أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

لا جائز أن يكون وجوده بنفسه : لما سبق في إثبات واجب (١) الوجود (١). وإن كان بغيره : فذلك الغير إن كان غير الله ـ تعالى ـ فهو من العالم ؛ فيكون حادثا ، ولا بدّ له من محدث ، والكلام فيه ، كالكلام في الأول ؛ فلا بد من الاستناد إلى الله ـ تعالى ـ قطعا للتسلسل ، والدور الممتنع.

وعند ذلك. فإما أن يكون البارى ـ تعالى ـ موجدا له بذاته ، أو بصفة زائدة على (٢) ذاته.

فإن كان موجدا له بذاته : فإما أن يتوقف إيجاده له على أمر ، أو لا يتوقف.

فإن توقف على أمر. فإما قديم ، أو حادث.

فإن كان قديما : لزم من قدم / الذات ، وقدم الشرط ؛ قدم الحادث عنه ؛ وهو محال.

وإن كان الشرط حادثا : فالكلام فيه ؛ كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وإن لم يتوقف على شرط : لزم من قدمه ، قدم ما صدر عنه ، أو من حدوث ما صدر عنه حدوثه ؛ وكل واحد من الأمرين محال.

وإن كان البارى تعالى موجدا له بصفة زائدة على ذاته : فإما أن تكون قديمة ، أو حادثة.

لا جائز أن تكون حادثة : إذ الكلام في حدوثها ؛ كالكلام فيما حدث بها ؛ وهو تسلسل ممتنع. كيف ويلزم منه أن يكون الرب ـ تعالى ـ محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع ؛ كما سيأتى (٣).

وإن كانت الصفة قديمة : فلا تخلو : إما أن تكون صفة وجودية ، أو عدمية ، أو لا وجودية ، ولا عدمية.

__________________

(١) فى ب (الواجب). انظر ل ٤١ / ب وما بعدها.

(٢) فى ب (له على).

(٣) انظر ما سيأتى في النوع الرابع ـ المسألة الرابعة : في بيان امتناع حلول الحوادث بذات الرب ـ تعالى ـ ل ١٤٦ / أوما بعدها.

٢٨١

لا جائز أن يقال بكونها عدمية ، ولا بكونها غير موجودة ، ولا معدومة كما سبق في إثبات واجب الوجود (١). فلم يبق إلا أن [تكون (٢) وجودية (٢)] وهى إما أن تكون بحيث يلازمها الإيجاد ، ولا يتصور معها الترك بدلا عن الفعل ، أو لا.

فإن كان الأول : فيلزم من قدمها ، قدم معلولها ، أو من حدوث معلولها ؛ حدوثها ؛ وهو محال.

وإن كانت بحيث يتصور معها الترك بدلا عن الفعل ؛ فهو المعنى بالقدرة.

فإن قيل : لا نسلم حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ وإن (٣) سلمنا حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى (٣) ـ ؛ فما المانع من أن يكون البارى ـ تعالى ـ موجدا له بذاته؟

قولكم : لو كان موجدا له (٤) بذاته : إما أن يتوقف إيجاده له على تجدد أمر ، أو لا يتوقف.

قلنا : ما المانع من أن تكون الأزلية مانعة من وجوده ، وزوالها شرطا في عدمه ، ويكون البارى ـ تعالى ـ متوقفا في إيجاده له بذاته على زوال المانع ، وتحقق الشرط؟

سلمنا أن الأزلية ليست مانعة ، ولا زوالها شرطا ؛ ولكنا أجمعنا على أن شرط إيجاد العلة لمعلولها ـ وسواء كانت موجبة له بالطبع ، أو الاختيار ـ أن يكون المعلول ممكنا في نفسه ؛ فإن ما ليس ممكنا [فى (٥) نفسه (٥)] ؛ فلا يكون معلولا لغيره.

وعند هذا. فلا يخلو : إما أن يكون وجود العالم في الأزل ممكنا ، أو غير ممكن. فإن كان ممكنا : فقد تعذر عليكم القول بامتناع قدمه ، فإن الممكن لا يكون ممتنعا ؛ وهو خلاف مذهبكم ، ثم إنه لا يمتنع / أن يكون وجوده واجبا في الأزل بالواجب (٦) بذاته ، ويكونا (٦) معا بالوجود ، وإن تفاوتا في التقدم ، والتأخر بالذات ؛ كتقدم حركة اليد على حركة الخاتم. وإن كانا معا بالوجود.

__________________

(١) انظر ل ٤١ / أ.

(٢) فى أ (يكون وجوده).

(٣) من أول (وإن سلمنا حدوث ...) ساقط من ب.

(٤) ساقط من ب.

(٥) ساقط من أ.

(٦) فى ب (بالواجب ويكون) :

٢٨٢

وعند ذلك : فيمتنع القول بإثبات القدرة لله ـ تعالى ـ إذ هو مبنى على حدوث العالم. وإن لم يكن العالم في الأزل ممكنا : فقد فات شرط إيجاب (١) العلة لمعلولها في الأزل ؛ فلذلك امتنع أن يكون العالم موجودا مع البارى في الأزل ، بخلاف الحكم في حالة الحدوث.

ثم إن الإمكان المتجدد : إما أن يكون وجودا ، أو عدما.

فإن كان وجودا : فقد تجدد أمر لم يكن ، والكلام فيه كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل الممتنع.

وإن كان عدما : فعدمه في الأزل وجود ؛ لأن عدم العدم وجود ، وليس ممكنا ، وإلا كان الموجود الممكن ثابتا في الأزل ؛ وهو خلاف الفرض ؛ فهو واجب لذاته. فإذا قيل بعدمه ؛ فقد قيل بجواز عدم الواجب (٢) لذاته (٢) ؛ وهو ممتنع.

سلمنا أنه لا يتوقف إيجاده له على شرط ؛ ولكن ما المانع من أن يكون البارى ـ تعالى ـ مقتضيا بذاته لإيجاد العالم حادثا ، لا أزليا؟

وعند ذلك لا يلزم من قدم العلة ؛ قدم المعلول ، ولا من حدوث المعلول ؛ حدوث العلة.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجود القدرة القديمة ؛ ولكن معنا ما يدل على أنها غير موجودة.

وبيانه من عشرة أوجه :

الأول : أنه لو كان موجدا بالقدرة القديمة : فإما أن يتوقف الإيجاد بالقدرة على تجدد أمر ، أو لا يتوقف ،

فإن توقف ؛ لزم التسلسل.

وإن لم يتوقف : فيلزم قدم المقدور ؛ لقدم القدرة ، أو حدوث القدرة ؛ لحدوث المقدور ؛ وكل واحد من الأمرين محال.

__________________

(١) فى ب (ايجاد).

(٢) فى ب (الفعل لذاته).

٢٨٣

الثانى : هو أن وجود المقدور بالقدرة : إما أن لا يكون متوقفا على تعلق القدرة به ، أو يكون متوقفا على تعلق القدرة به.

فإن كان الأول : فلا يكون (١) وجوده أولى من عدمه ، ولا وجوده أولى من وجود غيره بها ؛ لعدم تعلق القدرة به.

وإن كان الثانى : فلا يخفى أن تعلق القدرة بالمقدور نسبة وإضافة بين القدرة ، والمقدور ، والنسبة بين الشيئين ، متوقفة عليهما ، وأحد المتعلقين هو المقدور ؛ فتعلق القدرة / متوقف عليه ؛ فإذا (٢) كان وجود المقدور متوقفا على تعلق القدرة به ؛ كان دورا ممتنعا.

الثالث : أن وجود المقدور : إما أن يتوقف على تأثير القدرة فيه أو لا. فإن كان الأول : فالتأثير أيضا نسبة وإضافة (٣) بين الأثر ، والمؤثر ؛ وذلك يفضى إلى الدور ؛ كما سبق في تحقيق التعلق.

وإن كان الثانى : فيلزم منه وجود الأثر بدون تأثير المؤثر فيه ؛ وهو ممتنع.

الرابع : هو أن تأثير القدرة في وجود الحادث يتوقف على تميزه في نفسه ؛ وإلا لما كان تأثيرها فيه أولى من غيره ؛ فإذن تميزه في نفسه ، مقدم على تأثير القدرة فيه ، وتميز المقدور في نفسه صفة له ، وصفة الشيء متأخرة عنه ، والمقدور متأخر عن تأثير القدرة فيه (٤) ؛ فالتمييز الّذي هو متأخر عن المقدور ، المتأخر عن تأثير القدرة فيه ؛ يكون متأخرا عن تأثير القدرة ، وقد كان متقدما عليها ؛ وهو محال.

الخامس : أن تأثير القدرة في الوجود ، بدلا عن العدم ، أو العدم بدلا عن الوجود : إما أن يكون متوقفا على مرجح لأحد الطرفين على الآخر ، أو لا.

لا جائز أن يقال بعدم المرجح : وإلا لزم منه ترجيح أحد الجائزين على الآخر من غير مرجح ؛ وهو محال ؛ لما سبق (٥).

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) فى ب (فإن).

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (عليه)

(٥) انظر ل ٤١ / ب.

٢٨٤

وإن كان متوقفا علي مرجح : فعند وجود المرجحات ، وانتفاء الموانع : إما أن يكون الترك ممكنا ، أو لا.

فإن كان الأول : فلا يلزم من فرض عدمه المحال.

فإذن الفعل والترك [ممكنان (١)] والتقسيم في تحقيق الوجود دون العدم يكون عائدا ؛ ويلزم منه التسلسل الممتنع.

وإن كان الثانى : فقد صار وجوده واجبا ، وحتما لازما ، وخرج عن أن يكون موجودا (٢) بالقدرة ؛ إذ القدرة ما يتأتى بها الإيجاد ، ولا يمتنع معها الترك ، بدلا عن الفعل.

السادس : هو أن وجود الحادث في وقت حدوثه : إما أن يكون معلوما لله تعالى ، أو لا.

فإن لم يكن معلوما لله (٣) : كان جاهلا بعواقب الأمور : وهو على الله ـ تعالى ـ محال.

وإن كان معلوما : فلا بد من وقوعه ؛ حتى لا يكون علمه جهلا.

وعند ذلك ؛ فلا حاجة إلى القدرة.

وإن كان لا بدّ من القدرة : فالإيجاد (٤) بها مما (٤) لا يتهيأ معه الترك حتى لا يكون العلم جهلا ؛ فلا يكون قدرة.

السابع : هو / أن وجود الحادث في وقت حدوثه : إما أن يكون مرادا لله ـ تعالى ـ أولا يكون مرادا له

فإن كان مرادا له ؛ فيمتنع أن لا يقع.

وعند ذلك : فلا حاجة إلى القدرة ، أو أن تكون القدرة مما لا يتهيأ معها الترك ؛ وهو ممتنع ؛ على ما سبق (٥).

__________________

(١) فى أ (ممكن).

(٢) فى ب (ممكنا موجودا).

(٣) فى ب (له).

(٤) فى ب (فلا لايجادها ما).

(٥) انظر ل ٥٨ / ب وما بعدها.

٢٨٥

وإن لم يكن مرادا له ؛ فهو غير مختار في إيجاده.

الثامن : أنه لو كان موجدا بالقدرة : فإما أن يكون مريدا لما يوجده ، أو لا يكون مريدا لما يوجده.

فإن كان مريدا لما يوجده : فهو ممتنع ؛ لوجهين :

الأول : هو أن إرادته له : إما أن تكون سابقة على الحادث ، أو معه.

فإن كانت سابقة : فهى عزيمة ، والعزم إنما يتصور في حق من أجمع على شيء بعد تردده فيه ، وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال.

وإن كان وجودها مع وجود الحادث بها : فهى حادثة ؛ وهو محال.

الوجه الثانى : هو أنه لو كان مريدا لمقدوره : فإما أن تكون إرادته له (١) أولى (١) من [لا إرادة (٢)] أو لا تكون أولى له.

فإن لم تكن إرادته له أولى له : فليس إرادة الفعل أولى من الترك.

وإن كانت إرادته أولى به : فهو لا محالة يستفيد بإرادته له كمالا ، وبعدم الإرادة يفوت عليه ذلك الكمال ، ويلزم من ذلك أن يكون كمال الرب ـ تعالى مستفادا له من مخلوقه ؛ وهو محال.

وإن لم يكن مريدا لما يوجده ؛ فهو غير موجد بالاختيار.

التاسع : هو أن الإيجاد بالقدرة ، إما أن يكون العدم معه مقدورا ، أو لا.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ القدرة صفة مؤثرة فتستدعى أثرا ، والعدم نفى محض ؛ فلا يكون أثرا للقدرة.

وإن قيل بالثانى : فهو غير موجود بالاختيار ؛ فإن الموجد بالاختيار : من صح منه الفعل بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل.

__________________

(١) فى ب (الأولى).

(٢) فى أ (الإرادة).

٢٨٦

العاشر : لو كان موجدا بالقدرة ، والقدرة قديمة ؛ لوجب تعلقها بجميع المتعلقات ؛ فإنه ليس تخصيص القديم ببعض الجائزات دون البعض بأولى من العكس ، ولو كانت متعلقة بجميع الجائزات ؛ فهو ممتنع لوجهين :

الأول : هو أن العالم مشتمل على خيرات ، وشرور ، فلو كان موجدا للجميع ؛ لوجب (١) أن يكون خيرا ، شريرا على ما تقرر في العقول من خيرية موجد الخير ، وشرية موجد الشر ؛ وذلك على الله ـ تعالى ـ محال.

الثانى : هو أن من جملة الجائزات : أفعال العباد ؛ فإنها مقدورة / لهم ؛ كما سيأتى (٢) تعريفه. فلو تعلقت بها قدرة الرب تعالى ؛ للزم منه وجود مقدور بين قادرين ؛ وهو ممتنع كما سيأتى بيانه (٣).

وأيضا : فإن كثيرا من الموجودات الجائزة متولد (٤) بعضها من بعض كالذى نشاهده من تولد حركة الخاتم من (٥) حركة اليد ، وكذا (٥) فى حركة كل متحرك بحركة ما هو قائم به ، وملازم له ، ولا يمكن أن يقال بأن حركة الخاتم مخلوقة لله تعالي ؛ فإنها غير متولدة من حركة اليد ، وإلا لجاز أن يخلق إحدى الحركتين دون الأخرى ؛ وهو ممتنع.

سلمنا أنه موجد بالقدرة ؛ ولكن هل القدرة القديمة واحدة ، أو متعددة؟

فإن كانت واحدة : فهل هى متناهية في ذاتها وبالنظر إلى متعلقاتها ، أم لا؟

وإن كانت غير متناهية : فما علمه الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون هل يكون مقدورا للرب ، أم لا؟

__________________

(١) فى ب (للزم).

(٢) انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٢٤١ / أوما بعدها.

(٤) فى ب (متألف).

(٥) فى ب (عن حركة الاصبع فكذا).

٢٨٧

والجواب :

قولهم (١) : لا نسلم حدوث كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ قلنا (٢) : سنبين ذلك فيما بعد (٣).

قولهم : ما المانع من أن تكون الأزلية مانعة من الوجود ، وعدمها شرطا؟

قلنا : ما من وقت يفرض وجود العالم فيه حادثا ، إلا ويمكن فرض وجوده قبل ذلك ، مع انتفاء الأزلية المانعة ، فلو كان البارى تعالى موجدا بذاته ؛ لوجب أن يكون موجدا له في كل وقت يفرض فيه انتفاء الأزلية ، ويلزم من ذلك أن لا يكون العالم موجودا وقت وجوده ؛ بل قبله ؛ وهو محال ؛ فدل على أنه موجب بالقدرة ، والاختيار.

قولهم : العالم في الأزل : إما أن يكون ممكنا ، أو غير ممكن.

قلنا : عنه جوابان :

الأول : أنه ممكن غير ممتنع لذاته ، وإنما هو ممتنع باعتبار أمر خارج ؛ فلا منافاة بين كونه ممكنا باعتبار ذاته ؛ ممتنعا باعتبار غيره.

الثانى : أنه وإن لم يكن ممكنا في الأزل : فما من وقت يفرض حدوثه فيه ، إلا وهو ممكن قبل ذلك الوقت. فلو كان البارى ـ تعالى ـ موجبا له بذاته ؛ لكان موجبا له في كل حالة يفرض كونه ممكنا فيها ، ويلزم من ذلك أن يكون العالم حادثا ، قبل وقت حدوثه ؛ وهو ممتنع.

قولهم : الإمكان المتجدد : إما وجود ، أو عدم؟

قلنا : بل عدم ؛ كما سيأتى تعريفه.

قولهم : فسلب الإمكان في الأزل يكون وجودا : يلزم عليه الامتناع ؛ فإنه عدم ؛ إذ هو صفة للمنع ، والممتنع نفى محض ؛ فلو كان الامتناع صفة وجودية ؛ لكان الوجود صفة للنفى المحض ؛ وهو محال. وسلب الامتناع مع كونه عدما ، ليس أمرا وجوديا ؛ فإن

__________________

(١) فى ب (قولكم).

(٢) ساقط من ب.

(٣) انظر ل ٨٢ / ب من الجزء الثانى وما بعدها.

٢٨٨

سلب الامتناع صفة للعدم الممكن ، والعدم نفى محض ؛ فما يكون صفة له ؛ لا يكون وجودا (١).

قولهم : ما المانع من أن يكون البارى تعالي مقتضيا بذاته لوجود العالم حادثا ؛ لا أزليا.

قلنا : فكان يجب أن يكون مقتضيا لوجوده في كل وقت يمكن أن يفرض العالم فيه حادثا ، ويلزم من ذلك وجوب حدوثه قبل وقت حدوثه ؛ وهو محال.

قولهم : لو كان موجدا / للعالم بالقدرة : فإما أن يتوقف الإيجاد بالقدرة على تجدد أمر ، أو لا.

قلنا : لا يتوقف على تجدد أمر ، ولا يلزم من ذلك قدم المقدور ؛ إذ ليس معنى القدرة ما يلازمه (٢) المقدور ؛ بل ما من شأنه تحقق المقدور به ، وتخصيص الإيجاد بوقت الوجود دون ما تقدم ، أو تأخر ، فمستند إلى الإرادة كما سيأتى (٣).

قولهم (٤) : لو كان موجدا بالقدرة القديمة ؛ فإيجاد المقدور : إما أن يتوقف على تعلق القدرة به ، أو لا. عنه جوابان :

الأول : أنه لا معني لتعلق (٥) القدرة به غير حصوله عنها ، وهو نفس المعلول. وعند ذلك ؛ فلا دور.

الثانى : أن هذا لازم على من زعم أن الرب تعالى موجب بذاته.

والجواب إذ ذاك يكون متحدا ، وبهذين الجوابين يكون اندفاع الشبهة الثالثة ، وبالثانى منهما ، اندفاع الشبهة الرابعة.

__________________

(١) من أول (الثانى : أنه وإن لم يكن ... لا يكون وجودا) ليس في (ب) والموجود بدله ما يأتى :

(قولهم : إذا كان ممكنا أن لا يمنع وجوب وجوبه بالواجب لذاته إنما يلزم أن لو كان الإيجاد بالذات ممكنا وهو غير مسلم. ولا نسلم أن تولد وجود حركة الخاتم من حركة اليد ، بل هما معلولان لأمر خارج وإن كان أحدهما لازما للآخر كما سنبينه).

(٢) فى ب (ما يلازمها).

(٣) انظر ل ٦٥ / أوما بعدها

(٤) فى ب (قولكم).

(٥) فى ب (لتحقق).

٢٨٩

قولهم : تأثير القدرة في الوجود بدلا عن العدم ، وبالعكس ، إما أن يتوقف على مرجح ، أم لا.

قلنا : هو متوقف على مرجح : هو القدرة ، ومخصص : هو الإرادة. لا على أمر خارج عنهما ، وليس في ذلك ما يوجب وجود الممكن من غير مرجح.

قولهم : إما أن يجوز مع ذلك الترك ، أو لا.

قلنا : أما بعد التعلق فلا ، ولكن لو قدرنا عدم التعلق بالإيجاد بدلا عن التعلق بالإيجاد ، لما (١) كان (١) ممتنعا. وبهذا تميز الموجب بالقدرة عن الموجب بالذات ؛ فإن الموجب بالذات لا يتصور أن لا يكون موجبا.

قولهم : وجود الحادث في وقت حدوثه : إما أن يكون معلوما لله ـ تعالى ـ ، أو لا.

قلنا : حدوثه معلوم له مقدورا ، لا غير. مقدور.

وعند ذلك فلو فرضنا حدوثه لا بجهة القدرة ؛ كان علمه جهلا

قولهم : وجود الحادث في وقت حدوثه : إما مرادا لله ـ تعالى ـ ، أو غير مراد.

قلنا : مراد الجهة بجهة القدرة ، لا مطلقا ؛ وذلك لا ينافى القدرة.

قولهم : الإرادة إن كانت سابقة ، فهى عزيمة.

لا نسلم ذلك ؛ فإن العزيمة إنما تتصور في حق من إرادته السابقة مسبوقة بالتردد والفكر ؛ وهو غير مسلم في حق الرب تعالى بخلاف الشاهد.

قولهم : إما أن تكون إرادة العالم أولى ، أو لا.

قلنا : الأولى إنما يطلب في فعل من يطلب في فعله رعاية الصلاح ، أو الأصلح ؛ وليس البارى ـ تعالى ـ كذلك على ما يأتى (٢).

وعلى / هذا فلا يصح القول بأنه لا أولوية لتخصيص أحد الأمرين دون الآخر ؛ فإن هذا هو شأن الإرادة ، وهو تخصيص أحد الجائزين دون الأخر.

__________________

(١) فى ب (لكان).

(٢) انظر ل ١٨٦ / أوما بعدها.

٢٩٠

فإذا قيل : لم كان كذلك؟ كان هذا السؤال يتضمن إبطال حقيقة الإرادة ، وكأنه قيل : لم كانت الإرادة ؛ إرادة؟ وهو غير مسموع.

ثم وإن قدرنا الأولى في فعله ؛ فإنما يلزم بسببه الكمال والنقصان ، في حق واجب الوجود أن لو كانت حكمة الأولوية عائدة إليه ، وليس كذلك ؛ بل هى عائدة إلى المراد دون المريد ، ثم هذا الإشكال مما لا يصح إيراده ممن يعترف بكون الله تعالى مريدا. من المعتزلة. ولا من الفلاسفة الإلهيين حيث قضوا : بأن النفوس الفلكية ، مخصصة للحركات الدورية ، بإرادة نفسية على ما سيأتى تحقيقه (١). وإن كانت النفوس الفلكية أشرف من الحركات المخصصة بها.

ثم هو لازم على القائل بالإيجاب بالذات ، إذ يمكن أن يقال : الإيجاب بالذات : إما أن يكون أولى من عدم الإيجاب بالذات ، أو لا يكون أولى ، وهلم جرا ، إلى آخر الإشكال.

وعند ذلك : فما هو جواب له في الإيجاب بالذات ؛ فهو جواب له في الإيجاب بالقدرة ، والاختيار.

قولهم : الإيجاد بالقدرة : إما أن يكون العدم معه مقدورا ، أو لا.

قلنا : بل مقدور. وما (٢) أوردوه (٢) من الإشكال ؛ فقد سبق جوابه.

قولهم : العالم مشتمل على خيرات وشرور.

فقد أجاب عنه بعض الأصحاب بأن قال : أفعال المكلفين وإن انقسمت إلى خيرات ، وشرور ، لكن القدرة (٣) إنما تتعلق (٣) بها من جهة وجودها ، وهى من هذا الوجه ليست شرورا ، وإنما يلحقها الشر بالنسبة إلي صفات هى منتسبة (٤) إلى فعل العبد ، وقدرته ، كما يأتى تحقيقه في مسألة خلق الأعمال ، وهى من تلك الجهة غير مقدورة لله ـ تعالى ـ ولا مرادة له. فإذن ما هو الخير مستند إلى فعل الله ـ تعالى ـ وما هو الشر

__________________

(١) انظر الجزء الثانى ـ النوع الثالث : في الجسم وأحكامه ـ

الفصل السابع : في إبطال قول الفلاسفة إن الأفلاك ذوات أنفس وأنها متحركة بالإرادة النفسية ل ٣٢ / أوما بعدها.

(٢) فى ب (ما ذكروه).

(٣) فى ب (الحادثة تتعلق).

(٤) فى ب (منشئه).

٢٩١

مستند إلى فعل العبد. وسنبين إبطاله في مسألة خلق الأعمال (١) ، ونبين أنه ما من حادث ، إلا وهو حادث بإحداث الله ـ تعالى ـ

بل الحق في ذلك أن يقال :

القدرة إنما تتعلق به من جهة حدوثه ، ووجوده ، وليس من هذه الجهة شر ؛ إذ الشر ليس وصفا ذاتيا ، ولا أمرا حقيقيا ؛ بل حاصله / يرجع إلى مخالفة الفرض ؛ وهو غير خارج عن الأمور النسبية ، والأحوال الإضافية ؛ كما يأتى تحقيقه في مسألة التحسين ، والتقبيح (٢).

ثم وإن قدر استناد الشر إلى الله ـ تعالى ـ فى الخلق ، والإيجاد ؛ فلا يلزم أن يقال له باعتبار ذلك شريرا إلا بالقياس على الشاهد ؛ وهو غير صحيح كما سبق (٣).

وإن كان المورد له معتزليا ؛ فيلزمه تسمية الرب (٤) ـ تعالى ـ مطيعا ؛ لكونه خالقا للطاعة ؛ كما قيل في الشر ؛ وليس كذلك.

فإن قيل : تسمية الواحد منا مطيعا : إنما كان بالنسبة إلى ما أوجده فيما هو مأمور به ، وملجأ إليه ، والبارى ـ تعالى ـ منزه عن ذلك.

قلنا : فما المانع من أن تكون تسمية الواحد منا شريرا بالنسبة إلى ما أوجده عما نهى عنه؟ والرب يتعالى ، عن ذلك.

قولهم : من جملة الجائزات أفعال العباد ، والمتولدات.

قلنا : أما أفعال العباد : فسنبين أنها مخلوقة لله ـ تعالى ـ دون العبيد ، فيما (٥) بعد (٥).

وأما المتولدات : فسيأتى (٦) أيضا إبطالها ، وبيان أنه ما من حادث إلا وهو حادث بإحداث الله ـ تعالى ـ وملازمة حركة الخاتم لحركة اليد : غير مانع من حدوثهما

__________________

(١) انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

(٢) انظر ل ١٧٤ / ب وما بعدها.

(٣) انظر ل ٤٠ / أ.

(٤) فى ب (الله).

(٥) ساقط من ب. انظر ل ٢٥٧ / ب وما بعدها.

(٦) انظر ل ٢٧٣ / أوما بعدها.

٢٩٢

بإحداث الله ـ تعالى ـ لهما ؛ فإنه لا مانع من وجود أمرين. أحدهما يلزم الآخر : إما عادة : كملازمة التسخين للنار. وإما اشتراطا : كملازمة العلم للإرادة ، والحياة للعلم ، وليس أحدهما مستفادا من الآخر ؛ بل كلاهما مخلوقان لله ـ تعالى ـ.

قولهم : القدرة القديمة واحدة ، أو متعددة.

قلنا : بل واحدة ، لا تعدد فيهما ، ودليله مسلكان :

المسلك الأول : أنها لو كانت قابله للتعدد : فإما أن تكون أعدادها ، متناهية ، أو غير متناهية.

فإن كانت متناهية : فما من عدد يفرض إلا وفرض الزيادة عليه لا يلزم منه الحال.

فكل عدد معرض قائله له ؛ فهو جائز عليها.

وعند ذلك فتخصيصها ببعض الأعداد دون البعض : إما لمخصص ، أو لا لمخصص.

فإن كان الأول : فالمخصص لها بذلك العدد : إما موجب بالذات ، أو بالاختيار.

فإن كان الأول : فهو محال ، فإن نسبة الموجب بالذات إلى كل ما يفرض من الأعداد نسبته واحدة ، فليس تخصيصه للبعض دون البعض ؛ أولى من العكس.

وإن كان موجبا بالاختيار ، والقدرة : فإما / أن تكون تلك القدرة قديمة ، أو حادثة.

فإن كانت قديمة : فهى من الجملة المفروضة ، وليس جعل البعض منها مخصصا للباقى ، أولى من العكس.

وإن كانت حادثة : فالحادث لا يكون مخصصا للقديم.

وإن كان ذلك لا لمخصص : ففيه فرض وقوع الجائز لا لمخصص ؛ وهو محال كما سبق (١).

وأما إن كانت أعدادها غير متناهية ؛ فهو ممتنع لما سبق أيضا (٢) ، ويلزم من إبطال كل واحد من القسمين ؛ إبطال التعدد.

__________________

(١) راجع ما سبق ل ٥٩ / أوما بعدها.

(٢) انظر ل ٤١ / ب.

٢٩٣

المسلك الثانى : أن يقول : لو كانت متعددة متكثرة ؛ فلا يخلو : إما أن تكون متفقة من كل وجه ، أو مختلفة من كل وجه ، أو متفقة من وجه دون وجه.

فإن كان الأول : فلا تعدد ، ولا كثرة ؛ فإن التكثر في أشخاص الحقيقة الواحدة من غير مميز محال.

وإن كان الثانى : فالقدرة ليست إلا واحدة منها ، والباقى ليس بقدرة.

وإن كان الثالث : فما به تميز كل واحد من أعداد القدر (١) عن الآخر إما أن يكون اختصاصه به لذاته ، أو لمخصص من خارج.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لما وقع الاختلاف فيه بين أعداد القدر (٢) ؛ لاشتراك الكل في حقيقة القدرة الموجبة لتخصيصه.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا فالمخصص لكل واحد منها بما تخصص به إما أن يكون موجبا لذلك بالذات ، أو بالقدرة.

فإن كان بالذات : فهو أيضا محال ؛ لأن نسبة الموجب بالذات إلى الكل نسبة واحدة ؛ ضرورة التماثل ، وليس تخصيصه [بما] (٣) تخصص به البعض دون البعض ؛ أولى من العكس.

وإن كان مخصصا بالقدرة : فالقدرة المخصصة : إما قديمة ، أو حادثة.

لا جائز أن تكون حادثة ؛ فإن الحادث لا يكون مخصصا للقديم.

وإن كانت قديمة : فهى من الجملة ، والكلام فيما تخصصت به : كالكلام في الأول. وذلك يجر إلى التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

وإذا بطل كل واحد من الأقسام اللازمة من التعدد ؛ فلا تعدد.

كيف وأن الطريق إلى ثبوت صفة القدرة إنما هو كون الكائنات ؛ وذلك إنما يدل على أنه لا بدّ من قدرة يحصل بها الإيجاد ، ولا مانع من أن تكون القدرة واحدة ،

__________________

(١) فى ب (القدرة).

(٢) فى ب (القدرة).

(٣) فى أ (لما).

٢٩٤

والمتعلقات متعددة ؛ وذلك على نحو تعلق الشمس بما قابلها ، واستضاء بها ؛ فإنه وإن كان متعددا غير موجب للتعدد في الشمس المتعلقة به ؛ فالقول بالزيادة / على ذلك قول لا دليل عليه.

وأيضا : فإن القول بالتكثر يوجب التمايز بصفات خارجة عن الصفات النفسانية من غير دليل عقلى ، ولا (١) نقل سمعى ؛ وهو ممتنع.

غير أن هذه استبصارات ؛ والبرهان ما ذكرناه من المسلكين :

فإن قيل : ما ذكرتموه إنما يلزم أن لو كان ما وقع به التمايز بين أعداد القدرة من الصفات الوجودية ، والأمور الحقيقية. وما المانع من أن يكون التمايز باعتبار سلوب ، وإضافات ، ومتعلقات خارجة ليست من الصفات الوجودية؟

وذلك على نحو ما يقوله الفيلسوف : في تعدد الأنفس الإنسانية ، بعد مفارقة الأبدان : بناء على ما حصل لها في حال مقارنة الأبدان من النسب ، والإضافات.

قلنا : أما التعدد بالسلوب المحضة ؛ فبعيد ؛ وذلك لأن ما سلب عن أحد الأعداد ؛ إن وقعت المشاركة فيه : بأن يكون مسلوبا أيضا عن الكل ؛ فلا (٢) تمايز به. وإن لم يكن مسلوبا عن الكل فما سلب عن بعضها ؛ فهو ثابت للبعض الآخر ، ويلزم من ذلك إثبات صفة وجودية زائدة يكون التمييز حاصلا بها ، لا بمحض السلب.

وأما التغاير باعتبار الإضافات ، والتعلقات فلا يخلو : إما أن تكون موجبة لقيام صفات وجودية بالمتعلق ، أو لا.

فإن كان الأول : ففيه إثبات صفة وجودية على ما سلف.

وإن لم يوجب قيام صفة وجودية به (٣) ؛ فهى غير موجبة للتعدد في المتعلق كما ذكرناه من تعلق الشمس بما قابلها واستضاء بها ؛ فإذن صفة القدرة القديمة واحدة لا تعدد فيها.

__________________

(١) فى ب (ولا نقلى).

(٢) فى ب (ولا).

(٣) ساقط من ب.

٢٩٥

قولهم : [أهى] (١) غير متناهية في ذاتها ، ومتعلقاتها ، أم لا؟

قلنا : بل هى غير متناهية في ذاتها ، ولا بالنظر إلى متعلقاتها.

أما بالنظر إلى ذاتها : فبمعنى أنها حقيقة واحدة ، لا انقسام فيها" لا (٢) بأجزاء حد (٢) ، ولا بأجزاء كمية ، وهذا هو المعنى من سلب النهاية عن ذات واجب الوجود ، وباقى صفاته.

وأما سلب النهاية عنها باعتبار متعلقاتها : فمعناه أن ما يصح (٣) أن تتعلق به القدرة من الجائزات لا نهاية له بالقوة ، وإن كان متناهيا بالفعل. وهذا هو المعنى بسلب النهاية في متعلقات باقى الصفات.

قولهم : فما علم الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون ، هل (٤) يكون مقدورا منه ما هو ممتنع الكون له؟

قلنا : ما علمه الله ـ تعالى ـ أنه لا يكون : منه / ما هو ممتنع الكون في نفسه : كاجتماع الضدين ، وكون الجسم الواحد في آن واحد في مكانين ، ونحوه ، ومنه ما هو جائز في نفسه : مع قطع النظر عن تعلق العلم بأنه لا يكون.

فما كان من القسم الأول : فغير مقدور من غير خلاف. سواء تعلق العلم بأنه لا يكون ، أو لم يتعلق.

وأما القسم الثانى : فقد اختلف فيه ، فذهب أئمتنا ، وأكثر المعتزلة : إلى أنه مقدور خلافا لعبّاد (٥) ؛ فإنه قال : هو غير مقدور لله ـ تعالى ـ.

وحاصل النزاع في هذه المسألة آئل إلى العبارة ؛ فإن من قال بكونه مقدورا لا يعنى به غير أنه بالنظر إلى ذاته ممكن ، والممكن ـ من حيث هو ممكن ـ غير مستحيل

__________________

(١) فى أ (انها).

(٢) فى ب (بأجزاء حدود).

(٣) فى ب (ما يصلح).

(٤) فى ب (فهل).

(٥) عبّاد بن سليمان الصّيمرى : أحد رجال الطبقة السابعة من المعتزلة من أصحاب هشام الفوطى ، له مؤلفات كثيرة في الاعتزال ، ودارت بينه وبين ، ابن كلاب مناظرات ، توفى سنة ٢٥٠ ه‍ (انظر طبقات المعتزلة ص ٧٧ ومقالات الإسلاميين ١ / ٢٣٧ و٢٣٩ و٢٥٠ و٢٥٢).

٢٩٦

الوجود ، والقدرة ـ من حيث هى قدرة ـ لا يستحيل تعلقها بما هو في ذاته ممكن إذا قطع النظر عن تعلق العلم بأنه لا يكون ، إذ الممكن ـ من حيث هو ممكن ـ لا ينبوا عن تعلق القدرة القديمة به ، والقدرة ـ من حيث هى قدرة ـ لا تتقاصر عن التعلق به لقصور فيها ، ولا ضعف.

ولا معنى لكونه مقدورا إلا هذا. وإن كان مستحيل الوجود بالنظر إلى تعلق العلم بأنه لا يكون حتى لا يفضى إلى وقوع خلاف المعلوم.

ومن قال بكونه غير مقدور ؛ فهو لا ينازع في كونه مقدورا بالتفسير المذكور.

وإنما قال بكونه غير مقدور : بمعنى أنه يلزم المحال من فرض وقوعه ، وتخصيصه بالقدرة من حيث تعلق العلم بأنه لا يكون ؛ وهو غير ممنوع عند القائل بكونه مقدورا بالتفسير المذكور ؛ والله أعلم.

٢٩٧

المسألة الثالثة

في إثبات صفة الإرادة.

مذهب أهل الحق (١) : أنّ البارى ـ تعالى ـ مريد بإرادة قائمة بذاته. قديمة ، أزليّة ، وجوديّة ، واحدة ، لا تعدّد فيها ، متعلّقة بجميع الجائزات ، غير متناهية بالنّظر إلى ذاتها ، ولا بالنّظر إلى متعلّقاتها.

وذهب الفلاسفة (٢) ، والشّيعة (٣) ، والمعتزلة (٣) : إلى إنكار ذلك.

وإذا قيل له مريد : فمعناه عند الفلاسفة : راجع إلى سلب الكراهة عنه.

ووافقهم على ذلك النّجّار (٤) من المعتزلة : حيث أنه فسّر كونه مريدا ؛ بسلب الكراهة ، والغلبة عنه.

__________________

(١) لتوضيح مذهب أهل الحق بالإضافة إلى ما ورد هنا :

انظر اللمع للأشعرى ص ٤٧ ـ ٥٩ ، والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ـ ٤٩ ، ١٥٢ والإنصاف ص ٣٦ له أيضا ، وأصول الدين للبغدادى ص ١٠٢ ـ ١٠٥ ، والإرشاد لإمام الحرمين ص ٦٣ ـ ٧١ ، ٢٣٧ ـ ٢٥٤ ولمع الأدلة له أيضا ص ٨٣ ـ ٨٥ والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٤٧ ـ ٥١ ونهاية الأقدام للشهرستانى ص ٢٣٨ ـ ٢٦٨ ، والمحصل للرازى ص ١٢١ ـ ١٢٣ ومعالم أصول الدين ص ٤٤ ـ ٤٥ على هامش المحصل.

ومن كتب الآمدي غاية المرام ص ٥٢ ـ ٧٥.

ومن الكتب التى تأثر أصحابها بالآمدي :

انظر شرح الطوالع ص ١٧٩ ـ ١٨٢ والمواقف للإيجي ص ٢٩٠ ـ ٢٩٢

وشرح المقاصد للتفتازانى ٢ / ٦٩ ـ ٧٢.

(٢) انظر عيون المسائل للفارابى ص ٥ والإشارات لابن سينا ٣ / ٥٦١ طبع دار المعارف.

(٣) فى ب (والمعتزلة ، والشيعة).

(٤) النّجّار : أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله البغدادى ، المعروف بالنّجّار شيخ النّجّاريّة من المعتزلة ، وإليه نسبتها ، كان حائكا ، وهو من متكلمى (المجبرة) وله مع النظّام مناظرات ـ وهو وأتباعه يوافقون أهل السنة في بعض أصولهم : مثل خلق الأفعال ، والمعتزلة في بعض أصولهم أيضا : مثل نفى الرؤية. وقد توفى النجار حوالى سنة ٢٣٠ ه‍.

(الملل والنحل ١ / ٨٨ ، والفرق بين الفرق ص ٢٠٧ ، ومقالات الإسلاميين ١ / ٢١٦). أما عن رأيه في الإرادة فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٤٠ والملل والنحل ١ / ٨٩ والفرق بين الفرق ص ٢٠٨.

٢٩٨

وأما النّظام (١) ، والكعبى (٢) فإنهما قالا : إن وصف بالإرادة شرعا ؛ فليس معناه إن أضيف ذلك إلى أفعاله إلا أنه خالقها.

وإن أضيف إلى أفعال العبد ؛ فالمراد أنه أمر بها.

وزاد الجاحظ (٣) على هؤلاء بإنكار الإرادة شاهدا ، وقال : مهما كان الإنسان / غير غافل ، ولا ساه عما يفعله ؛ بل إن كان عالما به ؛ فهو معنى كونه مريدا.

وذهب البصريون من المعتزلة : إلى أنه مريد بإرادة قائمة لا في محل.

وذهبت الكرامية (٤) : إلى أنّه مريد بإرادة حادثة في ذاته ، تعالى الله عن قول الزائغين.

__________________

(١) النّظّام : ابراهيم بن سيار بن هانئ البصرى ، أبو إسحاق النّظّام ، تلميذ أبو الهذيل العلاف ، وابن اخته. من أئمة المعتزلة ، وهو شيخ النّظّاميّة التى نسبت إليه. من أذكياء المعتزلة ، وذوى النباهة فيهم. من أشهر تلاميذه الجاحظ ـ وتوفى سنة ٢٣١ ه‍ (راجع ما سيأتى في القاعدة السابعة في الجزء الثانى ل ٢٤٤ / ب ،

وطبقات المعتزلة ص ٤٩ والملل والنحل ١ / ٥٣ والفرق بين الفرق ١٣١ ـ ١٥٠ والنظام تأليف أبو ريدة).

أما عن رأيه في الإرادة : فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٣٤ والملل والنحل ١ / ٥٥.

(٢) الكعبى : أبو القاسم عبد الله بن محمود الكعبى ، من بنى كعب ، البلخى الخراسانى ـ أحد أئمة المعتزلة ، وشيخ الكعبية منهم ـ له آراء ومقالات في الكلام انفرد بها. وقد أقام ببغداد مدة طويلة ، وتوفى ببلخ سنة ٣١٩ ه‍.

(وفيات الأعيان ٢ / ٢٤٨ والعبر ٢ / ١٧٦ والفرق بين الفرق ص ١٨١).

أما عن رأيه في الإرادة : فانظر شرح الأصول الخمسة ص ٤٣٤ والملل ١ / ٧٨. ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة : ل ٢٤٦ / ب.

(٣) الجاحظ : عمرو بن بحر بن محبوب الكنانى ، البصرى ، المعتزلى (أبو عثمان) عالم ، أديب ، مشارك في أنواع العلوم ، شيخ الجاحظيّة من المعتزلة. ولد بالبصرة سنة ١٦٣ ه‍ وتوفى بها سنة ٢٥٥ ه‍.

(وفيات الأعيان ٣ / ١٤٠ ولسان الميزان ٤ / ٣٥٥ وتاريخ بغداد ٢ / ٢١٢)

أما عن رأيه في الإرادة فانظر : الملل والنحل ١ / ٧٥ والفرق بين الفرق ١٧٦ ، ١٧٧. ولمزيد من البحث والدراسة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٤٦ / ب.

(٤) الكرامية : هم أتباع أبو عبد الله محمد بن كرام السجستانى المتوفى سنة ٢٥٥ ه‍ كان من عبّاد المرجئة ، قال بالتجسيم ، وتبعه على بدعته خلق كثيرون.

والكرامية ثلاثة أصناف : حقائقية ، وطرائقية ، وإسحاقية.

(الملل والنحل ١ / ١٠٨ والفرق بين الفرق ٢١٥).

أما عن رأيهم في الإرادة : فانظر الملل والنحل ١ / ١١٠ والفرق بين الفرق ص ٢٢٠.

ولمزيد من البحث والدارسة عن هذه الفرقة راجع ما سيأتى في الجزء الثانى ـ القاعدة السابعة ل ٢٥٦ / ب فقد تحدث الآمدي عن آراء الكرامية بالتفصيل.

٢٩٩

وقبل الخوض في الحجاج (١) نفيا ، وإثباتا ؛ لا بدّ من تحقيق معنى الإرادة على مذهب أهل الحق من أئمتنا ؛ ليكون التوارد بالنفى ، والإثبات على معنى واحد.

وقد اختلفت عباراتهم فيها :

فقال بعضهم : هى القصد إلى المراد.

وقال بعضهم : هى إيثار المراد.

وقال بعضهم : هى اختيار الحادثات (٢).

وقال القاضى أبو بكر : هى المشيئة المجردة.

وفي هذه العبارات نظر.

أما العبارة الأولى والثانية : ففيهما تعريف الإرادة بالمراد ، والمراد مشتق من الإرادة ؛ فيكون أخفى في المعرفة من معرفة الإرادة ؛ فلا يصلح للأخذ في التعريف.

والّذي يخص العبارة (٣) الأولى : أن الإرادة أعم من القصد ، وتعريف الأعم بما هو أخص منه ممتنع ؛ ولهذا فإن الإرادة على رأى الأصحاب يجوز تعلقها بفعل الغير ، والقصد إلي فعل الغير ؛ ممتنع.

وقول القائل في العرف : قصدى لفعلك لأجل مصلحتك ؛ فمن أجل مصلحتك ، فمن باب التجوز ، والتوسع ؛ والكلام إنما هو في الحقيقة.

وأما العبارة الثانية : وهى الإيثار. فقد قيل فيها : الإيثار مشعر بسابقة التردد بين أمرين.

أحدهما أثر عن الآخر ، والإرادة أعم من ذلك ؛ فإنّها قد تكون حيث لا تردد : كالمكره على فعل شيء ؛ فإنه لا يخطر له غير الفعل الّذي به نجاته ؛ وهو مريد له.

ويمكن دفعه : بأنه مؤثر لجانب فعله علي عدمه ، ولا خلو له عنه. وما مثل هذا التشكيك فوارد على العبارة الثالثة : وهى الاختيار.

__________________

(١) فى ب (الحجج).

(٢) فى ب (الجاريات).

(٣) فى ب (الإرادة).

٣٠٠