أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

وبالجملة : فجملة هذه العبارات ؛ وإن سلم تساويها في المعنى عموما ، وخصوصا ؛ فحاصلها راجع إلى التّعريف بالحدّ اللفظى : وهو تبديل لفظ بلفظ مرادف له.

وهذا (١) إنما يفيد عند الجاهل بدلالة اللّفظ ، العالم بمعناه. وأما بالنسبة إلى الجاهل بنفس المعنى ؛ فلا.

والأقرب في ذلك أن يقال :

الإرادة عبارة عن معنى من شأنه تخصيص أحد (٢) الجائزين ، دون الآخر ؛ لا ما يلازمه التخصيص.

ولا يخفى مفارقتها للعلم ، والقدرة ، والكلام ، والسمع ، والبصر ، والحياة ؛ إذ ليس من / شأن (٣) العلم التخصيص بل الكشف والإحاطة بالشيء على ما هو عليه ، فيكون تابعا للتخصيص ، فلا يكون هو الموجب للتخصيص. ولا من شأن القدرة ذلك ؛ بل (٤) الإيجاد (٤). وأما باقى الصفات فظاهر.

وليست هى الشّهوة ، ولا التّمنى ، ولا العزيمة ، ولا المحبّة ، ولا الرضى.

وقد اختلف في ذلك كله :

أما الشهوة : فهى توقان النّفس إلى إدراك بعض المدركات ، ولا تتعلق بجميع الجائزات الواقعة ، بل ببعضها ، وهى ما فيه لذة ، واستطابة بخلاف الإرادة ، وقد تتعلق الشّهوة بما فيه لذة ، وإن لم يكن مرادا ؛ وذلك عند ما إذا علم الشخص أن هلاكه فيه ، وحيث يطلق لفظ الشّهوة بإزاء الإرادة ؛ فليس إلا بجهة التجوز (٥) ، والتوسع (٥).

وأما التّمنّى : فقد قال بعض أصحابنا : إنه نوع من الإرادة ، حتى قال في حده :

هو إرادة ما علم أنه لا يقع ، أو شكّ في وقوعه.

واتفق المحققون من أصحابنا ، ومن المعتزلة : على أنه ليس بإرادة ؛ لكن اختلف قول أبى هاشم فيه.

__________________

(١) فى ب (وهو).

(٢) فى ب (كل واحد من).

(٣) فى ب (بيان).

(٤) فى ب (بالايجاد).

(٥) فى ب (التوسع والتجوز).

٣٠١

فقال تارة : هو قول القائل : ليت ما لم يكن كان ، وما كان لم يكن.

وتارة : أنه ضرب من الاعتقادات ، والظنون.

وتارة : أنه التلهف ، والتأسف.

والحق أن الإرادة مغايرة للتمنى ، وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن التمنى قد يتعلق بما فات. وهو ما يدل عليه بقول القائل : ليت ما كان لم يكن ، وما لم يكن كان ؛ والإرادة لا تتعلق بما فات.

والثانى : هو أن الإرادة قد تتعلق بما يعلم وقوعه ؛ بخلاف التمنى.

والثالث : هو أن الإرادة قد تتعلق بقتال (١) العدو القاصد للهلاك ؛ بخلاف التمنى ؛ فإنه لا يتعلق بقتاله (٢).

وإذا عرف الفرق بين التمنى ، والإرادة بما ذكرناه ؛ فقد امتنع جعل التمنى نوعا من الإرادة. وإلا لزم من وجود التمنى ؛ وجود الإرادة ؛ ضرورة لزوم وجود الأعم ؛ من وجود الأخص ؛ وهو باطل بما ذكرناه من الفرق الأول ، وامتنع أيضا تفسيره بالقول ؛ فإن التمنى قد يوجد في حق من لا قول له.

وامتنع تفسيره بالتأسف ، والتلهف : إذ هو مخصوص بما فات ، والتمنى قد يتعلق بما هو آت.

وامتنع تفسيره بأنه ضرب من الاعتقادات والظنون : إذ هو غير مميز للتمنى ؛ فإن ما عداه من ضروب الاعتقادات والظنون ، يصدق عليه أنه ضرب من الاعتقادات والظنون ؛ وليس تمنيا.

والمقصود : إنما هو بيان الفرق / بين الإرادة ، والتمنى ، وقد حصل ذلك بما حققناه ؛ فلا حاجة إلى تحديد التمنى ، وشرح معناه.

وأما العزيمة : فعبارة عن توطين النفس على أحد أمرين بعد سابقة التردد فيهما (٣).

إلا أنها (٣) نفس الإرادة المتقدمة على المراد بأزمنة ، كما ذهبت إليه المعتزلة حتى أنهم منعوا بذلك من إثبات الإرادة (٤) القديمة لله ـ تعالى ـ ومن أراد بلفظ العزيمة ذلك ؛

__________________

(١) فى ب (بقتل).

(٢) فى ب (بقتله).

(٣) فى ب (فيها لأنها).

(٤) فى ب (الأدلة).

٣٠٢

فلا مانع من إثباته في حق الله ـ تعالى ـ وإن كان إطلاق لفظ العزيمة عليه ممتنعا ؛ لعدم وورود الشرع به.

وأما المحبة والرّضى : فقد اختلف أصحابنا فيه.

فذهب المعظم منهم : إلي أن الإرادة هى نفس المحبة والرضى ، وذهب الباقون : إلى المغايرة بينهما.

أما القائلون بالاتحاد : فقد احتجوا بمسلكين :

الأول : بأن قالوا : لو كانت الإرادة مغايرة للمحبة ، والرضى. فلا يخلو : إما أن تكون المحبة والرضى مخالفين للإرادة ، أو مماثلين لها.

فإن كان الأول : فإما أن يكونا مضادين ، أو غير مضادين لها. فإن كانا متضادين لها ؛ فيلزم منه استحالة الجمع بين إرادة الشيء ومحبته ، والرضى به ؛ وهو ممتنع. وإن لم يكونا مضادين ؛ فكل مختلفين غير متضادين لا يمتنع وجود أحدهما مع ضد الآخر ، ويلزم من ذلك جواز وجود المحبة والرضى ، مع وجود ضد الإرادة ، وهو الكراهة ؛ وهو ممتنع. فلم يبق إلا التماثل ؛ ويلزم الاشتراك في معنى الإرادة.

ولقائل أن يقول : وإن سلمنا أنهما لا يتضادان مع الاختلاف ، فمن الجائز أن يكونا من قبيل المتلازمين اللذين لا انفكاك لأحدهما عن الآخر.

وعند ذلك فلا يلزم جواز وجود أحدهما مع ضد الآخر ، وإن جاز ذلك فيما عداهما من المختلفات الغير متلازمة.

المسلك الثانى : أن مريد الشيء يستحيل أن لا يكون محبا له ، وكذلك بالعكس. ولو تغايرا ؛ لتصور الانفكاك بينهما ؛ وهو ضعيف أيضا ؛ فإن الانفكاك بين المحبة والإرادة ؛ غير ممتنع ؛ ولهذا فإن شرب الدواء المستكره مراد ، وليس بمحبوب.

ولو قال القائل هو (١) مراد لى ، وليس بمحبوب (١) ، لم يكن مستبعدا. وبتقدير عدم الانفكاك ؛ فلا (٢) يدل ذلك على الاتحاد في المعنى ؛ لما سبق في المسلك الّذي قبله (٢).

__________________

(١) فى ب (هو محبوب وليس بمراد).

(٢) فى ب (فلا يدل على الإيجاد في المعنى على ما سبق في المسلك الثانى قبله).

٣٠٣

وأما القائلون بالمغايرة : فقد احتجوا بمسلكين / أيضا :

الأول : قوله ـ تعالى ـ (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (١) وقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) (٢). أثبت المحبة المتعلقة بالله. فلو كانت المحبة ؛ هى الإرادة ؛ لما تعلقت بالله تعالى ؛ لكونه قديما ، وكون الإرادة لا تتعلق بغير الحادث.

وهو أيضا ضعيف ؛ إذا أمكن أن يكون المراد من قوله ـ تعالى ـ (يُحِبُّونَهُ) ومن قوله : (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) إرادة طاعته. هكذا ذكره ابن عباس ؛ وعلى هذا فلا منافاة بين الإرادة ، والمحبة.

المسلك الثانى : وهو الأقوى ، وعليه الاعتماد ، أنهم قالوا : سنبين أن الله ـ تعالى ـ مريد لجميع الجائزات ، والكفر والفساد من جملتها ؛ فيكون مريدا له. فلو كانت الإرادة هى المحبة والرضى ؛ لكان البارى ـ تعالى ـ محبا للفساد ، وراضيا بالكفر ؛ وهو محال لقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٣). وقوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٤).

فإن قيل : إن الله ـ تعالى ـ يحب الفساد من حيث هو معاقب عليه.

قلنا : فلا منافاة بينه ، وبين كون الفساد في ذاته غير محبوب على ما دل عليه النص.

[وإذ] (٥) أتينا على ما أردنا تحقيقه من معنى الإرادة ؛ فهى تنقسم إلى قديم ، وحادث. والمقصود هاهنا ، إنما هو بيان إثبات الإرادة القديمة لله ـ تعالى ـ.

وأما الإرادة الحادثة : فسيأتى الكلام عليها فيما بعد إن شاء الله ـ تعالى. (٦) والمعتمد في ذلك أن يقال :

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٥٤.

(٢) سورة البقرة ٢ / ١٦٥.

(٣) سورة البقرة ٢ / ٢٠٥.

(٤) سورة الزمر ٣٩ / ٧.

(٥) فى أ (فإذا).

(٦) انظر ل ٢٨١ / ب وما بعدها.

٣٠٤

إذا ثبت [أن] (١) العالم حادث ، وأنه من أفعال واجب الوجود ؛ فلا يخفى أن تقدير وجوده قبل أن وجد ، وبعد أن وجد ، ـ على شكل ومقدار أكبر مما هو عليه (٢) أو أصغر ـ من الجائزات. ووقوع بعض الجائزات ، دون البعض ؛ ليس له لذاته ؛ لما سبق ؛ فلا بد له من مخصص.

والمخصص : إما ذات واجب الوجود ، أو أمر خارج عنها.

لا جائز أن يكون هو ذات واجب الوجود ؛ فإن نسبة ذاته إلى جميع الجائزات نسبة واحدة ؛ فليس تخصيصها للبعض دون البعض ، أولى من العكس.

فلم يبق إلا أن يكون خارجا عنها ، وليس ذلك هو القدرة ، والعلم ، وباقى الصفات المذكورة من قبل ؛ لما سبق ؛ فيكون زائدا عليها ، وذلك هو المعنى بالإرادة (٣).

فإن قيل : لا نسلم صحة اتصاف الرب ـ تعالى ـ بالإرادة.

قولكم : لأن اختصاص العالم بما هو عليه من الصفات دون باقى الصفات الجائزة يستدعى مخصصا. / إنما يصح ، أن لو ثبت لكم أن ما عدا الصفات التى خلق العالم عليها جائزة عليه. ولم قلتم بأن ما وجد عليه من الصفات لم تكن متعينة له ، وأن ما عداها ليس بممتنع عليه ؛ لخصوص ذاته؟

سلمنا أن ذلك جائز على العالم ؛ ولكن ما المانع من أن يكون الرب (٤) ـ تعالى ـ موجبا للعالم بما هو عليه ، باعتبار ذاته ، لا بصفة زائدة؟

قولكم (٥) : لأن نسبة جميع الجائزات إلى ذاته نسبة واحدة ، غير مسلم.

وما المانع من أن يكون باعتبار ذاته لا يقتضي من جملة الصفات الجائزة إلا ما وجد ، وذلك لأن (٦) الصفات الجائزة مختلفة في ذواتها وإن اتحدت في صفة الجواز.

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من ب.

(٣) انظر المآخذ للآمدى ل ٣٩ / أوقارن بالإرشاد لإمام الحرمين ص ١٣١ والاقتصاد للغزالى ص ٤٧.

(٤) فى ب (البارى).

(٥) فى ب (قولهم).

(٦) ساقط من ب.

٣٠٥

والموجب بذاته لا بدّ وأن يكون بينه وبين ما أوجبه مناسبة طبيعية : باعتبارها يتحقق جعل الموجب علة والموجب معلولا ، وإلا فليس جعل أحدهما علة للآخر ، أولى من العكس ؛ بل وليس جعله علة لما (١) فرض معلولا ؛ أولى من غيره (٢).

وعند ذلك فمن الجائز : أن تكون ذاته مناسبة لبعض الجائزات ، دون البعض.

وعلى هذا التقدير ؛ فلا يستدعى مخصصا [زائدا] (٣).

سلمنا أن الكل جائز بالنسبة إلى ذاته ، وأن تخصيص كل واحد بالنسبة إلى ذاته جائزة ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم من ذلك الافتقار إلى مخصص زائد على الذات.

والّذي يدل على ذلك : أن الأمر الزائد : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

فإن كان قديما : فإما أن يكون مخصصا باعتبار ذاته ، أو بصفة زائدة.

فإن كان الأول : فقد وقعتم فيما فررتم منه.

وإن كان الثانى : فالكلام فيه كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن (٤) كان حادثا : افتقر إلى مخصص آخر ، والكلام في ذلك المخصص : كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع (٤).

سلمنا أنه لا بدّ من مخصص خارج عن ذاته ـ تعالى ـ ولكن ما المانع من كونه عدميا؟

وإن امتنع كونه عدميا : فما المانع من كونه ليس بموجود ، ولا معدوم؟ كما قاله النجار من المعتزلة : إن المخصص كونه مريدا لذاته في الأزل ، للجائزات فيما لا يزال من غير احتياج إلى صفة الإرادة ، وكونه مريدا حالة لا موجودة ، ولا معدومة.

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون وجوديا ؛ ولكن لم قلتم إنه لا بدّ وأن يكون قائما بذات الله ـ تعالى ـ؟

__________________

(١) فى ب (لغير ما).

(٢) فى ب (المعلول).

(٣) ساقط من أ.

(٤) من أول (وإن كان حادثا ...) ساقط من ب.

٣٠٦

وما المانع من كونه مخصصا بإرادة لا في ذاته ، كما هو مذهب البصريين / من المعتزلة.

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون المخصص قائما بذاته ؛ ولكن ما المانع من كونه حادثا ، كما هو مذهب الكرامية؟

سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون قديما ؛ ولكن لا نسلم أن ذلك المخصص هو الإرادة ؛ بل جاز أن يكون المخصص كونه عالما بما اشتمل عليه الجائز من المصلحة المرجحة له على غيره ، كما يقوله أبو الحسين البصرى ، ومع ذلك ؛ فلا حاجة إلى الإرادة.

سلمنا أن العلم بالمصلحة غير مرجح ؛ ولكن لم قلتم بامتناع كون المرجح قوله : (كُنْ)؟ كما ذهب إليه بعض الكرامية.

ويدل على كونه مرجحا قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على أنه لا بدّ من إرادة قديمة قائمة بذات واجب الوجود ؛ ولكن معنا ما يدل على امتناع ذلك ؛ وبيانه بحجج أربع.

الأولى : أن حدوث الحادث : إما أن يكون متوقفا على تعلق الإرادة به ، أو لا يكون متوقفا عليها (٢).

فإن كان الأول : فهو ممتنع لثلاثة أوجه :

الأول : أن تعلق الإرادة به لا يخلو : إما أن يكون أولى من عدم التعلق ، وإما عدم التعلق أولى ، أو أن التعلق وعدمه سيان.

فإن كان الأول : فالرب ـ تعالى ـ يستفيد بإرادته له (٣) كمالا ، وبعدم إرادته نقصانا ؛ وهو محال على الرب ـ تعالى ـ

وإن كان الثانى : كان التخصيص [بالوجود] (٤) ممتنعا.

وإن كان الثالث : لم يكن التخصيص أولى من عدمه ؛ لعدم الأولوية.

__________________

(١) سورة النحل ١٦ / ٤٠ وقد صححت الآية حيث كانت (إنما أمرنا ..

(٢) فى ب (عليه).

(٣) ساقط من ب.

(٤) ساقط من أ.

٣٠٧

الثانى : أنه يلزم منه الدور من جهة أن التخصيص متوقف على تعلق الإرادة به ، وتعلق الإرادة به وصف إضافى بين الإرادة وتخصيص الحادث ؛ فيكون متوقفا على التخصيص ؛ لأن النسبة متوقفة على المنسوب ، والمنسوب إليه ؛ وذلك يوجب توقف تعلق الإرادة على التخصيص ، وتوقف التخصيص علي تعلق الإرادة ؛ وهو دور.

الثالث : هو أن تعلق الإرادة بالتخصيص : إما أن يكون قديما ، أو حادثا.

فإن كان قديما : لزم من قدمه قدم التخصيص ؛ وهو محال.

وإن كان حادثا : فإما أن يتوقف على مخصص آخر ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول : لزم التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : لزم تخصيص الجائز لا بمخصص ؛ وهو محال ، ولو جاز ذلك ؛ لجاز في كل حادث.

هذا كله إن توقف التخصيص على تعلق الإرادة / به.

وإن لم يكن متوقفا عليها : لم يكن تخصيص بعض الجائزات بالإرادة دون البعض أولى من الآخر ؛ ضرورة التساوى في عدم تعلق الإرادة بكل واحد منها.

الحجة الثانية : أنه لا يخلو : إما أن يكون البارى ـ تعالى ـ عالما بحدوث الحادث في وقت حدوثه على الوجه الّذي حدث عليه ، أو لا يكون عالما به.

لا (١) جائز أن يكون غير عالم به (١) : وإلا لكان جاهلا بعواقب الأمور ؛ وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وإن كان عالما به : فيلزم من ذلك وقوع الحادث على وفق ما تعلق به العلم ؛ وإلا كان علمه جهلا ؛ وهو محال.

وعند ذلك : فلا حاجة إلى الإرادة.

الحجة الثالثة : إن قدرة الرب ـ تعالى ـ إما أن تكون متعلقة بإيجاد (٢) الحادث (٢) ، أو لا تكون متعلقة بإيجاده.

__________________

(١) فى ب (لا جائز أن لا يكون عالما به).

(٢) فى ب (بإيجاده).

٣٠٨

فإن كان الأول : فمن ضرورة تعلق القدرة بإيجاده ، وجوده على وفق ما تعلقت به القدرة. وإلا كان البارى ـ تعالى ـ عاجزا عنه ، وإذا لزم وجوده من ضرورة تعلق القدرة به ؛ فلا حاجة إلى الإرادة.

وإن كان الثانى : فهو ممتنع التحقق ، ولا فائدة في الإرادة.

وعند ذلك فالواجب (١) تفسير المخصص بالعلم ، والقدرة ، كما ذهب إليه النّظام ، والكعبى من المعتزلة.

الحجة الرابعة : هو أن الإرادة : إما أن تكون حادثة ، أو قديمة.

فإن كانت حادثة : فهو محال ؛ لما سبق.

وإن كانت قديمة : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أنه إذا كانت الإرادة قديمة ؛ فهى سابقة على الحادث ، والإرادة السابقة على الحادث عزم ، والعزم لا يتصور إلا في حق من أجمع على شيء بعد تردده ، وفكره فيه ؛ وهو محال في حق الله ـ تعالى ـ.

الثانى : أنها لو كانت قديمة نفسانية ؛ لوجب تعلقها بجميع الجائزات من أفعاله ، وأفعال العباد ؛ فإن نسبة القديم إلى سائر الجائزات نسبة واحدة.

/ وعند ذلك : فليس تعلقه بالبعض ، أولى من البعض الآخر ؛ ضرورة التساوى في النسبة ، ويلزم من تعلقه بجميع الجائزات ، محالات ثلاثة :

المحال الأول : أنه يلزم منه تعلقها بوجود كل شيء جائز (٢) ، أو بعدمه ، وبسكون كل جوهر ، وبحركته (٢) ؛ ضرورة جواز الكل ، ويلزم من ذلك اجتماع الوجود ، والعدم ، والحركة ، والسكون في شيء واحد معا ؛ وهو (٣) محال.

المحال الثانى : أن العالم مشتمل على خيرات وشرور فلو تعلقت إرادته بالجميع ؛ لكونه جائزا ؛ فيلزم منه أن يكون خيرا ، شريرا ؛ لما تقرر في العقول : أن مريد الخير ؛

__________________

(١) فى ب (فالجواب).

(٢) فى ب (جائز وبعدمه وسكون كل جوهر وحركته).

(٣) فى ب (وذلك).

٣٠٩

خيّر ، ومريد الشّرّ ؛ شرّير ، والاتصاف بكونه شرّيرا ؛ من صفات القبح ؛ فلا يكون البارى ـ تعالى ـ متصفا به.

المحال الثالث : أن الله تعالى أمر بالطاعة ، ونهى عن المعصية ، ولعل ما أمر به لا يقع ، وما نهى عنه واقع. فلو كان مريدا لما وقع من المنهيات ، ولما لم يقع من الطاعات ؛ للزم أن يكون قد نهى عما أراد ، وأمر بما لم (١) يرد (١).

ولا يخفى ما في ذلك من التناقض ، وتكليف المحال ؛ فيجب تنزيه الرب ـ تعالى ـ عنه. كيف وقد ورد الكتاب العزيز بما يدرأ ذلك. وهو قوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢) ، وقوله ـ تعالى ـ (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) ، وقوله ـ تعالى ـ (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (٤)

وقوله ـ تعالى ـ : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٥) وقوله ـ تعالى ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) (٦) وقوله ـ تعالى ـ : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٧) وقوله ـ تعالى ـ : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (٨) وقوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٩) وقوله ـ تعالى ـ : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) إلى قوله تعالى ـ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (١٠) حيث كذبهم في قولهم ، إلى غير ذلك من الظواهر التى يستقصى ذكرها في مسألة خلق الأعمال (١١).

سلمنا أنه مريد بإرادة وجودية قديمة قائمة بذاته ، وأنها متعلقة بجميع المتعلقات الجائزة ، ولكن لا نسلم أنها واحدة.

وإن سلمنا أنها واحدة ؛ فلا نسلم أنها غير متناهية في ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها.

__________________

(١) فى ب (لا يراد).

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٠٥.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧.

(٤) سورة النساء ٤ / ٣٧.

(٥) سورة البقرة ٢ / ١٨٥.

(٦) سورة النساء ٤ / ١٤٨.

(٧) سورة غافر ٤٠ / ٣١.

(٨) سورة الأنفال ٨ / ٦٧.

(٩) سورة الذاريات ٥١ / ٥٦.

(١٠) صححت الآية حيث كان أولها في أ ، ب (وقال الذين أشركوا ... الخ) وهى الآية رقم ١٤٨ من سورة الأنعام.

(١١) انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

٣١٠

والجواب :

أما منع (١) وجود العالم قبل أن وجد ؛ فمندفع ؛ فإنا لو قدرنا وجود / العالم قبل وقت وجوده بألف سنة ، لم يلزم عنه لذاته المحال (٢). ولا معنى لكونه جائز الوجود قبل [وقت] (٣) وجوده إلا هذا.

كيف وأنه لو لم يكن جائز الحدوث قبل وقت حدوثه ؛ لكان إما واجبا لذاته قبل ذلك ، أو ممتنعا. ولو كان واجبا ؛ لما كان معدوما ، ولو كان ممتنعا لذاته لما وجد ؛ فلم يبق إلا أن يكون جائزا. ولا يلزم على هذا جواز وجوده بعد امتناع أزليته ، فإن (٤) ما هو الممتنع (٤) ؛ إنما هو الأزلية ؛ وهو غير زائل ، وما هو الممكن : إنما هو الحدوث ؛ وإمكان الحدوث غير متجدد ؛ وذلك غير ممتنع ؛ بخلاف القول بتجدد إمكان الحدوث بعد أن لم يكن.

قولهم : ما المانع من أن يكون لذاته مقتضيا لبعض الجائزات دون البعض؟

فقد قيل في جوابه : إن المصحح للتخصيص بالمخصص : إنما هو الإمكان. وإذا كان الإمكان عاما لجملة الجائزات ؛ كان تخصيص الكل بالنسبة إلى المخصص بالذات جائزا.

وهو ضعيف ؛ فإنه إن قيل : إن المستقل بصحة التخصيص ؛ هو (٥) الإمكان لا غير ؛ فهو غير مسلم ؛ وذلك مما يعسر مساعدة الدليل عليه.

وإن قيل : إنه لا بدّ منه في التصحيح ؛ فمسلم ؛ ولكن لا يلزم من وجود ما لا بدّ منه فى التخصيص ؛ تحقق التخصيص ؛ لجواز فوات غيره مما لا بدّ منه أيضا.

والحق أن يقال :

المخصص للعالم بوقت حدوثه ، مع جواز حدوثه ، قبل وقت حدوثه ، إذا كان تخصيصه له بذاته : فإما أن يتوقف على شرط لا بدّ منه ، أو لا يتوقف.

__________________

(١) فى ب (منع جواز).

(٢) فى ب (محال).

(٣) ساقط من أ.

(٤) فى ب (فإنما الممتنع).

(٥) فى ب (وصحة التخصيص هو).

٣١١

فإن توقف : فذلك الشرط إما قديم ، أو حادث.

فإن كان قديما : لزم من قدم العلة والشرط ؛ قدم المشروط.

وإن كان حادثا : فالكلام في تخصيصه ، كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن لم يتوقف على شرط : وجب (١) من قدم الذات المقتضية للتخصيص ؛ وقوع التخصيص قبل كل وقت يفرض التخصيص فيه ؛ ضرورة قدم المخصص ، وعدم توقفه فى التخصيص على أمر خارج عنه.

قولهم : المخصص إذا كان زائدا : فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

قلنا : بل (٢) قديم (٢) ؛ وهو مخصص بذاته.

قولهم (٣) : فيلزمكم فيه ما فررتم منه (٣) فى الموجب بالذات.

قلنا : متى إذا كان للعالم مخصص هو الإرادة ، أو غيرها؟

الأول ممنوع. والثانى : مسلم ؛ وذلك لأنه لا معنى للإرادة : إلا معنى من شأنه / تخصيص بعض الجائزات دون البعض. ولا يقال : لم كان تخصيصها للبعض ، دون البعض ؛ مع قدمها ، وتساوى نسبتها؟ فإن حاصله يرجع إلى أنه : لم كانت الإرادة ، ، إرادة؟ فإنه لا معنى لها إلا هذا ؛ وهو غير مسموع.

قولهم : ما المانع من كون المخصص عدميا ، أو أن يكون لا موجودا ، ولا معدوما؟ فقد سبق إبطاله في إثبات واجب الوجود (٤).

وقول النجار : إنه مخصص بكونه مريدا ، وكونه مريدا : معناه أنه غير مغلوب ، ولا مستكره ؛ فهو باطل من أربعة أوجه :

الأول : أنه يلزم من ذلك أن يكون مريدا لنفسه ، وللمستحيلات ؛ إذ هو غير مغلوب عليها ، ولا مستكره.

__________________

(١) فى ب (لزم).

(٢) فى ب (بل هو قديم).

(٣) فى ب (قولكم فيلزمكم منه ما الزمتمونا).

(٤) انظر ما سبق ل ٤٩ / ب وما بعدها.

٣١٢

الثانى : يلزم منه أن يكون الجماد ، وجميع الأعراض مريدة ؛ إذ هى غير مستكرهة ، ولا مغلوبة.

الثالث : أنه إذا كان معنى كونه مريدا : سلب الكراهية ، والغلبة عنه ؛ فسلب السلب ؛ إثبات ، ويلزم من ذلك أن يكون الرب تعالى موصوفا بكراهية ما لا يكون مريدا له ؛ وهو محال.

الرابع : أنه وإن كان معنى كونه مريدا : ما ذكر ؛ غير أنه نفى محض ، وعدم صرف ؛ وذلك غير صالح للتخصيص ؛ فلا بد من مخصص وجودى.

قولهم : لم قلتم إنه (١) لا بدّ وأن يكون المخصص قائما بذات الله ـ تعالى ـ؟

قلنا : لأنه لو لم يكن قائما بذاته ؛ لم يخل : إما أن يكون قائما في محل ، أو لا في محل.

فإن كان قائما في محل : فذلك المحل : إما قديم ، أو حادث. فإن كان حادثا : فهو مفتقر في وجوده إلى مخصص. والمخصص له. إما نفس ما قام به ، أو غيره.

لا جائز أن يكون هو نفس ما قام به : وإلا لأفضى (٢) إلى الدور من جهة توقف كل واحد منهما على الآخر ؛ فإن المخصص صفة قائمة بالمحل ؛ فيكون متوقفا على المحل. فإذا كان ذلك المحل متوقفا في تخصصه على ما قام به من المخصص ؛ فهو (٣) دور ممتنع (٣).

وإن كان المخصص لذلك المحل غير ما قام به من المخصص : فالكلام في ذلك المخصص الثانى : كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور الممتنع.

ثم ليس القول بكون البارى ـ تعالى ـ مخصصا للعالم بوقت حدوثه بذلك المخصص أولى من كون ما قام به ذلك المخصص ، هو المخصص للعالم ؛ بل وهو الأولى.

__________________

(١) فى ب (بأنه).

(٢) فى ب (أفضى).

(٣) فى ب (كان دورا).

٣١٣

وأما (١) إن (١) كان المحل قديما : فسنبين أنه لا قديم غير الله ـ تعالى ـ وصفاته.

ثم إن إضافة التخصيص إلى المحل القديم الّذي قام به / المخصص وهو غير الله ـ تعالى ـ ؛ أولى من إضافته إلي الله ـ تعالى ـ.

وأما إن كان المخصص قائما لا في محل : فقد قال بعض الأصحاب في إبطاله : [إنه] (٢) يلزم أن يكون كل مخصص في الشاهد هكذا ؛ فإن ما ثبت لبعض أشخاص الحقيقة ، جاز ثبوته للباقى. والمخصص ـ من حيث هو مخصص ـ لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا. فإن كان مستغنيا عن المحل غائبا ؛ فيلزم مثله في الشاهد ؛ وهو محال.

قالوا : ولا (٣) يمكن (٣) إنكار المخصص في (٤) الشاهد (٤)؟. فإن كل عاقل يجد من نفسه معنى مخصصا للجائزات المقدورة له : كما يجد من نفسه أن له علما ، وقدرة ، وغير ذلك. ولا يمكن إسناد ذلك إلى العلم بما في الجائز من المصلحة ؛ فإنه قد يجد العاقل من نفسه المعنى المخصص مع علمه بتساوى الجائزين في المصلحة والمفسدة. كما في صورة تخصيص العطشان أخذ أحد القدحين المتساويين في مقصوده ، وكذلك في سلوك أحد الطريقين المتساويين في الإيصال إلى مطلوبه ؛ وهو إنما يفيد ـ مع تسليم وجود المخصص ـ فى الشاهد : أن لو سلم اتحاد حقيقة المعنى المخصص شاهدا ، وغائبا. ولعل الخصم قد يقول باختلاف الحقيقة ؛ وإن وقع الاشتراك في اسم المخصص.

وعند ذلك : فلا يلزم أن يكون ما حكم به على أحدهما ، حكما على الآخر. نعم إنما يلزم ذلك : البصريين المعترفين بالتماثل بين الإرادة في الشاهد ، والغائب.

والأولى في ذلك أن يقال :

لو كان المخصص قائما لا في محل ؛ لم يخل : إما أن يكون حادثا ، أو قديما.

__________________

(١) فى ب (وان).

(٢) ساقط من أ.

(٣) فى ب (لا يمكن).

(٤) فى ب (شاهدا).

٣١٤

فإن كان حادثا : فلا بد له من مخصص آخر ؛ ويلزم (١) منه التسلسل (١) ، أو الدور.

فإن قيل : المخصص لا يستدعى مخصصا آخر ـ وإن كان حادثا كما في الشاهد ـ ولهذا فإن من [وجدت] (٢) له إرادة لشيء لا تستدعى تلك الإرادة ، إرادة أخرى. وإلا أفضى إلى التسلسل وأن لا يتم لأحد إرادة إلا مع وجود إرادات غير متناهية ؛ وهو مما يحسن (٣) من (٣) النفس بطلانه.

وربما عضدوا هذا بأمثلة أخرى : كالتمنى ، والشهوة ، ونحو ذلك.

قلنا : أما قولهم : بأن المخصص لا يستدعى مخصصا ، وإن كان حادثا : ليس كذلك ؛ فإن ما تخصص بالمخصص : إنما كان مفتقرا إليه من جهة كونه ممكنا ، وحادثا لا من جهة كونه ذاتا ، أو حقيقة ما. وهذا المعنى المحوج إلى المخصص متحقق في المخصص إذا قيل بكونه ممكنا ، أو حادثا.

قولهم : الإرادة في الشاهد لا تستدعى مخصصا / آخر : ليس كذلك ؛ بل لا بدّ لها من جهة كونها ممكنة وحادثة ، من مخصص. نعم غايته أنه لا يجب أن يكون المخصص لها إرادة أخرى لمن له الإرادة في الشاهد ؛ بل المخصص لها : إنما هو الإرادة القديمة القائمة بنفسه ؛ وعلى هذا : فلا تسلسل. وعلى هذا : يكون الكلام فيما كثروا به من [أمثلة] (٤) التمنى ، والشهوة أيضا.

وأيضا (٥) ؛ فإنه لو كان بمعنى (٥) المخصص حادثا لا في محل. لم تكن نسبته إلى البارى ـ تعالى ـ بكونه مخصصا به أولى من نسبته إلى غيره من الحوادث.

وإن قيل : بوجوب نسبته إلي الله ـ تعالى ـ لما بينهما من الاشتراك في عدم الافتقار إلى المحل. فمع عدم جهة الملازمة من ذلك أمكن أن يقال بوجوب النسبة إلى باقى الحوادث ؛ لما بينهما من الاشتراك في الحدوث ؛ بل أولى من حيث إنما (٦) يتحقق من الاشتراك بين الحادثين أكثر مما به الاشتراك بين القديم ، والحادث. ثم لو لزم نسبته إلى الله ـ تعالى ـ لما بينهما من الاشتراك في نفى المحلية ؛ لوجب نسبته إلى سائر

__________________

(١) من أول (ويلزم ...) ساقط من ب.

(٢) فى أ (وجد).

(٣) فى ب (تحقق في).

(٤) فى أ (الأمثلة).

(٥) فى ب (فإنه لو كان المعنى).

(٦) فى ب (ما).

٣١٥

الجواهر والأجسام ؛ إذ هي مشاركة له في هذا المعنى ، فإنها غير مفتقرة إلى المحل ، وإلا لزم التسلسل ، وكون الإرادة مشاركة للبارى ـ تعالى ـ فى عدم التحيز ، ومفارقته (١) للجواهر (١) فى ذلك مما لا يوجب إعادة حكمها إلى الله ـ تعالى ـ دون الجواهر بدليل أنفسنا ، وسائر الأعراض الغير (٢) متحيزة (٢).

وأيضا : فإنه لو جاز أن يكون مخصصا بمخصص موجود لا في ذاته ؛ لجاز أن يكون موجدا بقدرة ، قائمة لا في ذاته. وأن يكون عالما بعلم ، قائم لا في ذاته. كما صار إليه جهم (٣) ومتبعوه ، إلى غير ذلك من الصفات ، ولجاز أن يكون الواحد منا عالما. وقادرا ، بعلم قائم لا في ذاته ، وقدرة قائمة ، لا في ذاته ؛ ولم يقل به هذا القائل.

وبما ذكرناه هاهنا : يبطل القول بكون المخصص القائم لا في ذاته قديما أيضا. كيف وأنه مما لا قائل به؟

وإذا ثبت أنه لا بدّ وأن يكون مخصصا بصفة زائدة على ذاته ، وبطل كونها قائمة لا في ذاته ؛ تعين أن تكون صفة قائمة بذاته.

قولهم : ما المانع من كون المخصص القائم بذاته حادثا؟

قلنا : لما بيناه من لزوم التسلسل (٤). كيف : وإنا سنبين امتناع حلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ فيما بعد (٥)؟

قولهم : ما المانع من أن يكون المخصص كونه عالما بما اشتمل عليه الجائز من المصلحة؟

قلنا : لأنا سنبين في مسألة التجويز ، والتعديل (٦). أن رعاية الحكمة في فعله غير لازم ؛ فلا / يكون المخصص ما ذكروه من الداعى.

قولهم : ما المانع من كون المرجح قوله (كُنْ)؟

__________________

(١) فى ب (ومفارقة الجواهر).

(٢) فى ب (غير المتحيزة).

(٣) عن رأى جهم انظر الملل ص ٨٧ للشهرستانى.

(٤) انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٥) انظر ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٦) انظر ل ١٨٦ / أوما بعدها.

٣١٦

قلنا : لو كان قوله : (كُنْ) مخصصا ؛ لكان صدور ذلك عنا مخصصا ؛ ضرورة اتحاد الحقيقة. وأن ما ثبت للذات لا ينفك عنها. والآية فغايتها الدلالة على أن أمره بالكون عند الإرادة قوله (كُنْ) ؛ وليس في ذلك ما يدل على كونه مخصصا.

وما ذكروه من الوجه الأول والثانى في الحجة الأولى : فقد سبق الجواب عنه في مسألة القدرة (١).

قولهم في الوجه الثالث : تعلق الإرادة بالحادث : إما قديم ، أو حادث.

قلنا : هذا إنما يلزم أن لو كان تعلق الإرادة بالحادث أمرا يزيد على تخصصه بالإرادة ؛ وليس كذلك ؛ فإنه لا معنى لتعلق الإرادة بالحادث غير تخصصه بها.

وعلى هذا فالإشكال يكون مندفعا ، وبتقدير أن يكون التعلق زائدا على التخصيص ؛ وهو قديم. فلا نسلم أنه يلزم من ذلك قدم التخصيص ؛ إذ (٢) لا مانع (٢) من أن تكون الإرادة في القدم مقتضية لتخصيص الحادث في وقت حدوثه ؛ وهو المعنى بقدم التعلق.

كيف وأن هذا الإشكال بعينه لازم على القائل بكون المخصص ، مخصصا بذاته ، لا بصفة زائدة على ذاته ، أو بصفة زائدة غير الإرادة ، فما هو جوابه ؛ هو جواب لنا.

قولهم في الحجة الثانية : إذا كان البارى ـ تعالى ـ عالما بحدوث الحادث في وقت حدوثه ؛ فلا حاجة إلى الإرادة كما قرروه.

فقد سبق جوابه في مسألة القدرة (٣).

قولهم في الحجة الثالثة : إما أن تكون قدرته متعلقة بإيجاد الحادث ، أو لا؟

قلنا : متعلقة بإيجاده مرادا ، لا غير مراد.

وعلى هذا : فلا يستغنى عن الإرادة.

قولهم في الحجة الرابعة : أنه لو كانت الإرادة متقدمة (٤) على الحادث كانت عزما.

فقد سبق جوابه أيضا في مسألة القدرة (٥).

__________________

(١) انظر ل ٦٢ / أ.

(٢) فى ب (إذ المانع).

(٣) انظر ل ٦٢ / أ.

(٤) فى ب (متعلقة).

(٥) انظر ل ٦٢ / أ.

٣١٧

قولهم : لو كانت قديمة ؛ لتعلقت بجميع الجائزات.

قلنا : إن أرادوا بذلك : أنها يجب أن تكون مخصصة لكل جائز ؛ فليس كذلك ؛ إذ ليست حقيقة الإرادة التخصيص لكل جائز ؛ بل ما من شأنها أن تخصص بعض الجائزات دون البعض.

ولو لا ذلك للزم وقوع كل جائز ؛ وليس كذلك.

وإن أرادوا بذلك أنها يجب أن تكون مخصصة لكل جائز كائن / ، أو كان ، أو سيكون ؛ فهو حق على ما سيأتى تحقيقه في مسألة (١) خلق الأعمال (١).

وعلى هذا : فقد اندفع ما ذكروه من المحال الأول. كيف وأن اجتماع الوجود ، والعدم في شيء واحد ، والحركة والسكون ، وكذا كل متقابلين ؛ غير جائز ؛ بل مستحيل ؛ فلا يكون متعلق القدرة والإرادة.

قولهم : العالم مشتمل على خيرات ، وشرور.

قلنا : مراد الله ـ تعالى ـ من حيث هو مراد له ـ ليس بشر ؛ فإن تعلق الإرادة به إنما هو من جهة تخصيصه بالوجود دون العدم ، أو العدم ، دون الوجود ، أو ببعض الأحوال الجائزة دون البعض ؛ وذلك مما لا يوصف بكونه شرا ، من حيث هو كذلك ؛ فإن الشر ليس وصفا ذاتيا ؛ لما وصف بكونه شرا ، ولا له وجود في نفسه ؛ بل هو أمر نسبى ، ومعنى إضافى ؛ كما يأتى تحقيقه في مسألة التحسين ، والتقبيح (٢). وذلك لا يمنع من تعلق الإرادة القديمة بالمراد الموصوف به ، ولو كان ذلك مانعا من كونه مرادا ؛ لما كان ما يجرى في العالم من الخسف ، والزلازل ، والأمراض المؤلمة ؛ والآفات العامة ؛ مرادا لله ـ تعالى ـ ؛ لكونه موصوفا بالشر ؛ ولم يقولوا به.

كيف وأن مستندهم في إطلاق اسم الشرير على مريد الشر في حق الغائب ، ليس غير الشاهد.

وهو فاسد على ما حققناه في مسألة القدرة (٣).

__________________

(١) فى ب (أن لا مخصص لجميع الجائزات إلا الله ـ تعالى ـ).

انظر ل ٢٨١ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٦٢ / ب وما بعدها.

٣١٨

وما ذكروه من لزوم المحال الثالث : فإنما يلزم أن لو كان المأمور والمنهى مرادا ؛ وليس كذلك ؛ بل المأمور الّذي علم وقوعه ، والمنهى الّذي علم الانتهاء عنه ؛ هو المراد.

وأما ما علم أنه لا يوجد ؛ فهو غير مراد الوجود وإن كان مأمورا به.

وما علم وجوده ؛ فليس بمراد الانتفاء ، وإن كان منهيا عنه ، وسنبين في مسألة الكلام أنه لا ملازمة بين الأمر ، وإرادة الامتثال ، ولا بين النهى ، وإرادة الانتهاء.

وعلى هذا فلا يلزم من الأمر بالوجود ، وإرادة العدم ما ذكروه من التناقض ، وليس ثمرة الأمر الامتثال ؛ بل من الجائز أن يكون له ثمرة أخرى ؛ فلا يكون عبثا ، ولا متناقضا.

ولهذا قال بعض الأصحاب : أنه لو علم الله ـ تعالى ـ من أحد من الأمة : أنه لو كلف بخصلة من خصال الخير ؛ لم يأت بها ، ولو ضوعفت عليه لأتى (١) بها ؛ فإن (١) أمره بالضعف يكون مفيدا. وإن لم يكن ذلك مرادا. وذلك على نحو أمر النبي ـ عليه‌السلام ـ ليلة المعراج بالصلوات. هذا كله إن قيل / برعاية الحكمة والمصلحة في أفعال الله ـ تعالى ـ ، وإلا فلا حاجة إلى هذا التكليف.

قولهم : إنه يفضى إلى التكليف (٢) بما لا يطاق (٢) ؛ مسلم. وسيأتى تحقيقه فيما بعد (٣).

وأما ما ذكروه من الظواهر ، فمما لا نسوغ التمسك بها في مسائل الأصول ؛ إذ هى مع ما يقابلها من ظواهر أخر ممكنة التأويل جائزة التخصيص ؛ والمقطوع لا يستفاد من المظنون.

كيف : وأن القول بموجب أكثرها متجه هاهنا. فإنا لا نقول إن إرادته ، ورضاه ، ومحبته ، مما يتعلق بالمعاصي على اختلاف أصنافها من حيث هى شرور ، ومعاصى ، وفساد ؛ فإنها من هذه الجهات أمور إضافية لأدوات حقيقية ، والإرادة : إنما تتعلق بالمعاصي من حيث هى أفعال حادثة ؛ لا من تلك الجهات.

__________________

(١) فى ب (لا يأتى بها فإذا).

(٢) فى ب (تكليف ما لا يطاق).

(٣) انظر ل ١٩٤ / أوما بعدها.

٣١٩

على أننا نقرر قاعدة في معنى المحبة ، والرضا ، والإرادة ؛ يمكن التوصل منها إلى تأويل كل ما يرد من هذا القبيل فنقول : أما المحبوب ، والمرضى في حق الله ـ تعالى ـ فمعناه : أنه ممدوح عليه في العاجل ، ومثاب في الآجل. والمسخوط في مقابلته.

فعلى هذا معنى قوله ـ تعالى ـ (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ) (١) وقوله : (لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢) ، وقوله (لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٣) أنه غير ممدوح عليه في العاجل ، ولا مثاب عليه في الآجل.

وهكذا تأويل كل ما يرد من هذا القبيل.

وقد يمكن حمل قوله ـ تعالى ـ : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) على المؤمنين من عباده ، ويكون اختصاصهم بلفظ العباد تشريفا ، وتكريما (٤) لهم (٤) كما في قوله ـ تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) (٥) والمراد به المؤمنون.

وأما الإرادة : فإنها قد تتعلق بالتكليف من الأمر ، والنهى ، وقد تتعلق بالمكلف به ؛ أى بإيجاده ، أو إعدامه ، فإذا قيل : إن الشيء مراد : قد يراد به : أن التكليف به ؛ هو المراد ، لا عينه وذاته. وقد يراد به : أنه في نفسه مراد ؛ أى إيجاده ، أو إعدامه. فعلى هذا ما وصف بكونه مرادا ، ولا وقوع له ؛ فليس المراد به إلا إرادة التكليف به فقط.

وما قيل إنه غير مراد ؛ وهو واقع ؛ فليس المراد به ؛ إلا أنه لم يرد التكليف به فقط.

ومن حقق هذه القاعدة أمكنه التقصى عن قوله ـ تعالى ـ (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٦) بأن يقول : المراد به : إنما هو نفى الإرادة بالتكليف به ، [لا نفى] (٧) إرادة حدوثه. وكذا قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٨) معناه : الأمر باليسر ، ونفيه عن العسر.

__________________

(١) سورة النساء ٤ / ١٤٨.

(٢) سورة البقرة ٢ / ٢٠٥.

(٣) سورة الزمر ٣٩ / ٧.

(٤) فى ب (لهم وتكريما).

(٥) سورة الإنسان ٧٦ / ٦.

(٦) سورة غافر ٤٠ / ٣١.

(٧) فى (أ) (لأنه نفى).

(٨) سورة البقرة ٢ / ١٨٥.

٣٢٠