أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

الشبهة الثامنة : أنّ ملازمة المنظور فيه للنّظر متوقف على انتفاء الدليل المعارض في نظر النّاظر ، وإلا لما امتنع الجزم بالمطلوب مع ظهور المعارض في نظر الناظر ؛ وهو ممتنع.

وإذا توقف على انتفاء [الدليل] (١) المعارض ؛ فالعلم بانتفاء المعارض غير ضرورى ؛ فلا بد [له] (٢) من دليل. والكلام في دليل انتفاء المعارض كالكلام في الأول ؛ وهو تسلسل ممتنع.

الشبهة التاسعة : أنّ العلم بالمنظور فيه : إما أن يقع مع النظر ، أو بعد انقضائه. لا سبيل إلى الأول : فإنّ النّظر يضاد العلم بالمنظور فيه ، كما بينتموه في قاعدة العلم (٣). وإن كان بعده : فغير ممتنع أن يتعقب عدم النظر ما يضاد العلم ؛ فإنّ انقضاء النّظر غير مقتض لنفي أضداد العلم بالمنظور فيه ، والعلم بالمنظور فيه مع وجود ضده محال. فإذن انقضاء النظر لا يلازمه العلم بالمنظور فيه.

الشبهة العاشرة : أنّ العلم بالمنظور فيه ، إذا كان مرتبطا بالنّظر ؛ فلا يتصور حصوله مع الذّهول عن النظر ، وأركانه.

والنّظر إذا كان مشتملا على أركان ومقدمات ؛ فلا يتصور للناظر العلم بها معا ، على ما يجده كل عاقل من نفسه : أنّه متى حاول علما بشيء ، تعذّر عليه محاولة العلم بغيره حالة محاولته له. وإذا كان العلم بالجميع غير متصور معا. والعلم بالبعض غير مفض إلى العلم (٤) بالمنظور فيه (٤) ؛ فالنظر لا يكون مفضيا إلى العلم بالمنظور فيه.

الشبهة الحادية عشرة : أنّ إفادة (٥) النظر للعلم (٥) بالمنظور فيه ؛ إما أن يكون معلوما ، أو غير معلوم.

__________________

(١) ساقط من أ

(٢) ساقط من أ

(٣) انظر ل ١٥ / أ.

(٤) في ب (بالجميع).

(٥) في ب (العلم).

١٤١

فإن لم يكن معلوما : امتنع القول بأن النظر مفيد للعلم بالمنظور فيه (١)

وإن كان معلوما : فالعلم بإفادة النّظر للعلم بالمنظور فيه / وإن كان معلوما ـ فالعلم بإفادة النظر للعلم بالمنظور فيه ـ علم بإضافة بين النّظر ، والعلم بالمنظور فيه. والعلم بالإضافة يتوقف على العلم بالمضافين ، وأحد المضافين العلم بالمنظور فيه ؛ وفيه توقّف العلم بالمنظور فيه على العلم بإفادة النّظر له ، وتوقف العلم بإفادة النّظر له على العلم به ؛ وهو دور ممتنع.

الشبهة الثانية عشرة : أنّ العلم بالمنظور فيه : إما أن يتوقّف على العلم بدلالة الدليل عليه ، أو لا يتوقف.

فإن كان الأول : فدلالة الدليل على العلم بالمنظور فيه ، علم بأمر إضافي بين الدليل ، والعلم بالمدلول. والإضافة متوقفة على المضاف إليه ؛ فإذا توقف العلم بالمضاف إليه على العلم بالإضافة ؛ كان دورا. ولأنّ العلم بدلالة الدليل : إما أن يبقى مع العلم بالمدلول ، أو لا يبقى.

فإن بقى : فاجتماع علمين مختلفين محال ، كما تقدم في قاعدة العلم (٢).

وإن لم يبق : فالعلم بالمدلول ـ مع عدم العلم بدلالة الدليل عليه ـ ممتنع ؛ لعدم تمييز ذلك الدليل ، عما ليس بدليل.

ولهذا المعنى يمتنع القسم الثانى وهو : أن لا يتوقف العلم بالمدلول ، على العلم بدلالة الدليل عليه.

الشبهة الثالثة عشرة : أن النظر الصحيح : إما أن يكون شرطا في حصول العلم بالمنظور فيه ، أو لا يكون شرطا.

فإن كان شرطا : فالشرط لا بد وأن يكون متحققا مع المشروط ؛ لاستحالة وجود المشروط دون شرطه ؛ وهو محال ؛ لما حققتموه من مضادة النظر للعلم بالمنظور فيه (٣).

__________________

(١) من أول (إما أن يكون معلوما ...) ساقط من ب.

(٢) راجع ما سبق ل ٨ / أوما بعدها.

(٣) انظر ل ١٥ / أ.

١٤٢

وأيضا : فإن الشرط لا يتضمن المشروط : كالحياة ؛ فإنها لا تتضمن العلم لما كانت شرطا له ، ولا توجبه ، ولا تولده. والنظر على اختلاف القائلين به لا يخرج عن ذلك.

وإن لم يكن شرطا فيه : فلا ارتباط بينه وبينه ، وإذا لم يكن النظر مرتبطا بالعلم بالمنظور فيه ؛ فلا يكون مؤديا إليه كغيره من الأمور الأجنبية عنه.

الشبهة الرابعة عشرة : أن الناظر إذا نصب دليلا على وجود الصانع مثلا ، فالمدلول : إما وجود الصانع ، أو العلم بوجود الصانع.

لا جائز أن يقال بالأول ؛ لأن افضاء النّظر إلى المطلوب لا يخرج عند القائلين به عن جهة التضمّن ، أو التولّد ، أو الوجوب على اختلاف المذاهب (١) ، والنّظر غير متضمّن لوجود الرب ـ تعالى ـ / ولا موجب له ، ولا مولّد له.

ولا جائز أن يقال بالثانى ؛ لأن الأدلة الدالة على العلم بوجود الصانع ، دالّة لذواتها ، وصفات أنفسها. فلو لم يوجد الرب ـ تعالى من يستدل بها على العلم بوجوده ، ولا (٢) خلق من يعلم وجود الرب (٢) ـ تعالى ـ فإن خرجت تلك الأدلّة عن كونها أدلّة ، فلم تكن أدلّة لذواتها ؛ بل لنظر النّاظر فيها.

وإن (٣) بقيت أدلّة بحالها : فالدّليل مضايف للمدلول. فلو كان ـ مدلولها هو العلم بالوجود ؛ لاستحال العلم بالوجود مع عدم العالم المستدل ؛ فكان الدليل بلا مدلول ؛ وكل ذلك محال.

الشبهة الخامسة عشرة : أن النّظر الصحيح : إما أن يوجب حالا للناظر ، أو لا يوجب. والأول : محال ؛ إذ النّظر الصّحيح مجموع أفكار مختلفة الأجناس ، مفضية إلى العلم بالمنظور فيه ، والموجب للحال (٤) لا يكون مختلف الجنس.

وإن كان الثانى : فهو خلاف ما يجده العاقل من نفسه من الأحوال المختلفة باختلاف النّظر الصحيح ، والفاسد. وإذا بطل القسمان ؛ فالنظر الصّحيح ممتنع.

__________________

(١) القائلون بالتضمن هم الأشاعرة ،

أما القائلون بالتولّد فهم المعتزلة ،

والقائلون بالوجوب هم الفلاسفة. انظر ما يأتى ل ٢٣ / ب.

(٢) في ب (ولا يخلق من يعلم وجوده).

(٣) في ب (فإن).

(٤) في ب (بالحال).

١٤٣

الشبهة السادسة عشرة : أنه وإن جاز إفضاء النظر إلى العلم بالمنظور فيه ، فما الّذي يؤمن أن يكون ما أفضى إليه النّظر جهلا ، أو شيئا آخر من الأمور العرضية؟ ولا سيما عند من يرى أنّ الجهل مماثل للعلم ، ومشارك له في أخصّ أوصافه ، كما سبق في قاعدة العلم (١).

والجواب عما ذكروه من الشبه من وجهين :

أحدهما عام ،

والآخر خاص بكل واحد واحد منها.

أما الجواب العام :

فهو أنّا نقول : ما ذكرتموه من الشّبه : إما أن تكون مفيدة (٢) لإبطال النظر (٢) ، أو غير مفيدة له.

فإن كان الأول : فقد أبطلتم النّظر بالنّظر ؛ وفيه ما يوجب صحّة بعض ضروب النظر. وإن كان الثانى : فقد استغنينا عن الجواب ؛ لعدم الفرق بين وجوده وعدمه.

فإن قيل : ما ذكرناه وإن كان فاسدا ، غير أن المقصود منه : معارضة ما ذكرتموه ، ومقابلة الفاسد بالفاسد.

قلنا : فهذه المعارضة إن أفادت شيئا ؛ فهى من جملة ضروب النظر ، وإن لم تفد شيئا ، فلا حاجة إلى جوابها.

الجواب الثانى : أنا نخصّ كل شبهة بجواب :

أما الشّبهة الأولى : فجوابها بلزوم كون المقدمات بديهيات ، أو مستندة إليها ، وما ذكروه فتشكيك على البديهيات ؛ / فلا يقبل.

__________________

(١) انظر ل ١٣ / أ.

(٢) في ب (مفيد الإبطال).

١٤٤

كيف وأنا نجيب عن التّشكيك الأوّل : بأنّ القضية البديهيّة ما يصدق العقل بها من غير توقّف على أمر خارج عن مفرداتها ؛ بل مهما (١) علمت المفردات بأىّ طريق كان ، بادر العقل [بالنسبة] (٢) الواجبة لها من غير توقف على أمر آخر ، فتعقل القضية البديهية بعد أن لم تكن معقولة في مبدأ النشو ، إنما كان لتوقّفها على كمال آلة الإدراك للمفردات ، وهى غير كاملة في مبدأ النشو فإذا كملت ، وحصل بها إدراك المفردات ؛ بادر العقل بالنسبة الواجبة لها ؛ وذلك لا يوجب خروجها عن كونها بديهية.

وعن التشكيك الثّاني : بمنع وقوع الغلط ، والتّشكيك في المحسوسات التى هى أصول البديهيات. فإنّ المحسوسات التى هى أصول البديهيات ما لا يكذبها (٣) العقل ، وما أورده من المحسوسات ؛ فالعقل مكذب لها.

وعن الثالث : بمنع كون (٤) النّفي غير بديهى ، وإن اختلف فيه. وإن لم يكن بديهيا ؛ فلا يمنع ذلك عند تعقّله من مبادرة العقل بالنسبة بينه وبين الإثبات من غير توقف على أمر خارج ؛ فلا تخرج القضية بذلك عن كونها (٥) بديهيّة.

وعن الرابع : بمنع التساوى في الجزم بين البديهيّات ، وما ذكر ؛ فإن الجزم في البديهيات مع الجزم باستحالة مخالفة المجزوم (٦) به عقلا ، وفي غيرها عادة.

وعن الخامس : أنه ليس من شرط البديهى أن لا يخالف أصلا ؛ بل شرطه أن لا يخالفه أكثر العقلاء ، وكل ما خالفه أكثر العقلاء ؛ فلا يكون بديهيا.

والجواب عن الشبهة الثانية : أنّ الطلب لما هو معلوم من وجه ، ومجهولا من وجه : أعنى معلوما بالقوة ، ومجهولا بالفعل. وذلك قد يكون عند كون الإنسان عالما بقضية كلية ، وهو جاهل بما هو داخل تحتها بالجزئية ، أو هو عالم به ؛ لكنه غافل عن الارتباط الواقع بينهما.

__________________

(١) في ب (متى).

(٢) في أ (بالشبهة).

(٣) في ب (يكذبه).

(٤) في ب (أن يكون).

(٥) في ب (أن تكون).

(٦) في ب (البديهيات باستحالة المجزوم).

١٤٥

مثال الأول : علمنا بأنّ كل اثنين زوج ، وجهلنا بزوجية ما في يد زيد مثلا ؛ لجهلنا باثنينيته ؛ لكن جهلنا به إنّما هو جهل بالفعل ، وإن كان معلوما بالقوة من جهة دخوله تحت عموم علمنا ، بأن كل اثنين زوج.

ومثال الثانى : ظنّ كون البغلة المنتفخة البطن حبلى ، مع العلم بأنّها بغلة ، وأنّ كل بغلة عقيم ؛ فالعلم بكونها عقيما واقع بالقوّة ، والجهل بذلك بالفعل.

فمستند الجهل في المثال الأول : إنما هو عدم العلم بالمقدمة (١) الجزئية.

وفي الثانى : الغفلة عن / الارتباط بين المقدمتين ؛ فالطلب إذن إنما (٢) هو لمثل هذا المجهول ؛ فإذا بحث عن الشيء الفلانى أنه كذلك ، أم لا. فإذا ظفر به وعرفه على الصّفات التى كانت معلومة له بالقوة ، عرف لا محالة أنه مطلوبه.

أما أن يكون الطلب لما علم ، أو جهل مطلقا ؛ فلا.

وعن الشبهة الثالثة : أنّ العلم بصحّة النّظر ضرورى ، ومخالفة بعض العقلاء فيه ؛ لا تقدح فيه ، كما سبق. وبه اندفاع الشبهة الرابعة.

ثم وإن سلمنا أنه نظرى ؛ لكن إثبات صحة النظر بالنّظر غير متناقض كما يعلم العلم بالعلم.

وأما نفي صحّة النّظر بالنّظر ؛ فاعتراف بإفضاء النّظر ؛ إلى إبطال النظر ؛ وهو تناقض ، وليس إثبات صحة النظر بالنظر ، هو إثبات صحة النظر بصحة النظر ، (٣) ولا إثبات النظر بالنظر ، حتى يكون الشيء الواحد مثبتا لنفسه ، ويكون من حيث هو مطلوب غير حاصل ، ومن حيث هو آلة في طلب نفسه حاصلا ؛ فيكون تناقضا.

وعن الشبهة الخامسة والسادسة : أنّ النظر الصحيح ، لا يتصور معه التشكّك والريبة في (٤) المنظور فيه ، بخلاف الفاسد (٤).

__________________

(١) في ب (في المقدمة).

(٢) ساقط من ب.

(٣) في ب (ولا هو).

(٤) في ب (في المنظور له بخلاف النظر الفاسد).

١٤٦

فأىّ هذه الأنظار كان بهذه المثابة (١) ؛ فهو النظر الصحيح ، وما عداه فاسد ، والاشتراك في الصحة غير متصور بين الأنظار المتقابلة.

وعن الشبهة السابعة : أنّ ملازمة المطلوب للنظر الصّحيح واجبة ، والتكليف ليس بملازمة المطلوب للنظر الصحيح ؛ بل بالنّظر الّذي يلازمه المطلوب ، وهو مقدور ؛ فلا يلزم ما قيل.

وعن الشبهة الثامنة : أنّ الكلام إنّما هو في النّظر الصّحيح ، وهو ما كانت مقدماته ضروريّة مقترنة بالصّورة الحقّة.

وعند ذلك : فالعلم بانتفاء المعارض يكون ضروريا ؛ لاستحالة تعارض القواطع ؛ فلا تسلسل.

وعن الشبهة التاسعة : أنّ معنى كون النظر الصّحيح مفضيا إلى العلم بالمنظور فيه : أن العلم بالمنظور فيه ، يتعقب النظر الصحيح ، إذا (٢) لم يتعقّبه ضدّ من أضداد العلم.

وعن الشبهة العاشرة : أنا لا نعنى بارتباط العلم بالمنظور فيه بالنظر ، إلا أنه يتعقب النّظر الصحيح (٢) ، ولا يتصور حصوله دون سابقة النظر.

والقول بأنه لا يتصور حصول العلم بأركان النظر معا ممنوع (٣) على ما سبق بيانه (٣) في قاعدة العلم (٤).

وعن الشبهة الحادية عشرة : أنّ ذلك إنّما يصحّ أن لو كان النظر / مفيدا للعلم بالمنظور فيه ؛ وليس كذلك. فإن المفيد ، لا بدّ وأن يوجد مع ما أفاده ، والنّظر مضاد للعلم بالمنظور فيه ؛ فلا يكون معه. نعم غايته أنّ وجود العلم بالمنظور فيه متعقب للنظر ، كما سبق بيانه.

وعن الشبهة الثانية عشرة : أنّ العلم بالمدلول لا يتوقّف على العلم بدلالة الدليل عليه ؛ بل على العلم بالوجه الّذي صار به الدليل دالا على المدلول ، وهما غيران ، والوجه الّذي صار به الدّليل دالا ، غير إضافي.

__________________

(١) في ب (المناسبة).

(٢) من أول (إذا لم يتعقبه ...) ساقط من ب.

(٣) ب (على ما بيناه).

(٤) انظر ل ٨ / أ.

١٤٧

وإن كانت دلالة الدليل إضافية : فإذن العلم بدلالة الدّليل ، والعلم بالمدلول تابعان للعلم بوجه دلالة الدّليل ، وأحدهما ليس تابعا للآخر ؛ بل يقعان معا تبعا للعلم بوجه دلالة الدليل. وهل العلم بالمدلول متأخر عن العلم بوجه دلالة الدليل ، أو معه؟ فقال قوم بالتأخير ؛ لأنّ العلم بوجه دلالة الدّليل من أركان النظر ، والنّظر مضاد للعلم بالمدلول ؛ فلو جاز أن يكون مع ركن من أركان النظر ؛ لجاز أن يكون مع النظر.

والحق ما ارتضاه القاضى : وهو أنّ النّظر بحث عن وجه دلالة الدّليل وبعد العثور عليه ؛ فالنظر يكون مقتضيا ، وليس ركنا منه ؛ فلا يمتنع أن يكون العلم بالمنظور فيه ، مع العلم بوجه دلالة الدليل ، متعقبان للنظر ، ولا يمتنع اجتماع العلوم المختلفة ، كما سبق في قاعدة العلم (١)

وعن الشبهة الثالثة عشرة : أنا إن قلنا : إنّ النظر شرط للعلم بالمنظور فيه ؛ فلا نعنى به غير أن العلم بالمنظور فيه ؛ متوقّف عليه.

وإن قلنا : إنه ليس بشرط ؛ فلا يلزم أن يكون غير متوقف عليه ؛ فإنّ ما يتوقّف عليه الشيء أعمّ من كونه شرطا.

وعن الشبهة الرابعة عشرة : فالمختار (٢) أنّ مدلول الدّليل ، وجود الصانع ، ومع ذلك فلا نسلم أنّ الدليل يوجب المدلول ، ولا يولده ، ولا يتضمنه ؛ بل هو متعلق به ؛ والتعلق (٣) أعم مما ذكر (٣).

والّذي يقول بكونه متضمّنا : إنما هو العلم بوجه الدليل ، للعلم بالمدلول ، فالنسبة بين الدليل والمدلول بالتعلّق ، وبين العلم بوجه الدليل ، والعلم بالمدلول بالتّضمين.

وعن الشبهة الخامسة عشرة : بمنع وجود أمر للناظر وراء علمه بالمقدمات المترتبة الترتيب المفضى إلى المطلوب ، والعلم بوجه دلالة الدليل ، والعلم بالمنظور فيه : وهو القدر الّذي يجده كل عاقل من نفسه ؛ وليس ذلك حالا.

وإن سلمنا وجود حال / له زائدة على ذلك ؛ فلازمة من علمه بوجه دلالة الدليل ؛ والعلم بوجه دلالة الدليل واحد لا تعدّد فيه.

__________________

(١) انظر ل ٨ / أ.

(٢) في ب (المختار).

(٣) في ب (والتعلم أعم مما ذكرنا).

١٤٨

وأما الشبهة السادسة عشرة : فلازمة على من قال من المعتزلة بأن الجهل مماثل للعلم ، ولا يحصل له الانفصال عنها بتمييز العلم عن الجهل بركون النفس إلى المعتقد في العلم ، بخلاف الجهل ؛ فإن ذلك مع القول بالتماثل ممتنع.

كيف ويلزم عليه اعتقاد الكفرة المصممين على معتقداتهم ، الداعين إليها مع موافقته أنه (١) ليس بعلم (٢).

وأما نحن فنقول :

إذا تمّ النّظر الصحيح ، وحصل عند الناظر العلم بالمقدمات الصادقة ، وترتيبها المفضى إلى لزوم المطلوب ؛ فإنّا نعلم بالضّرورة أن اللازم عنه علم ، وليس بجهل ولا غيره ، وإذا كان النظر غير صحيح ؛ فلا نجد ذلك أصلا.

__________________

(١) في ب (له أنه).

(٢) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

١٤٩

الفصل الرابع

في كيفية لزوم العلم بالمنظور فيه عن النظر الصحيح

ولا خلاف عند القائلين بالنظر في لزوم العلم بالمنظور فيه عن النّظر الصحيح (١) غير أن منهم من قال : النّظر الصّحيح (٢) موجب للعلم (٢) بالمنظور فيه

وهو خطأ ؛ فإن الموجب لا بدّ وأن يكون متحققا مع الموجب. والنّظر مضاد للعلم بالمنظور فيه ، (٣) كما عرف في قاعدة العلم (٣) ، فلا يكون معه ؛ فلا يكون موجبا له.

وإن فسّر معنى الإيجاب : بما لا يفتقر فيه إلى الوجود مع الوجود ؛ فحاصل النزاع معه في العبارة.

وقالت المعتزلة : (٤) النظر مولّد للعلم بالمنظور فيه. ومنعوا أن يكون تذكّر النظر مولدا له ؛ إذ التذكّر قد يقع بطريق الضّرورة من غير كسب بفعل الله ـ تعالى ـ ، فلو كان التذكّر مولدا للعلم بالمنظور فيه ؛ لكان العلم به من فعل فاعل السبب وهو التذكر.

ويلزم من ذلك ارتفاع التكليف بالمعارف النظرية ؛ إذ هو تكليف بفعل الغير ، وهو قبيح على أصولهم. بخلاف النظر ؛ فإنّه مقدور للناظر.

وطريق (٥) الرد عليهم يأتى في إبطال التولد إن شاء الله ـ تعالى ـ (٦)

ثم ما ذكروه في امتناع تولد العلم بالمنظور فيه عن تذكّر النّظر ؛ يوجب امتناع حصول العلم بالمنظور فيه عن تذكر النظر ؛ لأنه لو حصل العلم به : فإما أن يكون متولدا عنه ، أو لا يكون متولدا عنه. والتولد لا يقولون به.

وإن لم يكن متولدا : فإما أن يكون واقعا ضروريا ، أو مكتسبا :

فإن كان الأول : فالتكليف به يكون ممتنعا ؛ وهو ممتنع على أصولهم.

__________________

(١) انظر الإرشاد ص ٦ ، ٧ وشرح الطوالع ص ٣١ ، ٣٢ وشرح المواقف ص ١٠٧ ـ ١١٠ وشرح المقاصد ص ٢٧ ـ ٣١.

(٢) في ب (يوجب العلم) والقائلون بالإيجاب هم الفلاسفة.

(٣) ساقط من ب انظر ل ١٥ / أ.

(٤) انظر المغنى ١٢ / ٧٧ للقاضى عبد الجبار.

(٥) في ب (بطريق).

(٦) انظر ل ٢٧٣ / أو ما بعدها.

١٥٠

وإن كان مكتسبا : فيلزمهم جواز وقوع العلم / المكتسب من غير سابقة نظر ولا تذكر نظر ، إذ لا نظر وتذكر النظر عديم الأثر ؛ ولم يقولوا به.

فالحق ما اختاره أصحابنا : من أن النظر الصحيح يتضمن العلم بالمنظور فيه على ما سبق تفسيره في قاعدة العلم (١).

__________________

(١) راجع ما سبق ل ١٥ / ب وما بعدها.

١٥١

الفصل الخامس

في أن النّظر الفاسد لا يتضمّن الجهل (١)

والنظر الفاسد : وهو ما لم يعلم (٢) فيه وجه (٢) دلالة الدليل على المدلول ـ على ما حققناه (٣) ـ لا يتضمّن الجهل : وهو اعتقاد (٤) الشيء على خلاف ما هو عليه.

وقال بعض الفقهاء (٥) : النّظر في الشبهة مع عدم العلم بوجه دلالة الدليل يتضمن الجهل.

وربما أحتج على ذلك بأنّ من اعتقد أن العالم قديم ، وأنّ كل قديم واجب الوجود لذاته. فإن هذا النظر ـ مع فساده ـ يتضمن اعتقاد أن العالم واجب الوجود لذاته : أى يلازمه عند نفي الآفات ، وأضداد الاعتقاد : كما في النظر الصحيح. وإن كان جهلا ـ وهو غلط ـ فإنّ النظر الفاسد ، وإن لازمه الجهل على ما قيل ، فلا يلزم أن يكون النظر الفاسد يتضمنه ؛ إذ المراد بتضمن النظر للمطلوب : أن يكون الدليل المنظور فيه مع المطلوب على صفتين في ذاتيهما ، لا يتصوّر معهما الانفكاك بينهما ، مع انتفاء أضداد المطلوب ـ كما حققناه ـ وهذا هو الّذي نفيناه عن النظر الفاسد ، لا مطلق اللزوم وهو كذلك.

وبيانه : أن الشبهة المنظور فيها ، ليس لها لذاتها صفة ولا وجه يلازمه المطلوب ، بل الملازمة بينها وبين المطلوب ترجع إلى اعتقاد الناظر وجود صفة في الشبهة يلازمها المطلوب ، وهو مخطئ فيه. بخلاف الدليل ، فإنه لصفة ذاته على وجه يلازم النظر فيه العلم بالمطلوب.

__________________

(١) انظر الإرشاد ص ٦ ، ٧ والشامل للجوينى ص ٩٩ والمغنى ١٢ / ١٠٤ للقاضى عبد الجبار والمحصل ص ٢٩ للرازى وشرح المواقف ص ١٢٦ ـ ١٢٨ للجرجانى وشرح الطوالع للأصفهانى ص ٣١ ، ٣٢ وشرح المقاصد ص ٣١ للتفتازانى.

(٢) في ب (منه وجود).

(٣) انظر ل ١٦ / أ.

(٤) في ب (المعتقد).

(٥) انظر الشامل ص ٩٩ للجوينى.

١٥٢

وبيانه أن الشبهة ليس لها صفة ، ولا وجه يكون مناطا للملازمة عند النظر. ولهذا فإنه على تقدير ظهور الغلط في كنه وجه الدّلالة لا ينفى الدّلالة ، ولو كانت الدّلالة لوصف ذاتى في الشبهة ، لما انتفت الدلالة ، ولكان إحاطة المعصومين عن الخطأ ـ كالأنبياء عليهم‌السلام ـ بها عند النظر فيها ، أولى.

وحيث لم يحصل لهم الجهل بالنظر في الشبهة : دلّ على عدم وجه الدلالة فيها ؛ بل (١) ولكان البارى ـ تعالى ـ عالما (١) بها ، وما دلت عليه من الجهل حاصلا له ؛ فيكون جاهلا ، تعالى الله عن ذلك.

والّذي يدل على ذلك أيضا : هو أنّ الشّبهة الواحدة ، قد يختلف اعتقاد الناظرين / فيها بالجهل ، والظّن ، والشّك. ولو كانت جهة الدلالة لوجه ذاتى في الشبهة ؛ لما وقع الاختلاف ، كما في الدّليل.

__________________

(١) في ب (ولكان البارى).

١٥٣

الفصل السادس

فيما قيل (١) من أنّ النّظر ينقسم إلى خفي ، وجلى (١)

وقد ذهب بعضهم (٢) إلى أنّ : مراتب النّظر الصّحيح متفاوتة ، ومنقسمة إلى (٣) الخفي والجلى ، محتجا على ذلك (٣) بما تجده من سرعة بعض النظار إلى إدراك مقصده ، وبعد غيره ، وافتقار البعض إلى بحث (٤) أشدّ من بحث الآخر ، وذلك مختلف باختلاف المطلوب في قرب الإدراك وبعده. حتى إن النّظر في مسألة افتقار الممكن إلى محدث (٥) أقرب وأجلى من النظر في مسألة حدوث العالم ، وغيرها من المسائل الغامضة الدقيقة. وإطلاق العقلاء ، وأهل التحقيق ، شائع ذائع بقولهم : هذا نظر جلى ، وهذا خفي ؛ وهو بعيد عن التحقيق ، فإنّ النظر بحث يطلب به البيان ، وهو مضاد للبيان ، على ما تقدم في القاعدة الأولى (٦) ، وما يضاد البيان ؛ لا يكون موصوفا به ، وما لا يكون موصوفا بالبيان لا يقال : منه ما هو جلى ، وخفي ؛ إذ الجلاء ، والخفاء من صفات البيان. وسرعة بعض النظار في إدراك مقصده ، وبعد الآخر ؛ ليس بسبب تفاوت النظر في الجلاء والخفاء ؛ بل إنّما ذلك بسبب استناد النظر إلى الضّروريات وقلّة الوسائط المستندة إليها وكثرتها ، وطول الزمان وقصره ، أو بسبب التفاوت في كلال القريحة ، والقوى الدراكة في البحث عن وجه دلالة الدليل.

وبالنظر إلى الاحتمال الأول : كان قرب حصول بعض المطلوبات دون البعض. وعليه يجب حمل الإطلاق بانقسام النظر إلى الجلى ، والخفي.

أما أن يكون أحد النظرين أبين في نفسه من النّظر الآخر ؛ فلا.

وإن أطلق الجلاء والخفاء باعتبار ما حققناه ؛ فالمنازعة في اللفظ دون المعنى.

__________________

(١) في ب (إن النظر ينقسم إلى جلى ، وخفي). انظر طوالع الأنوار ص ٣١ ، ٣٢.

(٢) وقد وضح إمام الحرمين هذا البعض بأنهم بعض المنتمين إلى الأصوليين ، وأسهب في الرد عليهم في الشامل ص ١٠١ ـ ١٠٥ وما هنا قد يكون مختصرا لما أورده إمام الحرمين في الشامل.

(٣) في ب (الجلى والخفي محتجا إلى ذلك).

(٤) في ب (أبحاث).

(٥) في ب (المحدث).

(٦) انظر ل ١٥ / أ.

١٥٤

الفصل السابع

في وجوب النظر (١)

أجمع أكثر أصحابنا ، والمعتزلة ، وكثير من أهل الحق من المسلمين ، (٢) على أن النظر (٢) المؤدى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ واجب.

غير أن مدرك وجوبه عندنا : الشرع. خلافا للمعتزلة في قولهم : إن مدرك وجوبه : العقل ، دون الشرع.

وقد احتج أصحابنا على وجوبه من جهة الشرع بمسلكين :

المسلك الأول : التمسك / بظواهر النّصوص الدّالة على وجوب النظر.

منها قوله ـ تعالى ـ : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٣).

ومنها قوله ـ تعالى ـ : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (٤).

أمر بالنظر ، والأمر ظاهر في الوجوب.

وأيضا : لما نزل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٥) ، قال النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكّر (٦) فيها» تواعد بترك الفكر والنظر فيها ؛ وهو دليل الوجوب. إلى غير ذلك من الأدلّة. وموضع معرفته : أن صيغة افعل : للأمر ، وأنّ الأمر للوجوب ؛ فلا يفي بأصول الفقه. وعلى كل تقدير ؛ فهى غير خارجة عن الحجج الظاهرية ، والأدلة الظنية.

__________________

(١) انظر المغنى ج ١٢ ص ٣٤٧ ـ ٥٣٣ وشرح الأصول الخمسة ص ٦٦ ـ ٧٠ والمحيط بالتكليف ص ٢٦ ـ ٣٢ للقاضى عبد الجبار. وانظر أصول الدين ص ٣١ ـ ٣٢ للبغدادى. والشامل ص ١١٥ ، ١٢٠ والإرشاد ص ٨ ـ ١١ للجوينى والمحصّل ص ٢٨ للرازى. وشرح الطوالع للأصفهانى ص ٣٣ ـ ٣٥ ثم قارن بشرح المواقف ص ١١١ ـ ١٢٣ للجرجانى وشرح المقاصد ص ٣٣ للتفتازانى.

(٢) في ب (ان اللفظ).

(٣) سورة يونس ١٠ / ١٠١.

(٤) سورة الروم ٣٠ / ٥٠.

(٥) سورة آل عمران ٣ / ١٩٠.

(٦) روى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلى ، فآتاه بلال يؤذنه بالصلاة فرآه يبكى. فقال : يا رسول الله : أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال : يا بلال : أفلا أكون عبدا شكورا. ولقد أنزل الله عليّ الليلة آية : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ.) ثم قال : «ويل لمن قرأها ، ولم يتفكر فيها» [تفسير القرطبى ٤ / ٣١٠].

١٥٥

المسلك الثانى : هو أنهم قالوا : أجمعت الأمة (١) من المسلمين على وجوب معرفة الله ـ تعالى ـ ؛ ووجوب معرفة الله ـ تعالى ـ لا يتم إلا بالنظر ـ إذ هو غير بديهى ـ وكل ما لا يتم الواجب إلا به ؛ فهو واجب ؛ فالنظر واجب (٢).

وهذا هو المعتمد (٣) عند جمهور الأصحاب ، وترد عليه إشكالات :

الأول : أن وجوب المعرفة متوقف على إمكان المعرفة ؛ وهى غير ممكنة ؛ لأنها لو كانت ممكنة : فإما (٤) أن تكون ضرورية ، أو نظرية.

والأول : محال. فإنه لو خلى الإنسان ، ودواعى نفسه من مبدأ نشوه (٥) من غير نظر ؛ لم يجد من نفسه [العلم (٦) بذلك أصلا] (٦) ؛ وليس الضرورى كذلك.

والثانى : فمتوقف على إمكان إفضاء النظر إلى العلم ؛ وهو ممتنع كما (٧) سبق في إنكار (٧) النظر.

سلمنا إمكان المعرفة ؛ ولكن لا نسلم إمكان وجوبها شرعا ؛ فإن الإيجاب الشرعى ؛ إنما يكون بإيجاب الله ـ تعالى ـ وإيجابه بأمره.

وهو : إما أن يكون أمرا للعارف بالله ـ تعالى ـ ، أو لغيره.

الأول : محال ؛ لما فيه من الأمر بتحصيل الحاصل.

والثانى : محال ؛ لأن معرفة أمره متوقّفة على معرفته في نفسه ؛ فإن من لا يعرف الآمر ؛ لا يعرف أمره.

فإذن إيجابه يتوقف على معرفته ، ومعرفته تتوقف على معرفة إيجابه ؛ فيكون دورا.

سلمنا إمكان وجوب المعرفة شرعا ؛ ولكن لا نسلم الوقوع.

__________________

(١) عن مستند الإجماع وبيان حقيقته ، وما يتعلق به من المسائل. انظر الإحكام للآمدى ص ١٤٧ ـ ٢٠٩ ومنتهى السئول في علم الأصول ـ له أيضا ص ٤٩ ـ ٦٧. وما ورد في غاية المرام ص ٣٦٤ ـ ٣٩٠.

(٢) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٣) في ب (المعنى المعتمد عليه).

(٤) في ب (لم يخل إما).

(٥) في ب (النشو).

(٦) في أ (بذلك العلم أصلا).

(٧) في ب (لما سبق في إمكان). انظر ل ١٩ / أ.

١٥٦

قولكم : الأمة مجمعة على ذلك. لا نسلم تصور انعقاد الإجماع ؛ فإن الأمة مع كثرتها ، واختلاف دواعيها ، مما يمتنع عادة اتفاقهم على شيء واحد. كما يمتنع اتفاقهم على أكل طعام واحد في يوم واحد.

سلمنا (١) تصور انعقاد الإجماع ؛ ولكن لا نسلم كونه حجة (١) ، وبيانه من / وجهين:

الأول : أن كل واحد من آحاد الإجماع يتصور عليه الخطأ بتقدير انفراده ، فإذا (٢) انضم قول المخطئ إلى المخطئ الآخر ؛ لا يصير بذلك صوابا ، ولا حجة.

[الثانى] (٣) : سلمنا الإصابة في إجماعهم ؛ ولكن متى يجب على المجتهد اتباع الإجماع؟

إذا كان مصيبا في اجتهاده ، أو إذا لم يكن.

الأول : ممنوع ؛ فإنه ليس ترك أحد الصوابين (٤) ، واتباع الآخر أولى من العكس. والثانى : فيوجب إمكان تطرق الخطأ إلى كل واحد من آحاد الإجماع ، ويخرج عن كونه حجة كما سلف.

سلمنا أن الإجماع حجة ؛ ولكن لا نسلم وقوعه فيما نحن فيه. وبيانه من جهة الإجمال ، والتفصيل.

أما الإجمال : فهو أن الإجماع لا يتم إلا باتفاق جميع أهل الحل والعقد في عصر من الأعصار. ويحتمل أنّ واحدا منهم كان في بلاد الكفار ، وفي موضع لا يبلغه حكم هذه الواقعة ، ولا هو مجتهد فيها. ومع تطرق هذا الاحتمال ؛ فلا إجماع.

وأما التفصيل : فمن وجهين :

الأول : هو أن كثيرا من المسلمين ، وأهل الحق. قد ذهبوا إلى أن جميع العلوم تقع ضرورية غير مقدورة للعباد ، ولا مكتسبة لهم. وما يكون وقوعه ضروريا ، لا يكون واجبا ـ وكل من اعتقدها ضرورية ، اعتقد أنها غير واجبة ؛ ومع هذه المخالفة ؛ فلا إجماع.

__________________

(١) من أول (سلمنا تصور ...) ساقط من ب.

(٢) في ب (فإن).

(٣) ساقط من أ.

(٤) في ب (القولين).

١٥٧

الوجه الثانى : هو أنّا نعلم أنه ما من عصر من الأعصار من زمن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والصحابة (١) إلى زمننا هذا. إلا وفيه العوام ، ومن لا علم له بالله ـ تعالى ـ وذاته وصفاته على ما يليق [به] (٢) عن بديهة ، ولا نظر ؛ لعدم أهلية النظر والاستدلال في حقهم وهم أكثر الخلق في كل عصر ؛ بل غاية الموجود في حقهم مجرد الإقرار باللسان ، والتقليد المحض الّذي لا يقين فيه. ومع ذلك فالنبى ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والصحابة والأئمة من كل عصر حاكمون بإسلامهم قاضون بإيمانهم ، مقرون لهم على ذلك ؛ بل وقد كانوا يقرون من يعلم بالضرورة عدم اعتقاد المسائل الغامضة في حقه ؛ كدقائق مسائل الصفات ، وغيرها [مما لا خطور لها] (٣) بذهنه. فضلا عن كونه معتقدا لها.

ولو كانت المعرفة بالله ـ تعالى ـ واجبة شرعا ؛ لما جاز من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ والصحابة والأئمة ، الإقرار على تركها ، وإهمال التوصّل إلى تحصيلها ، وإن (٤) سمى مسم الاعتقاد (٤) التقليدى علما ؛ فلا منازعة معه / في غير التسمية.

سلمنا وقوع الإجماع على وجوب معرفة الله ـ تعالى ـ ولكن لا نسلم صحة إفضاء النظر إلى وجوبه ؛ فضلا عن كونه متوقفا عليه. وبيانه ما سبق من إنكار النظر (٥).

سلمنا صحة إفضاء النظر إليه ، ولكن (٦) لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله ـ تعالى ـ إلا النظر ، والاستدلال ؛ بل امكن حصولها بطريق آخر :

إما بأن يخلق الله ـ تعالى ـ للمكلف العلم بذلك من غير واسطة. وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه : كالمؤيد بالمعجزات القاطعة.

__________________

(١) في ب (وأصحابه).

(٢) ساقط من أ.

(٣) الموجود في أ (ما لا خطور لها) ، ب (مما لا خطور له).

(٤) في ب (فان سمى مسم للاعتقاد).

(٥) انظر ل ١٩ / أوما بعدها.

(٦) نقل ابن تيمية ما ذكره الآمدي ـ في مسألة وجوب النظر ـ لما ذكر حجة الخصم «إنا لا نسلم أنه لا طريق» إلى قوله «ولا تعلم ولا تعليم» في كتابه (درء تعارض العقل والنقل ٧ / ٣٥٦) ثم ذكر جواب الآمدي على الخصوم ، وأيده واستشهد به في ص ٣٥٧. راجع ما سيأتى في هامش ل ٢٨ / أ.

١٥٨

وإما بطريق السلوك والرياضة ، وتصفية النفس وتكميل جوهرها ، حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية عالمة بها ، مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى دليل ، ولا تعلم ، ولا تعليم. على ما سيأتى تحقيقه في النبوات (١).

سلمنا أنه لا طريق إلى معرفة الله ـ تعالى ـ إلا بالنظر ؛ ولكن لا نسلم أن ما لا يتم الواجب إلا به ؛ فهو واجب.

ويدل عليه أنه لا تحقق للمعرفة دون وجود الدليل المنصوب عليها ، وانتفاء الأضداد المانعة منها ، وأن يكون العارف بها موجودا ، حيا ، عاقلا. وليس شيء من ذلك واجبا ، لعدم القدرة عليه.

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على وجوب النّظر ؛ لكن معنا ما يدل على أنه ليس واجبا.

وبيانه من أربعة أوجه.

الأول : أنه لم ينقل عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ولا عن الصحابة. الخوض في النظر والاستدلال في مسائل الكلام ، وتفاصيلها. ولو خاضوا في ذلك ؛ لنقل عنهم : كما نقل عنهم الخوض والبحث في المسائل الفقهية على اختلاف أصنافها ، ولو كان النظر المؤدى إلى ذلك واجبا ؛ كان الصحابة والتابعون ، أولى بالمحافظة عليه ؛ فحيث لم ينقل عنهم ذلك ؛ دلّ على أنه غير واجب.

الثانى : إنكار النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على البحث في هذه المسائل والنظر فيها ؛ حيث أنكر على الصحابة وقد رآهم يتكلمون في القدر وقال : «إنّما هلك من كان قبلكم ؛ لخوضهم في هذا (٢)» وقال أيضا : «عليكم بدين العجائز (٣)». وهو الكف عن النظر. إلى غير ذلك ، وتابعه على ذلك : الصحابة ، والتابعون ، والأئمة المجتهدون. والأخبار المأثورة عنهم في ذلك أكثر من أن تحصى.

__________________

(١) انظر الجزء الثانى من الأبكار ١٢٨ / أوما بعدها.

(٢) الموجود بهذا اللفظ. «إنما هلك من كان قبلكم لسؤالهم أنبياءهم واختلافهم عليهم ، ولن يؤمن أحد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره» عن عمرو رضى الله عنه. المعجم الكبير للطبرانى.

(٣) «عليكم بدين العجائز» قال السخاوى : لا أصل له بهذا اللفظ. وورد بمعناه أحاديث لا تخلو عن ضعف. [انظر الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة. المعروف بالموضوعات الكبرى للملا على القارى. ط المكتب الإسلامى ط ٢ سنة ١٩٨٦ ص ٢٤٨] وانظر ما ذكره الآمدي عنه في ل ٢٩ / أ.

١٥٩

الثالث : هو أن الأمر بالنظر وإيجابه إيجاب لما لا يتم النظر إلا به ، ولا يتم / النظر في معرفة الله ـ تعالى ـ إلا مع عدم المعرفة ؛ لأن النظر مضاد للعلم بالمنظور فيه ؛ فلا يجامعه. فإيجاب النظر المؤدى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ ؛ يكون إيجابا لما لا يتم إلا به : وهو عدم المعرفة ؛ وذلك محال.

الرابع : هو أن وجوب النّظر : إما أن يكون معلوما بالضرورة ، أو بالنظر.

لا جائز أن يقال بالأول ؛ لما سلف في العلم بالمعرفة.

وإن قيل بالثانى ؛ فلا معنى لايجاب النّظر ؛ إذ للموجب عليه أن يقول : لا أعرف وجوب النظر ، حتى أنظر ، ولا أنظر حتى أعرف وجوب النظر ؛ وهو دور [ممتنع (١)].

سلمنا أن النّظر واجب ؛ ولكن لا نسلم صحّة انحصار مدرك الوجوب في الشّرع ؛ فإن ذلك مما يفضى إلى إفحام الرسل ، وسقوط حجج الأنبياء عليهم‌السلام ؛ وذلك لأن الرسول ، إذا ادّعى النبوة ، وأظهر المعجزة ، ودعا إلى النّظر فيها لقصد الاستدلال على صدقه ؛ فللمدعو أن يقول : لا أنظر حتى يجب على النظر ، ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع ، واستقرار الشرع موقوف على النظر في المعجزة ؛ وهو ممتنع من ثلاثة أوجه :

الأول : أنه يلزم منه الدّور ؛ حيث توقف النظر على استقرار الشرع ، [وتوقف استقرار الشرع (٢)] على النظر.

الثانى : أنّ النّظر إذا توقف على استقرار الشّرع ، واستقرار الشرع متوقف على النظر ؛ فيكون النظر متوقفا على نفسه.

الثالث : أنه إذا توقف النظر على استقرار الشّرع ، فهو متوقف على ما لو (٣) عرف ؛ لاستغنى به عن النظر ؛ وهو دافع للنظر. (٤)

__________________

(١) ساقط من أ.

(٢) ساقط من أ.

(٣) ساقط من ب.

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

١٦٠