أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

بياضا ، إلى غير ذلك. ولو لم يكن المفهوم من الوجود في الكل واحدا ؛ لاختلف باختلاف الحقائق.

الثالث : أنا إذا قلنا : هذا الوجود خاص ، كان هذا الحكم تصديقيا حقا. والتصديق يستدعى سابقة التصور ، وأحد التصورين الوجود مطلقا. والآخر الخاص ؛ فالتصور للوجود المطلق ، سابق على التصور للوجود الخاص ، ولا معنى للوجود المطلق ؛ إلا ما كان صالحا لاشتراك كثير من الموجودات فيه ؛ فيكون مسمى الوجود من حيث هو وجود متحدا.

الرابع : هو أن قول القائل : مسمى الوجود غير مشترك فيه من (١) الماهيات / إما أن يكون المراد به : الوجود المطلق ، أو الخاص. فإن أراد به الوجود الخاص : فلا نزاع فيه ، ولا (٢) حاجة إلى نفى ما وقع الاتفاق عليه. وإن أراد به الوجود المطلق : فالحكم على الوجود المطلق بأنه لا يقع الاشتراك فيه ؛ اعتراف بالوجود المطلق ؛ لأن التصديق مسبوق بالتصور ؛ فيكون القول متناقضا ؛ إذ الوجود المطلق هو الصالح للاشتراك فيه ؛ فالقول بأنه لا (٣) اشتراك (٣) فيه يكون تناقضا.

وفي هذه الحجج نظر (٤) أيضا (٤).

أما الحجة الأولى ، والثانية : فقد سبق الكلام عليهما في مسألة أن مسمى الذات واحد ، أم لا؟ (٥).

وأما الحجة الثالثة : فمندفعة ؛ إذ لقائل أن يقول : الحاصل من قولنا : هذا الوجود خاص : أنه مخالف بذاته لباقى الوجودات ؛ وذلك لا يستدعى كونه مطلقا.

وأما الحجة الرابعة : فالمراد من قولنا مسمى الوجود ليس مشتركا فيه بين الذوات : أى أنه ليس لاسم الوجود مسمى مشتركا (٦) فيه من الذوات (٦) ، وليس حكما بعدم الاشتراك على مسمى متحقق ، لا مطلقا ، ولا خاصا ؛ ولا يخفى الفرق بين الاعتبارين.

__________________

(١) فى ب (بين)

(٢) فى ب (ولا حاجة فيه)

(٣) فى ب (الاشتراك)

(٤) فى ب (أيضا نظر)

(٥) انظر ل ٥١ / ب وما بعدها.

(٦) فى ب (مشترك بين الذوات)

٢٦١

وغاية ما يلزم من ذلك التأويل بحمل اللفظ على ما ليس ظاهرا فيه ؛ وهو غير بعيد.

والأقرب من المذهبين إنما هو الأول ؛ لما تقدم (١).

__________________

(١) هو مذهب الأشعرى ، وأبى الحسين البصرى انظر ل ٥٣ / أ.

٢٦٢

النوع الثانى

في الصفات النفسانية لذات واجب الوجود

ويشتمل على إحدى عشرة مسألة :

الأولى (١) : في إثبات الصفات النفسانية على وجه عام.

الثانية : في إثبات صفة القدرة.

الثالثة : في إثبات صفة الإرادة.

الرابعة : في إثبات صفة العلم.

الخامسة : في إثبات صفة الكلام.

السادسة : في إثبات الإدراكات.

السابعة : في إثبات صفة الحياة.

الثامنة : في أنه هل له صفة زائدة على هذه الصفات؟

التاسعة : في أن الصفة هل هى نفس (٢) الوصف ، أو غيره؟

العاشرة : في أن الصفة هل هى نفس الموصوف ، أو غيره؟ أو لا هى هو ، ولا هى غيره؟ [(٣) وأن الصفة هل توصف ، أم لا (٣)

الحادية عشرة : في تعلق هذه الصفات بمتعلقاتها ، وأنه وجودى ، أو لا؟

__________________

(١) الترقيم في (ب) بالحروف الأبجدية. وفي (أ) وردت مخالفة للقاعدة : الأول ، والثانى الخ.

(٢) فى ب (عين).

(٣) من أول (وأن الصفة ..) ساقط من (أ).

٢٦٣
٢٦٤

المسألة الأولى

في إثبات الصفات النفسانية على وجه عام

مذهب أهل الحق من الأشاعرة : أن الواجب بذاته قادر بقدرة ، مريد بإرادة ، عالم بعلم ، متكلم بكلام ، سميع بسمع ، بصير ببصر ، حي بحياة ، وهذه كلها صفات وجودية ، أزلية ، زائدة على / ذات واجب الوجود.

وذهبت الفلاسفة ، والشيعة (١) : إلى نفيها.

ثم اختلفت الشيعة :

فمنهم (٢) : من لم يطلق عليها شيئا من الأسماء الحسنى.

ومنهم (٣) : من لم يجوز خلوه عنها.

وأما المعتزلة (٤) : فلهم تفصيل مذهب في الصفات يأتى شرحه في كل مسألة على التفصيل.

ونحن الآن نبتدئ بمعتمد المعطلة (٥) ، والتنبيه علي وجه فساده ، ثم نذكر ما هو معتمد أهل الحق في ذلك فنقول :

__________________

(١) الشّيعة : من الفرق الإسلامية ، وهم الذين شايعوا عليا ـ رضى الله عنه على الخصوص. وقالوا بإمامته وخلافته نصا ، ووصية ، إما جليا ، وإما خفيا. واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده ، وأن خرجت فبظلم يكون من غيره ، أو بتقية من عنده (الملل والنحل ١٤٦).

ويلاحظ أن المقصود بالشيعة هنا الغلاة منهم : كالباطنية ، والمتأخرين الذين خلطوا التشيع بالاعتزال. أما القدماء فأكثرهم مثبتة ؛ بل منهم من غلا ونزع إلى التجسيم. كما صرح بذلك في الجزء الثانى ل ٢٥٦ / ب ، وانظر في ذلك مقالات الإسلاميين ١ / ١٠٥.

(٢) هم الإسماعيلية من الباطنية.

(٣) المقصود بهم متأخرو الشيعة ممن خلطوا الاعتزال بالتشيع.

(٤) انظر شرح الأصول الخمسة ١٨٢ ـ ١٨٤ والمغنى ٤ / ٣٤١ ـ ٣٤٦ والمحيط بالتكليف ص ١٠٤. كلها للقاضى عبد الجبار.

(٥) الذين بالغوا في نفى الصفات حتى عطلوا الله عن القدرة. ولمزيد من البحث والدراسة عن مصطلح التعطيل والمعطلة انظر : نهاية الأقدام للشهرستانى. القاعدة الخامسة في إبطال مذهب التعطيل وبيان وجوه التعطيل ص ١٢٣ ـ ١٣٠.

٢٦٥

قالت النفاة (١) : لو قدر له صفات وجودية ، زائدة على ذاته : فإما أن تكون كلها واجبة ، أو ممكنه ، أو البعض واجبا ، والبعض ممكنا.

لا جائز أن يقال بالأول : إذ هى مفتقرة إلى الذات ، ضرورة كونها صفات الذات ، والمفتقر إلى غيره ، لا يكون واجبا لذاته.

ولا جائز أن يقال بالثانى : وإلا لافتقرت إلى علة موجبة لها ، والعلة الموجبة لها : إما الذات ، أو غيرها. لا يمكن أن يكون الموجب لها الذات ؛ إذ الذات قابلة لها ، والقابل لا يكون هو الفاعل من جهة كونه قابلا ، وإن كان من جهتين ، فالجهات لا بدّ وأن تكون وجودية ؛ فإن نقيض الجهة ، لا جهة ، ولا جهة عدم ؛ فالجهة وجود ، والكلام في تلك الجهات : كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور الممتنع ؛ وهما ممتنعان.

وإن كان الموجب لها غير الذات : فواجب الوجود مفتقر إلى غيره في إفادة كمالاته له ، ويلزم أن يكون مشروطا بالنظر إلى ذلك الغير ؛ وهو ممتنع.

ثم ذلك الغير : إما أن يكون قديما ، أم محدثا.

لا جائز أن يكون قديما ؛ إذ لا قديم عندكم سوى (٢) واجب الوجود ، وصفاته.

وإن كان حادثا : فصفات واجب الوجود تكون حادثة ، ضرورة حدوث المحدث لها ؛ وهو غير قابل لحلول الحوادث في ذاته ؛ كما يأتى بعد (٣).

وإن كان الثالث : وهو أن يكون البعض منها واجبا ، والبعض ممكنا : فبطلان كل واحد منهما ؛ بما به بطلان القسمين الأولين ؛ فإذن واجب الوجود ؛ واجب من جميع جهاته ، وليس له صفات وجودية زائدة على ذاته ، ولا ما يوجب فيه تعداد ، ولا كثرة. وما يوصف به واجب الوجود فلا يخرج عن أن يكون من أسماء الذات : كقولنا : إنه ذات ، ووجود (٤) ، وماهية ، وشيء ، ومعنى ، ونحوه (٤).

__________________

(١) يقصد بهم جميع النفاة من فلاسفة ، وشيعة ، ومعتزلة. ثم ذكر في الصفحة التالية ما يخص المعتزلة ، والشيعة.

(٢) فى ب (غير).

(٣) ساقط من ب. انظر ل ١٤١ / أ.

(٤) فى ب (وموجود وماهية وشيء ومعنى).

٢٦٦

أو من الصفات السلبية : كقولنا : إنه واجب : أى لا يفتقر إلى غيره في (١) وجوده ، ونحوه.

أو الإضافية (١) : كقولنا : [إنه] (٢) جواد ، وعلة ، ومبدأ ، وخالق ، ومبدع / ونحوه.

وأما ما (٣) يخص المعتزلة (٣) ، والشيعة : فإنهم قالوا :

لو كان له صفات وجودية زائدة على ذاته ؛ لم يخل : إما أن تكون هى هو ، أو هى (٤) غيره.

فإن كانت هى هو ؛ فلا صفة له زائدة عليه.

وإن كانت غيره ، فإما قديمة ، أو حادثة.

فإن كانت قديمة : فالقدم أخص وصف الإلهية ؛ وذلك يفضى إلى القول بتعدد الآلهة ؛ وهو ممتنع ؛ كما (٥) يأتى :

وإن كانت حادثة : فيلزم أن يكون واجب الوجود محلا للحوادث ؛ وهو ممتنع ؛ كما (٦) يأتى.

وأيضا : فإنه لو قام به صفات وجودية ؛ لكانت مفتقرة إلى الذات في وجودها. وذلك يؤدى إلى إثبات خصائص الأعراض لصفات واجب الوجود ؛ وهو محال.

وأيضا : فإن الله ـ تعالى ـ كفر النصارى بإثباتهم الأقانيم الثلاثة ، وهى : الذات ، والعلم ، والحياة. فمن أثبت له ذلك ، وزيادة ؛ كان أولى بالتكفير.

والجواب :

أما الشبهة الأولى : فقد سبق الجواب عنها ، في مسألة أن وجود واجب الوجود ، هل هو زائد على ذاته ، أم لا (٧)؟

__________________

(١) فى (فى وجوده أو إضافته).

(٢) فى أ (لأنه).

(٣) فى ب (ما يختص بالمعتزلة).

(٤) فى ب (من).

(٥) انظر ما سيأتى ل ١٦٧ / ب وما بعدها.

(٦) انظر ما سيأتى ل ١٤٦ / أوما بعدها.

(٧) انظر ل ٥١ / ب وما بعدها.

٢٦٧

وما قيل من أن القدم أخص وصف الإله تعالى ، فإن أريد به أنه خاص بالله (١) تعالى (١) على وجه لا يشاركه فيه غيره من الموجودات الخارجة عن مسماه ؛ فمسلم ؛ ولكن ليس في ذلك ما (٢) يدل على (٢) نفى القدم عن صفاته.

وإن أريد به أنه غير متصور أن يعم شيئين علي وجه يدخل فيه ذات واجب الوجود ، وصفاته ؛ فهو المصادرة على المطلوب.

ثم هو لازم للخصم (٣) ، إن كان ممن يعتقد كون المعدوم شيئا ، وذاتا ثابتة في القدم في حالة العدم ؛ على ما لا يخفى.

وقد أجاب بعض الأصحاب (٤) عن هذه الشبهة : بأن قال :

لو كان القدم أخص وصف الإلهية ؛ فمفهومه لا محالة يزيد على مفهوم كونه موجودا.

وعند ذلك فالوجود : إما أن يكون أعم من القدم ، أو أخص منه.

فإن كان أعم : فقد تركبت ذات الإله تعالى من وصفين ؛ أعم ، وأخص

وإن كان أخص : فيلزم أن يكون كل موجود إلها ؛ وينقلب الإلزام.

وهو غير صواب ؛ لجواز أن لا يكون أعم ولا أخص ، بناء على أن مسمى الوجود مختلف ؛ وإن اتحد اسم (٥) الوجود (٥) ؛ كما سبق.

ولا يلزم من تعدد مفهوم اسم الوجود والقدم ، التكثر في اسم مدلول اسم الإله ـ تعالى ـ إلا أن يكون المفهوم من القدم معنى وجوديا ، وأمرا حقيقيا ؛ وليس كذلك ؛ بل حاصله يرجع (٦) إلى سلب الأولية لا غير. وهذا / بخلاف الصفات الوجودية التى سلبت عنها الأولية.

وأما القول بأن قيام الصفات (٧) بذاته ؛ يفضى إلى ثبوت خصائص الأعراض لها ؛ فإنما يستقيم ، أن لو ثبت أن خاصية العرض قيامه بالمحل مطلقا ؛ وليس كذلك ؛

__________________

(١) فى ب (به).

(٢) فى ب (ما يوجب).

(٣) فى ب (على الخصم).

(٤) لعله الشهرستانى انظر نهاية الأقدام ص ١٠٨ ، ١٠٩ ، ٢١٢ ـ ٢١٤.

(٥) فى ب (الاسم).

(٦) فى ب (راجع).

(٧) فى ب (الصفة).

٢٦٨

بل خاصية العرض ، وجوده في الحيز تبعا لمحله فيه ؛ وهو غير متصور في صفات الإله ـ تعالى ـ أو نقول : إن خاصية العرض : قيامه بالمحل مع حدوثه ، وتجدده ؛ وهو أيضا غير متصور في صفات الله ـ تعالى ـ.

وأما تكفير النصارى : فلم يكن بإثباتهم العلم ، والحياة ؛ بل بإثباتهم آلهه ثلاثة على ما قال الله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (١).

هذا ما اعتمد عليه النفاة.

وأما أهل الإثبات (٢) :

فقد سلك بعضهم في الإثبات مسلكا ضعيفا : وهو أنهم تعرضوا لإثبات أحكام الصفات أولا. ثم توصلوا منها إلى إثبات العلم بالصفات ثانيا.

فقالوا : العالم ـ لا محالة ـ على غاية من الحكمة ، والإتقان ، وهو ـ مع ذلك ـ جائز وجوده ، وجائز عدمه ؛ كما سيأتى.

وهو مستند في التخصيص ، والإيجاد إلى واجب الوجود ؛ كما (٣) سيأتى أيضا (٣).

فيجب أن يكون قادرا عليه ، مريدا له ، عالما به ، كما وقع به الاستقراء في الشاهد ؛ فإن من لم يكن قادرا ؛ لا يصح صدور شيء عنه. ومن لم يكن مريدا ؛ لم يكن تخصيص بعض الجائزات عنه دون البعض أولى من العكس ؛ إذ نسبتها إليه نسبة واحدة. ومن لم يكن عالما بالشيء ، لا يتصور منه القصد إلى إيجاده ، ولا الإتقان ، والإحكام في صنعه.

قالوا : وإذا ثبت كونه قادرا ، مريدا ، عالما ؛ وجب أن يكون حيا ؛ إذ الحياة شرط هذه الصفات ؛ على ما عرف في (٤) الشاهد (٤) ، وما كان له في وجوده أو عدمه شرط ، لا

__________________

(١) سورة المائدة ٥ / ٧٣.

(٢) المقصود بهم الأصحاب من الأشاعرة.

منهم الباقلانى في التمهيد ١٥٢ ـ ١٥٣ ، وإمام الحرمين في الإرشاد ٦١ ـ ٦٣ ، والشهرستانى في نهاية الأقدام ١٧٠ وقد نقل ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٢ ـ ٣٤ ما ذكره الآمدي هنا من أول قوله «وأما أهل الإثبات ... إلى قوله والشرط لا يختلف شاهدا ولا غائبا» ـ ثم علق عليه وناقشه. [درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٢ ـ ٣٤].

(٣) انظر ل ٥٨ / ب وما بعدها.

(٤) فى ب (شاهدا).

٢٦٩

يختلف شاهدا ، ولا غائبا ؛ ويلزم من كونه حيا ؛ أن يكون سميعا ، بصيرا ، متكلما ، فإن من لم يثبت له هذه الصفات من الأحياء ، فهو متصف بأضدادها ، كالعمى ، والطرش ، والخرس ؛ على ما عرف في الشاهد أيضا ، والإله تعالى يتقدس عن الاتصاف بهذه الصفات.

قالوا : وإذا ثبتت هذه الأحكام ؛ فهى في الشاهد معللة بالصفات ، فالعلم في الشاهد ؛ علة كون العالم عالما ، والقدرة ؛ علة كون القادر قادرا ، وعلى هذا النحو في باقى الصفات ، والعلة لا تختلف شاهدا ، ولا غائبا.

وأيضا : فإن حدّ العالم في الشاهد ؛ من قام به العلم ، والقادر / من قامت به القدرة ، وعلى هذا النحو ، والحد أيضا لا يختلف لا شاهدا ، ولا غائبا.

وأيضا : فإن شرط العالم في الشاهد ؛ قيام العلم به ، وكذلك في القدرة وغيرها ، والشرط لا يختلف شاهدا ، ولا غائبا (١).

وأعلم أن هذه الحجة : مما يضعف التمسك بها جدا ؛ فإن حاصلها يرجع إلى الاستقراء في الشاهد ، وإلحاق الغائب بالشاهد بقياس التمثيل ، وقد سبق إبطاله في الفصل السابع (٢) من الباب الثانى في الدليل (٢).

والّذي نريده هاهنا ، أن نقول :

القياس هاهنا يعترف بالتفاوت بين صفات الغائب ، والشاهد ، حتى أن القدرة في الشاهد لا يتصور بها عنده الإيجاد بخلاف القدرة في الغائب ، وكذلك الإرادة في الشاهد ، لا يتصور بها التخصيص ، بخلاف الإرادة في الغائب. وعلى هذا النحو في باقى الصفات. فإذن ما وجد في الشاهد غير موجود في الغائب ، وما وجد في الغائب غير موجود في الشاهد ؛ فلا يصح القياس.

__________________

(١) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي ٤ / ٣٤ ثم علق عليه بقوله : «قلت : وهذه الطريقة مع إمكان تقريرها على هذا الوجه الخ» [درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٤].

(٢) من أول (من الباب الثانى ..) ساقط من ب. انظر ل ٣٨ / أوما بعدها.

٢٧٠

وأيضا : فإن التوصل من الصفات الإحكامية (١) فى حق الغائب ، إلى الصفات النفسانية يوجب أن تكون الصفات الإحكامية ، أعرف من الصفات النفسانية ، وإلا لما أمكن التوصل بها إلى معرفتها. وإذا كانت الصفات النفسانية ، أخفى فكيف [توجد (٢) في حد الصفات الإحكامية (٢)] وشرط المعرف ؛ أن يكون أعرف مما يعرف به.

ولما تخيل بعض الأصحاب (٣) ضعف هذه الطريقة ؛ لم يستند في إثبات أحكام الصفات عند ظهور الإتقان في الكائنات ، وكذا في إثبات الصفات عند ثبوت أحكامها ، إلى غير الضرورة ، ودعوى البديهية ، دون إلحاق الغائب الشاهد.

وهو بعيد أيضا ؛ فإن العلم الضرورى بذلك ، وإن كان واقعا في الشاهد جريا على العادة ، فإن من رأى بناء مرتفعا ، وصناعة محكمة في الشاهد ؛ اضطره عقله إلى العلم بعلم صانعه ، وقدرته ، وإرادته ، إلى غير ذلك من الصفات ، ولا يلزم مثله في الغائب ؛ وإلا لاطرد ذلك فيما نعلمه بالضرورة في الشاهد : من كون صانع البناء المحكم حيوانا ، متحركا بالإرادة ، مغتذيا ، ناميا ، مولدا ؛ وليس كذلك.

وأيضا : فإنه لو خلى الإنسان ، ودواعى نفسه من مبدأ نشوه ، إلى آخر عمره من غير التفات إلى نظر ، أو تقليد ؛ لم يجد من نفسه / العلم بذلك في حق الغائب أصلا. ولو كان بديهيا ؛ لما كان كذلك ، ولما خالف فيه أكثر العقلاء. وإن اكتفى في ذلك بمجرد الدعوى ؛ فقد تؤمن المقابلة بمثله في طرف النقيض. هذا كله بعد تسليم ثبوت أحكام لهذه الصفات ، وراء قيام الصفات بالذات ؛ وإلا فالاستدلال باطل.

والقول (٤) بأنه لو لم يكن متصفا بهذه الصفات مع كونه حيا ؛ لكان متصفا بما يقابلها ؛ فالتحقيق فيه يتوقف على بيان حقيقة المتقابلين ، وبيان أقسامهما ؛ فنقول :

أما المتقابلان : فما لا يجتمعان في شيء واحد من جهة واحدة.

وهو إما أن لا يصح اجتماعهما في الصدق ، ولا في الكذب ، أو يصح ذلك في أحد الطرفين.

__________________

(١) عن الصفات الإحكامية انظر المبين ل ١٦ / أ ، ب حيث يقول (وأما الصفة الحكمية ويعبر عنها بالصفة المعللة ، فما كانت في الحكم بها على الذات تفتقر إلى قيام صفة أخرى بالذات ككون العالم عالما ، والقادر قادرا). ومن هذا البيان يتضح أن الصفات الحكمية ليست إلا نتائج ، أو أحكاما للصفات النفسية.

(٢) فى ب (يؤخذ في حد الصفات النفسانية) ، وفي (أ) (توجد في الصفات الإحكامية).

(٣) المقصود به الباقلانى. انظر نهاية الأقدام للشهرستانى ص ١٧٣ وانظر أيضا الإرشاد لإمام الحرمين ص ٦٢.

(٤) يرفض الآمدي أيضا هذا القول : وهو إثبات الصفات عن طريق نفى أضدادها. وقد قال به الأشعرى عند إثباته بعض الصفات. انظر اللمع ص ٢٥ ، ٢٦.

٢٧١

فالأول : هما المتقابلان بالسلب ، والإيجاب ؛ وهو تقابل التناقض. والتناقض هو اختلاف القضيتين بالإيجاب ، والسلب على وجه لا يجتمعان في الصدق ولا الكذب لذاتيهما كقولنا : زيد حيوان. وزيد ليس حيوانا. ومن خاصيته استحالة اجتماع طرفيه في الصدق ، أو الكذب ، وأنه لا واسطة بين الطرفين ، ولا استحالة لأحد الطرفين إلى الآخر.

والثانى : فلا يخلو : إما أن يتحافظا ، أو لا يتحافظا.

فإن تحافظا : فهما المتقابلان بالتضايف : وهما اللذان لا تعقل لكل واحد منهما إلا مع تعقل الآخر كقولنا : زيد أب ، زيد ابن. وخاصيته توقف كل واحد من طرفيه على الآخر في الفهم.

وإن لم يتحافظا : فإما أن يسد كل واحد منهما الآخر ، أو لا يسد.

فإن كان الأول : فهما المتقابلان بالتضاد. والمتضادان كل أمرين يتصور اجتماعهما في الكذب دون الصدق ، وسدّ كل واحد منهما الآخر. وسواء كانا وجودين : كالسواد ، والبياض. أو وجود ، وعدم : كالزوجية ، والفردية.

ومن خواصه جواز استحالة كل واحد من طرفيه إلى الآخر في بعض صوره ، وجواز وجود واسطة بين الطرفين تمر عليه الاستحالة من أحد الطرفين إلى الآخر : كالصفرة ، والحمرة بين السواد ، والبياض.

وإن كان لا يسد كل واحد منهما الآخر : فهو تقابل العدم والملكة.

أما (١) الملكة بالمعنى الخاص : فهو معنى وجودى أمكن أن يكون ثابتا للشىء. إما بحق جنسه : كالبصر للإنسان ، أو بحق نوعه : ككتابة زيد ، أو بحق شخصه : كاللحية / للرجل.

وأما العدم المقابل لها : فهو ارتفاع هذه الملكة. وسواء كان ذلك في وقت الإمكان : كالأمية بعد البلوغ ، أو قبله : كعدم الكتابة في حال الصغر. وسواء كان مما يزول : كالمرودة (٢) ، أو لا يزول : كالعمى.

__________________

(١) من أول هاهنا نقل ابن تيمية ما ذكره الآمدي في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٥ ـ ٣٦).

(٢) فى ب (كالمكروه).

الأمرد : الشاب طر شاربه ولم تنبت لحيته. مرد كفرح مردا ومردودة ، وتمرد : بقى زمانا ثم التحى. (القاموس المحيط ، فصل الميم. باب الدال).

٢٧٢

ولما لم تكن ملكة البصر بالتفسير المذكور ثابتة للحجر ، لا يقال له أعمى ولا بصير. ومن خواص هذا التقابل : جواز انقلاب الملكة إلى العدم ، ولا عكس.

وعلى [هذا] (١) إن أريد بالتقابل هاهنا تقابل التناقض بالسلب والإيجاب : وهو أنه لا يخلو من كونه سميعا ، وبصيرا ، ومتكلما ، أو ليس ؛ فهو ما يقوله الخصم ، ولا يقبل نفيه من غير دليل.

وان أريد بالتقابل تقابل المتضايفين : فهو غير متحقق بين البصر ، والعمى ، والسمع ، والطرش ، ونحوه.

ثم وإن كان من قبيل تقابل التضايف ؛ فلا يلزم من نفى أحد المتضايفين ؛ ثبوت الآخر ؛ بل ربما انتفيا معا.

وإن أريد بالتقابل تقابل الضدين : فإنما يلزم أن لو كان واجب الوجود قابلا لتوارد الأضداد عليه ؛ وهو غير مسلم. وإن كان قابلا فلا يلزم من نفى أحد الضدين وجود الآخر ؛ لجواز اجتماعهما في العدم ، ووجود واسطة بينهما. ولهذا يصح أن يقال : البارى تعالى ليس بأسود ، ولا أبيض.

وإن أريد بالتقابل تقابل العدم ، والملكة : فلا يلزم أيضا من نفى الملكة تحقق العدم ، ولا بالعكس ؛ إلا في محل يكون قابلا لهما ؛ ولهذا يصح أن يقال : الحجر لا أعمى ، ولا بصير. والقول بكون البارى تعالى قابلا للبصر والعمى ؛ دعوى محل النزاع ، والمصادرة على المطلوب.

وعلى هذا : فقد امتنع لزوم العمى ، والخرس ، والطرش في حق الله تعالى ، من ضرورة نفى البصر ، والسمع ، والكلام عنه (٢).

وأما المعتزلة (٣) :

فإنهم قالوا في إبطال إلحاق الغائب بالشاهد في هذه الصفات : أن هذه الأحكام ؛ وهى العالمية ، والقادرية ، والمريدية ، ونحوها ؛ واجبة لله ـ تعالى ـ ، والواجب لا يفتقر

__________________

(١) ساقط من (أ).

(٢) انتهى ما نقله ابن تيمية عن الآمدي في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٥ ، ٣٦). ثم علق عليه وناقشه.

(٣) انظر شرح الأصول الخمسة ص ١٧٢ ، ١٩٩ ـ ٢٠١ للقاضى عبد الجبار.

٢٧٣

إلى ما يعلل به كما في الشاهد ؛ فإن التحيز للجوهر ، وقبول الجوهر للعرض ، لما كان واجبا ؛ لم يفتقر إلى علة. وإنما المفتقر إلى العلة ؛ ما كان في نفسه جائزا غير واجب ، وذلك ككون العالم عالما في الشاهد ، وكالموجود (١) الحادث ونحوه.

قال بعض / الأصحاب (٢) :

قولكم : بأن الواجب (٣) لا يعلل ، والجائز هو المعلل ؛ منتقض في كلا الطرفين.

أما انتقاض طرف الجواز : فهو أن الوجود الحادث جائز ، وليس معللا.

وأما انتقاض طرف الوجوب : فهو أن كون العالم عالما في الشاهد ، بعد أن ثبت ، واجب ، وهو معلل ؛ ورده غير صحيح (٤).

أما قوله : الوجود الحادث جائز ، وليس معللا. إنما يلزم أن لو قيل : إن كل جائز معلل بالصفة ، وليس كذلك ؛ بل إنما قالوا : لا يعلل إلا الجائز ، ولا يلزم من كون التعليل لا يكون إلا للجائز ؛ أن يكون كل جائز معللا.

وأما قوله : بأن العالم في الشاهد ـ بعد أن ثبت كونه عالما ـ واجب وهو معلل ؛ فغير صحيح ؛ وذلك لأن الواجب ينقسم : إلى ما وجوبه بنفسه (٥) ، وإلى ما وجوبه مشروط بغيره.

فإن أريد به أنه واجب بالمعنى الأول : فقد ناقض ؛ حيث جعله معللا ، فإن الواجب بنفسه ما لا يفتقر في وجوده إلى غيره.

وإن أراد به الواجب (٦) بالمعنى الثانى : فلا يخرج عن كونه جائزا ؛ فإن كل ما وجوبه بغيره ؛ فهو جائز بنفسه ، على ما سبق (٧). وإذا (٨) كان جائزا ؛ فتعليله غير ممتنع.

__________________

(١) فى ب (وكوجود).

(٢) لعله إمام الحرمين الجوينى انظر الإرشاد ص ٨٤ وما بعدها.

(٣) فى ب (الواحد).

(٤) يرى الآمدي عدم صحة رد الجوينى ؛ بل إنه ينقضه ، ويتطوع في الرد عليهم نيابة عن المعتزلة. وذلك لإحساسه بضعفه ، وقصوره عن الإقناع ، ثم يرد عليهم شبههم مبطلا إياها.

(٥) فى ب (سلبه).

(٦) فى ب (أنه واجب).

(٧) انظر ل ٤١ / أ.

(٨) فى ب (وإن).

٢٧٤

وما يمتنع تعليله ؛ ليس إلا ما كان واجبا بنفسه ، أو ممتنعا.

وهذا وإن كان واجبا ؛ فليس وجوبه بنفسه ؛ فلا يتجه به النقض.

وأيضا : فإن الخصم قد يسلم ثبوت هذه الأحكام للبارى تعالى ؛ ولكن على وجه تكون النسبة بينها ، وبين أحكام ذواتنا على نحو النسبة بين ذاته ، وذواتنا.

وعند ذلك ؛ فلا يلزم من تعليل أحد المختلفين تعليل الآخر ؛ وإن وقع الاشتراك بينهما في التسمية على ما لا يخفى. ولا يلزم عليه أن يقال. فما تذكرونه في العلة مع المعلول ، لازم لكم في الشرط مع المشروط ؛ حيث أنكم قلتم : إن البارى حىّ ؛ ضرورة كونه شرطا لكونه عالما ، وقادرا ، ومريدا في الشاهد. فما هو اعتذاركم في الشرط ؛ هو اعتذارنا في العلة. فإن الخصم قد لا يسلم أن طريق إثبات كونه حيا ، جهة الاشتراط ؛ بل غيره من الطرق.

كيف وأن البنية المخصوصة عنده شرط في الشاهد ، ومع ذلك لم نلتزم اطراد ذلك في الغائب ، فكيف يلتزم الاطراد في غيره؟

وإنما الطريق في الرد على المعتزلة فيما أوردوه أن يقال :

إن أردتم بكونها واجبة للبارى تعالى ، أنها لا تفتقر / إلى علة ؛ فهو المصادرة على المطلوب.

وإن أردتم أنه لا بدّ منها لواجب الوجود ؛ فذلك لا ينافى التعليل بالصفة.

والقول بأن التحيز للجوهر ، وقبوله للعرض في الشاهد لما كان واجبا ؛ لم يفتقر إلى علة : فمبنى على فاسد أصولهم في قولهم : إن هذه توابع الحدوث ، وتوابع الحدوث مما لا يدخل تحت القدرة ، ولا ينسب إلى فعل فاعل.

وهو غير صحيح عند أهل الحق ؛ بل كلما تخيل في الأذهان فما له وجود عينى [أصليا كان ، أو تابعا (١)] ؛ فهو مقدور لله تعالى ، ومخلوق له ، وليس شيئا مما يفرض في الشاهد واجبا لنفسه. اللهم إلا أن يعنى بكونه واجبا ، أنه لازم لما هو ثابت له على وجه لا تقع المفارقة بينهما أصلا ؛ لكن الواجب بهذا التفسير غير مانع من تعليله ؛ كما سبق.

__________________

(١) فى أ (كان أصليا أو تابعا).

٢٧٥

فإن قيل : هذه الأمور اللازمة وإن كانت مفتقرة إلى فاعل مرجح ؛ لكنها لا تفتقر إلى صفة قائمة بمحلها ـ تكون علة لها ـ كما في افتقار العالمية في الشاهد إلى صفة العلم ـ وهو المقصود بلفظ العلة ـ ، وإذا لم يفتقر إلى علة ، لكونها لازمة ؛ فكذلك فيما نحن فيه.

قلنا : تفسير عدم افتقارها إلى العلة بالمعنى المذكور ـ وإن كان صحيحا ـ فقولهم : إنها لا تفتقر إلى العلة لكونها لازمة ، ممنوع ؛ بل لا مانع من أن تكون معللة ـ وإن كانت لازمة ـ ، وتكون علتها ملازمة أيضا.

والقول بأنه لا يعلل إلا ما كان جائزا ، فإنما ينفع أن لو كانت هذه الأحكام غير جائزة ، ولا يمتنع القول بجوازها من حيث إنه لا يمكن القول بعدمها إلا وقد لزم المحال عنه ؛ لأن المحال قد يلزم عند فرض عدم الشيء لنفسه ؛ فيكون واجبا لذاته.

وقد يكون فرض المحال لازما عن أمر خارج ـ وإن كان الشيء في نفسه جائزا ـ وذلك كما في فرض عدم المعلول مع وجود علته : كالكسر مع الانكسار ، ونحوه ؛ فلما لم يبينوا أن المحال اللازم عند فرض عدم هذه الأحكام ، لازم لنفسها ، لا لوجود عللها ؛ لا يلزم أن تكون واجبة لنفسها ؛ فهذا خلاصة ما ذكره الأصحاب في هذا الباب.

واعلم أن هاهنا طريقة رشيقة (١) ، سهلة المعرك ، قريبة المدرك ، يعسر على المنصف المتبحر ، الخروج عنها ، والقدح فيدلالتها / يمكن طردها في إثبات جميع الصفات النفسانية ، وهى مما ألهمنى الله تعالى إياه ، ولم أجدها على صورتها ، وتحريرها لأحد غيرى (٢) ، وذلك أن يقال :

المفهوم من كل واحد من الصفات المذكورة : إما أن يكون في نفسه وذاته ـ مع قطع النظر عما تتصف به ـ صفة كمال ، أو لا صفة كمال. لا جائز أن تكون لا صفة كمال ؛

__________________

(١) فى ب (وثيقة).

(٢) هذه الطريقة من مبتكرات الآمدي. وقد تأثر به فيها ابن تيمية انظر ابن تيمية السلفى ص ١١١ ، ١١٦ ، وتلاميذه من بعده. انظر مدارج السالكين لابن القيم ١ / ص ٣١ ، وشرح الطحاوية ص ٣٩ ـ ٤٠ لابن أبى العز الحنفى.

والشيخ محمد عبده في شرحه على العقائد العضدية ص ٢٧٦ وما بعدها. وقد نقل ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٣٧ ، ٣٨) من أول قول الآمدي «واعلم أن هاهنا طريقة رشيقة ... إلى قوله ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق» وعلق عليه بقوله : «قلت : هذه الحجة مادتها صحيحة ، وقد استدل بها ما شاء الله من السلف والخلف الخ».

٢٧٦

وإلا كان حال من اتصف بها في الشاهد أنقص من حال من لم يتصف بها ؛ إن كان عدمها في نفس الأمر كمالا ، أو مساويا لحال من لم يتصف بها ؛ إن لم يكن عدمها في نفس الأمر كمالا. وهو خلاف ما نعلمه بالضرورة في الشاهد ؛ فلم يبق إلا القسم الأول ـ وهو أنها في نفسها ، وذاتها كمال ـ وعند ذلك فلو قدر عدم اتصاف البارى تعالى بها ؛ لكان ناقصا بالنسبة إلى من اتصف بها من مخلوقاته تعالى ؛ ومحال أن يكون الخالق أنقص من المخلوق.

فإن قيل : لا نقول بأنها صفة كمال على الإطلاق ، ولا أنها غير كمال على الإطلاق ؛ بل صفة كمال بالنظر إلى الشاهد ، ولا كمال بالنظر إلى الغائب.

وعند ذلك فلا يلزم منه أن يكون حال من اتصف بها في الشاهد مساويا لحال من لم يتصف بها ، أو (١) أنقص ، ولا أن يكون (١) الخالق أنقص من (٢) مخلوقه (٢).

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجوب اتصاف واجب الوجود بهذه الصفات ؛ لكنه منقوض بالشم ، والذوق ، واللمس ، وغير ذلك من كمالات الموجودات في الشاهد.

فإن ما ذكرتموه جار فيها مع أنها غير ثابتة لله تعالى.

سلمنا عدم الانتقاض ؛ ولكنه معارض بما يدل على أن هذه الصفات غير موجودة للرب تعالى ؛ وذلك لأن ما تثبتونه للرب من هذه الصفات : إما أن يكون من جنس ما في الشاهد ، أو لا من جنسه.

فإن كان الأول : فهو محال. وإلا لزم أن تكون صفاته مشاركة لصفات موجودات الشاهد في العرضية ، والإمكان ، وأن يكون البارى تعالى محلا للأعراض ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : فهو غير معقول. وما ليس بمعقول لا يحكم عليه بكونه صفة فضلا [عن] (٣) كونه كمالا لغيره ، أو ليس كمالا له ، ولا أن يحكم على ما هو معقول بما حكم عليه ، ولا بالعكس.

__________________

(١) فى ب (وانقص ولا يكون).

(٢) فى ب (منه من المخلوق).

(٣) فى أ (من).

٢٧٧

قلنا : أما (١) الإشكال (١) الأول ؛ فمندفع. فإن كل واحد من الصفات مع قطع النظر عما يتصف به / لا يخرج عن كونه كمالا ، أو لا. ضرورة أنه لا واسطة بين النفى ، والإثبات.

والقول بأن كل واحد من آحاد الصفات مع قطع النظر عما يتصف به لا يكون كمالا. ولا لا (٢) كمال (٢) ، إثبات واسطة بين النفى والإثبات ، وهو ممتنع.

وأما النقض بما ذكروه من الكمالات : فالوجه في دفعه أن كل ما ثبت كونه كمالا في الشاهد ؛ فإن لزم من إثباته نقص في حق الغائب ؛ فلا سبيل إلى إثباته ، وإلا فلا مانع من إثباته للغائب على أصول أصحابنا. وإن تعذر إطلاقه لفظا لعدم ورود الشرع به. وعند ذلك فمن ادعى أن إثبات ما ذكرناه من الصفات في حق الغائب مما يلزم منها نقص في حقه ؛ فعليه البيان.

قولهم : إما أن يكون من جنس ما في الشاهد ، أو لا؟

قلنا : من جنس ما في الشاهد.

قولهم : يلزم منه أن تكون صفاته مشاركة لما في الشاهد في الإمكان ، والعرضية.

قلنا : إن عنوا بكونها ممكنة ؛ أنها غير واجبة بذاتها ، وبكونها عرضا ؛ افتقارها إلى المحل ؛ فذلك غير ممتنع عندنا.

وإن عنوا به معنى آخر ؛ فهو غير مسلم ؛ فلا بد من تصويره.

وقد يتجه على هذه الطريقة إشكالات أخر خاصة بكل صفة ، صفة يأتى تفصيلها ، والجواب عنها في كل مسألة من مسائل الصفات على التفصيل إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فى ب (إن).

(٢) فى ب (ولا كمال).

٢٧٨

المسألة الثانية

في إثبات صفة القدرة لله تعالى

وقبل الخوض في ذلك بالنفى ، والإثبات ، لا بدّ من تحقيق معنى القدرة فنقول :

القدرة : عبارة عن صفة وجودية ، من شأنها تأتى (١) الإيجاد ، والإحداث بها على وجه يتصور ممن قامت به الفعل ، بدلا عن الترك ، والترك بدلا عن الفعل.

وهى منقسمة : إلى قديم ، وحادث.

أما القدرة الحادثة : فسيأتى الكلام فيها وفيما يتعلق بها فيما بعد (٢).

وأما القدرة القديمة : فقد احتج الأصحاب (٣) على ثبوتها لله تعالى بالنص ، والمعقول.

أما النص : فقوله ـ تعالى ـ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) (٤) وقوله ـ تعالى ـ واصفا لنفسه (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (٥) وقوله ـ تعالى ـ : (الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) (٦)

فإن قيل : الاستدلال بالنصوص على وصفه بالقدرة ؛ فرع إثبات صفة الكلام ، وهو غير ثابت بعد ؛ فلا يصح الاحتجاج / بها. وإن صحّ الاحتجاج بها ؛ إلّا أنّها متروكة الظّاهر ؛ فإنّ القوّة في الحقيقة : عبارة عن الصلابة المناقضة للخور ، والله ـ تعالى ـ يتقدس عن الاتصاف بذلك.

__________________

(١) فى ب (الإحداث والإيجاد).

(٢) انظر ل ٢٢٩ / أ.

(٣) لمعرفة آراء الأشاعرة في هذه المسألة بالتفصيل : انظر اللمع للأشعرى ص ٢٥ والتمهيد للباقلانى ص ٤٧ ، ٤٨ ، ١٥٢ ، ١٥٣ والإنصاف ص ٣٥ له أيضا وأصول الدين للبغدادى ص ٩٣ ، ٩٤ والشامل لإمام الحرمين ص ٦٢١ ، ٦٢٥ ولمع الأدلة ص ٨٢ له أيضا. والاقتصاد في الاعتقاد للغزالى ص ٣٨ ـ ٤٧ ، والمحصل للرازى ص ١١٦ ـ ١١٨ ومعالم أصول الدين ص ٤٢ ـ ٤٤ له أيضا ومن كتب الآمدي غاية المرام ص ٨٥ ـ ٨٧ ، ومن كتب المتأخرين المتأثرين بالآمدي انظر : شرح الطوالع للأصفهانى ص ١٦٦ ـ ١٧٢ والمواقف للإيجي ص ٢٨١ ـ ٢٨٥ وشرح المقاصد ٢ / ٥٩ ـ ٦٤ للتفتازانى.

(٤) سورة فصلت ٤١ / ١٥.

(٥) سورة الذاريات ٥١ / ٥٨.

(٦) سورة هود ١١ / ٦٦.

٢٧٩

وإذا آل الأمر إلى التجوز ؛ فليس حمل القوة على القدرة ، بأولى من حملها على كونه بحال يصدر عنه جميع الموجودات.

والجواب :

أما السؤال الأول : فمندفع ؛ وذلك أنه لا يخلو : إما أن تكون صفة الكلام ثابتة ، أو غير ثابتة.

فإن كان الأول : فقد صح الاستدلال.

وإن كان الثانى : فليس من شرط الدليل أن يكون مسلما ؛ بل شرطه أن يكون بحال يمكن تسليمه بالدلالة عليه وتقريره ، وإثبات صفة الكلام بهذه الحالة ؛ فإنا سنبين كونها ثابتة فيما بعد (١).

وما ذكروه من مخالفة الظاهر ؛ ممنوع ؛ فإن القوة وإن كانت في أصل الموضوع عبارة عن الصلابة كما ذكروه ؛ إلا أن استعمالها بإزاء (القدرة) (٢) مجاز مشهور.

ولهذا إذا قيل فلان قوى على كذا. تبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق ؛ أن له عليه قدرة ، ولا كذلك ما ذكروه من التأويل والّذي يدل على امتناع الحمل على ما ذكروه من المجاز قوله ـ تعالى ـ (هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) فقد أثبت لهم أصل القوة ، وهى غير مفسرة في حقهم بالإيجاد ، فإنا سنبين أنه لا موجد (٣) غير الله ـ تعالى ـ فتعين تفسير القوة بما ذكرناه.

وبالجملة فطريق الاستدلال في هذا الباب بالنصوص المذكورة لا يخرج عن الظن ، والتخمين ؛ وهو غير مكتفى به في اليقينيات.

وأما من جهة المعقول : فهو أنهم قالوا : إذا ثبت حدوث العالم وهو كل موجود سوى الله ـ تعالى ـ فإما أن يكون وجوده بنفسه ، أو بخارج عنه.

__________________

(١) انظر ل ٨٢ / ب وما بعدها.

(٢) فى أ (القوة).

(٣) فى ب (لا موجود).

٢٨٠