٣) انظر اللمع ص ٣٣ ـ ٤٦.

٣٥٣

ونفاه (١) عبد الله بن سعيد ، وطائفة كثيرة من المتقدمين (١) : مع اتفاقهم على وصفه ـ تعالى ـ بذلك فيما لا يزال.

وأما المعتزلة (٢) : فقد اتفقوا كافة على معنى أن كونه متكلما. أنه خالق للكلام على وجه لا يعود إليه منه صفة حقيقية كما لا يعود إليه من خلق الأجسام وغيرها صفة حقيقية.

واتفقوا أيضا على أن كلام الرب ـ تعالى ـ مركب من الحروف ، والأصوات ، وأنه محدث مخلوق.

ثم اختلفوا :

فذهب الجبائى ، وابنه أبو هاشم (٣) : (إلى) (٤) أنه حادث في محل. ثم زعم الجبائى أن الله ـ تعالى ـ يحدث عند قراءة كل قارئ كلاما لنفسه في محل القراءة ، وخالفه الباقون.

وذهب أبو الهذيل بن العلاف ، وأصحابه (٥) : إلى أن بعضه في محل ؛ وهو قوله (كن) وبعضه لا في محل ؛ كالأمر ، والنهى ، والخبر ، والاستخبار.

وذهب الحسين بن محمد النّجار : إلى أن كلام البارى ـ تعالى ـ إذا قرئ ؛ فهو عرض ، وإذا كتب ، فهو جسم (٦).

__________________

(١) فى ب (ونفاه طائفة كثيرة من المتقدمين وعبد الله بن سعيد).

عبد الله بن سعيد :

أبو محمد ، عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب (بضم الكاف وتشديد اللام) القطان المتوفى بعد سنة ٢٤٠ ه‍ بقليل. شيخ الكلابية وإمام أهل السنة في عصره جاراه الأشعرى في أكثر آرائه. (طبقات السبكى ٢ / ٥١).

(٢) عن رأى المعتزلة في هذه المسألة بالتفصيل انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥٢٧ ـ ٥٤٨ والمحيط بالتكليف ، له نشر المؤسسة المصرية تحقيق عمر عزمى ص ٣٠٦ ـ ٣٣٩ والمغنى في أبواب التوحيد والعدل له أيضا ٧ / ص ٦ ، ١٥ ، ٢٠ ، ٨٤ ، ٢٠٨.

(٣) انظر الأصول الخمسة للقاضى عبد الجبار ص ٥٤٠ والمحيط بالتكليف له أيضا ص ٣١٢ ، ٣١٣ ، ٣١٥.

(٤) فى أ (على).

(٥) انظر الأصول الخمسة ص ٥٤٤.

والمحيط بالتكليف ص ٣١٢.

(٦) عن رأى النجار انظر الملل والنحل ١ / ٨٩.

٣٥٤

وذهبت الإمامية (١) ، والخوارج ، والحشوية أيضا : الى أن كلام الرب ـ تعالى ـ مركب من الحروف ، والأصوات.

ثم اختلف هؤلاء :

فذهبت الحشوية (٢) : إلى أنه قديم أزلى ، قائم / بذات الرب ـ تعالى ـ لكن منهم : من زعم أنه من جنس كلام البشر. ومنهم من قال : ليس من جنس كلام البشر ؛ بل الحرف حرفان ، والصوت صوتان قديم ، وحادث ، والقديم منهما ليس من جنس الحادث.

وأما الكرامية (٣) : فقالوا : إن الكلام قد يطلق على القدرة على التكلم. وقد يطلق على الأقوال ، والعبارات. وعلى كلا الاعتبارين (٤) ؛ فهو قائم بذات الرب ـ تعالى ـ لكن إن كان بالاعتبار الأول : فهو قديم متحد ، لا كثرة فيه. وإن كان بالاعتبار الثانى ؛ فهو حادث متكثر.

وأما الواقفية (٥) : فقد أجمعوا على أن كلام الله ـ تعالى ـ كائن بعد ما لم يكن ؛ لكن منهم من توقف في إطلاق اسم المخلوق ، وأطلق اسم الحادث عليه.

ومن القائلين بالحدوث : من قال : ليس هو جوهرا ، ولا عرضا. وذهب بعض المعترفين بالصانع ـ تعالى : إلى أنه لا يوصف بكونه متكلما ، لا بكلام ولا بغير كلام.

__________________

(١) الإمامية : هم القائلون بإمامة على رضى الله عنه بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصا ظاهرا ، وتعيينا صادقا (الملل ص ١٦٢) وهم أربع وعشرون فرقة (مقالات الإسلاميين ١ / ٨٨) ، وأرجعهم البغدادى إلى خمس عشرة فرقة (الفرق بين الفرق ص ٥٣). ولمزيد من البحث والدراسة عن الإمامية راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٧ / أوما بعدها.

(٢) عن رأى الحشوية انظر الملل والنحل ١ / ١٠٦ وما بعدها.

ولمزيد من البحث والدراسة عن الحشوية راجع ما سيأتى في الجزء الثانى القاعدة السابعة ل ٢٥٦ / ب وما بعدها فقد تحدث الآمدي عن الحشوية وآرائهم بالتفصيل.

(٣) انظر الملل والنحل ١ / ١٠٩ ، ١١٠.

(٤) فى ب (التقديرين).

(٥) الواقفية (الممطورة) سموا بذلك لأنهم وقفوا على (موسى بن جعفر) ولم يجاوزوه إلى غيره ، ويقولون إنه لم يمت ؛ بل هو غائب. وإنما سموا بذلك لقول البعض فيهم : والله ما أنتم إلا كلاب ممطورة. يعنى أنهم كالكلاب المبتلة ؛ من ركاكة مقالتهم (اعتقادات فرق المسلمين ص ٥٤ والملل ١ / ١٦٧).

٣٥٥

وإذا أتينا على ما هو المنقول عن أرباب هذه المذاهب في هذه المسألة ؛ فلا بد من الإشارة إلى طرق عول عليها بعض الأصحاب في المسألة ، والتنبيه على ضعفها ، ثم نبين بعد ذلك ما هو المعتمد إن شاء الله ـ تعالى.

فمنها : التمسك بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١) ووجه الاحتجاج به أنه أخبر بأن مصدر جميع المخلوقات أمره ، وهو قوله : (كن).

ويلزم من ذلك أن يكون أمره قديما ، وإلا لاستدعى أمرا آخر ، والكلام في ذلك الأمر كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

فإن قيل : ليس المراد من الآية تحقيق الأمر القولى ، وخطاب ما أريد خلقه به ؛ بل المراد به إنما هو تعريف بعود الإرادة ، والمشيئة في المخلوقات ، والتسخير على وفق الإرادة والاختيار ؛ إذ هى حالة تنزل منزلة القول بالأمر ، والنهى. وقد يرد القول بمعنى الحالة ، لا بمعنى الكلام حقيقة ، وإليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٢).

وليس المراد من قوله ـ تعالى ـ (فَقالَ لَها) غير التعبرة عن نفوذ الإرادة في السماء ، والأرض ، وكمال التسخير ؛ فإن خطاب الجماد متعذر باتفاق العقلاء.

وليس المراد من قوله : (قالَتا أَتَيْنا / طائِعِينَ) غير التعبرة عن تمام الطواعية ، والانقياد لإرادة الله ـ تعالى ـ ، لا نفس الكلام الحقيقى ؛ إذ هو متعذر في الجمادات قطعا.

ومن ذلك أيضا قال الشاعر :

امتلأ الحوض وقال قطنى

مهلا رويدا قد ملأت بطنى (٣)

أضاف القول إلى الحوض ؛ وليس المراد به غير التعبرة عن الحالة ؛ لاستحالة القول في حقه. وأمثال ذلك في النظم ، والنثر كثير.

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٤٠ صححت الآية حيث كانت في أ ، ب (إنما أمرنا ... الخ).

(٢) سورة فصلت ٤١ / ١١.

(٣) ورد في لسان العرب مادة قطن بالنص الآتى :

امتلأ الحوض وقال قطنى

سلا رويدا قد ملأت بطنى

كما ورد في شواهد العينى على خزانة الأدب ١ / ٣٦١.

٣٥٦

ودليل هذا التأويل من ثلاثة أوجه : الأول :

أنه لو حمل على الأمر حقيقة ؛ لكان أمرا للمعدوم ؛ وهو محال.

الثانى : أنه يكون أمرا للمخاطب بالكون ؛ وهو غير مقدور له ، والتكليف بالمحال ؛ محال.

الثالث : أنه لو كان الكون بالأمر لاستغنى عن القدرة ، أو كان هو القدرة ؛ وهو محال.

سلمنا أنه أراد به الأمر حقيقة ، ولكن ما المانع من كونه حادثا؟ والتسلسل إنما يلزم أن لو كانت الآية عامة في كل شيء حادث ، وليس كذلك ؛ فإن لفظ الشيء في الآية نكرة في سياق الإثبات ، والأصل فيها الخصوص.

ولهذا لو قال رأيت رجلا ؛ فإنه لا يعم كل رجل. بخلاف النكرة المنفية ، أو ما هى في سياق النفى. كما إذا قال : ما رأيت رجلا ؛ فإنه يعم.

سلمنا أنها ظاهرة في العموم ، وأنها تدل على القدح من الوجه المذكور. غير أنها تدل على حدوث الأمر من جهة اللغة ، والمعنى.

أما من جهة اللغة : فمن ثلاثة أوجه : الأول :

أنه قال إذا أردناه. ، وإذا ظرف زمان خاص بالمستقبل. ولهذا لو قال القائل : إذا جاء زيد فأكرمه ، فإنه يختص بالاستقبال ؛ فالأمر المقترن به يكون مستقبلا ، والواقع في الاستقبال ؛ لا يكون إلا حادثا.

الثانى : أنه قال : (أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وأن الخفيفة الناصبة للفعل المضارع ؛ إذا اتصلت به ، خلصته للاستقبال.

ولهذا لو قال القائل لغيره : أريد أن تفعل كذا ، يمحص للاستقبال ؛ والمستقبل لا يكون إلا حادثا.

الثالث : هو أنه رتب التكوين عقيب قوله : (كُنْ) بفاء التعقيب ؛ وهى مقتضية للترتيب من غير مهلة ، وكل ما لا يتقدم عل الحادث ، ولا بينه وبينه مهلة ؛ فهو حادث.

٣٥٧

وأما من جهة المعنى : فهو أنه فسر أمره بقوله : (كُنْ) ، وكن مركب من حرفين مترتبين ؛ وذلك في غير الحادث محال.

سلمنا دلالة / ما ذكرتموه على قدم الأمر ؛ ولكنه استدلال بالكلام على الكلام ، وإثبات الشيء بنفسه ممتنع.

سلمنا صحة الاستدلال به ؛ ولكنه معارض بما يدل على كون القرآن محدثا ، وبيانه من جهة النص ، والإجماع ، والمعنى.

أما من جهة النص : فقوله ـ تعالى ـ : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) (١). والذكر هو القرآن بدليل قوله ـ تعالى ـ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).

وأيضا قوله ـ تعالى ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) (٣). وقوله ـ تعالى ـ (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) (٤). وقوله ـ تعالى ـ (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٥) والجعل ، والفعل ؛ دليل الحدوث.

وأيضا (٦) ما روى عنه عليه‌السلام. أنه قال : «كان الله ولا شيء ثم خلق الذّكر». وأيضا ما روى عنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أنه قال : «ما خلق الله شيئا أعظم من آية الكرسى (٦)». وما روى عنه عليه‌السلام أنه كان يقول : «يا ربّ طه ، ويس ، وربّ القرآن العظيم» (٧).

وأما من جهة الإجماع : فهو أن الأمة من السلف مجمعة على أن القرآن مؤلف من الحروف ، والأصوات ، ومجموع من سور ، وآيات ، ومن ذلك سمى قرآنا ، أخذا من

__________________

(١) سورة الأنبياء ٢١ / ٢.

(٢) سورة الحجر ١٥ / ٩.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٢٣.

(٤) سورة الزخرف ٤٣ / ٣.

(٥) سورة الأحزاب ٣٣ / ٣٧.

(٦) حدث تقديم وتأخير في ب (وأيضا ما روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : «ما خلق الله أعظم من آية الكرسى». وما روى عنه عليه‌السلام أنه قال : «كان الله ولا شيء ثم خلق الذكر».

(٧) أورده السيوطى في تخريجه لأحاديث شرح المواقف بالترتيب الآتى : (يا رب القرآن العظيم ، ويا رب طه ويس) وقال : لم أقف عليه.

انظر المخطوطة رقم ١٣٠ مجاميع ورقة ٢١٤ بمكتبة الأزهر.

٣٥٨

قول العرب قرأت الناقة لبنها في ضرعها ؛ أى جمعته. ومنه قوله ـ تعالى ـ (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) (١).

ولو لا ذلك لما تصور أن يسمعه موسى ـ عليه‌السلام ـ ؛ وقد سمعه.

وأيضا فإنهم أجمعوا على أن القرآن. منزل مقرؤ بألسنتنا ، محفوظ في صدورنا ، مسطور في مصاحفنا ، ملموس بأيدينا ، مسموع بآذاننا ، منظور بأعيننا ؛ ولذلك وجب احترام المصحف ، وتبجيله حتى أنه لا يجوز للمحدث حمله ، ولمسه ، والتقرب إليه ، ولا للجنب تلاوته ، وقد وردت أيضا الظواهر من الكتاب ، والسنة بما يدل على كونه (٢) مسموعا ، وملموسا (٢) ، وأنه بحرف وصوت ؛ فمن ذلك قوله ـ تعالى ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٣) وقوله ـ تعالى ـ (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (٤). وقول النبي ـ عليه‌السلام ـ «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدوّ فتناله أيديهم» (٥). وقوله ـ عليه‌السلام «إذا تكلّم الله بالوحى سمع صوته كجرّ السّلسلة على الصّفا» (٦) ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ «من قرأ القرآن وأعربه فله بكلّ حرف منه عشر حسنات (٧)» إلى غير ذلك من الظواهر ، وذلك كله دليل الحدوث.

وأيضا : فإن الإجماع منعقد / على أن القرآن معجزة الرسول ، والبرهان الدال على صدقه. ومعجزة الرسول يجب أن تكون من الأفعال الخارقة للعادة ، المقارنة لتحديه بالرسالة ؛ فإنه لو كان المعجز قديما أزليا ؛ لم يكن ذلك مختصا ببعض المخلوقين ، دون البعض ؛ إذ القديم لا اختصاص له بواحد دون واحد.

__________________

(١) سورة القيامة) ٧٥ / ١٧.

(٢) فى ب (ملموسا ومسموعا).

(٣) سورة التوبة ٩ / ٦.

(٤) سورة الواقعة ٥٦ / ٧٩.

(٥) روى النووى في (رياض الصالحين ـ ط صبيح ص ٢٦٢ باب (النهى عن المسافرة بالمصحف إلى بلاد الكفار إذا خيف وقوعه بأيدى العدو)

عن ابن عمر رضى الله عنهما قال : نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو) متفق عليه. هكذا أورده النووى ، ولعل الزيادة التى ذكرها الآمدي في رواية أخرى.

(٦) روى البخارى في صحيحه عن مسروق عن ابن مسعود (إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السموات شيئا ، فإذا نزع عن قلوبهم ، وسكن الصوت ، عرفوا أنه الحق ، ونادوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق). (صحيح البخارى ٩ / ١٧٢ ، ١٧٣).

(٧) وردت عدة أحاديث بهذا المعنى في رياض الصالحين للنووى (باب فضل قراءة القرآن) ص ١٦٥ وما بعدها.

وبعض هذه الأحاديث صحيح.

٣٥٩

ثم ولو جاز أن يجعل بعض الصفات القديمة معجزا ؛ لجاز ذلك على باقى الصفات : كالعلم ، والقدرة ، والإرادة ؛ إذ الفرق تحكم لا حاصل له.

وأما من جهة المعنى : فمن وجوه يأتى ذكرها عن قرب.

والجواب :

قولهم : إن المراد من الآية تعريف حالة نفوذ الإرادة ، والمشيئة في المخلوقات ؛ فهو خلاف الظاهر ، ولا يجوز المصير إليه إلا بدليل. وحيث حمل لفظ القول على التعبرة عن الحالة ؛ كما ذكروه في النصوص ، والإطلاق ، فإنما كان لدليل دل عليه ؛ ضرورة استحالة مخالفة الظاهر من غير دليل ، ولا دليل هاهنا ؛ فيمتنع تأويله.

قولهم : إنه يكون أمرا للمعدوم. ليس كذلك ؛ بل للحادث في حال حدوثه ، وليس بمعدوم.

قولهم : إنه تكليف بما لا يطاق. إنما يلزم أن لو كان أمر تكليف ؛ وليس كذلك ؛ بل أمر تكوين.

قولهم : يلزم منه الاستغناء عن القدرة إنما يلزم أن لو كان التكوين بالقول ؛ وليس في الآية ما يدل عليه ؛ بل على وقوعه عنده كما سبق في مسألة الإرادة.

قولهم : لشيء نكرة في سياق الإثبات ؛ فيخص ، ولا يلزم منه التسلسل.

قلنا : عنه جوابان :

الأول : أجمع المسلمون على أن المراد بهذه الآية كل شيء يراد بدء إحداثه من الحوادث ، ويدل على ذلك أيضا أن البارى ـ تعالى ـ أورد ذلك في معرض التمدح ، والاستعلاء ، ولو كان المراد به واحدا ؛ لما حصل به التمدح ؛ لأن الواحد من المخلوقين قد يريد شيئا ؛ فيكون على حسب ما أراد.

الثانى : أن النكرة في سياق الإثبات. وإن كانت لا تعم الجميع معا ؛ لكنها عامة الصلاحية : أى أنها صالحة أن تتناول كل واحد من آحاد الجنس بجهة الشيوع ، وإخراج قوله : «كن» عند حدوثه عن ذلك يكون تقييدا للمطلق من غير دليل ؛ (١) فلا يجوز (١).

__________________

(١) ساقط من ب.

٣٦٠