أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

ثالثا : رحلاته العلمية (١)

أ ـ رحلته إلى بغداد [٥٦٥ ه‍ ـ ٥٨٢ ه‍]

١١٦٩ م ـ ١١٨٦ م

قضى الآمدي معظم حياته رحالة في طلب العلم ؛ فقد امتدّت رحلاته العلمية إلى أكثر من ستة وستين سنة. قضاها كلّها طالبا للعلم ، وأستاذا ومؤلّفا ، وقد بدأ رحلاته في سن مبكرة ، وكانت رحلته الأولى إلى بغداد عاصمة الخلافة العباسية التى كانت تعانى من الضعف ، وتسلّط أمراء الأقاليم ، ولم يبق للخليفة فيها نفوذ أو سلطان حقيقى ؛ ولكنها مع ذلك كانت تحاول في عناد الحفاظ على ما لها من مجد علمى ، ونفوذ أدبى.

وقد هبط الفتى إلى بغداد في خلافة المستنجد بالله والوزير بها يومئذ ابن هبيرة (٢) ؛ وقد رجّحت أن ذلك كان سنة ٥٦٥ ه‍ ؛ لأنّ الخليفة توفى في ربيع الآخر سنة ٥٦٦ بينما توفى وزيره في حياته ، وقبله بأشهر.

وأيا كانت السنة التى دخل فيها بغداد ؛ فقد دخلها الفتى ، وقضى بها المرحلة الأولى من حياته ، والتقى فيها بمعظم شيوخه الذين حفظ التاريخ لنا أسماء بعضهم.

وفي هذه البيئة العلمية الخصبة ، ألمّ الآمدي بجوانب الثقافة الإسلامية المختلفة دينية ، وغير دينية ؛ حيث قضى بها ما يقرب من سبع عشرة سنة نضجت فيها شخصيته العلمية ، وتحدد اتجاهه الفكرى الّذي كان سببا في تأليب كثير من المتعصبين عليه ، مما أدى في النهاية إلى مغادرته بغداد.

ب ـ رحلته إلى الشام (الفترة الأولى) [٥٨٢ ه‍ ـ ٥٩٢ ه‍]

١١٨٦ م ـ ١١٩٦ م

ذهب الآمدي إلى الشام ليستكمل دراسته بها بعد أن ضاقت به بغداد ، وضاق بها (كما سيأتى) يقول ابن خلكان : «ثم انتقل إلى الشام ، واشتغل بفنون المعقول ، وحفظ منه الكثير ، وتميّز فيه ، وحصّل منه شيئا كثيرا ، ولم يكن في زمانه أحفظ منه لهذه

__________________

(١) تحدثت في الدراسة عن رحلاته العلمية بالتفصيل من ص ٥١ ـ ٧٩.

(٢) مفرج الكروب في أخبار بنى أيوب لابن واصل ٥ / ٣٦.

٢١

العلوم ، ثم انتقل إلى الديار المصرية ، وتولى الإعادة بالمدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعى (١)» ، وهذا النّص يدلّ على أن فترة مقامه بالشام كانت لاستكمال دراسته التى بدأها في بغداد ؛ بدليل توليه للإعادة بعد ذلك في مصر أول حضوره بها.

ومن البحث يتضح أن الآمدي قد أقام بالشام مدة عشر سنوات في الفترة من سنة ٥٨٢ ه‍ تاريخ دخوله دمشق إلى سنة ٥٩٢ ه‍ تاريخ خروجه من الشام إلى مصر ، قضاها بين مدنه المختلفة ، ومنها بالتحديد دمشق ، وحلب ، وأن هذه الفترة كانت لاستكمال دراسته التى بدأها بآمد ، وبغداد.

ج ـ رحلته إلى مصر [٥٩٢ ه‍ ـ ٦١٣ ه‍]

١١٩٦ م ـ ١٢١٧ م

حضر الآمدي إلى مصر في ذى القعدة من سنة ٥٩٢ ه‍ في عهد السلطان العزيز عثمان ، ونزل في المدرسة المعروفة (بمنازل العز).

وتعتبر هذه الفترة من أهم الفترات في حياة الآمدي ؛ فقد مكث في مصر أكثر من عشرين عاما ، قضاها في القاهرة ، والإسكندرية ؛ وأصدر فيها عددا كبيرا من الكتب في مجالات مختلفة من الثقافة الإسلامية : كالمنطق ، والفلسفة ، والجدل ، والخلاف ، والأصول ، والكلام.

وقد حضر الآمدي إلى مصر وعمره إحدى وأربعون سنة ، وقضى فيها الفترة الذهبية من عمره المديد ـ من الأربعين حتى الستين ـ وألّف فيها كثيرا من مؤلفاته الخاصة به مثل :

(خلاصة الإبريز تذكرة الملك العزيز) الّذي أهداه إلى الملك العزيز كما سيأتى و (رموز الكنوز) و (دقائق الحقائق) و (لباب الألباب) و (الترجيحات) و (غاية الأمل في علم الجدل) و (التعليقة الصغيرة) و (التعليقة الكبيرة) و (غاية المرام في علم الكلام) وأخيرا (أبكار الأفكار) كما سيأتى ـ بالإضافة إلى شرحه لبعض كتب السابقين : والتى أرجح أنه بدأ بها كما هى عادة المؤلفين المبتدءين يبدءون بشرح كتب الغير ، ثم بعد وصولهم إلى مرحلة النضج يبدءون في تأليف كتبهم الخاصة بهم.

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٥ ترجمة رقم (٤٠٥).

٢٢

كما شغل بمصر كثيرا من المناصب العلمية ؛ حيث بدأ برتبة المعية ، ثم وصل إلى رتبة التصدر

وقد عاش الآمدي في مصر في عهود أربعة السلاطين الأيوبيين.

١ ـ السلطان العزيز بن صلاح الدين.

٢ ـ «المنصور بن العزيز.

٣ ـ «العادل شقيق صلاح الدين.

٤ ـ «الكامل بن العادل.

وقد نال التّقدير والاحترام. ثمّ حسده جماعة من فقهاء البلاد وتعصّبوا عليه ، واستباحوا دمه.

وبعد هذه الحادثة لم تطب الحياة في مصر لسيف الدين بعد أن تألّب خصومه عليه ؛ فخرج منها خائفا يترقب حتى نزل حماة بالشام.

د ـ اقامته في الشام : (الفترة الثانية)

في حماة : [٦١٣ ه‍ ـ ٦١٧ ه‍]

[١٢١٧ م ـ ١٢٢١ م]

بعد خروج الآمدي من مصر توجه إلى مدينة حماة بالشام ـ كما ورد في معظم المراجع التى ترجمت له ـ وكانت حماة تحت حكم الملك المنصور ناصر الدين محمد ابن الملك المظفر تقى الدين عمر بن أيوب.

«ولما قدم الآمدي إلى حماة ؛ بنى له السلطان الملك المنصور مدرسته المعروفة به ، التى بقرب الباب الشمالى ، المعروف بباب الجسر الشمالى. وأجرى له الجامكية (١) الكثيرة ، والجراية ، وواظب حضور مجلسه ، والاشتغال عليه بجميع فنونه» (٢).

وقد كان الآمدي يبادل أمير حماة المودة والتقدير ، كما تدل على ذلك مقدمة كتابيه (كشف التمويهات) و (المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين) اللذين أهداهما إليه.

__________________

(١) كلمة فارسية تعنى الخلع والهبات.

(٢) مفرج الكروب ٤ / ٧٧ ـ ٧٨.

٢٣

وقد بقى الآمدي بحماة أربع سنوات كانت من أعظم أيام حياته إنتاجا وتأليفا ، نعم فيها بالأمن والسلام والحب والتقدير.

فى دمشق :

أولا : عهد السلطان المعظم عيسى [٦١٧ ه‍ ـ ٦٢٤ ه‍] ١٢٢١

م ـ ١٢٢٧ م

ذهب الآمدي إلى دمشق سنة ٦١٧ ه‍ بعد أن طلبه أميرها ـ كما سلف ـ فولّاه تدريس المدرسة العزيزية (١) المجاورة لتربة الملك الناصر صلاح الدين الأيوبى ـ وأعطاه دارا وأحسن إليه (٢).

وفي هذه الفترة كان الرجل قد بلغ أوج كفايته علما وفضلا ، وكان قد قارب السبعين من عمره ؛ فأقبل على الاشتغال والتصنيف ، وعقد له مجلس المناظرة ليلة الجمعة ، وليلة الثلاثاء من كل أسبوع بالحائط الشمالى من جامع دمشق ، وكان يحضر مجلسه الأكابر من كل مذهب ، ورحل إليه الطلبة من جميع الآفاق من سائر الطوائف ؛ لطلب العلم (٣).

وقد كانت الفترة التى قضاها الآمدي في عصر الملك المعظم ، ومقدارها سبع سنوات من سنة ٦١٧ ه‍ تاريخ وصول الآمدي لدمشق إلى سنة ٦٢٤ ه‍ تاريخ وفاة المعظم ؛ فترة نال فيها الآمدي التقدير والحب أحيانا ، ثم التقدير مع الكراهية أحيانا أخرى.

ثانيا : عهد الملك الناصر داود [٦٢٤ ه‍ ـ ٦٢٦ ه‍]

١٢٢٧ م ـ ١٢٢٩ م

لما ولى الملك الناصر داود بعد موت أبيه الملك المعظّم عيسى ؛ عرف للآمدى فضله ، وقرّبه إليه ، وعوضه عن فترة الجفوة التى كانت من أبيه ؛ لأنه كان من المعجبين به أشد الإعجاب.

__________________

(١) عن هذه المدرسة : انظر الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية في مصر والشام. د. أحمد بدوى ط ١ مطبعة نهضة مصر بالقاهرة.

(٢) مفرج الكروب لابن واصل ٥ / ٣٧ ، ٣٨.

(٣) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤١.

٢٤

وقد ترجم الملك الناصر عن هذا الإعجاب بطريقة عملية ؛ فعند ما تولى الملك «تقدّم سيف الدين عنده التّقدم العظيم ، ومال بكليته إليه ، وأعطاه ثمانية آلاف درهم اشترى بها جوسقا (١) ، وبستانا». وقد بادله الآمدي الإعجاب ، والتقدير ؛ فصنّف له ـ بناء على طلبه ـ كتابا سماه (فرائد القلائد) على حسب اقتراحه.

ثالثا : عهد الملك الأشرف [٦٢٦ ه‍ ـ ٦٣١ ه‍] ١٢٢٩

م ـ ١٢٣٣ م

تولّى الملك الأشرف حكم دمشق بعد أن سلمها له أخوه الملك الكامل بعد أخذها من ابن أخيه الملك الناصر ، وتعويضه عنها بالكرك ، وما معها من البلاد (٢) ؛ وذلك بعد صراع طويل بين الإخوة : المعظم عيسى من جانب ، وبين الملك الكامل ، والأشرف من جانب آخر. ثم استطاع الكامل ، والأشرف التغلّب على ابن أخيهما الملك الناصر بعد موت والده الملك المعظم بعامين كما سيأتى.

وكان عهد الأشرف من أسوأ العهود التى عاشها الآمدي بدمشق ؛ لأنّ الأشرف قد تعقب رجال المعظم عيسى ، وابنه الناصر ، واضطهدهم ، وحاول إلصاق التهم بهم ؛ لكى يغطى على فعلته الشنيعة من تسليمه بيت المقدس للصليبيين سنة ٦٢٦ ه‍ حتى يتفرغ للاستيلاء على دمشق من ابن أخيه ـ والتى نجح في الاستيلاء عليها سنة ٦٢٦ ه‍ ، وكان الملك الكامل قد اتفق مع الصليبيين على تسليمهم بيت المقدس إن هم عاونوه ضد أخيه الملك المعظم صاحب دمشق ، وبالفعل حضر الامبراطور (فردريك) لمعاونة الكامل حسب اتفاقهما.

ولكن بعد موت المعظم ـ الرجل القوى ـ أراد الكامل أن ينقض اتفاقه مع (فردريك) ؛ لأنّه لم يجد مبررا له ، خاصة والنّاصر صاحب دمشق لا يستطيع الصمود أمامه ؛ ولكن (فردريك) أصرّ على تسلم بيت المقدس ؛ وتمّ له ما أراد بعد أن سلمها له الكامل ، والأشرف سنة ٦٢٦ ه‍ ؛ ليتفرغا لحصار دمشق ، والاستيلاء عليها من ابن اخيهما الملك الناصر داود (٣) ؛ وبالطبع استغل الملك الناصر ورجاله هذه الحادثة في التشنيع على الملك الكامل ، والملك الأشرف.

__________________

(١) الجوسق لفظ فارسى معناه القصر.

(٢) مفرج الكروب ٤ / ٢٥٦ وما بعدها.

(٣) عن تسليم القدس للصليبيين انظر مفرج الكروب ٤ / ٢٤١ ـ ٢٤٦.

٢٥

وكان للآمدى وتلاميذه دور بارز في شجب هذا الصنيع ، يقول ابن واصل «ولمّا ورد الخبر إلى دمشق بتسليم القدس إلى الفرنج ؛ أخذ الملك الناصر في التشنيع على عمه الملك الكامل ، وتقدّم إلى الشيخ شمس الدين يوسف سبط ابن الجوزى الواعظ (تلميذ الآمدي) ـ وكان له قبول عند الناس ـ فى الوعظ في أن يجلس بجامع دمشق للوعظ ، ويذكر فضائل القدس ، وما ورد فيه من الأخبار ، والآثار ، وأن يحزّن الناس ، ويذكر ما في تسليمه إلى الكفّار من الصّغار للمسلمين والعار ، وقصد بذلك تنفير الناس من عمه ؛ ليناصحوه في قتاله ؛ فجلس شمس الدين للوعظ كما أمره ، وحضر الناس لاستماع وعظه ، وكان يوما مشهودا ، وعلا يومئذ ضجيج الناس وبكاؤهم ، وعويلهم ... فلم ير في ذلك اليوم إلا باك ، أو باكية» (١).

ويؤكد سبط ابن الجوزى ما أورده ابن واصل فيقول في كتابه مرآة الزمان «وأشار الملك الناصر داود بأن أجلس بجامع دمشق ، وأذكر ما جرى على بيت المقدس ؛ فما أمكننى مخالفته ؛ فرأيت من جملة الدّيانة الحميّة للإسلام وموافقته ؛ فجلست بجامع دمشق ، وحضر الناصر داود على باب مشهد على ، وكان يوما مشهودا ، لم يتخلف من أهل دمشق احد» (٢).

وبعد أن تم للأشرف ما أراد ، واستقرّ بدمشق أعلنها حربا شعواء على رجال دولة الناصر حتى هرب معظمهم ، واستغل التعصب المذهبى لدى بعض أصحاب المذاهب أسوأ استغلال ؛ فاستقطب جماعة من الفقهاء ، والظاهريين ، والصوفية معه ، وأراد إرضاءهم ، وإرضاء العامة ، وبالتالى يغطى على جريمته الشنعاء.

وقد كان المعظم عيسى ، وابنه الناصر داود يتميزان بسعة الأفق ، وبمحبة العلم وأهله ، واشتهر عن الناصر بأنه يقرب الفلاسفة إليه ؛ بل إنه طلب من الآمدي أن يؤلف له (فرائد الفوائد) ؛ فألّفه بناء على اقتراحه كما مر ؛ فانتهز الأشرف هذه الفرصة في التشنيع على عهد الناصر ، وأبيه المعظم ، وأعلنها حربا شعواء على من بقى بدمشق من رجال عهده ـ وعلى رأسهم الآمدي ـ ؛ فانتهز حسّاد الآمدي وهم كثر ـ ومخالفوه هذه الفرصة ، والتفّوا حول السلطان ؛ لكى يصلوا إلى أهدافهم ، وأصدروا الفتاوى التى تبرّر للأشرف

__________________

(١) مفرج الكروب ٤ / ٢٤٥ ، ٢٤٦.

(٢) مرآة الزمان ٨ / ٤٣٢.

٢٦

عزله وحبسه ، خاصة بعد فتح آمد على ما سيأتى بعد ؛ فأصدر الأشرف قرارا بعزله ، وحبسه في منزله سنة ٦٢٩ ه‍. (١٢٢٩ م) (١).

وهكذا وبعد كفاح طويل في خدمة العلم ، وأهله استمرّ إلى الثّمانين من عمره ، جاءته هذه المحنة القاسية التى انتهت حياته بعدها بقليل.

وفي هذا الجو القاسى. وبعد فترة قليلة من العزل ، والحبس انتهت الحياة الجسدية لذلك الإمام العظيم ؛ ولكنه بقى وسيبقى خالدا بعلمه إلى يوم الدين.

وفاته : (٢ صفر سنة ٦٣١ ه‍ ـ نوفمبر سنة ١٢٣٣ م)

في هذه الظروف الصعبة ، وذلك الوضع المؤلم ، أمضى شيخنا أيامه الأخيرة في دمشق معزولا في بيته ؛ ولكنه ـ مع هذا ـ بقى يشتغل حتى وافاه أجله في ليلة الاثنين وقت صلاة المغرب ثانى صفر سنة ٦٣١ ه‍ ودفن يوم الاثنين بسفح قاسيون بعد أن جاوز الثمانين من عمره ـ رحمه‌الله ـ قضاها في كفاح علمى متصل لم يفتر يوما ، رغم قسوة الظروف ، وتوالى الأزمات.

يقول الذهبى ـ أحد خصومه ـ «ثم عزل لأمر اتهم فيه ، ولزم بيته يشتغل ، ولم يكن له نظير في الأصول ، والكلام ، والمنطق ، توفى في ثالث صفر» (٢) ويقول القفطى «مات وتصانيفه في الآفاق مرغوب فيها» (٣).

وقد استمر حقد الأشرف عليه حتى بعد موته. يقول الصفدى نقلا عن تلميذه ابن خلكان «ولما مات توقف الأكابر والعلماء بدمشق عن حضور جنازته ؛ خوفا من الملك الأشرف ؛ إذ كان متغيرا عليه ؛ فخرج الإمام عز الدين في جنازته ، وجلس تحت قبة النسر حتى صلى عليه. فلما رأى الناس ذلك بادروا إليه ، وصلوا عليه» (٤).

وقد بكاه محبوه ، وتلاميذه ، وعارفوا فضله ، وقال في رثائه ـ تلميذه ـ الأديب الصوفى نجم الدين بن إسرائيل ـ وكانت السماء قد جادت عند دفنه بمطر عظيم ـ

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ١ / ١٠٢.

(٢) العبر في خبر من غبر للذهبى ٥ / ١٢٤.

(٣) اخبار العلماء بأخبار الحكماء للقفطى ص ١٦١.

(٤) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤٥.

٢٧

بكت السماء عليه عند وفاته

بمدامع كاللؤلؤ المنثور

وأظنّها فرحت بمصعد روحه

لمّا سمت وتعلّقت بالنّور

أو ليس دمع الغيث يهمى باردا

وكذا تكون مدامع المسرور (١)

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٨

ثقافته وإنتاجه ثقافته

ـ مؤلفاته ـ أشهر تلاميذه

أولا : ثقافته :

كان الآمدي ملما بجميع فروع الثقافة الإسلامية ـ فى عصره ـ مع ميل إلى التخصص في الدّراسات العقلية ؛ لأنها تتفق مع اتجاهه الفكرى ، والروح النقدية التى تميز بها ؛ حتى جاءت كل مؤلفاته في هذا الفرع من الدراسات العقلية (كلاما ، وأصولا ، وفلسفة ، وجدلا ، وخلافا) ، إلى غير ذلك مع دراية تامة بالعلوم الأخرى كما يتضح ذلك من مؤلفاته ـ التى اطلعت عليها ـ والتى تؤكد أنه كان ملما بعلوم عصره من نحو ، وصرف ، وبلاغة ، وأدب ، وفقه وقراءات ، وحديث ، وتفسير ، وطب ، بالإضافة إلى نظمه للشعر الجيد ، كما كان مقدما في الخلاف ، والجدل ، والأصول ، والكلام ، والفلسفة.

وهى تلك العلوم التى تخصص فيها الآمدي ، وانفق حياته في دراستها ، وتدريسها ، والتصنيف فيها ، وهى في مجموعها تتسم بالطابع العقلى ، وقد قسمتها إلى أربعة أفرع :

أولا : الخلاف والجدل : وقد عينت من الكتب إلى صنفها فيهما سبعة مؤلفات.

ثانيا : الفلسفة والمنطق : وقد عينت من الكتب التى صنفها فيهما ثمانية مؤلفات.

ثالثا : أصول الدين : وقد عينت من الكتب التى صنفها فيه خمسة مؤلفات.

رابعا : أصول الفقه : وقد عينت من الكتب التى صنفها فيه أربعة مؤلفات.

وسأتحدث بالتفصيل عن هذه العلوم التى تخصص فيها ، والمصنفات التى ألفها في كل منها.

ثانيا : مؤلفاته :

بلغت مؤلفات الإمام سيف الدين الآمدي الغاية في كثير من الفنون وقد استطعت بعد البحث ، والمقارنة أن استخلص خمسة وعشرين مؤلفا من هذا الحشد الكبير من المراجع التى تحدثت عن الآمدي ، والتى يبلغ عددها أكثر من سبعين مرجعا. كما عينت منها أربعة وعشرين كتابا ، وبقى كتاب واحد لم أهتد إلى معرفة موضوعه. من هذه المؤلفات الأربعة والعشرين : سبعة في الجدل والخلاف ، وثمانية في الفلسفة والمنطق ، وخمسة في علم الكلام ، وأربعة في أصول الفقه.

٢٩

وسأذكر فيما يلى مصنفاته التى أمكننى تعيينها في كل علم على حدة. مقدما بكلمة عن مكانة الآمدي في كل علم منها :

أولا : الخلاف والجدل

كان الآمدي مقدما في الخلاف والجدل ، وقد بلغت مؤلفاته الغاية فيهما ، وقد تلقاهما عن شيخه ابن فضلان كما سلف ، وقد كان الخلاف والجدل موضع عناية العلماء في هذا العصر ، حتى ألف بعضهم (١) كتابا في (استخراج الجدل من القرآن الكريم). وكان أكثر العلماء اهتماما بهما هو شيخنا الآمدي. يقول الدكتور أحمد بدوى «وكان أغزر علمائها إنتاجا في تلك المادة ، هو سيف الدين الآمدي ... وقد وضع كتبا عدة ، وشرح بعض كتب سواه ومن ذلك كتابه الّذي سماه : (غاية الأمل في علم الجدل) و (المؤاخذات في الخلاف) ، و (الترجيحات في الخلاف) أيضا.

وشرح كتابا لشهاب الدين المعروف بالشريف المراغى (٢)

وقد تخرج به في الجدل والخلاف جماعة من العلماء من أشهرهم العز بن عبد السلام كما سيأتى.

وقد استطعت أن أعين من كتبه في الخلاف والجدل سبعة كتب بيانها كما يلى :

١ ـ شرح كتاب الجدل.

وهو عبارة عن شرح لكتاب الشيد شهاب الدين المعروف بالشريف المراغى.

٢ ـ غاية الأمل في علم الجدل. وتوجد منه نسخة في المكتبة الأهلية بباريس تحت رقم ٥٣١٨.

٣ ـ المآخذ الجلية في المأخذات الجدلية.

٤ ـ دليل متحد الائتلاف وجار في جميع مسائل الخلاف.

٥ ، ٦ ـ التعليقة الكبيرة ، والتعليقة الصغيرة.

٧ ـ الترجيحات في الخلاف.

__________________

(١) هو ناصح الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الحنبلى المتوفى سنة ٦٣٤ ه‍ والكتاب طبع في القاهرة سنة ١٣٤٣ ه‍.

(٢) الحياة العقلية للدكتور أحمد بدوى ص ١٨٦.

٣٠

ثانيا : الفلسفة والمنطق :

كان الآمدي مقدما في الفلسفة والمنطق ؛ بل كان أكثر أهل زمانه معرفة بالعلوم الحكمية ؛ كما يصرح بذلك تلميذه ابن أبى أصيبعة. هذه حقيقة اتفق عليها معظم مؤرخيه. وكان الآمدي قد بدأ دراسته الفلسفية ببغداد. ثم أتمها بالشام ، وقد سبب له الاشتغال بالفلسفة كثيرا من المتاعب ؛ لأن الدولة الأيوبية كانت عنيفة في معاملة الفلاسفة.

وقد بدأت متاعب الآمدي في بغداد بسبب تعلمه للفلسفة ، كما كان اشتغاله بالفلسفة مبررا لتعصب فقهاء مصر ضده ، كما أن بعض خصومه في دمشق قد أصدر ضده فتوى ، كانت مبررا لعزله ؛ وحبسه في منزله.

وقد بلغت مؤلفات الآمدي الغاية في العلوم الفلسفية ؛ فلم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الفلسفية منه كما يشهد بذلك ابن تيمية.

وقد استطعت أن أعين من مؤلفاته في الفلسفة والمنطق ثمانية مؤلفات بيانها كما يلى (١) :

١ ـ رموز الكنوز.

٢ ـ دقائق الحقائق ، وهو من الكتب التى تيسر لى الحصول على مجلد منها.

٣ ـ لباب الألباب.

٤ ـ الغرائب وكشف العجائب في الاقترانات الشرطية.

٥ ـ النور الباهر في الحكم الزواهر.

وهو موجود في دار الكتب العمومية باستامبول. ويقع في خمسة مجلدات.

٦ ـ كشف التمويهات على الإشارات والتنبيهات.

توجد منه نسخة بالمتحف البريطانى رقم ٢٥٣ شرقى. صورت منها نسخة لمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية.

__________________

(١) تحدثت عن هذه المؤلفات بالتفصيل في الدراسة (الموجودة بكلية أصول الدين) ص ٩٢ ـ ١٠٤.

٣١

٧ ـ المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين.

وقد حققه الدكتور حسن عبد اللطيف. ونشر بمكتبة وهبة سنة ١٩٩٣ م.

٨ ـ فرائد القلائد.

ثالثا : الكلام

كان الآمدي شيخا للمتكلمين في عصره ، هذه حقيقة اتفق عليها أصدقاؤه وخصومه ، يقول عنه ابن تيمية «لم يكن أحد في وقته أكثر تبحرا في العلوم الكلامية ، والفلسفية منه». ويقول عنه الذهبى أحد خصومه «لم يكن له نظير في الأصول ، والكلام» وقد بلغ الآمدي في علم الكلام درجة عالية يدلّ بها في مقدمته لأبكار الأفكار فيقول «ولمّا كنّا مع ذلك قد حققنا أصوله ، ونقّحنا فصوله ، وأحطنا بمعانيه ، وأوضحنا مبانيه ، وأظهرنا أغواره ، وكشفنا أسراره ، وفزنا فيه بقصب سبق الأولين ، وحزنا غايات أفكار المتقدمين والمتأخرين واستترعنا منه خلاصة الألباب ، وفصلنا القشر عن اللّباب».

كما بلغت مؤلفاته الكلامية درجة عالية من الإتقان والإحكام ؛ بل إن منهجه الكلامى قد اعتبر أساسا لما سمى فيما بعد بعلم كلام المتأخرين.

وقد استطعت أن أعين من مؤلفاته الكلامية خمسة كتب بيانها كما يلى :

١ ـ خلاصة الإبريز تذكرة الملك العزيز.

٢ ـ غاية المرام في علم الكلام. وقد حققه الأستاذ الدكتور حسن عبد اللطيف ونشره المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

٣ ـ أبكار الأفكار. وهو موضوع دراستنا.

٤ ـ منائح القرائح. وهو ملخص لأبكار الأفكار.

٥ ـ المآخذ على المطالب العالية للرازى. وتوجد منه نسخة بمكتبة فيض الله باستامبول رقم ١١٠١. وقد صورت منها نسخة لمعهد المخطوطات بجامعة الدول العربية تحت رقم ٣ توحيد (١).

__________________

(١) انظر عنها ص ١٠٤ ـ ١١٠ من الدراسة.

٣٢

رابعا : أصول الفقه :

كان الآمدي إمام عصره في أصول الفقه ، وقد أوصله إلى تلك المكانة جدّ لا يعرف الكلل ، وانصراف إلى العلم شغله عما عداه. يقول في مقدمة الإحكام «ولذلك كثر تدآبى ، وطال اغترابى ، في جمع فوائدها ، وتحقيق فرائدها ، من مباحثات الفضلاء ، ومطارحات النبلاء ، حتى لان من معركها ما استصعب على المتدربين ، وظهر منها ما خفى على حذاق المتبحرين ، وأحطت منها بلباب الألباب ، واحتويت من معانيها على العجب العجاب» (١).

وأهم كتب الآمدي في أصول الفقه هو (الإحكام في أصول الأحكام) الّذي ألفه في دمشق في الفترة من سنة ٦١٧ ه‍ ، وأهداه للملك المعظم الّذي توفى سنة ٦٢٤ ه‍ ، وقد اختصره في كتابه الآخر (منتهى السئول في علم الأصول) كما سيأتى.

ويعتبر أصول الفقه آخر الميادين التى صنف فيها الآمدي ، وقد ظهرت آثار ثقافته المتعدّدة الجوانب بوضوح في مؤلفاته الأصولية ، التى ألفها على طريقة المتكلمين.

وقد استطعت بعد البحث والدراسة أن أعين منها أربعة كتب (٢) بيانها كما يلى :

١ ـ منتهى السّالك في رتب الممالك.

٢ ـ المآخذ على المحصول.

٣ ـ الإحكام في أصول الأحكام ، وقد طبع عدة طبعات أولها سنة ١٩١٤ في أربع مجلدات. بدون تحقيق علمى.

٤ ـ منتهى السئول في علم الأصول. وقد طبع في مصر بدون تحقيق علمى.

مما سبق يتضح أن كتب الآمدي التى استطعت تحديد موضوعاتها أربعة وعشرون كتابا منها : سبعة في الجدل والخلاف ، وثمانية في الفلسفة والمنطق ، وخمسة في علم الكلام ، وأربعة في أصول الفقه ، وقد بقى كتاب واحد لم أهتد إلى معرفة موضوعه وهو :

__________________

(١) الإحكام في أصول الأحكام للآمدى ط. مطبعة محمد على صبيح بالقاهرة سنة ١٩٦٨.

(٢) تحدثت عنها بالتفصيل في الدراسة من ص ١١١ ـ ١١٦.

٣٣

١ ـ الفريدة الشمسية :

وهذا الكتاب قد ذكره بروكلمان في الملحق نقلا عن مجلة المستشرقين الألمان العدد ٩٠ ص ١١٦ ، وبين أنه يوجد بمكتبة المدينة المنورة تحت رقم ٤٤ ولم يحدّد موضوعه.

كما انفرد بروكلمان أيضا بنسبة كتب أخرى لشيخنا الآمدي (١) ، وقد اتضح لى بعد البحث أنها ليست له ، وإنّما هى لآمدى آخر.

ثالثا : تلاميذه :

كان للآمدى تلاميذ تخرّجوا على يديه ، وصاروا من أعلام الأئمة ، ومن نوابغ العلماء في كثير من العلوم ؛ ففيهم المتكلم ، والأصولى ، والطبيب ، والفقيه ، والقاضى ، والشّاعر ، والأديب ؛ بل والقائد ، والوزير ، والملك ، ولا عجب في ذلك ؛ فقد كانت مجالسه العلمية يحضرها أكابر العلماء من كل فن ، والفقهاء من جميع المذاهب ، مما لم يتيسر لأحد من معاصريه ، وقد اشتغل الآمدي بالتدريس مدة طويلة تبلغ أكثر من أربعين عاما ـ كما سلف ـ تخرج فيها على يديه مئات العلماء في مصر ، والشام ؛ كانوا بحق أئمة عصرهم ، والعصور التالية ، وما زال أثره وأثرهم ، وتأثيره وتأثيرهم باقيا إلى اليوم. غير أنى سأذكر هنا من أمكن تعيينهم من تلاميذه المباشرين ، وقد بلغ عددهم تسعة عشر تلميذا. سأذكر فيما يلى أسماءهم فقط (٢).

١ ـ عز الدين بن عبد السلام (٥٧٧ ـ ٦٦٠ ه‍).

٢ ـ ابن الحاجب المالكى (٥٧٠ ـ ٦٤٦ ه‍).

٣ ـ سبط ابن الجوزى (٥٨١ ـ ٦٥٤ ه‍).

٤ ـ ابن أبى أصيبعة (٥٩٦ ـ ٦٦٨ ه‍).

٥ ـ أبو شامة المقدسى (٥٩٩ ـ ٦٦٥ ه‍).

٦ ـ ابن واصل (٦٠٤ ـ ٦٩٧ ه‍).

__________________

(١) منها : تفسير سورة يس (الملحق ١ / ٣٩٣).

ومنها : رسالة في علم الله. وقد ذكرها في الملحق نقلا عن مجلة المستشرقين الألمان (العدد ٩٠ ص ١١٦).

(٢) وقد تحدثت عنهم بالتفصيل في دراستى عن الآمدي من ص ١١٧ ـ ١٣٠.

٣٤

٧ ـ ابن خلكان (٦٠٨ ـ ٦٨١ ه‍).

٨ ـ ابن بصاقة (٥٧٧ ـ ٦٥٠ ه‍).

٩ ـ محيى الدين بن الزّكىّ المتوفى سنة ٦٦٨ ه‍.

١٠ ـ صدر الدين بن سنى الدولة المتوفى سنة ٦٥٨ ه‍.

١١ ـ شهاب الدين بن القطب.

١٢ ـ القاضى أبو الروح عيسى بن الفاخر. المعروف بابن قاضى تدباس.

١٣ ـ الأديب نجم الدين بن إسرائيل (٦٠٣ ـ ٦٧٧ ه‍).

١٤ ـ زين الدين الأنصارى المقدسى.

١٥ ـ العماد بن السلماس.

١٦ ـ الفخر البعلبكى المفتى (٦١١ ـ ٦٨٨ ه‍).

١٧ ـ الملك المنصور (٥٨٧ ـ ٦١٧ ه‍).

١٨ ـ محمود السنجارى (٥٩٢ ـ ٦٥٥ ه‍).

١٩ ـ ابن جماعة (٥٩٦ ـ ٦٧٥ ه‍).

منهجه في كتابه أبكار الأفكار :

نهج الآمدي في كتابه أبكار الأفكار نهجا اعتبر أساسا لما سمى فيما بعد بعلم كلام المتأخرين ، واقتدى به في طريقته معظم من أتى بعده من المتكلمين (١) ؛ فقد قسمه إلى ثمانى قواعد ؛ خصص الثلاثة الأول منها للمنهج ، واعتبرها من علم الكلام ؛ لأنه يحتاج إليها في إثبات العقائد ؛ فجعل بهذا جميع ما يتوقف عليه إثبات العقائد قواعد في علمه ؛ كيلا يحتاج فيه إلى علم آخر يقول الآمدي «... وسميته أبكار الأفكار ، وجعلته مشتملا على ثمانى قواعد متضمنة لجميع مسائل الأصول :

الأولى : فى العلم وأقسامه ، والثانية : فى النظر وأقسامه ، وما يتعلق به ، والثالثة : في الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية» (٢).

__________________

(١) تحدثت بالتفصيل عن منهج الآمدي الكلامى في كتابه أبكار الأفكار في الدراسة من ص ١٣١ ـ ١٥٣.

(٢) انظر الأبكار ل ٢ / ب.

٣٥

وقد سار على نهجه صاحب المواقف ، ومعظم من أتى بعده من المتكلمين (١). والآمدي قد تحدث عن منهجه بالتفصيل في هذه القواعد الثلاثة ، كما التزم به ، وطبقه في القواعد الخمسة الباقية كما سيأتى. وبذلك أغنانا عن كثير من الجهود التى كنا سنبذلها في استخلاصه من كتابه.

فقد خصص القاعدة الأولى : للعلم وأقسامه. وتحدث فيها بالتفصيل عن حقيقته ، وأقسامه ، وأحكامه. وتعتبر هذه القاعدة مقدمة ضرورية للقاعدة الثانية : التى تحدث فيها : عن النظر ، وأقسامه ، وما يتعلق به بالتفصيل ، والتى يتضح منها أنّ الآمدي قد وثق في النّظر العقلى ، واعتبره الأساس الّذي تعتمد عليه أدلة معظم المسائل الكلامية.

أما القاعدة الثالثة : فقد تحدّث فيها بالتفصيل عن الطرق الموصلة إلى المطلوبات النظرية ـ ويتضح لنا من هذه القاعدة أن الآمدي قد ارتضى المنطق الصورى منهجا ، وطريقا للوصول إلى اليقين كما سيأتى.

وفي الفصل الأخير من هذه القاعدة ، حدد موقفه من بعض الأدلة التى استدل بها المتقدمون ، وحكم عليها بأنها غير مفيدة لليقين.

مما سبق يتضح لنا منهج الآمدي الّذي خصّص له القواعد الثلاث الأول من كتابه ، وأستطيع أن أقرر أن منهجه ، كان انعكاسا لثقافته المتعددة الجوانب. وأنه لهذا كانت له خصائصه ، ومميزاته التى أهلته لأن يكون منهجا لمن أتى بعده من المتكلمين. فما هى خصائص منهج الآمدي ، ومميزاته؟

خصائص منهج الآمدي ، ومميزاته :

١ ـ اعتمد الآمدي على النظر العقلى ، والدّليل الشرعى ، وحدّد لكل منهما مجاله ، واعتبرهما معا موصلين لليقين ، في كل المسائل الكلامية.

٢ ـ استخدم المنطق الصورى ، ووثق به ؛ غير أن ذلك لم يمنعه من مناقشة الفلاسفة ؛ والوقوف منهم موقف الخصومة في المسائل التى تتعارض مع الدين ؛ لأن المنطق عنده مجرد آلة.

__________________

(١) انظر شرح المواقف للجرجانى ١ / ٢٥ ط دار الطباعة العامرة باستانبول سنة ١٢٩٢ ه‍.

٣٦

٣ ـ نقد معظم مناهج المتكلمين السابقين ، واعتبرها غير مفيدة لليقين ، وإن ظن فيها ذلك ، واحتفظ بموقفه منها حتى وهو يناقش شيوخ المذهب الأشعرى مع أنه أحد اتباعه.

٤ ـ وقف من الصوفية الذين يعتدون بمنهج الرياضة الروحية طريقا إلى المعرفة الحقة ، موقفا متسامحا.

٥ ـ رفض المنهج الباطنى ، ووقف من الباطنية موقف الخصومة.

٦ ـ رفض منهج الحشوية ، ووقف منهم موقف الخصومة أحيانا.

٧ ـ لاحظت تسامحه مع المعتزلة على غير عادة شيوخه الأشاعرة ؛ بل إنه في كثير من المسائل يتطوع للدفاع عنهم فيقول مثلا : «وقد أخطا أصحابنا في ذلك ، والحق ما ذهب إليه المعتزلة». كما أنه يصفهم بأوصاف تدل على تقديره لهم فيقول مثلا : حذّاق المعتزلة ، الفضلاء من المعتزلة.

٨ ـ لاحظت تأثره بالمنهج الجدلى بالرغم من تشكيكه فيه ، ولا عجب في ذلك ، فقد كان الآمدي أكبر علماء الجدل في عصره.

٩ ـ ومن مميزات منهج الآمدي في الأبكار دقته في حكاية مذاهب السابقين ، وعنايته البالغة بتحقيقها ؛ فهو يعرضها في الغالب عرضا تاريخيا بحسب التسلسل التاريخى ، أو حسب قيمتها العلمية ؛ فيقول مثلا : أجمع العقلاء على كذا. والمقصود بهم جميع العقلاء سواء أكانوا من المليين ، أم من غيرهم. ثم يقول : ويرى المليون كذا. والمقصود بهم أصحاب الكتب السماوية. ثم يقول : ويرى الإسلاميون كذا. والمقصود بهم جميع الفرق الإسلامية. ثم يقول : ويرى الخوارج كذا ، ثم يذكر آراء المعتزلة ، ويعدّد آراء شيوخهم بحسب التسلسل التاريخى ، ثم يذكر آراء الأشاعرة : فيبدأ بالأشعرى ، ثم بالباقلانى ، وابن فورك ، وإمام الحرمين ، وهكذا.

وهذا المنهج قد ارتضاه الآمدي في معظم كتابه (أبكار الأفكار). وبعد أن يستعرض آراء السابقين ، يحرر محل النزاع ، ويرجح منها ما يختاره ، أو يدلى في المسألة برأى جديد ، أو يترك الباب مفتوحا لمن يأتى بعده. كما أنه في أحيان كثيرة يستعرض شبه الخصوم ، ثم يرد عليها. ويرتفع الآمدي إلى القمة ، عند ما تتجلى فيه صفة التواضع

٣٧

العلمى بأجلى معانيها ؛ فيقول أحيانا : هذا ما عندى ، ولعل غيرى يستطيع أن يصل إلى ما لم أصل إليه.

١٠ ـ التزم الآمدي بهذا المنهج ، وطبقه على جميع المسائل الكلامية التى خصص لها القواعد الخمس الباقية من الكتاب.

هذا منهج الآمدي في كتابه (أبكار الأفكار). الّذي اعتمد فيه على النظر العقلى ، والدليل الشرعى ، وأستطيع أن أقرر أنه كان انعكاسا لثقافته المتعددة ؛ فهو بالإضافة إلى ما مر ملتقى مؤثرات عدة من المنهج النقدى التاريخى ، والمنهج الجدلى ، والمنطق الصورى ؛ الّذي وثق فيه الآمدي ، وتأثر به إلى حد بعيد.

٣٨

مكانته العلمية ، وآراء العلماء فيه

تتحدّد مكانة الإنسان في أمته ومجتمعه ، بمقدار ما يقدمه من أعمال ، وبمدى الأثر الّذي يتركه سواء في حياته ، أو بعد مماته. وفي الناحية العلمية على وجه الخصوص تقاس مكانته بالآثار العلمية : سواء أكانت مؤلفات ، أم تلاميذ.

والآمدي من هذه الناحية قد بلغ الغاية ؛ فقد ترك خمسة وعشرين مؤلفا في فنون مختلفة (١) ، وقد بلغ بعضها الغاية في كثير من الفنون ؛ كالكلام ، والأصول ، والفلسفة ، والمنطق ، والجدل. وقد قامت حول بعضها عشرات المختصرات ، والشروح في حياته ، وبعد مماته ، وما زالت لكتبه نفس المكانة التى حظيت بها في حياته.

أما تلاميذه : فقد كانوا بحق أئمة عصرهم في كثير من الفنون ، كما تخرج على أيديهم عشرات الأعلام ممن أصبحوا أئمة لعصورهم في كثير من الفنون كما سبق.

وقد اعترف بإمامته لعلماء عصره أصدقاؤه وخصومه على حد سواء ؛ فيتّفق معظمهم على أن الآمدي كان شيخا للمتكلمين في عصره ، ولم يوجد له نظير في العلوم العقلية. وقد أوصله إلى هذه المكانة جدّ لا يعرف الكلل ، وانصراف إلى العلم والدراسة ، شغله عن كل شيء حتى عن نفسه أحيانا ، وذكاء دفع بعض مؤرخيه إلى أن يعدّه أذكى أذكياء أهل زمانه.

يقول عنه تلميذه شمس الدين بن خلكان : «ما عسى أن يقال في أعجوبة الدهر ، وإمام العصر ، وقد ملأت تصانيفه الأسماع ، ووقع على تقدّمه وفضله الإجماع ، إمام علم الكلام ، ومن أقر له فيه الخاص ، والعام. صاحب المصنفات المشهورة ، والتعاليق المذكورة. من أكبر جهابذة الإسلام ، ومن يرجع لأقواله في الحل والإبرام ، والحلال والحرام» ، ثم يصفه فيقول : «كان خير الطباع ، سليم القلب ، حسن الاعتقاد ، قليل التعصب».

ويقول تلميذه أبو المظفر سبط ابن الجوزى : «لم يكن في زمانه من يحاذيه في علم الكلام ، والأصول ، وكان سريع الدمعة ، رقيق القلب (٢)».

__________________

(١) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤٠.

(٢) مرآة الزمان لسبط ابن الجوزى ٤ / ٧٣.

٣٩

ويقول عنه تلميذه : الإمام عز الدين بن عبد السّلام. فيما يرويه عنه ابن خلكان قال : «سألت شيخنا الإمام العلامة عز الدين بن عبد السلام عن درس الإمام سيف الدين فقال : «ما سمعت أحدا يلقى الدرس أحسن منه».

ثم يعلق ابن خلكان قائلا : «وكفاك به جلالا ، ونبلا ، أن الإمام عز الدين من أصحابه ، ومن كبار طلابه ، ملازما لدرسه ، راضيا طريقته ، مع خبره علانيته ، وسريرته. ولقد سمعته يوما يقول : ما عرفنا قواعد البحث إلا من الشيخ سيف الدين ... وكان يعظّمه ، ويجلّه ، ويبجّله ، وسمعت عنه أنه قال : «لو ورد على الإسلام متزندق ، أو مشكّك ، لتعين الإمام سيف الدّين لمناظرته ؛ لاجتماع أهلية ذلك فيه» (١)

ويقول عنه تلميذه الإمام ابن الحاجب فيما يرويه عنه ابن خلكان «سمعت الإمام جمال الدين ... المعروف بابن الحاجب يقول : ما صنف في أصول الفقه مثل كتاب الإمام سيف الدين الآمدي (الإحكام في أصول الأحكام) ثم يقول ابن خلكان : ومن محبته له اختصره رحمه‌الله تعالى» (٢).

وحسبنا دليلا على فضله ، وإمامته. تنافس الملوك على تقريبه ، والانتفاع به ؛ فقد تنافس في طلبه ملوك دمشق ، وحماه وأمد كما مر.

وقد كانت مجالس الإمام الآمدي العلميّة يحضرها الطلبة من جميع الآفاق ، ومن كل المذاهب. كذلك كانت مناظراته التى كان يعقدها في دمشق. يقول الصفدى «وعقد له مجلس المناظرة ليلة الجمعة ، وليلة الثلاثاء من كل أسبوع بالحائط الشمالى من جامع دمشق ، وكان يحضره الأكابر من كل مذهب ، ورحل إليه الطلبة من جميع الآفاق من سائر الطوائف لطلب العلم» (٣).

أما خصومه ـ ومعظمهم من الحنابلة ، والمحدثين ؛ فقد اتفقوا أيضا على إمامته لعلماء عصره ؛ لأنهم لم يستطيعوا انكارها ، وجحدها ؛ فالشّمس لا تنكر. يقول الذهبى ـ أحد خصومه ـ : «كان من أذكياء العالم ... ولم يكن له نظير في الأصول ، والكلام ، والمنطق» (٤).

__________________

(١) الوافى بالوفيات للصفدى ٢١ / ٣٤١.

(٢) المصدر السابق ٢١ / ٣٤١.

(٣) المصدر السابق ٢١ / ٣٤٠.

(٤) العبر في خبر من غبر للذهبى ٥ / ١٢٤.

٤٠