أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

وإن شئت بينت بالعكس :

وهو أن تعكس الكبرى فى (١) الأولى (١) ، وتبقيها بحالها ؛ فتعود إلى الضرب الثانى من النوع الأول ؛ ناتجا عين المطلوب.

وتعكس الصغرى من الثانى ، وتجعلها كبرى ، فتعود إلى الضرب الثانى من النوع الأول أيضا ، / ناتجا كلية سالبة عكسها عين المطلوب.

وتعكس الكبرى من الثالث ، وتبقيها بحالها ؛ فتعود إلى الضرب الرابع من الأول ؛ ناتجا عين المطلوب.

والرابع فلا يتبين بالعكس ؛ لأن الصغرى جزئية سالبة ، ولا تنعكس ، والكبرى لو عكست ؛ عادت جزئية ؛ ولا إنتاج عن جزءين.

النوع الثالث (٢) : وهو ما الحد الأوسط فيه موضوع فى المقدمتين.

وشرط لزوم المطلوب عنه. إيجاب صغراه ـ لما ذكرنا فى النوع الأول ـ وكلية إحدى مقدمتيه ، أيهما كانت. وإلا كان الحد الأوسط مختلفا ، ولا ينتج غير الجزئى.

وضروبه المنتجة ستة :

الضّرب الأول : من كليتين موجبتين :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وكل إنسان ناطق ؛ فبعض الحيوان ناطق.

الضّرب الثانى : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى موجبة :

كقولنا : بعض الحيوان جسم ، وكل حيوان حساس ؛ فبعض الحيوان حساس.

الضّرب الثالث : من كلية موجبة صغرى ، وجزئية موجبة كبرى :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وبعض الإنسان ناطق ؛ فبعض الحيوان ناطق.

الضّرب الرابع : من كلية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الإنسان حجرا ؛ فبعض الحيوان ليس حجرا.

__________________

(١) فى ب (عن الأول)

(٢) انظر دقائق الحقائق ل ١١٦ / أوما بعدها.

٢٠١

الضّرب الخامس : من كلية صغرى موجبة ، وجزئية كبرى سالبة :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وبعض الإنسان (١) ليس حجرا ؛ فبعض الحيوان ليس حجرا.

الضّرب السادس : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة :

كقولنا : بعض الحيوان إنسان ، ولا شيء من الحيوان حجر ؛ فبعض الإنسان ليس حجرا.

واللزوم (٢) فى هذه الضروب أيضا (٢) : غير بين دون بيان. وهو أن نأخذ نقيض النتيجة فى الكل ، ونجعله كبرى للصغرى ؛ فينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ؛ فيكون نقيض المطلوب باطلا ؛ لما حققناه فى النوع الثانى.

وان شئت بينت بالعكس ، والرد إلى النوع الأول البين ؛ فتعكس الصغرى من الأول ، والثانى ، والرابع ، والسادس ، وتبقيها بحالها.

فإن الأول والثانى ، يعودان إلى الضرب الثالث من النوع الأول ، ناتجا عين المطلوب.

والرابع والسادس يعودان إلى الضرب الرابع من النوع الأول ، ناتجا عين المطلوب.

وأما الثّالث : فتعكس منه الكبرى / وتجعلها صغرى ؛ فيعود إلى الضرب الثالث من (٣) النوع الأول ، ناتجا جزئية موجبة ، عكسها عين المطلوب.

وأما الخامس : فلا يتبين بالعكس ؛ لأن الجزئية السالبة منه لا تنعكس ، وعكس الكلية الموجبة ، جزئية موجبة ؛ ولا إنتاج عن جزئيتين.

النوع الرّابع :

وهو (٤) ما الحد (٤) الأوسط فيه موضوع فى الصغرى ، ومحمول فى الكبرى.

__________________

(١) فى ب (الحيوان) وهو خطأ.

(٢) فى ب (فاللزوم أيضا فى هذه الضروب).

(٣) فى ب (إلى).

(٤) فى ب (أن يكون الحد).

٢٠٢

وشرط انتاجه :

إيجاب إحدى مقدمتيه ؛ فإنه لو كان الحدّ الأوسط مباينا للطرفين لما لزم بين الطرفين إيجاب ، ولا سلب ؛ كما بيناه فى النوع الثانى.

وكلية إحدى مقدمتيه ، وإلا لاختلف الحدّ الأوسط.

وكلية السالبة من مقدمتيه ؛ فإنها لو كانت جزئية ؛ فإن كانت صغرى ؛ فالحد (١) الأوسط ؛ لا يكون متحدا.

وإن كانت كبرى : فلجواز أن يكون البعض الخارج عن المحمول فى الكبرى ثابتا للأصغر تارة ، ومسلوبا عنه أخرى.

فلا إنتاج لا بإيجاب ، ولا سلب.

وأن تكون صغراه كلية موجبة ، إن كانت كبراه جزئية موجبة ، حتى يدخل كل الأوسط تحت الأصغر ؛ فإذا حكم بإيجاب الأوسط على بعض الأكبر ؛ كان الأكبر محكوما (٢) به على (٢) بعض الأوسط ، والأوسط على (٣) بعض الأصغر ؛ فيكون الأكبر محكوما به على بعض الأصغر.

وأن تكون كبراه كلية سالبة ، إن كانت صغراه جزئية موجبة ؛ لأنه إذا كان الأكبر مباينا للأوسط ، والأوسط هو بعض الأصغر ؛ فالأكبر يكون مباينا لبعض الأصغر.

وضروبه المنتجة خمسة :

الضّرب الأول : من كلية سالبة صغرى ، وكلية موجبة كبرى.

كقولنا : لا شيء من الإنسان حجرا ، وكل ناطق إنسان ؛ فلا شيء من الحجر ناطق.

الضّرب الثانى : من كليتين موجبتين :

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وكل ناطق إنسان ؛ فبعض الحيوان ناطق.

الضّرب الثالث : من كلية صغرى موجبة ، وجزئية كبرى موجبة

كقولنا : كل إنسان حيوان ، وبعض الناطق إنسان ؛ فبعض الحيوان ناطق.

__________________

(١) فى ب (فى الحد).

(٢) فى ب (محمولا فإنه).

(٣) ساقط من (ب).

٢٠٣

الضّرب الرابع : من كلية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة.

كقولنا : كل إنسان حيوان ، ولا شيء من الحجر إنسان ؛ فبعض الحيوان ليس حجرا.

الضّرب الخامس : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة.

كقولنا : بعض الحيوان / إنسان ، ولا شيء من الحجر حيوان ؛ فبعض الإنسان ليس حجرا.

واللزوم في هذه الضروب أيضا بعيد عن الطباع ؛ غير بين إلا ببيان. وهو أن تأخذ نقيض النتيجة في الكل ، وتجعله في الأول صغرى للكبرى ؛ فيعود إلى الضرب الثالث من النوع الأول ؛ ناتجا جزئية موجبة ، عكسها نقيض المقدمة الصغرى الصادقة ، وكبرى للصغرى في الثانى ، والثالث ؛ فإنه يعود إلى الضرب الثانى ، من النوع الأول ، ناتجا كلية سالبة ، عكسها نقيض المقدمة الكبرى الصادقة. وتجعله صغرى (١) للكبرى في الرابع والخامس ؛ فإنه يعود إلى الضرب الثانى من النوع الأول ، ناتجا كلية سالبة ، عكسها نقيض المقدمة الصغرى الصادقة ؛ فيكون النقيض محالا ؛ لما سبق.

وإن شئت بينت بالعكس. وهو أن تجعل الصغرى في الأول كبرى للكبرى ؛ فيعود (٢) إلى الضرب الثانى (٢) ، من النوع الأول ، ناتجا كلية سالبة (٣) ، عكسها عين المطلوب.

وأن تجعل الصغرى كبرى ، للكبرى في الثانى ؛ فيعود إلى الضرب الأول ، من النوع الأول ، ناتجا كلية موجبة ، عكسها عين المطلوب. وكذلك في الثالث.

وأن تعكس الصغرى والكبرى في الرابع والخامس ، وتبقيها بحالها. فإنه يعود إلى الضرب الرابع من النوع الأول ؛ ناتجا عين المطلوب.

وأما الاستثنائى :

فإما أن يكون المناسب للمطلوب فيه ، مناسبته مناسبة لزوم ، أو مقابلة.

فإن كان من الأول : فيسمى استثنائيا متصلا.

وإن كان الثانى : فيسمى استثنائيا منفصلا.

__________________

(١) فى ب (الصغرى)

(٢) فى ب (فى الثانى فيعود إلى الضرب الأول).

(٣) فى ب (موجبة).

٢٠٤

أما المتصل :

فالمناسب للمطلوب فيه : إما أن يكون لازما ، أو ملزوما له.

فإن كان لازما له : فيلزم من انتفائه ؛ انتفاء الملزوم ؛ وذلك كما لو كان مطلوبنا : أن الشمس ليست طالعة فقلنا :

إن كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود.

فإذا قلنا : والنهار ليس (١) موجودا ،

لزم أن (١) الشمس ليست طالعة.

وإن كان ملزوما للمطلوب : كما لو كان مطلوبنا أن النهار موجود. فقلنا : إن كانت الشمس طالعة ؛ فالنهار موجود.

فإذا قلنا : والشمس طالعة ؛ لزم : النهار موجود.

ولا يلزم من انتفاء الملزوم ؛ انتفاء اللازم ؛ ولا من وجود اللازم ؛ وجود الملزوم ، لجواز أن يكون اللازم أعم من الملزوم.

وإن (٢) اتفقت المساوات بين اللازم والملزوم في العموم والخصوص / ، فيلزم من وجود كل واحد منهما ؛ وجود الآخر ، ومن انتفائه ؛ انتفاؤه ؛ ولكن لا لنفس الصورة ؛ بل (٣) لخصوص المادة.

وأما المنفصل :

فإما أن يكون المناسب للمطلوب ، مقابلته له ، مقابلة حقيقية ، أو غير حقيقية.

فإن كانت حقيقية : كما سبق تعريفه ؛ فيصح الاستدلال بوجود المقابل له على انتفائه ؛ وبانتفائه على وجوده ؛ ضرورة استحالة الجمع بينهما والخلو منهما : كما في قولنا : العدد إما زوج ، وإما فرد ؛ فإنه يلزم من وجود الفرد ؛ انتفاء الزوج ، ومن انتفاء الفرد ؛ وجود الزوج وكذا بالعكس.

__________________

(١) فى ب (بموجود لزم)

(٢) فى ب (وإذا)

(٣) فى ب (ولكن)

٢٠٥

هذا إذا كانت أجزاء المنفصلة لا تزيد على جزءين.

وإن كانت أكثر من ذلك ؛ لزم من وجود الواحد ؛ انتفاء الباقى ، ومن انتفائه منفصلة موجبة من الباقى.

وأما إن كانت المقابلة غير حقيقية : فإما أن تكون من مانعة الجمع ، دون الخلو ، أو من مانعة الخلو دون الجمع.

فإن كان الأول : لزم من وجود الواحد ؛ انتفاء الآخر ؛ لاستحالة الجمع ، ولا يلزم من انتفائه وجود الآخر ؛ لجواز الخلو.

وإن كان الثانى : لزم من انتفاء الواحد ؛ وجود الآخر ؛ لاستحالة الخلو منهما ، ولا يلزم من وجوده ؛ انتفاء الآخر ؛ لجواز الجمع. فهذه هى جملة صور الأدلة المنتجة ، أوردناها على غاية الإيجاز والاختصار. ومن لم يقنع باليسير (١) ؛ فعليه بمراجعة كتبنا (١) المخصوصة بهذا الفن (٢).

__________________

(١) فى ب (بالقليل فعليه بكتبنا)

(٢) انظر دقائق الحقائق ل ٩٣ / ب المقالة الرابعة في تعريف صور الحجج ومبنى تأليفات الطرق.

٢٠٦

الفصل السادس

في شرط الدّليل العقلى

وشرط الدليل العقلى : أن يكون مطردا بالاتفاق.

وليس من شرطه أن يكون منعكسا : أى يلزم من انتفائه ، انتفاء المدلول خلافا لبعض الفقهاء ؛ فإن حدوث الحوادث دليل وجود الصانع في نفسه ، ولو قدرنا عدم حدوث الحوادث ؛ لما لزم منه انتفاء الصانع في نفسه ، وإن لم يعلم وجوده ؛ لعدم الدليل الدال عليه ، ولأنه لا مانع من قيام أدلة على مدلول واحد. فلو لزم انتفاء المدلول عند انتفاء واحد منها ؛ لما لزم من باقى الأدلة وجود المدلول ، وخرجت عن كونها أدلة ؛ لعدم اطرادها ؛ وهو خلاف الفرض.

وعلى هذا. فقد أخطأ من سلم من المعتزلة : أن الدليل الدال على كون العالم منا عالما بعلم معلل بالعلم ؛ جواز ثبوت هذا الحكم في حقنا ؛ إذ نفى ذلك في عالميّة الله ـ تعالى ـ لا ينفى جواز ثبوت حكم العالميّة في حقه ، حيث أنه نفى المدلول لانتفاء دليله. /

ومهما قيل : بامتناع انتفاء المدلول ، لانتفاء الدليل (١) ؛ فلا يتصور اجتماع دليلين متقابلين على شيء واحد بالنفى والإثبات : أحدهما مطرد منعكس ، والآخر مطرد غير منعكس ، حتى يقال بترجيح المنعكس على غير المنعكس ، كما قد يظن ؛ بل ولا يتصور أن يكونا دليلين في نفس الأمر ؛ بل هما شبهتان ، أو أحدهما شبهة ، والآخر دليل.

ولا نعرف خلافا في أنه لا يشترط في وجه دلالة الدليل على المدلول نصب ناصب ، ولا وضع واضع ؛ بل ذلك للدليل ـ من حيث هو هو ـ لا لأمر خارج ؛ فلا (٢) يخرج (٢) عن كونه دليلا على المدلول ، وإن قدرنا عدم الناصب له والواضع.

ولا يشترط [فى] (٣) دلالة الدليل على المدلول ، أن يثبت للدليل وصف وجودى ، ولا حال زائدة وراء لزوم المدلول عنه ؛ وإلا لثبت (٤) ذلك للعدم ، عند كونه دليلا ؛ وهو ممتنع ؛ لما فيه من قيام الثبوت بالعدم.

__________________

(١) فى ب (دليله).

(٢) فى ب (عنه ولا يخرج)

(٣) فى أ ، ب (من)

(٤) فى ب (ثبت)

٢٠٧

الفصل السابع

فيما ظن أنه من الأدلة المفيدة لليقين ، وليس منها

وهى ستة :

الدليل الأول : الاستقراء (١)

وهو عبارة عن الحكم بنسبة كلى ، إلى كلى آخر ، بإيجاب ، أو سلب ؛ لتحقق نسبته بتلك الكيفية ، إلى ما تحت الكلى المحكوم عليه ، من الجزئيات :

كالحكم بالتحيز على الجوهر الكلى ؛ لوجود التحيّز في الجواهر ؛ وهو غير يقينى ؛ فإنه (٢) لا يخلو :

إما أن يكون الاستقراء ناقصا : بأن لا يكون قد استقرى جميع الجزئيات ، أو تاما : قد استقرى فيه جميع الجزئيات.

فإن كان من الأول : فلا يخفى أنه من الجائز أن يكون الحكم فيما لم يستقر ، على خلافه ، فيما استقرى.

وعند ذلك ؛ فلا يلزم أن يكون الحكم الثابت لبعض الجزئيات ؛ ثابتا للكلى المشترك بينها ؛ وإلا لما خلا عن ذلك الحكم شيء من جزئياته. وذلك كالحكم على الحيوان ، بأنه إذا أكل تحرك فكه الأسفل ، أخذا من استقراء أكثر جزئيات الحيوان ، والحكم في التمساح على خلافه.

وإن كان تاما : فإنما يلزم أن يكون الحكم الثابت لكل واحد من الجزئيات ؛ ثابتا للأمر الكلى المشترك ، أن لو ثبت امتناع ثبوته لكل واحد من الجزئيات ؛ لخصوصه ، وتعينه ؛ وهو عسير جدا ، وعدم العلم بدليله ؛ لا يدل على عدمه في نفسه كما يأتى بعد.

الدليل الثانى : الحكم بانتفاء المدلول لانتفاء / دليله (٣).

وهذه الطريقة ، إنما تتم ببيان انتفاء الأدلة ، وبيان لزوم انتفاء المدلول من انتفائها.

ولا طريق إلى الأول إلا بالبحث ، والسبر مع عدم الاطلاع عليها.

__________________

(١) قارن بشرح المواقف ١ / ١٣٦.

(٢) فى ب (لأنه)

(٣) قارن بشرح المواقف ص ١٣٩.

٢٠٨

وأما الثانى : فطريقه أن يقال : لو لم يلزم من انتفاء الدليل انتفاء المدلول ؛ لما ثبت المدلول عند وجود دليله ؛ لاحتمال أن يكون الغلط واقعا فيه ؛ مع عدم الدليل عليه ، ولجاز أن يكون بين أيدينا جبال شامخة ، وأمور هائلة ، وإن كنا لا نحس بها ، ولا قام الدليل على وجودها ؛ وهو ممتنع.

وهو أيضا : غير يقينى ؛ فإنه لا يلزم من البحث والسبر العلم بعدم الدليل ؛ بل غايته عدم العلم بالدليل ، ولا يلزم من عدم العلم بالدليل ؛ عدم الدليل في نفسه.

سلمنا : أنه يلزم منه عدم الدليل في نفسه ؛ غير أنه يلزم من انتفاء دليل النفى ؛ انتفاء النفى ؛ لما قررتموه ، ونفى النفى ثبوت ؛ فانتفاء أدلة النفى من جملة أدلة الإثبات.

وعند ذلك : فإن ادعى نفى بعض [أدلة] (١) الإثبات ؛ فلا يلزم منه عدم الإثبات ؛ لجواز ثبوته بدليل آخر.

وإن ادعى انتفاء جميع أدلة الإثبات ؛ حتى يدخل فيها انتفاء أدلة النفى ؛ فقد سلّم أن دليل النّفى ؛ غير منتف ؛ فيكون ثابتا. وعند ذلك فيكون النفى محالا على دليله ، لا على عدم دليل الإثبات.

سلمنا : انتفاء جميع أدلة الإثبات ؛ ولكن لا نسلم أنه يلزم منه عدم المدلول ، فإنا لو قدرنا أنه لا دليل على وجود الإله غير حدوث الحوادث ، وقدرنا عدم حدوث الحوادث ؛ لم يلزم منه عدم الإله تعالى.

وأما العلم بانتفاء الغلط ، عند العلم بلزوم المدلول عن النظر الصحيح ؛ فمستند إلى دليل انتفاء الغلط ؛ وهو العلم بالمقدمات البديهية ، أو المستندة إلى البديهيات ، لا إلى عدم دليل الغلط ، والعلم بعدم الجبال الشامخة بين أيدينا إذا لم تكن محسوسة ؛ فبديهى. لا أنه مستند إلى العلم بانتفاء دليل الوجود وإلا كان نظريا.

سلمنا : دلالة ما ذكرتموه على عدم المدلول ؛ ولكنه معارض بما يدل على أنه غير معدوم : وهو انتفاء دليل العدم على ما قررتموه ، ولا سبيل إلى الجمع بين الوجود والعدم ، ولا سبيل إلى الترجيح ؛ لعدم الأولية.

__________________

(١) فى أ (الأدلة)

٢٠٩

كيف : وأنه يلزم منه الاعتراف بأن انتفاء / دليل أحد المتقابلين ، لا يدل على عدمه. وإن (١) قيل بإبطالهما ؛ ففيه (١) تسليم المطلوب.

لكن هذا السؤال فيه نظر ؛

فإنه إذا سلم الخصم انتفاء دليل الثبوت ، وأنه دليل النفى ؛ فانتفاء (٢) دليل الثبوت ؛ من جملة أدلة النفى.

وعند ذلك : إن ادعى نفى جميع أدلة النفى في المعارضة على وجه يدخل فيها انتفاء أدلة الإثبات ؛ فقد منع ما سلم.

وإن ادعى انتفاء بعض أدلة النفى ؛ فلا يلزم من انتفاء بعض الأدلة ؛ انتفاء المدلول ؛ لاحتمال وجود دليل آخر.

الدليل الثالث : قياس التّمثيل.

وهو الحكم باشتراك معلومين في حكم أحدهما (٣) ، بناء على جامع بينهما : كالحكم بأنّ البارى ـ تعالى ـ مشار إليه ، وإلى جهته ؛ لكونه موجودا ؛ كما في الشاهد.

وقد تسمى الصورة المتنازع فيها فرعا ، والمتفق على حكمها أصلا ، والوصف الجامع (٤) علة ، والمعلل حكما ؛

وهو غير يقينى ،

فإنه ليس من ضرورة اشتراك أمرين ، في صفة عامة لهما ؛ اشتراكهما في حكم أحدهما إلا أن يكون ما به الاشتراك ، علة للحكم المتنازع فيه ، وليس ما يدل على كونه علة عند القائلين به غير طريقين : أحدهما الطّرد والعكس ، والآخر السّبر والتّقسيم ؛

وهما غير مفيدين لليقين.

أما الطّرد والعكس : فلأنه لا معنى له غير ملازمة وجود الحكم للعلة ، وانتفاؤه عند انتفائها. ولا بد فيه من الاستقراء لجميع الجزئيات ، وفي سائر الأحوال ؛ ولا سبيل إليه ؛ لخروج الفرع عنه (٥) ؛ فيكون ناقصا.

__________________

(١) فى ب (فإن قال بإبطالهما معا فقيه)

(٢) فى ب (وانتفاء دليل النفى وانتفاء)

(٣) فى ب (واحد)

(٤) فى ب (لا يجامع)

(٥) فى ب (عليه).

٢١٠

وإن سلمنا كون الاستقراء تاما ؛ ولكن لا يلزم منه أن يكون الوصف المشترك علة ؛ لجواز أن تكون العلة مركبة من أوصاف ؛ وهو بعضها ، وحيث وجد (١) الحكم عند وجوده ، يحتمل أن باقى أوصاف العلة كانت موجودة ؛ وبه كمال العلة. وحيث انتفى الحكم عند انتفائه ؛ كان لأنه بعض العلة.

وعند ذلك فلا يلزم من وجوده في الفرع ؛ وجود الحكم ؛ لجواز تخلف باقى أوصاف العلة ، أو بعضها.

وإن تعرض مع ذلك إلى بيان نفى وصف آخر غير المدار المذكور ؛ فسيأتى إبطاله في السبر والتقسيم.

كيف وأن الدوران وجودا وعدما ، متحقق في الطرفين ؛ فليس جعل أحد الدائرين علة للآخر باعتبار الدوران ، أولى من العكس ، وإن بين كون الوصف صالحا لإثبات الحكم ، والحكم / غير صالح لإثبات الوصف بطريق آخر ؛ فلا حاجة إلى الدّوران ، ولا إلى القياس على الأصل المذكور.

وأما السّبر والتّقسيم : فهو أن تحصر أوصاف محلّ الحكم المجمع عليه ، ويبطل التعليل بما عدا المستبقى ؛ وهو إنما يفيد كون الوصف علة ، بعد الحصر ؛ ولا دليل عليه غير البحث والسبر ، مع عدم الدليل على غير المستبقى ؛ وقد بينا أن ذلك لا يدل على عدمه في نفسه.

وإن سلم الحصر ؛ فلا بد من إبطال التعليل بكل واحد واحد (٢) من الأوصاف المحذوفة ، وإبطال كل رتبة تحصل من اجتماعهما ؛ ولا يكفى في إبطال المحذوف ، وتصحيح المستبقى ؛ ثبوت الحكم مع المستبقى في صورة ، وانتفاء المحذوف ؛ لجواز أن يكون الحكم معللا في صورتين بعلتين ، والوصف المستبقى مشترك بينهما.

هذا كله إن ذكر في التمثيل جامعا ، وإلا [فالحكم] (٣) تحكم محض ، ودعوى لا دليل عليها ، ويلزم القائل بذلك أن يعترف بصحة حكم من حكم بأن جميع الآدميين

__________________

(١) فى ب (حكم)

(٢) ساقط من (ب)

(٣) فى أ (فالجمع)

٢١١

سودان ؛ إذا لم يشاهد غير الزنوج ، وأن جميعهم لا يموتون ؛ إذا لم يشاهد ميتا ، ولا سمع به ؛ ولا يخفى [ما فيه] (١) من الجهالة.

الدليل الرابع : قياس الفراسة.

ويسمى أيضا قياس الدّلالة. وهو نوع من التمثيل ، إلا أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع ، دليل على العلة ، وليس علة في نفسه : وذلك كالاستدلال بعرض أعالى الإنسان على شجاعته ؛ بناء على أنهما تابعان لمزاج واحد في بدن الأسد (٢) ، ومعلولان له ، ويلزم من أحد الموجبين في (٣) الإنسان (٣) ؛ وهو عرض الأعالى ؛ وجود موجبه ، ومن وجود موجبه ؛ وجود الموجب الآخر ؛ وهو الشجاعة ؛ ولا يساعد في ذلك غير الطرد والعكس ، والسبر والتقسيم ؛ وقد عرف ما فيهما.

وإن سلمنا إتباع الحكمين في الأسد ؛ لمزاج واحد ؛ فوجود أحدهما في الإنسان غير واجب أن يكون معللا بما كان معللا به في الأسد ؛ بل جاز أن يكون بغيره ؛ فإنه لا مانع من تعليل الحكم بعلتين ، بالنسبة إلى محلين مختلفين.

ومع ذلك فلا يلزم الموجب الآخر. لجواز أن لا يكون علة عرض الأعالى (٤) فى الإنسان علة للشجاعة.

الخامس : اتّفاق (٥) الأصحاب على إلحاق الغائب بالشاهد ، بجامع الحدّ ، والعلّة ، والشّرط ، والدّلالة.

أما الحدّ : فقالوا : إذا ثبت أنّ حدّ العالم في الشاهد من قام / به العلم ؛ فيجب أن يكون حده في الغائب كذلك ؛ لأنّ الحد يجب اطراده ، ولا يختلف شاهدا ، ولا غائبا.

وأما العلّة : فقالوا : إذا ثبت كون العالم معللا بالعلم في الشّاهد وجب أن يكون معللا به في الغائب ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين ؛ وجب أن يثبت للآخر.

وأما الشّرط : فقالوا : إذا كان شرط كون العالم عالما في الشاهد ، قيام العلم به ؛ وجب أن يكون العالم في الغائب كذلك ؛ لما تحقق في العلة.

__________________

(١) فى أ (فيه)

(٢) فى ب (الإنسان)

(٣) فى ب (للإنسان)

(٤) فى ب (العالى)

(٥) منهم الباقلانى انظر التمهيد ص ٣٨.

٢١٢

وأما الدّلالة : فقالوا : إذا دلّ قبول الحوادث شاهدا ، على استحالة تعرى القابل لها عنها ؛ لزم مثله في الغائب ؛ لأن شرط الدلالة الاطراد.

وزاد الأستاذ أبو إسحاق طريقا آخر فقال : كل أمرين ثبت تلازمهما في الشاهد ؛ لزم أن يتلازما غائبا. ولم يعتبر في ذلك جامعا.

وعند هذا فنقول :

أما الجمع بالحدّ ؛ فإن ثبت أنّ حدّ العالم : من قام به العلم ، وثبت أن مسمى العالم ، متحد في الغائب والشاهد ، فلا حاجة إلى القياس على الشاهد ، والاعتبار به ؛ لأنّ نسبة الحد إلى جميع مجارى المحدود واحدة ؛ فليس إلحاق البعض بالبعض أولى من العكس.

وإن لم يثبت الحدّ ، أو ثبت ؛ ولكن لم يثبت اتحاد مسمى العالم ؛ فالإلحاق متعذر.

وعلى هذا يكون الكلام في العلة والشرط ، ويزيد في العلة والشرط إشكال آخر : وهو احتمال كون العالم في الشاهد معللا بالعلم ، أو مشروطا به ؛ لكونه جائزا.

وهذا المعنى : غير موجود في الغائب ؛ فلا يلزم التعدية.

أو بمعنى آخر لم نطلع عليه ، ولا يلزم من عدم العلم به وبدليله ؛ العلم بعدمه كما سبق.

وبمثل هذا الاحتمال يمكن القدح في الطريقة الرابعة : وهو أن يقال : الدال على امتناع تعرى القابل للحوادث في الشاهد ، ليس مطلق قبول الحوادث ؛ بل قبول الجائز لها ، أو لمعنى آخر يخصه من حيث هو شاهد ، وبتقدير أن يكون ذلك لكونه قابلا للحوادث ؛ فلا حاجة إلى إلحاق الغائب بالشاهد. ولا بالعكس ؛ لتساوى الدلالة بالنسبة إليهما.

وأما طريقة الأستاذ أبى إسحاق : فيلزمه عليها : أن يكون البارى تعالى جوهرا ؛ ضرورة كونه قائما بنفسه ؛ لضرورة التلازم بينهما في الشاهد ؛ فإن كل قائم بنفسه في الشاهد جوهر ، وكل جوهر قائم / بنفسه ، ولا (١) محيص عنه (١).

__________________

(١) ساقط من (ب)

٢١٣

السادس : الاستدلال بما يتوقف كونه دليلا ، على معرفة مدلوله (١).

وذلك كالاستدلال بكلام (٢) الله تعالى ، على صدق رسوله ، ووجود البارى تعالى ونحوه ؛ وهو دور ممتنع ؛ حيث أنا لا نعرف المذكور من كلامه ، إلا بعد معرفة وجوده ، وصدق رسوله فإذا توقف معرفة وجوده ، وصدق رسوله على معرفة كلامه ؛ كان دورا.

فهذه الطرق غير يقينية ، وإن كان بعضها مفيدا للظن (٣).

__________________

(١) قارن بشرح المواقف ص ١٥٤ ـ ١٥٧.

(٢) فى ب (لكلام)

(٣) انظر التمهيد للباقلانى ص ٣٨ ، ٣٩.

٢١٤

«القاعدة الرابعة»

فى انقسام المعلوم

إلى الموجود ، والمعدوم ، وما ليس بموجود ، ولا معدوم

وتشتمل على ثلاثة أبواب :

الباب الأول : في الموجود.

الباب الثانى : في المعدوم.

الباب الثالث : فيما ليس بموجود ، ولا معدوم.

٢١٥
٢١٦

الباب الأول

في الموجود

ويشتمل على : مقدمة ، وقسمين

٢١٧
٢١٨

أما المقدمة :

فهو أن العلم بالوجود ـ من حيث هو وجود ـ هل هو فطرى ، أم لا؟

وقد ذهبت الفلاسفة إلى : أن العلم به فطرى. محتجين على ذلك بوجوه :

الأول : أنه لو كان العلم به نظريا ؛ فما به تعريفه : إما أن يكون وجودا ، أو لا يكون وجودا.

فإن كان الأول : ففيه تعريف الشيء بنفسه ؛ وهو تعريف الوجود بالوجود ؛ وهو ممتنع.

وإن كان الثانى : ففيه تعريف الوجود ، بعدم الوجود ؛ وهو ممتنع أيضا.

الثانى : هو أنّ العلم باستحالة اجتماع الوجود والعدم في شيء واحد ، من جهة واحدة ؛ بديهى. ولا يجد عاقل من نفسه عند عدم أضداد العلم : من النوم ، والغفلة ، والذهول ، وغيره ؛ الخلو (١) عنه (١) ، ولو كان العلم بمفرديه : وهما الوجود والعدم ، نظريا ؛ لتوقف العلم بالنسبة بينهما على تحصيل العلم بهما بالنظر ؛ وهو خلاف ما يجده كل عاقل من نفسه.

الثالث : هو أنّ كلّ عاقل ، يجد من نفسه العلم البديهى بوجود ذاته ، ومفهوم الوجود في الكلّ واحد ؛ على ما سيأتى (٢) ؛ فكان العلم بالوجود المطلق فطريا (٣).

وهو (٣) بناء منهم على أن المفهوم من الوجود واحد في كل موجود ، وأنه زائد على ذات الموجود.

__________________

(١) فى ب (لا يخلو عنه).

(٢) انظر ل ٥٠ / ب وما بعدها.

(٣) فى ب (نظريا وهذا).

٢١٩

وهو غير صحيح على أصول أصحابنا ، حيث اعتقدوا أن لفظ الوجود مشترك ، وأن المفهوم منه (١) مختلف ؛ لأن وجود كل شيء هو ذاته ، وذاته وجوده على أصولهم ، والذوات مختلفة ؛ فكان (٢) مفهوم الوجود مختلفا ـ على ما سيأتى / تحقيقه (٣) ـ وليس معنى عاما متحدا في كل موجود.

وعلى هذا : فمنه ما هو نظرى : كالعلم بمعنى النفس ، والعقل (٤) ، وغيره (٤). ومنه [ما هو] (٥) فطرى : وهو ما كان من الذوات ، والوجودات مبدأ للنظريات ؛ على ما سلف (٦).

وعلى هذا الأصل ، يمكن تخريج ما أورده من الحجج.

أما الحجّة الأولى : فلأن مفهوم الوجود ، ليس معنى عاما مشتركا بين الذوات ، حتى إذا قيل بتعريفه بما هو موجود ، كان تعريفا للشىء بنفسه ؛ بل لفظ الوجود مشترك بين وجودات مختلفة : بعضها فطرى ، والبعض نظرى ، وتعريف البعض بالبعض ؛ لا يكون تعريفا للشىء بنفسه.

وأما الحجّة الثّانية : فلأنه أمكن أن يقال : إذا كان العلم ببعض الموجودات بديهيّا ؛ كما سلف (٧) ؛ فالعلم باستحالة الجمع بينه ، وبين عدمه ، هو البديهى الّذي لا يتصور خلو نفس العاقل عنه بتقدير عدم الأضداد ، دون ما عداه. أما أن يكون هو الوجود المطلق العام فلا ؛ لعدم تحققه في نفسه ، كما يأتى.

وأما الحجة الثالثة : فمبنية على أنّ المفهوم (٨) من (٨) الوجود في الكل واحد ؛ وهو ممتنع ؛ كما يأتى (٩).

وإذا عرف ذلك فنقول :

مسمى الوجود : إما أن يكون بحيث يلزم المحال من فرض عدمه لذاته ، أو لا يلزم المحال من فرض عدمه لذاته.

__________________

(١) فى ب (فيه)

(٢) فى ب (وكان)

(٣) انظر ل ٥٠ / ب وما بعدها.

(٤) فى ب (فى العقل وغيرهما).

(٥) ساقط من أ.

(٦) انظر ل ٤ / ب وما بعدها.

(٧) انظر ل ٤ / ب وما بعدها.

(٨) ساقط من (ب).

(٩) انظر ل ٥١ / أوما بعدها.

٢٢٠