أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

الأزل ، وجائز الحدوث. فإذا جاز انقلاب الممتنع جائزا ، مع أنه أحد قسمى الضرورى ؛ فلا مانع من انقلاب الواجب جائزا ، وانقلاب الجائز واجبا.

وعلى هذا : فلا يمتنع على واجب الوجود العدم السابق ، ولا العدم اللاحق ؛ فلا يلزم أن يكون أزليا ، ولا أبديا.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على إثبات واجب الوجود بالاعتبار الّذي أردتموه ، ولكنه معارض بما يدل على أنه غير ثابت.

وبيانه : أنه لا يخلو : إما أن يكون ممكنا ، أو ليس بممكن؟

فإن كان ممكنا : فالممكن لا (١) يكون واجبا (١) بالاعتبار المذكور.

وإن لم يكن ممكنا : فما ليس ممكنا أن يكون ؛ لا يكون موجودا ، وما لا يكون موجودا ؛ فلا (٢) يكون (٢) واجب الوجود.

والجواب :

أما منع احتياج (٣) الممكن إلى المرجح في وجوده : فغير صحيح ؛ لأن الممكن قابل للوجود والعدم ؛ وهما بالنسبة إلى ذات الممكن سيان.

وعند هذا قال بعض الأصوليين : والشيء الّذي يكون (٤) كذلك يمتنع أن يدخل في الوجود ؛ إلا بعد أن يصير وجوده راجحا على عدمه ؛ فكذلك الرجحان سابق على وجوده ، ويمتنع أن يكون محل ذلك الرجحان ؛ هو وجوده ؛ لأن ذلك الرجحان : لو كان صفة لوجوده ؛ لكان متأخرا عن وجوده ؛ لكنا بينا أنه متقدم على وجوده ؛ وهو دور. فذلك الرجحان ؛ يجب أن يكون صفة لشيء آخر يلزم من وجوده وجوده ، وذلك هو المؤثر ؛ فثبت أن كل ممكن ؛ فهو مفتقر إلى المؤثر.

وقال بعضهم : إذا كانت ماهية الممكن مقتضية للتساوى ، والتساوى مقابل للرجحان ، فلو حصل الرجحان ؛ فيلزم اجتماع المتقابلين في شيء واحد ؛ وهو محال.

والحجتان (٥) باطلتان (٥)

__________________

(١) فى ب (ليس بواجب)

(٢) فى ب (لا يكون)

(٣) فى ب (احتياج)

(٤) فى ب (لا يكون)

(٥) فى ب (والبحثان باطلان)

٢٤١

أما الأولى : فلأن الخصم قد يمنع توقف الدخول في الوجود على سابقة الترجيح (١) ، وأنه لا معنى للترجيح إلا الدخول في الوجود دون العدم ، وكذلك بالعكس.

وعند هذا : فلا يكون الترجيح (٢) سابقا على الوجود ؛ ليلزم ما (٣) قيل من الدور (٣).

كيف وأنه لو كان الترجيح سابقا على الوجود / ؛ لكان صفة لغير الوجود حتى لا يفضى إلى الدور كما قرر. ولو كان كذلك ؛ لكان الموصوف به هو الراجح ، لا نفس الوجود ؛ وهو محال.

وأما الثانية : فإنما يلزم أن لو كان حصول الرجحان مستندا إلى ذات الممكن ، وأما إذا لم يكن مستندا إليها ، ولا إلى غيرها ؛ فلا.

والحق في ذلك أن يقال : إذا ثبت أن الوجود والعدم بالنسبة إلى ذات الممكن متساويان ؛ فاحتياج وقوع أحد المتساويين إلى المرجح معلوم بالضرورة ؛ ولهذا فإن العاقل إذا رأى موضعا خليا عن العمارة والأبنية المرتفعة ، ثم رآه مشغولا بها بعد ذلك ، أو رأى صنعة محكمة ؛ فإن عقله يضطره إلى العلم بوجود سبب موجب لذلك. ولو جاز في العقل وجود أحد الجائزين دون الآخر من غير مرجح ؛ لما كان كذلك. وهذا مما لا يجد أحد من العقلاء في نفسه مخالفته ، ولا مناكرته.

وعلى هذا : فما أوردوه من الشبه ؛ فحاصله يرجع إلى التشكيك في البديهيات ؛ وهو غير مقبول.

وعلى تقدير القبول ؛ فنجيب عن كل ما ذكروه.

قولهم : تأثير المؤثر فيه : إما في حال وجوده ، أو في حال عدمه.

قلنا : بل في حال وجوده ، لا بمعنى أنه أوجده (٤) بعد وجوده. حتى يقال بتحصيل الحاصل ؛ بل بمعنى أنه لو لا المؤثر ؛ لما كان موجودا في الحال (٥) التى فرض كونه موجودا فيها.

قولهم : لو احتاج إلى المؤثر في وجوده ؛ لاحتاج إلى المؤثر في عدمه.

__________________

(١) فى ب (الترجح فإنه لا معنى للترجيح)

(٢) فى ب (الترجح)

(٣) فى ب (من الدور ما قيل)

(٤) فى ب (أوجد)

(٥) فى ب (الحالة)

٢٤٢

قلنا : وهو كذلك ؛ فإنه مهما كان الشيء ممكنا ؛ فلا بد له (١) من مرجح في وجوده ، وعدمه ؛ وإلا فهو واجب ، أو ممتنع. فكما أنه في حال وجوده يفتقر (٢) إلى المرجح ؛ فكذلك في حال عدمه.

قولهم : العدم نفى محض ؛ فلا يكون أثرا.

قلنا : معنى كونه أثرا ، لا بمعنى أنه شيء ؛ بل بمعنى أنه لو لا المؤثر ؛ لما كان معدوما. وسواء كان العدم طارئا ، أو أصليا.

قولهم : المرجح للعدم : إما أن يكون هو المرجح للوجود ، أو غيره.

قلنا : المرجح (٣) للعدم هو المرجح للوجود (٣) ؛ لكن إن كان مرجحا بذاته عند القائلين بذلك ؛ فعدمه هو المرجح للعدم ، لا نفس وجوده. وإن كان مرجحا بالقدرة والإرادة : عند القائلين به ؛ فيصح أن يقال : إن عدم المعدوم في حال عدمه مستند إلى عدم تعلق القدرة بإيجاده ، والإرادة بتخصيصه في ذلك الوقت. ويصح أن يقال / بكونه مستندا إلى قدرة قديمة ، اقتضت عدمه ، وإرادة قديمة اقتضت تخصيصه بذلك الوقت ، كما اقتضت تخصيص وجوده بوقت آخر ، كما ذهب إليه القاضى أبو بكر في أحد قوليه.

قولهم : لو افتقر إلى مرجح في وجوده ؛ فذلك المرجح : إما قديم ، أو حادث. على ما قرروه. فإنما يلزم ، أن لو كان مستند الحوادث موجبا بذاته وطبعه حتى يلزم من حدوثه التسلسل ، ومن قدمه ؛ قدم معلوله ، وليس كذلك ؛ بل هو فاعل قديم مختار اقتضى بقدرة قديمة ، وخصص بإرادة أزلية ، وجود الحادث حال حدوثه من غير تقدم ، ولا تأخر. ولا يلزم من قدم القدرة والإرادة ؛ قدم المقدور والمراد ؛ إذ القدرة عبارة عن : معنى من شأنه تخصيص الحادث بالوجود (٤) ، دون العدم ؛ لا ما يلازمه الوجود.

والإرادة : عبارة عن معنى من شأنه تخصيص الحادث (٤) ، بوقت دون وقت.

فإذا قيل : لم كانت الإرادة مقتضية للتخصيص بوقت دون وقت ، مع قدمها ، واستواء نسبتها إلى جميع الأوقات؟ فكأنه قيل : لم كانت الإرادة إرادة؟

__________________

(١) ساقط من (ب)

(٢) فى ب (لا يفتقر)

(٣) فى ب (المرجح للوجود هو المرجح للعدم)

(٤) من أول (بالوجود دون العدم ...) ساقط من (ب)

٢٤٣

وهو غير مسموع ، كما لو قيل : لم كان الإنسان إنسانا؟ والفرس فرسا؟ ونحوه.

وهذا (١) مما وافق (١) عليه الفلاسفة الإلهيون حيث قالوا : إن الأفلاك متحركة على الدوام ؛ لتحصيل ما لها من الأوضاع الممكنة لها ، على جهة التعاقب ، والتجدد ؛ طلبا للتشبه بمعشوقها ، مقتضية للحركات الدورية ، بإرادة قديمة للنفس الفلكية ، وبتوسط الحركات الدورية ، والاتصالات الكوكبية ؛ وجد في عالم الكون والفساد ، امتزاجات ، واعتدالات ، وحوادث عرضيات ، وبتوسط هذه الامتزاجات ، وتجدد قبول القابليات ؛ وجدت الأنفس الإنسانية ، والصور الجوهرية للعناصر والمركبات. لا بمعنى أنها الفاعلة لها ؛ بل الفاعل لها إنما هو العقل الفعال. الموجود مع جرم فلك القمر. وما لم يوجد منها. فليس لعدم الفاعل ؛ بل لعدم القابل. فإذا تحقق القابل والفاعل موجود ؛ لزم القول بوجودها.

قولهم : إن حاجة الممكن إلى المؤثر : إما واجبة ، أو ممكنة؟

قلنا : كونه محتاجا ؛ لا معنى له ؛ إلا أنه لا يتم وجوده دون المؤثّر ؛ وذلك لا يستدعى الاحتياج إلى مؤثر آخر ؛ ليلزم / التسلسل كما قيل.

فإن قيل : الحاجة نقيض لا حاجة ؛ ولا حاجة يجوز اتصاف المعدوم المستحيل [الوجود] (٢) بها ؛ فلا حاجة عدم ، وإلا كان الإثبات صفة للنفى المحض ؛ وهو محال.

وإذا كان لا حاجة عدما ؛ فالحاجة ثبوت.

ولا جائز أن تكون واجبة : وإلا لما كانت صفة مفتقرة إلى الموصوف ؛ فلم يبق إلا أن تكون ممكنة.

وعند ذلك : فإن افتقرت إلى المرجح (٣) ؛ لزم التسلسل ، وإن لم تفتقر ؛ فهو المطلوب.

وربما (٤) قيل في دفعه : لو دل ما ذكرتموه على كون لا حاجة (٥) عدما ؛ فلا يخفى أن نقيض امتناع ، لا امتناع ، والعدم الممكن يصح وصفه بأنه غير ممتنع ؛ فلا امتناع يجب

__________________

(١) فى ب (فما وافق)

(٢) ساقط من (أ)

(٣) فى ب (مرجح)

(٤) فى ب (فربما)

(٥) فى ب (الحاجة)

٢٤٤

أن يكون عدما حتى لا يكون العدم موصوفا بالثبوت ، وما لزم من ذلك أن يكون امتناع المناقض له ثبوتيا ؛ فإن الامتناع صفة للممتنع ، الّذي ليس بثبوتى ، فلو كان الامتناع صفة ثبوتية ؛ لكان الثبوت صفة لما لا ثبوت له ؛ وهو ممتنع.

وهو قدح في البديهيات ؛ فلا يقبل.

والواجب أن يقال :

قد بينا أن معنى حاجة الممكن إلى المؤثر ، أنه لا يتم وجوده دون المؤثر. فنقيض الحاجة بهذا التفسير ، أنه يتم وجوده دون المؤثر.

وعلى هذا : فنقيض الحاجة ، لا يتصور أن يكون صفة للممتنع (١) ، وإلا كان مما (١) يتم وجوده ، دون المؤثر ، والممتنع غير موجود.

وعلى هذا : فقد اندفعت الشبهة الخامسة أيضا.

قولهم : لو احتاج الممكن في ابتداء وجوده إلى المرجح (٢) ؛ لاحتاج في حال بقائه. عنه جوابان.

الأول : منع اللزوم ؛ فإنه لا يلزم من احتياج الممكن حال حدوثه إلى المرجح ؛ احتياجه حال بقائه ؛ إذ الباقى (٣) هو عين المترجح حالة الحدوث (٣).

الثانى : أنه وإن احتاج حال بقائه إلى المرجح ؛ فلا (٤) يلزم (٤) منه تحصيل الحاصل ؛ فلأنه (٥) لا معنى لاحتياجه إلى المرجح حال بقائه ، إلا أنه لو لا المرجح ؛ لما كان باقيا.

قولهم : يلزم من ذلك خروج الأثر عن حقيقته عند فرض عدم المؤثر مسلم.

ولكن لا نسلم كون ذلك محالا. كيف. وأنه لو امتنع خروج الأثر عن حقيقته عند عدم علته ؛ لامتنع انقلاب ما ليس موجودا موجودا ؛ وهو خلاف شاهد الحوادث.

__________________

(١) فى ب (الممتنع وإلا كان لا يتم)

(٢) فى ب (مرجح)

(٣) فى ب (هو غير المترجح أولا)

(٤) فى ب (فإنه يلزم)

(٥) فى ب (فإنه)

٢٤٥

قولهم : تأثير المؤثر في الأثر صفة زائدة على ذات المؤثر ، والأثر مسلم ؛ ولكن لا نسلم أن التأثير صفة ثبوتية. وما ذكروه في بيانه ؛ فقد سبق إبطاله في جواب / الشبهة الرابعة.

وربما أجيب عن هذه الشبهة بأنها جارية في امتناع حدوث حادث ما في وقت معين ؛ وهو غير ممتنع. وذلك أنه لو حدث حادث في وقت معين ؛ فحدوثه في ذلك الوقت صفة زائدة على ذات الحادث ؛ لأن الحدوث في ذلك الوقت نسبة بين الذات الحادثة ، وذلك الوقت.

والنسبة بين الشيئين صفة زائدة عليها ، ولأنا نعقل ذات الحادث ، ونجهل كونه حادثا في ذلك الوقت ، والمعلوم مغاير للمجهول. وإذا كان صفة زائدة ؛ فيجب أن تكون صفة ثبوتية ؛ لأن نقيض الحدوث ، لا حدوث. ولا حدوث : صفة للمستحيل ؛ فيكون عدما ؛ فالحدوث ثبوت. ولا بدّ وأن يكون حادثا في ذلك الوقت بحدوث آخر ؛ فالكلام (١) في ذلك الحدوث الثانى كالكلام في [الحدوث] (٢) الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

وهو غير سديد ؛ إذ لقائل أن يقول : الحدوث وإن كان صفة ثبوتية زائدة ، وهو حادث ؛ لكن بحدوث هو نفسه ، لا بحدوث زائد (٣) عليه ؛ فلا تسلسل.

قولهم : التأثير صفة للأثر ؛ فلا يكون التأثير متقدما عليه.

لا نسلم أن التأثير صفة للأثر ؛ بل صفة للمؤثر ؛ فلا يمتنع أن يكون متقدما عليه ، والتأثير وإن كان مضايفا [للأثر] (٤) ، فلا يمتنع أن يكون متقدما عليه ، كما في التقدم والتأخر ، وأنهما وإن تضايفا ؛ فالتقدم سابق على التأخر.

وإن سلمنا أن التأثير صفة للأثر ؛ فلا يلزم أن يكون التأثير متقدما على الأثر ؛ لضرورة افتقاره إليه ؛ إذ المفتقر إليه ، أعم من المتقدم.

قولهم : المؤثر في الحادث : إما قديم ، أو حادث.

قلنا : بل هو قديم.

__________________

(١) فى ب (والكلام)

(٢) ساقط من (أ)

(٣) فى ب (آخر هو زائد)

(٤) فى أ (التأثير)

٢٤٦

قولهم : إن تأثيره في الأثر صفة متجددة ، بعد أن لم تكن ، ويلزم من ذلك التسلسل ، أو الدور ؛ وليس كذلك ؛ فإنه وإن كان التأثير صفة متجددة ؛ فلا معنى له غير وجود الحادث بقدرة المؤثّر في وقت حدوث الأثر ، وتجدد الإيجاد بالقدرة ، من مقتضيات القدرة القديمة ؛ فإن القدرة عبارة : عما من شأنه تخصيص الحادث بالوجود ، دون العدم. لا ما يلازمه التخصيص ؛ فلا يلزم من ذلك وجود سبب آخر ، ومؤثر آخر ؛ فلا دور ، ولا تسلسل.

قولهم : إن المخير بين قدحين ، أو طريقين متساويين. قد يختار أحدهما من غير سبب مرجح.

قلنا : التساوى : إنما وقع في الفرض والمقصود ، وهو عندنا غير مفيد في / الترجيح كما يأتى. والمرجح إنما هو القدرة المتعلقة بالإيجاد ، والإرادة المخصصة ؛ وهو موجود لا محالة. حتى أنه لو لم يكن قادرا على أخذ أحد القدحين ، أو سلوك أحد الطريقين ، ولا تعلقت إرادته بأحدهما ؛ فإن الترجيح يكون ممتنعا.

قولهم : ما المانع أن تكون ذات الممكن أولى بالوجود من العدم ، لا على وجه ينتهى إلى حد الوجوب بالذات؟

قلنا : لو كانت ذاته أولى بالوجود ، فإن لم تجوز مع ذلك عدمه ؛ فهو واجب لذاته ، وليس ممكنا ؛ وهو خلاف الفرض.

وإن (١) جوز مع ذلك عدمه ؛ ففرض عدمه ؛ غير محال.

وعند فرض عدمه ، فإن كان العدم أولى بذاته : فالأوقات (٢) متشابهة ويلزم (٣) من ذلك أن يكون الوجود والعدم أولى بالممكن معا : وفيه جمع بين متقابلين ؛ وهو محال.

وإن لم يكن العدم أولى به : فلا بد له من علة خارجة ، وإلا كان الممكن قد ترجح من غير مرجح أصلا ؛ وهو محال.

__________________

(١) فى ب (وقد)

(٢) فى ب (والأوقات)

(٣) فى ب (فيلزم)

٢٤٧

فالمرجح للعدم عند ذلك : إما أن يكون مساويا في اقتضائه للعدم لما اقتضى الوجود ، أو راجحا ، أو مرجوحا.

لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لامتنع [عليه] (١) الوجود والعدم ؛ إذ لا أولوية لأحدهما (٢).

وإن كان الثانى ، أو الثالث : فيلزم منه تعيين أثر الراجح ، وامتناع أثر المرجوح. وقد قيل بجواز كل واحد منهما.

وهذه المحالات : إنما لزمت ؛ من فرض أن الممكن أولى بالوجود من عدمه ؛ فهو (٣) ممتنع (٣).

قولهم : لا نسلم أن المرجح للوجود وجودى ،

فقد قيل في جوابه : إنه لا فرق بين عدم المؤثر ، وبين المؤثر العدمى.

وقد (٤) قيل (٤) أيضا : إن العدمى لا تميز له في نفسه ؛ لأنه لو كان متميزا ؛ لكان ذاتا. وما ليس بمتميز ؛ فلا يمكن إسناد الأثر إليه ؛ وهما باطلان.

أما الأول : فلأن الخصم قد لا يسلم عدم الفرق بين عدم المؤثر ، والمؤثر العدمى ؛ ولهذا ؛ فإن عدم الشرط مؤثر في عدم المشروط. ولو عدم هذا المؤثر ؛ بأن عدم عدم الشرط ؛ لما لزم منه انتفاء المشروط.

وأما الثانى : فإنما يلزم في العدم المطلق دون العدم المضاف.

والأقرب في ذلك أن يقال :

لو كان المؤثر في حدوث الممكنات (٥) عدما : فهو إما قديم ، أو حادث.

فإن كان حادثا : فالكلام فيه : كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور / ؛ وهما ممتنعان ؛ كما سبق (٦).

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) فى ب (فيكون محالا)

(٤) فى ب (وقيل)

(٥) فى ب (الممكن)

(٦) انظر ل ٤١ / ب.

٢٤٨

وإن كان قديما : فإما أن يتوقف تأثيره في الوجود الحادث على تجدد أمر لم يكن ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول : فالتسلسل ، أو الدور لازم.

وإن كان الثانى : فيلزم من قدم المؤثر ؛ قدم الأثر ، ومن حدوث الأثر ؛ حدوث المؤثر ، وهو خلاف الفرض ، ولا (١) يلزم على هذا إذا كان (١) المؤثر وجوديا ؛ لإمكان اتصافه بالقدرة ، والإرادة القديمة المؤثرة في تخصيص الحادث كما سبق ؛ بخلاف المؤثر (٢) العدمى.

قولهم : ما المانع من كون المؤثر غير الموصوف بالوجود ، ولا بالعدم؟

قلنا : بطلان (٣) أمر لا موجود ، ولا معدوم ، سيأتى في مسألة الأحوال (٤).

قولهم : إن الإمكان معلل بالماهية ، من حيث هى لا موجودة ، ولا معدومة ، إنما يلزم أن لو كان الإمكان صفة ثبوتية ، وليس كذلك ؛ فإنه لا معنى للإمكان غير سلب المحال من فرض الوجود والعدم ، وبتقدير أن يكون صفة ثبوتية ؛ فلا نسلم أن الماهية علة مؤثرة فيه ؛ بل قابلة ، والقابل غير المؤثر.

وإن سلمنا أنها مؤثرة فيه ؛ فما ذكروه إنما يلزم أن لو كان الوجود زائدا على الماهية ، وليس كذلك ؛ بل الوجود هو نفس الماهية ، والماهية نفس الوجود ؛ كما يأتى في مسألة المعدوم (٥) ، وهل هو شيء أم لا؟

قولهم : الماهية من حيث هى موجودة يمتنع أن تكون ممكنة العدم ، وكذلك بالعكس.

قلنا : إذا فرضنا الماهية موجودة ، فمعنى كونها ممكنة العدم بأنه لو فرض العدم بدل الوجود ؛ لما كان ممتنعا. وكذلك بالعكس ، والإمكان بهذا الاعتبار لا ينافيه الوجود ، ولا العدم.

__________________

(١) فى ب (ولا يلزم هذا على تقدير أن يكون)

(٢) ساقط من ب.

(٣) فى ب (إبطال)

(٤) انظر الجزء الثانى ل ١١٤ / أوما بعدها.

(٥) انظر ما سيأتى في الجزء الثانى ـ الباب الثانى ـ الفصل الرابع ل ١٠٨ / ب وما بعدها.

٢٤٩

قولهم : لا يلزم من كون كل واحد من العلل والمعلولات غير موجود في الأزل ، صحة الحكم بذلك على الجملة.

قلنا (١) : إذا كان كل واحد من الآحاد لا وجود له في الأزل ـ وهو بعض الجملة ـ فليس بعض من أبعاض الجملة يكون موجودا في الأزل ، وإذا لم يكن شيء من الأبعاض موجودا في الأزل ؛ فالجملة غير موجودة في الأزل ؛ فإنه لا وجود للجملة دون وجود أبعاضها.

قولهم : لا نسلم وجود ما يسمى جملة في غير المتناهى.

قلنا : مسمى الجملة : هو ما وصفتموه بكونه غير متناه ، ولا شك أنه غير كل واحد من الآحاد ؛ إذ كل / واحد من الآحاد متناه ، والموصوف بما لا يتناهى : هو الأعداد المفروضة ؛ بحيث لا يخرج منها واحد.

قولهم : لا نسلم أن مفهوم الجملة زائد على الآحاد المتعاقبة إلى غير النهاية.

قلنا : إن أردتم أن مفهوم الجملة هو نفس المفهوم من كل واحد من الآحاد ؛ فهو ظاهر الإحالة. وإن أردتم به الهيئة الاجتماعية من آحاد الأعداد ؛ فلا خفاء بكونها (٢) زائدة على كل واحد من الآحاد (٢) ؛ وهو المطلوب.

قولهم : ما المانع من أن تكون الجملة مترجحة بآحادها الداخلة فيها كما قرروه؟

قلنا : إما أن يقال بترجح الجملة بمجموع (٣) الآحاد الداخلة فيها ، أو بواحد منها.

فإن (٤) كان بواحد منها (٤) ، فالمحال الّذي ألزمناه حاصل.

وإن كان بمجموع الآحاد ؛ فهو نفس الجملة المفروضة.

وفيه ترجح الشيء بنفسه ؛ وهو محال.

قولهم : لا نسلم أن واجب الوجود لذاته غير قابل للعدم.

__________________

(١) فى ب (فلذا)

(٢) فى ب (لكونه زائدا على كل واحد من الأعداد).

(٣) فى ب (مجموع)

(٤) ساقط من (ب)

٢٥٠

قلنا : لو كان قابلا للعدم : فإما مع بقاء كونه واجب الوجود ، أو لا مع بقاء كونه واجبا.

فإن كان الأول : فهو محال ؛ إذ الواجب هو ما لو فرض معدوما ، عرض عنه المحال لذاته.

وإن كان الثانى : فيلزم منه انقلاب حقيقة الواجب لذاته جائزا ، أو ممتنعا ؛ وقلب الحقائق محال.

ولو جاز ذلك ؛ لما بقى الوثوق بالقضايا البديهية ؛ لجواز انقلاب حقائقها ، وعاقل ما لا يتردد في صحة القضايا البديهية ، ولا يتشكك.

قولهم : لا يخلو : إما أن يكون الواجب بذاته ممكنا ، أو غير ممكن.

قلنا : ممكن بالمعنى العام : أى أنه غير ممتنع الوجود ، وكونه ممكنا بالمعنى العام لا ينافى الوجوب بالذات. كما لا ينافى الإمكان الخاص. وليس ممكنا بالمعنى الخاص ، وسلب الإمكان بالمعنى الخاص لا ينافى الوجوب بالذات أيضا (١) ، كما لا ينافى الامتناع. وإنما يمتنع كونه واجبا لذاته ، أن لو كان ممكنا بالمعنى الخاص ، أو غير ممكن بالمعنى العام.

وعلى هذا : فقد بان أنه لا بدّ من موجود ، هو (٢) واجب الوجود لذاته ، وأنه يجب أن يكون أزليا أبديا ، لا يتصور عليه العدم ، متقدما عليه ؛ ولا متأخرا عنه.

__________________

(١) ساقط من (ب)

(٢) فى ب (وهو)

٢٥١

المسألة الثانية

في حقيقة واجب الوجود ، وأنها مشاركة لباقى الحقائق

في مسمى الحقيقة ، أو / مخالفة لها

وقد اختلف في ذلك :

فذهب بعض المتكلمين (١) : إلى أن مسمى الحقيقة والذات ، مشترك بين ذات واجب الوجود ، وغيره من الذوات. وإنما تتميز ذات واجب الوجود ، وحقيقته عن باقى الذوات ؛ بوصف يكون أخص وصف الإلهية ، ولا بدّ وأن يكون ثبوتيا ؛ فإن التمييز بين الذوات لا يحصل بالصفات السلبية : ككونه (٢) لا حد له ، ولا نهاية ، ولا جسم ، ولا عرض ، ونحوه.

لكن هل (٣) يجوز (٣) أن يكون ذلك الوصف مما يدرك ، أم لا؟ اختلفوا فيه : وقد احتج صاحب هذا المذهب : على أن مسمى الحقيقة والذات مشترك بين جميع الذوات بحجتين :

الأولى : أنه يصح أن يقال الذوات : إما واجبة ، وإما (٤) ممكنة ، والذات (٤) هى مورد التقسيم (٥) ، ومورد التقسيم (٥) يجب أن يكون واحدا ؛ فمسمى الذات واحد.

الثانية : هو أن المفهوم من مسمى الذات ، لا يختلف باختلاف اعتقاد كون الذات واجبة ، أو ممكنة ، ولو كان مسمى الذات في الواجب والممكن مختلفا ؛ لاختلف باختلاف هذه الاعتقادات.

قال : وإذا ثبت أن مسمى الذات واحد ، وأنه لا امتياز به بين الذوات ؛ فلا خفاء بأن المفهوم من واجب الوجود متميز عن المفهوم من ممكن الوجود ، وليس التمايز في مسمى الذات ؛ فتعين أن يكون بصفة زائدة على مسمى الذات ؛ لأن ما به الافتراق غير ما به الاتفاق.

__________________

(١) انظر المواقف ص ٢٦٩ ، ٢٧٠.

(٢) فى ب (لكونه)

(٣) فى ب (لا يجوز)

(٤) فى ب (أو ممكنة والذوات)

(٥) فى ب (القسمة ومورد القسمة)

٢٥٢

قال : وإذا ثبت أنه لا بدّ من وصف زائد يكون به التمايز بين ذات واجب الوجود ، وذوات الممكنات ؛ فلا جائز أن يكون التمايز بصفات سلبية مختصة بكل واحدة من الذوات ، أو ببعض الذوات دون البعض.

أما الأول : فلأن ما سلب عن إحدى الذاتين ، إن كان مسلوبا عن الذات الأخرى ؛ فلا تمايز. وإن لم يكن مسلوبا عن الذات الأخرى ؛ فالذات الأخرى مختصة بوصف ثبوتى ، لا سلبى.

وأما الثانى : فلأن الذوات متعددة متكثرة فإذا (١) اختص بعضها بالوصف الوجودى ، والبعض بسلبه. فإما أن يختص الواحد من الذوات (٢) بالثبوت ، والباقى بالسلب ، أو الواحد بالسلب ، والباقى بالثبوت.

وعلى كلا التقديرين ؛ فالتمايز : وإن حصل بين ما اختص بالثبوت والسلب ؛ فالتمايز بين الذوات المشتركة / فى الثبوت ، أو السلب ؛ ممتنع.

وأيضا : فإنه لو استغنت الذات ، من حيث إنها ذات عن الصفة مع اتحادها ؛ لما وقع الفرق بين ذات السواد ، وبين (٣) ذات البياض ، والجوهر ، والعرض ، ونحوه.

فإذن ما به التمايز وجودى.

ومن المتكلمين من قال : التمايز بالوصف الخاص ، إنما يكون عند الاشتراك بين (٤) الذوات في مسمى الذات والحقيقة (٤) ؛ وليس كذلك ؛ بل واجب الوجود مخالف بذاته وحقيقته لباقى الذوات ، ولا مشاركة بينه وبينها في غير التسمية. محتجا على ذلك بأنه : لو كان مسمى الذات متحدا ؛ لوجب الاشتراك بين واجب الوجود ، وممكن الوجود فيما هو ثابت بالذات لكل واحد منهما ؛ لأنه متى ثبت اقتضاء الذات لحكم لذاتها كان ذلك ثابتا لها مهما كانت ثابتة ، ويلزم من ذلك أن تكون ذات الممكن واجبة لذاتها ؛ ضرورة ثبوت ذلك لها في واجب الوجود ، وأن تكون ذات واجب الوجود ممكنة لذاتها ؛ ضرورة ثبوت ذلك في ممكن الوجود ؛ وكل ذلك محال.

__________________

(١) فى ب (فإن)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) ساقط من ب.

(٤) فى ب (فى مسمى الذات بين الذوات)

٢٥٣

فإن قيل : اختصاص واجب الوجود ، وممكن الوجود بما اختص به من الوجوب والإمكان ليس لمسمى الذات المشتركة ؛ بل لما به تعين كل واحد منهما ، وما به التعين مختلف.

[قلنا] (١) : فالكلام في اختصاص كل واحدة من الذاتين بتعينها مع اتحاد مسمى الذات : كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

قال : وعلى هذا : فمورد القسمة إلى الواجب ، والممكن ؛ ليس مسمى الذات ؛ بل اسم الذات. والقول بأن مسمى الذات ، لا يختلف باختلاف الاعتقادات من معنى الجوهر ، والعرض ، والواجب ، والممكن ؛ غير مسلم ؛ بل الّذي لا يختلف ؛ إنما هو الاسم ، دون المسمى.

وإن سلمنا أن مسمى الذات واحد ؛ ولكن لا نسلم أن التمايز لا بدّ وأن يكون بوصف ثبوتى ؛ بل جاز أن تكون ذات واجب الوجود متميزة عن غيرها من الذوات بسلب ما وجب لغيرها عنها ، وتمايز باقى الذوات بصفات وجودية كل واحد منها مختص بصفة وجودية لا وجود لها في باقى الذوات الأخرى.

والقول بأنه لو استغنت الذات عن الصفة مع اتحادها ؛ لما وقع الفرق بين الذوات المختلفة.

قلنا : عدم استغناء الذات عن الصفة المميزة ، لا يوجب كون الصفة المميزة وجودية ؛ / فإن ما يقع به التمييز (٢) بين الذوات من الصفات (٢) أعم من كونها وجودية ؛ فلا يلزم من عدم الفرق عند فرض عدم الاختلاف بالصفة ؛ عدم الفرق مع فرض الاختلاف بالسلب ، والإيجاب.

__________________

(١) ساقط من (أ)

(٢) فى ب (التمييز من الذوات ومن الصفات)

٢٥٤

المسألة الثالثة

في أن وجود واجب الوجود ، هل هو نفس ذاته

أو (١) هو زائد على ذاته (١)؟

ذهبت الأشاعرة ، والفلاسفة ، وبعض المعتزلة : الى أن وجود واجب الوجود لا يزيد على ذاته ؛ بل ذاته وجوده ، ووجوده ذاته.

وخالفهم في ذلك طائفة من المتكلمين.

أما (٢) حجة من قال بأن وجوده لا يزيد على ذاته : أنه لو كان وجوده زائدا على ذاته لم يخل : إما أن يكون واجبا ، أو ممكنا. لا جائز أن يكون واجبا ؛ لأنه مفتقر إلى الذات ضرورة كونه صفة لها ، ولا شيء من المفتقر إلى غيره يكون واجبا ؛ فإذن وجوده لو كان زائدا على ذاته ؛ لما كان واجبا ؛ فلم يبق إلا أن يكون ممكنا.

وإذا كان ممكنا : فلا بد له من مؤثر كما سبق (٣).

والمؤثر فيه : إما الذات ، أو خارج عنها.

فإن كان الأول : فهو ممتنع لوجهين :

الأول : أن الذات بسيطة لا تركيب فيها ، وهى قابلة للوجود ؛ فلو كانت مؤثرة ؛ لكانت قابلة ، وفاعلة ، فلها قوتان : قوة القبول ، وقوة الفعل. والبسيط الواحد ليس له قوتان مختلفتان ؛ فإن الكلام في قبوله للقوتين المختلفتين : كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الثانى : أنها لو كانت مؤثرة في الوجود ؛ فالمؤثر في الوجود ، لا بدّ وأن يكون موجودا على ما تقدم ؛ فإذن تأثير الماهية في وجودها مفتقر إلى وجودها ؛ فالوجود مفتقر إلى نفسه ؛ وهو محال ؛ كما سبق.

__________________

(١) فى ب (أو زائد عليها)

(٢) نقل ابن تيمية قول الآمدي مختصرا من أول قوله : «أما حجة من قال ... إلى قوله : وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة» فى كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٢٣٧ ـ ٢٣٩) ثم علق عليه وناقشه.

(٣) انظر ل ٤١ / ب.

٢٥٥

وإن كان الثانى : وهو أن يكون المؤثر في الوجود غير ماهية واجب الوجود ، فوجود واجب الوجود ، مستفاد له من غيره ، وكل ما استفاد وجوده من غيره ؛ فليس واجبا لذاته.

وهذه المحالات : إنما لزمت من كون وجوده زائدا على ذاته ؛ فلا يكون زائدا.

وهذه الحجة ضعيفة ؛ إذ لقائل أن يقول : ما المانع من كون الوجود الزائد على الماهية واجبا لنفسه؟

قولكم : لأنه مفتقر إلى الماهية ، والمفتقر إلى غيره ، لا يكون واجبا لنفسه (١). لا نسلم أن الواجب لنفسه ؛ لا يكون مفتقرا إلى غيره ؛ بل الواجب لنفسه : هو الّذي لا يكون مفتقرا إلى مؤثر فاعل ، ولا يمتنع أن يكون موجبا لنفسه.

وإن كان مفتقرا إلى القابل / ؛ فإن الفاعل الموجب بالذات ؛ لا يمتنع توقف تأثيره على القابل. وسواء كان اقتضاؤه بالذات لنفسه ، أو لما هو خارج عنه. وهذا كما يقوله الفيلسوف في العقل الفعال ؛ فإنه موجب بذاته للصور الجوهرية ، والأنفس الإنسانية ، وإن كان ما اقتضاه لذاته متوقفا على وجود الهيولى القابلة.

وإن سلمنا أنه لا بدّ وأن يكون ممكنا ؛ ولكن لا نسلم أن حقيقة الممكن هو المفتقر إلى المؤثر ؛ بل الممكن هو المفتقر إلى الغير. والافتقار إلى الغير ؛ أعم من الافتقار إلى المؤثر. وقد تحقق ذلك بالافتقار إلى الذات القابلة (٢).

سلمنا أنه لا بدّ من مؤثر ؛ فلم قلتم بامتناع كون الذات هى المؤثرة؟

قولكم : إنها قابلة ، وفاعلة ؛ مسلم ؛ ولكن لم قلتم بامتناع ذلك في البسيط الواحد؟ فإن القبول ، والفعل غير (٣) خارج عن (٣) النسب والإضافات ، ولا مانع من اتصاف البسيط الواحد بنسب مختلفة : كاتصاف الوحدة التى هى مبدأ العدد : بأنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة (٤) [وربع الأربعة] (٤) ، وهلم جرا.

__________________

(١) فى ب (لذاته)

(٢) إلى هنا انتهى ما نقله ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٤ / ٢٣٧ ـ ٢٣٩) ثم علق عليه وناقشه.

(٣) فى ب (عن خارج غير)

(٤) ساقط من (أ)

٢٥٦

والّذي يخص الفيلسوف أن يقال :

ما المانع من أن تكون القابلية والفاعلية باعتبار صفات لا توجب التعدد والتكثر في ذات البسيط الواحد ، ولا توجب التسلسل؟ كما قلتم في صدور الكثرة عن المعلول الأول لذات واجب الوجود. فإنكم قلتم : الصادر عنه : عقل ، ونفس ، وجرم : هو جرم الفلك الأقصى ؛ وذلك باعتبارات متعددة ؛ لضرورة أن الواحد ـ عندكم ـ لا يصدر عنه إلا واحد (١).

فإن كانت هذه الاعتبارات صفات وجودية ، وأمورا حقيقية ؛ فقد ناقضتم مذهبكم في قولكم : الواحد (٢) لا يصدر عنه إلا واحد (٢).

وإن لم تكن هذه الاعتبارات صفات وجودية ، ولا موجبة للتكثر ، ولا (٣) للتسلسل (٣) ؛ فما المانع من كون الذات الواحدة قابلة ، وفاعلة بمثل هذه الاعتبارات؟

وأما الوجه الثانى : في بيان امتناع كون الذات مؤثرة ؛ فلا (٤) مخرج (٤) عنه ، وإلا لجاز إسناد الأمور الحادثة إلى ما ليس بموجود ، ولا معدوم ، وبطل القول بوجوب واجب الوجود.

وإنما الطريق في الرد على هذه الحجة بالاقتصار على هذه الإشكالات السابقة.

فإن قيل : فكما يمتنع تأثير الذات في الوجود ؛ لما فيه من افتقار الوجود إلى الوجود ، فيمتنع أن تكون / الذات قابلة للوجود ؛ لأن القابل للوجود ، لا بدّ وأن يكون موجودا ؛ وفيه افتقار الوجود إلى الوجود.

قلنا : لا نسلم أنه يلزم من ضرورة كون الفاعل للوجود موجودا ، أن يكون القابل للوجود موجودا ؛ بل شرطه أن يكون ثابتا ، والثابت أعم من الموجود.

وأما القائلون بأن الوجود زائد على ذاته ؛ فقد احتجوا بحجج :

الأولى : قالوا : لا خفاء بصحة قول القائل : ذات واجب الوجود موجودة.

__________________

(١) فى ب (الواحد)

(٢) فى ب (إن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد)

(٣) فى ب (والتسلسل)

(٤) فى ب (فلا محيص)

٢٥٧

وهو حكم تصديقى يستدعى محكوما عليه ، ومحكوما به ، فلو كانت ذاته وجوده ؛ كان حاصل القضية ذاته ، ذاته ، أو (١) وجوده ، وجوده ؛ وهو هذر من الكلام.

الثانية : أنه قد يعقل وجود واجب الوجود ، من يجهل حقيقته ، والمعلوم يجب أن يكون مغايرا للمجهول (٢).

الثالثة : أن مفهوم الوجود واحد مشترك بين جميع الموجودات على السوية ، كما سيأتى في المسألة الرابعة (٣). والمفهوم من الذات مختلف كما سبق (٤). وعند ذلك : فيجب أن يكون زائدا على الذات لثلاثة أوجه :

الأول : أن ما به الاختلاف يجب أن يكون غير ما به الاتفاق.

الثانى : أنه إذا كان الوجود هو نفس الماهية ، والوجود مشترك ؛ فليس القول بأن [وجود] (٥) واجب الوجود علة لوجود (٦) غيره ، أولى من العكس.

الثالث : أنه إذا كان مسمى الوجود واحدا ، فلو كان هو نفس الذات ؛ لكان مسمى الذات واحدا ، ويلزم من ذلك أن كل ما كان ثابتا لبعض الموجودات بمقتضى ذاته أن يكون ثابتا للآخر ضرورة الاتحاد في المقتضى ، ويلزم من ذلك أن يكون واجب الوجود ممكنا لذاته ضرورة الاتحاد في المقتضى ، ويلزم من ذلك أن يكون واجب الوجود ممكنا لذاته ضرورة أن غيره من الموجودات ممكنا لذاته ، وأن يكون غيره واجبا لذاته ضرورة مشاركته لواجب الوجود في المقتضى لوجوب الوجود ؛ وفيه ما يوجب جعل الواجب ممكنا ، والممكن واجبا ؛ وهو قلب للحقيقة ؛ فيمتنع.

وهذه الحجج أيضا بعيدة عن التحصيل ؛ بل أبعد مما تقدم.

أما الحجة الأولى : فلقائل أن يقول : الحمل ، والوضع ، والمحكوم به ، والمحكوم عليه ؛ ليس في المعنى ؛ بل في اللفظ. وعند اختلاف اللفظ لا يكون هذرا ؛ بل هو كقول

__________________

(١) فى ب (و)

(٢) فى ب (لما ليس بمعلوم)

(٣) انظر ل ٥٣ / أ.

(٤) انظر ل ٥١ / أ.

(٥) ساقط من (أ)

(٦) فى ب (وجود)

٢٥٨

القائل : الإنسان بشر ، وكذا في جميع الألفاظ المترادفة ؛ فإنه قد يقصد به بيان أن مدلول أحد اللفظين : هو مدلول / الآخر بخلاف ما إذا اتحد اللفظ.

وأما الحجة الثانية : فمبنية على أن الوجود زائد على الحقيقة ، وإلا فمع القول بأن الوجود هو نفس الحقيقة يمتنع تسليم العلم بالوجود مع الجهل بالحقيقة.

وأما الحجة الثالثة : فمبنية على أن المفهوم (١) من (١) الوجود واحد مشترك بين واجب الوجود ، وممكن الوجود ، وسيأتى إبطاله في المسألة التى (٢) بعدها إن شاء الله (٢).

فهذه هى عمدة الفريقين. وإن كانت حجة المذهب الأول أشبه. وعسى أن يكون عند غيرى تحقيق أحد الطرفين.

__________________

(١) ساقط من (ب)

(٢) فى ب (الرابعة)

٢٥٩

المسألة الرابعة (١)

في أن وجود واجب الوجود مشارك لوجود [سائر] (٢)

الممكنات في المعنى ، أم لا؟

وقد اختلف في ذلك :

فمذهب (٣) الأشعرى ، وأبى الحسين البصرى (٤) : أنه غير مشارك لباقى الوجودات في معناه ، وإنما هو مشارك لها في الاسم.

وذهب الحذاق من الفلاسفة ، وبعض المتكلمين : إلى أن مفهوم الوجود في الكل واحد.

وقد احتج من قال بالاختلاف : بأن وجود واجب الوجود نفس ذاته ، وذاته مخالفة لباقى الذوات على ما تقدم (٥) من برهان كل واحدة من المقدمتين ؛ فمسمى الوجود يكون مختلفا ؛ وقد عرف ما فيه.

وأما حجة القائلين باتحاد مسمى واجب الوجود ، بين واجب الوجود وغيره ؛ فمن أربعة أوجه :

الأول : هو أنه يصح تقسيم الوجود : إلى الواجب ، والممكن ، والقديم ، والحادث ؛ فالوجود مورد القسمة ، وكل ما يكون مورد القسمة ، يجب أن يكون واحدا ؛ فالوجود واحد.

الثانى : هو أنا إذا اعتقدنا شيئا موجودا ؛ فاعتقاد كونه موجودا ، لا يختلف باختلاف الاعتقادات بكونه واجبا ، أو ممكنا ، أو لا ، أو بكونه جوهرا ، أو عرضا ، أو سوادا ، أو

__________________

(١) انظر المواقف ص ٤٨.

(٢) ساقط من (أ)

(٣) فى ب (فذهب)

(٤) أبو الحسين البصرى : محمد بن على الطيب ، البصرى ، المعتزلى (أبو الحسين) متكلم ، أصولى كان من أئمة المعتزلة المشهورين ، ولد في البصرة ، وسكن بغداد وتوفى بها سنة ٤٣٦ ه‍. من أهم مؤلفاته : المعتمد في أصول الفقه. الّذي اعتمد عليه معظم من أتى بعده ، وكان من أشهر تلاميذ القاضى عبد الجبار صاحب المغنى (وفيات الأعيان ترجمة رقم ٥٨١ ، وتاريخ بغداد ٣ / ١٠٠ ، ومعجم المؤلفين ١١ / ٢٠)

(٥) انظر ل ٥١ / أوما بعدها.

٢٦٠