أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

وعلى هذا / يخرج قوله ـ تعالى ـ (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١) ؛ فإنه ليس المراد به وقوع العبادة ؛ بل الأمر بها ؛ وأمكن أن يكون المراد به : أنهم عبيد له.

وأما قوله ـ تعالى ـ : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٢) تكذيبا للمشركين في قولهم : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا) ؛ فهو تكذيب لهم في دعواهم : اعتقاد ذلك قصد اللحد عن الحق ، والميل إلى المراغمة. ولهذا قال ـ تعالى (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) هكذا قاله أهل التفسير.

وأما أن إرادة الرّب واحدة غير متناهية في ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها ؛ فبيانه على ما حققناه في مسألة القدرة (٣).

__________________

(١) سورة الذاريات ٥١ / ٥٦.

(٢) سورة الأنعام ٦ / ١١٦. وجزء من الآية رقم ٦٦ من سورة يونس.

(٣) راجع ما سبق ل ٦٣ / أوما بعدها.

٣٢١

المسألة الرابعة

في إثبات صفة العلم لله تعالى

مذهب أهل الحق (١) : أن البارى ـ تعالى ـ عالم بعلم واحد قائم بذاته ، قديم أزلى ، متعلق بجميع المتعلقات ، غير متناه بالنظر إلى ذاته ، ولا بالنظر إلى متعلقاته.

وأما الفلاسفة (٢) : فمختلفون.

فمنهم من نفى كونه عالما مطلقا ، لا بذاته ، ولا بغيره (٣).

ومنهم من أثبت كونه عالما بذاته ، دون غيره (٤).

ومنهم من أثبت كونه عالما بذاته وبغيره ، إن كان معنى كليا ، ولم يجوز كونه عالما بالجزئيات : من حيث هى جزئيات ؛ بل على نحو كلى.

__________________

(١) لتوضيح مذهب أهل الحق من الأشاعرة وردهم على خصومهم ـ بالإضافة إلى ما ورد هنا ـ ينظر ما يأتى من كتب أئمة المذهب ؛ فمنها يتضح أن الأبكار قد اشتمل ـ بحق ـ على معظم الآراء المهمة ، وناقشها ، وأضاف إليها ؛ فهو يغنى عن كل الكتب قبله ، ولا تغنى عنه كلها.

ومن الكتب التى تيسر لى الاطلاع عليها ما يأتى :

اللمع للأشعرى ص ٢٤ ، ٢٥ ، والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ، والإنصاف له أيضا ص ٣٥ ، ٣٦ ، وأصول الدين للبغدادى ص ٩٥ ، والإرشاد لإمام الحرمين ص ٨٤ ـ ٩٤ والشامل ص ٦٢١ ـ ٦٢٥ ولمع الأدلة ص ٨٢ ، ٨٣ له أيضا ، والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٤٧ ، ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢١٥ ـ ٢٣٧ ، والمحصل للرازى ص ١١٨ ـ ١٢٠ ، ومعالم أصول الدين ص ٤٠ ـ ٤٢ له أيضا.

ومن كتب الآمدي غاية المرام في علم الكلام ص ٧٦ ـ ٨٤.

ومن الكتب المتأخرة عن الأبكار والتى رددت معظم الآراء الواردة به وتأثر أصحابها به إلى حد بعيد ـ خاصة صاحب المواقف ـ ما يأتى :

شرح الطوالع ص ١٧٦ ـ ١٧٩ ، والمواقف للإيجي ص ٢٨٥ ـ ٢٩٠ ، وشرح المقاصد للتفتازانى ص ٦٤ ـ ٦٩ وشرح العقائد العضدية للدوانى (الشيخ محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين) طبع الحلبى. تحقيق د. سليمان دنيا ص ٣٣٩ ـ ٤٥٤.

(٢) انظر نهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٢١ ـ ٢٣٢ حيث يعرض آراء الفلاسفة عرضا واضحا ، ثم يرد عليها ردا قاطعا. وانظر أيضا مقاصد الفلاسفة للغزالى ط. دار المعارف سنة ١٩٦١ ص ٢٢٤ ـ ٢٣٤ حيث يعرض آراءهم ، ومقاصدهم عرضا واضحا ، ثم يثبت تهافتهم في كتابه الآخر تهافت الفلاسفة الطبعة الرابعة لدار المعارف ص ١٩٨ ـ ٢١٧ ثم يحكم بكفر المسلمين منهم ؛ لإنكارهم علم الله بالجزئيات في رأيه.

(٣) لعلهم فلاسفة الأفلاطونية المحدثة انظر ص ٢٩٠ من تاريخ الفلسفة اليونانية ليوسف كرم الطبعة الرابعة ، وأيضا فلاسفة الإسماعيلية. انظر ما سبق ل ٥٤ / أ.

(٤) ينسب هذا الرأى لأرسطو وأتباعه. انظر الكندى وفلسفته ص ٨٣.

٣٢٢

وهذا هو الّذي ينصره أبو على بن سينا (١).

وأما المتكلمون :

فمنهم من قال : لا يوصف البارى ـ تعالى ـ بما يوصف به خلقه ؛ فلا يوصف بكونه عالما ، ولا حيا ؛ ولكن يوصف بكونه قادرا ، خالقا ؛ لأنه لا يوصف شيء من مخلوقاته بذلك على الحقيقة ، وأثبت لله علوما حادثة لا في محل ؛ وهذا هو مذهب جهم بن صفوان (٢).

ومنهم من قال : هو عالم : بمعنى أنه ليس بجاهل ؛ وهو مذهب ضرار بن عمرو (٣).

وذهب الجبّائى ، وابنه أبو هاشم : إلى أنه عالم لذاته ؛ لكن اختلفا.

فقال الجبّائى : هو عالم لذاته : أى لا يقتضي كونه عالما ، صفة زائدة من علم ، أو حال.

وقال أبو هاشم : هو عالم لذاته : بمعنى أنه ذو حالة زائدة لا توصف بالوجود ، ولا بالعدم ، ولا بكونها معلومة ، ولا مجهولة (٤).

__________________

(١) ابن سينا :

الحسين بن عبد الله بن سينا ، أبو على ، شرف الملك ، الفيلسوف الرئيس صاحب التصانيف المشهورة في الطب ، والمنطق ، والطبيعيات ، والإلهيات صنف نحو مائة كتاب بين مطول ، ومختصر ، وقد شرح الآمدي كتاب الإشارات له في كتابه : كشف التمويهات. مما يدل على اهتمامه به وبطريقته ، كما أنه يقدم لآرائه غالبا بقوله : قال أفضل المتأخرين ـ ولد ببلخ سنة ٣٧٠ ه‍ ، وتوفى بهمذان سنة ٤٢٨ ه‍ (وفيات الأعيان) ١ / ٤١٩ ومعجم المؤلفين ٤ / ٢٠). أما عن رأيه في العلم فانظر النجاة ص ٢٤٣ ـ ٢٥١ ، والإشارات ٣ / ٢٠١ ـ ٢٠٦.

(٢) انظر الفرق بين الفرق ص ٢١١ والملل والنحل ١ / ٨٦ ومقالات الإسلاميين ١ / ٢١٤ ـ وقد سبقت ترجمة الجهم عند الكلام على الجهمية.

(٣) ضرار بن عمرو : شيخ الضّراريّة التى نسبت إليه ، وقد ظهر ضرار بن عمرو في أيام واصل بن عطاء ثم صار مجبرا ، وعنه نشأ هذا المذهب وقد وضع بشر بن المعتمر كتابا في الرد على ضرار.

(ميزان الاعتدال ترجمة رقم ٣٩٥٣ والفرق بين الفرق ص ٢١٣ ولسان الميزان ٣ / ٢٠٣ والملل والنحل ١ / ٩٠) أما عن رأيه في العلم : فانظر الملل والنحل ١ / ٩٠ ـ ٩١.

(٤) عن رأى الجبائى وابنه أبى هاشم في حالتى اتفاقهما ، واختلافهما.

انظر الأصول الخمسة ص ١٨٢.

٣٢٣

وذهب أبو الهذيل العلاف (١) : إلى أن البارى ـ تعالى ـ عالم بعلم ؛ هو ذاته.

وذهب أبو الحسين البصرى ، وهشام (٢) بن الحكم : إلى أن اتصافه بكونه عالما بالجزئيات متجدد ، وبالكليات أزلى.

وذهب آخرون : إلى أنه لا يعلم ما لا نهاية له من المعلومات ؛ بل إنما يعلم ما كان متناهيا.

/ ثم إن من اعترف من الفلاسفة (٣). بكونه عالما بنفسه وبغيره ، انتهج في الاستدلال على ذلك منهجين :

المنهج الأول : أنه بيّن كون الرب تعالى عالما بذاته أولا ، ثم بين استلزام علمه بذاته ؛ لعلمه بغيره ثانيا.

فقال : واجب الوجود يعلم ذاته ، ويلزم من علمه بذاته علمه بغيره. أما أنه يعلم ذاته : فهو أن وجود واجب الوجود مجرد عن المادة ، وعلائقها : أى أنه ليس بجسم ، ولا جسمانى ؛ على ما يأتى تحقيقه. وكل ماهية مجردة عن المادة ، وعلائقها ؛ فهى عقل : إذ لا نعنى بالعقل إلا هذا. فواجب الوجود بما هو هوية مجردة : عقل. وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة : هو عاقل ذاته ؛ إذ لا معنى لتعقل الشيء لذاته إلا حصول ذاته المجردة لذاته ، وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته : هو معقول. وإذا ثبت أنه عاقل

__________________

(١) أبو الهذيل العلّاف : محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدى المعروف بالعلاف (أبو الهذيل) يعتبر المؤسس الثانى لمذهب المعتزلة بعد واصل بن عطاء ، وهو شيخ الهذيلية التى نسبت إليه. ولد بالبصرة سنة ١٣١ ه‍ وتوفى سنة ٢٣٥ ه‍. (وفيات الأعيان ٣ / ٣٩٦ والفرق بين الفرق ص ١٢١ والملل والنحل ١ / ٤٩) أما عن رأيه في العلم : فانظر الأصول الخمسة ص ١٨٣ ولمزيد من البحث والدراسة انظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٤ / ب.

(٢) هشام بن الحكم الشيبانى بالولاء ، الكوفى ، أبو محمد : متكلم ، مناظر كان شيخ الإمامية في وقته. ولد بالكوفة ، وسكن بغداد في أيام الرشيد. حدثت بينه وبين أبى الهذيل مناظرات ، وتوفى حوالى سنة ١٩٠ ه‍.

(مقالات الإسلاميين ١ / ١٠٦ والفرق بين الفرق ص ٦٥ والملل والنحل ١ / ١٨٤) ولمزيد من البحث والدراسة انظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٨ / أ.

أما عن رأيه في العلم : فانظر الأصول الخمسة ص ١٨٣.

(٣) من هؤلاء الفلاسفة : ابن سينا. انظر النجاة. طبعة الكردى ص ٢٤٣ ـ ٢٥١ والإشارات ٣ / ٢٠١ ـ ٢٠٦ طبع الحلبى.

٣٢٤

لذاته ، وعالم بها ؛ فيجب أن يكون عاقلا لما وجوده من وجوده ؛ لأنه إذا علم ذاته ، وذاته مبدأ ، لما وجوده بوجوده بالذات ؛ فيجب أن يكون عالما ، بأن ذاته مبدأ لغيره. ومتى علم أن ذاته مبدأ لغيره ؛ فلا بد وأن يكون عالما بذلك الغير ؛ لأن العلم بكونه مبدأ لذلك الغير ، علم بمعنى إضافى بين ذاته ، وما وجب عنه. ولا تحقق لذلك دون العلم بالمضافين ، ويلزم من علمه بذلك الغير ؛ علمه بما صدر عن ذلك الغير ، وهكذا على الترتيب النازل من عنده طولا ، وعرضا ، إلى (١) ما لا يتناهى (١).

المنهج الثانى : أنه بيّن كون الرب ـ تعالى ـ عالما بغيره ، ثم بيّن أن علمه بغيره يستلزم كونه عالما بذاته.

فقال : إن علم غيره ؛ علم (٢) ذاته ، وقد علم غيره ؛ فيلزم أن يكون عالما بذاته (٢).

وبيان أنه يلزم من علمه بغيره ، علمه بذاته : أن من علم شيئا ؛ فلا بد وأن يعلم أنه عالم بذلك الشيء ، وعلمه بأنه عالم بذلك الشيء : علم بصفة له ؛ وهو كونه عالما.

والعلم بالصفة ، يستدعى العلم بالموصوف ؛ ضرورة.

وإذا ثبت أنه يلزم من علمه بغيره ؛ علمه بذاته : فبيان أنه عالم بغيره هو أن واجب الوجود مجرد (٣) عن المادة (٣) ، وعلائقها. وطبيعة الوجود من حيث هو طبيعة الوجود ؛ غير ممتنع عليه أن يعلم ، ويعقل.

وإنما يفرض له أن لا يعلم ؛ بسبب كونه فى المادة ، ومتعلقا (٤) بعلائق المادة ، وواجب الوجود ليس في المادة ، ولا له تعلق بعلائق المادة كما يأتى ؛ فلا يمتنع عليه أن يعلم ، ويعقل. وكل ما لا يمتنع عليه أن يكون معلوما ، بانفراده لا يمتنع عليه أن يكون / معلوما مع غيره من المجردات ؛ فواجب الوجود لا يمتنع عليه أن يكون معلوما مع غيره ، وكل ما لا يمتنع تعقله مع غيره ؛ فلا تمتنع مقارنة ماهيته لماهية ذلك الغير في العقل.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (فقد علم ذاته ؛ فيكون عالما بذاته).

(٣) فى ب (موجود مجرد عن المساواة).

(٤) فى ب (ومتعلقاتها).

٣٢٥

وإذا لم يكن ذلك ممتنعا ؛ فلا معنى لكونه عالما بغيره إلا أن ماهيته المجردة مقارنة لغيره من الماهيات المجردة ، فكونه عالما بغيره ؛ غير ممتنع.

وإذا لم يكن ممتنعا : فإما واجب ، أو ممكن.

لا جائز أن يكون ممكنا : لعدم افتقار واجب الوجود إلى غيره مطلقا ؛ فلم يبق إلا أن يكون علمه بغيره واجبا ؛ ويلزم منه أن يكون عالما بذاته لما مضى.

وهذان المسلكان ضعيفان :

أما المسلك الأول : فمن أربعة أوجه :

الأول : أنه قد لا يسلم أن ذات واجب الوجود عقل.

قولهم : إن العقل هو الماهية المجردة عن المادة ، وعلائق (١) المادة (١) ، ليس كذلك ؛ بل العقل ضرب من العلوم الضرورية كما سبق (٢).

وذلك هو الّذي يحصل به العلم ؛ كما تقدم. والبارى ـ تعالى ـ ليست ذاته علما ؛ وإلا كان العلم قائما بنفسه ، وكان كل علم هكذا ؛ وهو محال.

وإن سمى مسم ما تجرد عن المادة وعلائقها عاقلا ؛ فلا منازعة في غير التسمية.

الثانى : أنه وإن كانت ذات واجب الوجود عقلا ؛ فلا نسلم أنه عالم بذاته.

قولهم : لأن ذاته حاصلة لذاته التى هى عقل ؛ فتكون ذاته معقولة لذاته. إنما يستقيم إطلاق القول بحصول ذاته ، لذاته مع المغايرة ؛ فإن حصول الشيء للشىء بنسبة ، وإضافة بين الشيئين. ومع عدم التعدد ؛ فالقضاء (٣) بالحصول محال.

الثالث : أنه وإن صح إطلاق القول بحصول الذات للذات ؛ فلا نسلم أن مطلق الحصول ؛ يوجب كون ذاته عالمة بذاته ؛ لأن حصول الذات ، للذات المسماة ؛ لا يوجب كونها معقولة له ؛ فإن حصول الذات للعقل أمر أعم من تعقل العقل لها ؛ فإن ذلك قد

__________________

(١) فى ب (وعلائقها.

(٢) انظر ل ١٧ / أ).

(٣) فى ب (فافضاء).

٣٢٦

يصح إطلاقه مع التعقل (١) ومع الملازمة من غير تعقل ؛ فلا (٢) يلزم التعقل (٢).

الرابع : وإن (٣) سلمنا أنه عالم بذاته ؛ ولكن لا يلزم من كونه عالما بذاته : أن يكون عالما بما ذاته مبدأ له. اللهم إلا أن يعلم ذاته من حيث هى مبدأ لغيره ، وعلمه بأنها مبدأ يزيد (٤) على العلم بذاته ، ولهذا يصح العلم بالذات ، والجهل بكونها مبدأ ، وتوصف الذات بكونها مبدأ ؛ والمعلوم غير المجهول ، والصفة غير الموصوف. /

وعند ذلك : فلا يلزم من كونه عالما بذاته ، أن يكون عالما بما لها من الصفات ، وإلا كان كل من علم شيئا : علم ما هو ملازم له ، ويلزم من ذلك أن يكون العلم لنا بالله ـ تعالى ـ ، علما بكل ما صدر عنه ولزمه ، وكذا يلزم أن يكون علمنا ببعض المخلوقات ، علما بجميع صفاته ومباديه ؛ وهو محال.

وأما المسلك الثانى : فمن سبعة أوجه :

الأول : هو أنا لا نسلم أنه يعلم غيره.

قولهم : إن واجب الوجود موجود مجرد عن المادة وعلائقها ؛ مسلم. ولكن لم قالوا بأنه يكون عالما بغيره؟

قولهم : لأن طبيعة الوجود من حيث هو كذلك : غير ممتنع عليه أن يعلم. لا نسلم ذلك ، ولا يلزم من جواز علمنا ببعض الموجودات ، جواز العلم بكل موجود ، إلا أن يثبت أن طبيعة الوجود مشتركة بين الموجودات ؛ وهو غير مسلم على ما سبق (٥).

الثانى : وإن سلم (٦) أن طبيعة الوجود غير ممتنع عليها أن يعلم ويعقل ؛ ولكن مع وجود المانع أو مع عدمه ـ الأول : ممنوع. والثانى : مسلم ؛ فلم قالوا بانتفاء المانع؟

قولهم : المانع المادة ، وعلائقها. لا نسلم الحصر ؛ ولا طريق إلى بيان ذلك إلا بالبحث ، وعدم الاطلاع على غيره ؛ وهو غير يقينى.

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) فى ب (فلا للتعقل).

(٣) فى ب (قد).

(٤) فى ب (لا يزيد).

(٥) انظر ل ٥٠ / ب.

(٦) فى ب (سلمنا).

٣٢٧

الثالث : وإن سلم (١) ذلك ؛ ولكن لا نسلم أن ما جاز أن يكون معلوما بانفراده ؛ جاز (٢) أن يكون معلوما مع غيره ؛ لجواز أن يكون الانفراد شرطا ، أو الاجتماع مانعا ؛ وإبطاله غير يقينى.

الرابع : وإن سلم جواز ذلك ؛ ولكن لا نسلم جواز مقارنة ماهية واجب الوجود لغيره من الماهيات : إلا أن يكون التعقل لهما عبارة عن وجود ماهيتهما في العقل ؛ وهو غير مسلم على ما سيأتى.

الخامس : وإن سلم جواز المقارنة في العقل ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من جواز اجتماعهما بجهة الحلول في العقل ، جواز اجتماعهما لا بجهة الحلول فيه ؛ لجواز أن يكون ذلك شرطا في الاجتماع ، والمقارنة ، أو أن الوجود الخارجى مانع.

السادس : وإن سلم ذلك ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من هذه المقارنة علم أحد المقترنين بالآخر ، إلا أن يثبت أن العلم هو نفس المقارنة ؛ وهو غير مسلم.

السابع : وإن سلم ذلك ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من عدم الامتناع ، الوجوب ؛ لجواز أن يكون جائزا ؛ وهو غير ممتنع على الله ـ تعالى ـ من غير / وجوب ؛ ولهذا يصح الذاتين (٣) ؛ والنسب والإضافات جائزة على الله ـ تعالى ـ من غير / وجوب ؛ ولهذا يصح أن يقال لوجود الحادث عند وجوده : أن وجوده مع وجود الرب ـ تعالى ـ وإن لم يكن قبل ذلك موجودا معه ، وهو نسبة وإضافة. ولو كان ذلك واجبا ؛ لكان لازما غير مفارق ؛ وهو محال.

وأما أصحابنا : فقد استدل بعضهم على إثبات علم الله ـ تعالى ـ بنصوص الكتاب. وذلك مثل قوله ـ تعالى ـ (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (٤). وقوله ـ تعالى ـ (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (٥) وهو صريح في إثبات العلم لله ـ تعالى ـ

__________________

(١) فى ب (سلمنا).

(٢) فى ب (يجوز).

(٣) فى ب (الذات).

(٤) سورة فاطر ٣٥ / ١١.

(٥) سورة النساء ٤ / ١٦٦.

٣٢٨

فإن قيل : ظاهر الآيتين : يدل على أن الوضع ، والحمل ، والإنزال بالعلم ، وليس كذلك ، فتكون الدلالة (١) متروكة الظاهر.

سلمنا أنها غير متروكة الظاهر ؛ ولكن ما المانع من أن يكون العلم مفسرا : بعدم الجهل؟ كما ذهب إليه ضرار بن عمرو ، أو بعلم حادث لا في محل : كما ذهب إليه جهم ابن صفوان؟

سلمنا دلالة ذلك على ثبوت صفة العلم لذاته ؛ ولكنه معارض بقوله ـ تعالى ـ (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٢) ـ فلو كان للرب ـ تعالى ـ علما ؛ لكان فوقه عليم ؛ وهو محال.

والجواب عن السؤال الأول : بمنع ترك الظهور ؛ فإن الدلالة المذكورة ظاهرة في جريان ذلك معلوما بعلمه ؛ لا واقعا ، وواجبا بعلمه ، وهو المتبادر إلى الفهم من إطلاق ذلك في قولهم : جرى الأمر الفلانى بعلمى ، وبعلم فلان. وبتقدير أن تكون الدلالة ظاهرة فيما ذكروه ؛ فلا يخرج عن أن يكون مجازا فيما ذكرناه ، وإذا تعذر العمل باللفظ في حقيقته ؛ تعين العمل به في مجازه حذرا من التعطل.

وعن السؤال الثانى : بما سيأتى عن قرب.

وعن السؤال الثالث : بأن ما ذكرناه : خاص ، وما ذكروه : فأعلى درجاته أن يكون عاما ، وتخصيص العام بالخاص ، أولى من إبطال دلالة الخاص ، والعمل بعموم العام ؛ فإن الجمع بين الأدلة مهما أمكن ؛ أولى من تعطيل الواحد منها ، والعمل بالباقى.

غير أن التمسك بمثل (٣) هذا (٣) المسلك مع افتقاره إلى إثبات صفة الكلام ؛ قابل إلى التمسك بالظنون في مسائل القطع ؛ وهو بعيد.

وأما من جهة المعقول : فقد استدلوا بالمسلك المشهور (٤). وهو أن فعل الله ـ

__________________

(١) فى ب (الآية).

(٢) سورة يوسف ١٢ / ٧٦.

(٣) فى ب (بهذا).

(٤) هذا المسلك استند عليه كثير من المتكلمين وغيرهم في إثبات العلم لله ـ تعالى ـ ويعرف بدليل الإتقان والإحكام. ومع ذلك فإن الآمدي ينتقده من وجوه كما سيتضح لنا فيما بعد. فممن استند عليه من الأشاعرة :

الأشعرى في اللمع ص ٢٤ ، ٢٥ والباقلانى في التمهيد ص ٤٧. ومن المعتزلة القاضى عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص ١٥٦.

ومن الفلاسفة ابن رشد في مناهج الأدلة طبع محمد على صبيح ص ٥٣.

٣٢٩

تعالى ـ وصنعه ، هو العالم على ما سيأتى (١). والعالم بما هو عليه من الأفلاك الدائرة ، والكواكب السائرة (٢) / ، وما يلازمها من الحر ، والبرد ، والاعتدال فيهما في الفصول المختلفة ، والآثار العجيبة في عالم الكون ، والفساد ، من أنواع المعدنيات ، واختلاف النباتات في الضرر والمنافع ، والكيفيات ، واختلاف الأوقات في ظهورها ، وعدم ظهورها ، على حسب دعوى الحاجة إليها ، وما يشتمل عليه أنواع الحيوانات من التركيب العجيب من الأعضاء المختلفة ، والآلات الحسية : الظاهرة ، والباطنة ، وتولد بعضها من بعض تولدا حافظا لنوع كل واحد منها على مر الدهور ، والأزمان ، من غير اختلاف ، ولا اختلال ؛ بل وكذلك ما فيه من الآثار العلوية : كالسحب ، والرعود ، والبروق ، وغيرها في الأوقات المختلفة. على غاية من الحكمة ، والإتقان ، وعلى (٣) وجه لا يظهر فيه القصور ، والنقصان في عقل عاقل ما ؛ فإذن فعل الله ـ تعالى ـ وصنعه في غاية الحكمة ، والإتقان (٣). وكل من فعله في غاية الحكمة والإتقان ؛ فبالاضطرار العقلى (٤) ؛ يعلم كونه عالما به.

ولهذا فإن من رأى قصرا مشيدا ، وبناء مرتفعا ، وصنعة محكمة ؛ اضطره عقله إلى علم صانعه.

وفيه نظر ؛ فإن لقائل أن يقول :

وإن سلمنا أن العالم صنعه ، مع إمكان النزاع فيه على ما يأتى (٥) ؛ ولكن لم قلتم إنه يجب أن يكون عالما به؟

قولكم : إن العالم على غاية من الحكمة والإتقان : إما أن تريدون به أنه على حالة لو قدر وجوده على خلافها ؛ كان ناقصا ، أو أنه موافق للحكمة المطلوبة منه أو أنه نافع ، أو معنى آخر.

فإن كان الأول : فهو ممنوع ؛ إذ لا دليل يدل عليه ، ولا العلم به ضرورى.

__________________

(١) انظر ل ٢١٢ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (السيارة).

(٣) من أول (وعلى وجه لا يظهر ...) ساقط من ب.

(٤) فى ب (القطعى) ..

(٥) انظر ل ٢١٥ / أوما بعدها.

٣٣٠

وإن كان الثانى : فإنما يلزم أن لو كان فعل الله ـ تعالى ـ مما يجب فيه رعاية الحكمة ؛ وليس كذلك على أصل هذا الدّال ، وبتقدير رعاية الحكمة في أفعاله ؛ فقد لا يسلم توافق كونه موافقا للحكمة المطلوبة منه. فإن (١) ذلك يستدعى معرفة الحكم المطلوبة منه (١). ومعرفة مطابقة خلق العالم لها ، والعلم به غير (٢) ضرورى ، والدلالة عليه عسيرة.

وإن كان الثالث : إما (٣) أن يراد به أنه نافع (٣) من كل وجه ، أو من وجه دون وجه ـ لا سبيل إلى الأول : فإنه ما من شيء يقدر ، وإن كان نافعا بالنسبة إلى جهة ؛ فمضر بالنظر (٤) إلى جهة أخرى.

وإن كان الثانى : فلا نسلم دلالته على علم من صدر عنه ، ولا مانع من أن يكون كالإحراق الصادر عن النار ؛ فإنه وإن كان نافعا بالنسبة إلى بعض / الجهات ؛ فقد يكون مضرا بالنسبة إلى جهة أخرى ، ولا يدل ذلك على كون النار عالمة به.

وإن كان الرابع : فلا بد من تصويره ، والدلالة عليه.

ثم وإن سلمنا أن العالم على غاية الحكمة ، والإتقان ؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على علم البارى ـ تعالى ـ به ، ولا أن العلم به ضرورى.

ولو تردد الناظر بين كون الفاعل له مع العلم ، وعدم العلم ؛ لم يجد إلى الحكم الجزم بكونه عالما سبيلا. دون نظر ، واستدلال ؛ بل وكان ما يقوله الطبيعيون منقدحا في عقله ، وما وقع به الاستشهاد من البناء المحكم في الشاهد ؛ فمبنى على العادة من أن ذلك لا يكون صادرا من غير المختار ؛ والمختار لما يفعله من غير علم محال ؛

فإن النظر فيما نحن فيه إلى كون البارى ـ تعالى ـ مختارا ؛ فهو انتقال إلى مسلك آخر ، وترك لما وقع الشروع فيه ؛ وذلك هو المختار.

__________________

(١) من أول (فان ذلك يستدعى ...) ساقط من ب.

(٢) ساقط من ب.

(٣) فى ب (فإما أن يراد أنه نافع).

(٤) فى ب (بالنسبة).

٣٣١

وهو أن يقال : إذا ثبت أن البارى ـ تعالى ـ خالق (١) العالم بالقدرة ، والاختيار ؛ فالخلق بالقدرة (٢) ، والإرادة (٢) يستدعى القصد إلى الإيجاد والتخصيص ، والقصد إلى الشيء يستدعى العلم بذلك الشيء ضرورة ، وإلا فلا يكون القصد إلى إيجاد ذلك الشيء أولى من القصد إلى غيره ؛ ولهذا فإن من رأى صنعة محكمة ، وقصرا مشيدا ؛ اضطره عقله إلى العلم بعلم صانعه ، وشعوره به.

وإذا ثبت كون الرب ـ تعالى ـ عالما : فإما أن يكون المفهوم من كونه عالما ؛ هو المفهوم من ذاته ، أو غيره.

لا جائز أن يقال بالأول : لوجهين :

الأول : أنه قد يعقل الذات من يجهل كونها عالمة ؛ والمعلوم غير المجهول.

الثانى : أنه يصح اتصاف الذات بكونها عالمة ، والصفة غير الموصوف ؛ فلم يبق إلا أن يكون المفهوم من كونه عالما ، يزيد على المفهوم من الذات.

وإذا كان زائدا : فإما أن يكون عدميا ، أو وجوديا ، أو لا وجوديا ولا عدميا.

لا جائز أن يكون عدميا : وإلا لكان سلبه وجودا ، ولو كان سلبه وجودا ؛ لما صح اتصاف النفى المحض به ؛ وليس كذلك ؛

فإنه يصح أن يقال : المستحيل ليس بعالم. وتفسيره بسلب الجهل باطل ؛ لأن الجهل على ما سبق في قاعدة العلم (٣) :

إما بسيط : وهو عدم العلم لا مطلقا ، وإلا كان عدم العلم في الحجر جهلا ، وليس كذلك ؛ بل عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما.

وإما مركب / : وهو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه.

فإن كان معنى كونه عالما : أنه ليس بجاهل : الجهل البسيط ؛ فهو سلب.

__________________

(١) فى ب (خلق).

(٢) فى ب (بالقدرة والاختيار والإرادة).

(٣) انظر ل ١٣ / أ.

٣٣٢

والجهل البسيط : هو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما ، والحكم بسلب عدم الشيء ؛ يكون إثباتا لذلك الشيء ؛ فإذن سلب الجهل البسيط ، يكون إثباتا للعلم الوجودى.

وإن كان معنى كونه عالما : أنه ليس جاهلا : الجهل المركب ، فلا يخفى أن سلب الجهل المركب ؛ لا يوجب اتصاف من سلب عنه بكونه عالما : كالحجر.

وإن أخذ في ذلك. عما من شأنه أن يكون جاهلا ، فيوجب كون الرب ـ تعالى ـ قابلا للجهل المركب ؛ وهو محال ـ عليه (١) تعالى (١) ـ

ولا جائز أن يكون لا وجوديا ، ولا عدميا ؛ لما يأتى في إبطال القول بالأحوال ؛ فلم يبق إلا أن يكون وجوديا.

وعند ذلك فلا يخلو : إما أن يكون قائما بذات الله ـ تعالى ـ أو لا بذاته.

لا جائز أن يكون قائما لا بذات الله ـ تعالى ـ ؛ لما سبق في القدرة ، والإرادة.

وإن كان قائما بذات تعالى : فإما قديم ، أو حادث.

لا جائز أن يكون حادثا : لما سبق أيضا في القدرة والإرادة. فلم يبق إلا أن يكون معنى كونه عالما : أنه قام بذاته صفة وجودية أزلية.

وليست تلك الصفة هى نفس القدرة ، ولا الإرادة ، ولا الكلام ، ولا السمع ، ولا البصر ، ولا الحياة ؛ فهو خارج عنها ، وهو المعبر عنه بالعلم.

ويجب مع ذلك أن يكون واحدا لا نهاية له في ذاته ، ولا بالنظر إلى متعلقاته ؛ لما تحقق في القدرة أيضا (٢).

ويجب مع ذلك أن يكون عالما بجميع المعلومات [المقدورة (٣)] له ، وغير المقدورة له.

أما المقدورة ؛ فلما سبق.

__________________

(١) ساقط من (ب).

(٢) انظر ل ٥٨ / ب وما بعدها.

(٣) فى أ (المقدورات).

٣٣٣

وأما غير المقدورة ؛ فلأنه لو لم يكن عالما ببعضها مع كونه قابلا للاتصاف بالعلم ؛ فيكون جاهلا ؛ إذ الجهل البسيط : هو عدم العلم فيما من شأنه أن يكون عالما ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.

فإن قيل : لا نسلم العلم الاضطراري بكون الفاعل ـ إذا كان مختارا له عالما ـ يدل على ذلك : ما نجده من الصنائع المحكمة لبعض الحيوانات المختارة ، من غير علم : كنسج العناكيب ، وبناء النحل ، وغيره.

سلمنا أن العلم بذلك ضرورى : ولكن شاهدا ، أو غائبا.

الأول : مسلم. والثانى : ممنوع.

ولا يلزم من الحكم بذلك شاهدا ؛ الحكم به غائبا ؛ وإلا للزم أن يكون أيضا متحركا بالإرادة ، وحساسا ، وجسما ، إلى غير ذلك من الأمور التى نعلمها بالضرورة لباقى ما شاهدناه من البناء المحكم ، والصناعة / المتقنة في الشاهد ؛ وليس كذلك.

سلمنا لزوم ذلك غائبا ؛ ولكن لا نسلم أن المفهوم من كونه عالما ؛ يزيد على المفهوم من ذاته.

قولكم : إنه يتصور العلم بالذات مع الجهل بكون مفهومها ، كونها عالمة ؛ غير مسلم ؛ بل الّذي يعلم إنما هو دلالة لفظ الذات على مسماه ، والّذي يجهل ، إنما هو دلالة قولنا عالم على مسماه : وأنه هل هو نفس الذات ، أو غيرها؟ وذلك لا يدل على اختلاف المعنى.

قولكم : يصح اتصاف الذات بكونها عالمة. مسلم ؛ ولكن لا نسلم دلالة ذلك على اختلاف المعنى ؛ بل جاز أن يكون المعنى واحدا. وإن كان اللفظ مختلفا كما نقول : الإنسان بشر ، والخمر عقار ، إلى غير ذلك من الألفاظ المترادفة.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على اختلاف المفهومين ؛ ولكن لا نسلم أنه أمر وجودى ؛ بل جاز أن يكون عدميا : كما ذهب إليه ضرار بن عمرو ، وبعض الفلاسفة (١). وما ذكرتموه وإن دل على كونه وجوديا ؛ لكنه معارض بما يدل على كونه عدميا ، وذلك أن

__________________

(١) انظر ل ٧٢ / ب.

٣٣٤

المفهوم من الجاهل مناقض للمفهوم من كونه عالما ، والمفهوم من الجاهل وجود ؛ فكان المفهوم من كونه عالما ؛ عدميا.

وبيان أن المفهوم من الجاهل وجود : أنه لو كان عدما ؛ لكان سلب الجاهل وجودا. ولو كان سلب الجاهل وجودا. لما صح اتصاف المعدوم المحض به ، وهو متصف به ؛ فكان سلب الجهل عدما ؛ فيكون المفهوم من الجاهل وجودا.

سلمنا أنه يمتنع أن يكون عدميا ؛ ولكن ما المانع من كونه ليس بموجود ، ولا معدوم؟ كما ذهب إليه أبو هاشم ، على ما سيأتى في تحقيق الأحوال (١).

كيف وأن الوجود صفة إثبات ، ولا يوصف بالوجود ؛ وإلا قام الوجود بالوجود ؛ وهو محال.

ولا بالعدم : وإلا كان الوجود معدوما ؛ وهو محال.

وكذلك الحادث في حال خروجه من العدم إلى الوجود ليس بمعدوم ؛ فإن حالة الخروج من العدم ؛ لا تجامع العدم. وليس بموجود ؛ فإن حالة الوجود ، لا تجامع حالة الخروج إلى الوجود.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه (٢) على اتصافه بالعالمية ، وأنها صفة وجودية ؛ ولكن معنا ما يدل على امتناع ذلك. وبيانه بأمرين.

الأول : ما أسلفناه من الحجج العامة في نفى / الصفات الوجودية الزائدة على ذات واجب الوجود (٣).

الثانى : أنه لو كان عالما بشيء ؛ لكان عالما بأنه عالم بذلك الشيء ؛ واللازم ممتنع لوجهين :

الأول : أنه يلزم منه أن يكون عالما بذاته ؛ لما سبق ، ولا معنى للعلم بالشيء غير انطباع صورة المعلوم في نفس العالم ، أو إضافة بين العالم ، والمعلوم ؛ وعلى كلا التقديرين : فيستدعى المغايرة ، ولا تغاير في ذات الله ـ تعالى ـ ولا تعدد.

__________________

(١) انظر ل ١١٥ / أمن الجزء الثانى.

(٢) فى ب (ما ذكروه).

(٣) انظر ل ٥٤ / أوما بعدها.

٣٣٥

الثانى : أنه يلزم أن يكون عالما بكونه عالما ، بكونه عالما ، وهلم جرا ، إلى غير النهاية ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من التسلسل ، وإثبات عالميات لله ـ تعالى ـ غير متناهية ؛ وهو محال كما سبق (١).

سلمنا اتصافه بكونه عالما ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك أن يكون عالما بعلم كما قاله الجبائى ، وابنه أبو هاشم (٢).

ويدل عليه أن اتصاف البارى بكونه عالما. إما أن يكون جائزا ، أو واجبا.

لا جائز أن يكون جائزا : وإلا لما لزم من فرض عدمه المحال. ولو جوزنا فرض عدم كونه عالما مع أنه من شأنه أن يكون عالما ؛ فيكون (٣) جاهلا (٣). والجهل على الله ـ تعالى ـ محال ؛ فلم يبق إلا أن يكون ذلك له واجبا.

وإذا كان اتصافه بالعالمية واجبا : امتنع أن يكون في اتصافه بذلك محتاجا إلى العلم. وإلا فعند فرض عدم العلم. إن اتصف بكونه عالما ؛ فهو غير محتاج إلى العلم. وإن لم يتصف به ؛ لم يكن ذلك واجبا. وقد قيل بوجوبه.

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون عالما بعلم ؛ ولكن بعلم قائم بذاته ، أو لا بذاته. الأول :

ممنوع. والثانى : مسلم.

وبيان امتناع قيام العلم بذاته (٤) من عشرة أوجه :

الوجه الأول : أن العلم القائم بذاته : إما أن يكون ضروريا ، أو نظريا. لا جائز أن يكون ضروريا ؛ وإلا كان الرب ـ تعالى ـ موصوفا بالاضطرار ؛ وهو محال.

ولا جائز أن يكون نظريا لوجهين :

الأول : أن النظر يستدعى سابقة الجهل ، كما تقدم في قاعدة العلم ، والجهل على الله ـ تعالى ـ محال.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ٧٢ / ب.

(٣) فى ب (لكان جهلا).

(٤) فى ب (به).

٣٣٦

الثانى : أن النظر لا بدّ من إسناده إلى العلوم الضرورية على ما تقدم في قاعدة النظر. والعلم الضرورى في حق الله ـ تعالى ـ ممتنع ؛ لما تقدم.

الوجه الثانى : أن العلم القائم بذاته ـ تعالى ـ : إما أن يكون هو نفس الذات ، أو زائدا عليها.

فإن كان الأول : فلا صفة. كيف : وأنه يلزم أن تكون الذات صفة قائمة بمحل ؛ ضرورة / أن العلم صفة.

وإن كان زائدا على الذات : فإما قديم ، أو حادث.

فإن كان حادثا : لزم قيام الحوادث بذات الرب ـ تعالى ؛ وهو محال. كما يأتى (١). ثم الكلام في افتقار ذلك العلم الحادث في افتقاره إلى علم آخر ، كالكلام في الأول (٢) ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن كان قديما : فالقدم أخص وصف الإله ـ تعالى ـ ويلزم من ذلك تعدد الآلهة ؛ وهو محال.

الوجه الثالث : هو أن العلم : إما عبارة عن انطباع صورة المعلوم في النفس ، أو عن نسبة ، وإضافة بين العالم ، والمعلوم.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لأمرين :

الأول : أنه يلزم منه أن تكون ذاته الرب ـ تعالى ـ مركبة ؛ لانطباع (٣) صور المركبات فيها. إذا علمها ؛ لأن المطابق للمركب ؛ مركب.

الثانى : أنه يلزم منه أن تكون ذاته عند العلم بالحوادث ، محلا لحلول صور الحوادث فيها ؛ وهو محال. كما يأتى (٤).

وإن كان نسبة وإضافة : فالنسبة بين الشيئين تتوقف على تحقق ذينك الشيئين ؛ ضرورة كونها صفة لهما ، والصفة متوقفة على الموصوف. فلو توقف إيجاد الرب ـ تعالى ـ للحوادث على تعلق علمه بها ؛ للزم الدور ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) انظر ل ١٤٥ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (العلم الأول).

(٣) فى ب (ضرورة انطباع).

(٤) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

٣٣٧

ويلزم منه أيضا : أن يكون علم البارى ـ تعالى ـ متوقفا على غيره ؛ وهو محال.

الوجه الرابع : هو أنه لو كان علمه قائما بذاته ؛ فلا (١) معنى لقيام الشيء بالمحل إلا افتقاره (١) إليه في الوجود. وإلا كان المعلول أبدا قائما بالعلة ؛ وهو محال ؛ بل لا معنى لقيامه به إلا أنه موجود في الحيز تبعا له ، ويلزم من ذلك كون الرب ـ تعالى ـ متحيزا ؛ وهو محال.

الوجه الخامس : هو أن العلم القائم به إما أن يكون صفة كمال ، أو نقصان ، أو لا صفة كمال ، ولا نقصان.

فإن كان الأول : فذات الرب تعالى محتاجة في كمالها إلى غيرها ؛ وهو محال.

وإن كان الثانى : فاتصاف الرب ـ تعالى ـ به محال.

وكذا إن لم يكن كمالا ، ولا نقصانا.

الوجه السادس : هو أنه لو كان عالما بعلم قائم (٢) بذاته ؛ لكان مماثلا للعلم الحادث : فإن حقيقة العلم لا تختلف شاهدا ، ولا غائبا.

ويلزم من ذلك : أن يكون مشاركا لها في العرضية ، والإمكان ؛ وذلك في صفات الله ـ تعالى ـ محال.

الوجه السابع : أنه لو كان عالما بعلم قائم بذاته : فإما أن يكون واحدا ، أو متكثرا.

/ فإن كان واحدا : فإما أن يتعلق بجميع المعلومات ، أو لا يتعلق بجميعها.

فإن كان الأول : فيلزم منه جواز تعلق العلم الواحد بالمعلومات المختلفة ؛ وهو محال. على ما تقدم في قاعدة العلم (٣).

وإن كان الثانى : فيلزم منه أن يكون الرب ـ تعالى ـ جاهلا بباقى الموجودات التى لم يتعلق علمه بها ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (فليس معنى قيام الشيء بالمحل افتقاره).

(٢) فى ب (قديم).

(٣) انظر ل ٨ / أوما بعدها.

٣٣٨

وإن كان متكثرا : فإما أن يكون غير متناه ، أو متناهيا.

فإن كان غير متناه ؛ فهو محال على ما تقدم في إبطال عدد لا يتناهى في إثبات واجب (١) الوجود.

وإن كان متناهيا : فما من عدد يفرض إلا ويجوز فرض الزيادة عليه والنقصان. فاختصاص الرب ـ تعالى ـ ببعض الأعداد [دون (٢) البعض (٢)] إن لم يكن بمخصص ؛ فقد وجد الجائز لا بمخصص ؛ وهو محال.

وإن كان بمخصص : فالمخصص : إما ذات واجب الوجود ، أو خارج عنه. لا جائز أن يقال بالأول : فإن نسبة الذات إلى جميع الجائزات نسبة واحدة ؛ فلا أولوية.

وإن كان بخارج (٣) عنه (٣) : فالبارى تعالى [محتاج (٤)] فيما قام به من الصفات إلى مخصص خارج ؛ وهو محال.

الوجه الثامن : أنه لو كان عالما بعلم قائم بذاته. فإما أن يعلم علمه ، أو لا يعلمه.

لا جائز أن يقال بأنه لا يعلمه ؛ فإن الشعور بالشيء مع عدم الشعور بالشعور محال.

وإن علمه : فإما أن يعلمه بذاته ، أو بنفس ذلك العلم ، أو بعلم آخر ..

فإن كان الأول : فقد ثبت أنه عالم بعلمه لذاته ، لا بعلم ؛ ويلزم مثله في كل معلوم.

وإن كان الثانى : فتعلق العلم بالعلم يستدعى المغايرة بين التعلق والمتعلق. والعلم الواحد ؛ لا تغاير فيه.

وإن كان الثالث : فالكلام في ذلك العلم الثانى ؛ كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الوجه التاسع : أنه لو كان عالما بعلم قائم بذاته ؛ لكان فوقه عليم ؛ لقوله ـ تعالى ـ (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٥) واللازم ممتنع ؛ فالملزوم ممتنع.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) ساقط من (أ).

(٣) فى ب (خارجا).

(٤) فى أ (محال).

(٥) سورة يوسف ١٢ / ٧٦.

٣٣٩

[الوجه (١)] العاشر : أن علمه القائم بذاته : إما أن يكون حادثا ، أو قديما.

لا جائز أن يكون حادثا : وإلا كان الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع.

وإن كان قديما : فيجب أن يكون متعلقا بكل ما يصح أن يعلم ؛ لأن نسبة العلم القديم [إلى (٢) ذاته (٢)] نسبة واحدة ؛ فليس تعلقه بالبعض أولى من البعض ؛ وذلك محال.

وبيان ذلك : هو أن علمه القديم إذا تعلق بوجود بعض / الحوادث : فعند عدم ذلك الحادث : إما أن يبقى علم البارى ـ تعالى ـ متعلقا بوجوده كما كان ، أو لا يبقى.

فإن كان الأول : لزم أن يكون علم البارى ـ تعالى ـ جهلا.

وإن كان الثانى : فيلزم (٣) منه التغير في علم الله ـ تعالى ـ ؛ وهو محال.

فلم يبق إلا أن يكون علمه قائما لا في محل كما ذهب إليه الجهمية (٤).

سلمنا أنه عالم بعلم غير خارج عن ذاته ؛ ولكن ما المانع من أن يكون ذلك العلم هو نفس ذاته؟ كما ذهب إليه أبو الهذيل بن العلاف (٥). ويدل عليه ما دل على نفى الصفات الزائدة كما تقدم (٦).

سلمنا أنه عالم بعلم قائم بذاته. وهو زائد عليها ؛ ولكن لا نسلم أنه قديم.

ودليله ما سبق في الوجه (٧) العاشر.

سلمنا أنه قديم ؛ ولكن لا نسلم أنه واحد.

ودليله ما سبق في الوجه (٧) السابع.

سلمنا أنه واحد ؛ ولكن لا نسلم صحة تعلقه بمعلومين فصاعدا.

وبيانه من وجهين :

الأول : ما أسلفناه في قاعدة العلم (٨).

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (لزم).

(٤) انظر ل ٧٢ / ب.

(٥) انظر ل ٧٢ / ب.

(٦) انظر ل ٥٤ / ب.

(٧) من أول (العاشر سلمنا أنه قديم ...) ساقط من ب.

(٨) انظر ل ٨ / أوما بعدها.

٣٤٠