أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]

أبكار الأفكار في أصول الدّين - ج ١

المؤلف:

أبي الحسن علي بن محمد بن سالم الثعلبي [ سيف الدين الآمدي ]


المحقق: د. أحمد محمد المهدي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب والوثائق القوميّة
المطبعة: مطبعة دار الكتب والوثائق القوميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 977-18-0315-8
الصفحات: ٥٥٢

وأما مضادته للظّن : لأن الظّن ترجيح أحد المتقابلين على الآخر في النفس ، ولا ترجيح مع الشّك.

وأمّا الظّن : فلا يضاد النّظر لتحصيل العلم الجازم ، ولا الجهل البسيط ، ويضاد باقى أضداد العلم.

أما الجهل المركب : فلتفاوتهما في الجزم.

وأما الشّك : فلتفاوتهما في الترجيح.

وأما النّوم ، والغفلة ، والموت ؛ فظاهر.

وأما النّظر : فلا يضاد الجهل البسيط ، ولا الشّك ، ولا الظّن ، ويضاد ما عدا ذلك من أضداد العلم.

وأما النّوم والغفلة : فمضادان لجميع أضداد العلم ، ولغيرها من القدرة والإرادة (١) سوى الجهل البسيط (١) ؛ فهما أعم في المضادة مما تقدّم ذكره.

وأما الموت : فمضاد لجميع أضداد العلم أيضا ، ومضاد لكلّ صفة من شرطها الحياة ، فمضادته أعم من كل الأضداد.

__________________

(١) ساقط من ب.

١٢١
١٢٢

«القاعدة الثانية»

في النّظر وما يتعلق به

وتشتمل على ثمانية فصول :

الأول : في حقيقة النّظر.

الثانى : في شرائط النّظر.

الثالث : في أن النّظر الصحيح يفضى إلى العلم ، وإثباته على منكريه.

الرابع : في كيفية لزوم العلم بالمنظور فيه عن النّظر الصّحيح.

الخامس : في أن النّظر الفاسد لا يتضمّن الجهل.

السادس : فيما قيل من أن النّظر ينقسم إلى الجلىّ ، والخفيّ.

السابع : في أن النّظر الصّحيح المؤدى إلى معرفة الله ـ تعالى ـ واجب.

الثامن : في أول واجب على المكلف.

١٢٣
١٢٤

الفصل الأول

في حقيقة النّظر (١)

والنظر في وضع اللغة : قد يطلق بمعنى الانتظار ، والرؤية ، والرأفة ، والمقابلة ، والتفكر ، والاعتبار. كما يأتى تحقيقه في مسألة الرّوية إن شاء الله ـ تعالى (٢).

وأما في اصطلاح المتكلّمين : فالنّظر موضوع لبعض مسمّياته في اللغة : وهو التفكر والاعتبار ؛ فالمعنى واحد. وإن كان اللفظ مختلفا.

وأقرب ما قيل فيه من العبارات : ما قاله القاضى أبو بكر : من أن النظر : هو الفكر الّذي يطلب به من قام به علما ، أو غلبة ظن.

وقوله : هو الّذي يطلب به من قام به علما ، أو غلبة ظن. شرح لمعنى الفكر ؛ فإنه لما قال : النظر هو الفكر. كأنّ سائلا سأل وقال : فما الفكر؟

فقال : هو الّذي يطلب به من قام به علما ، / أو غلبة ظن. وقد قصد بقوله : يطلب به : الاحتراز عن سائر الصّفات المشروطة بالحياة ، وعن الحياة ؛ فإنه لو قال : هو الّذي يطلب من قام به علما ، أو غلبة ظنّ. ولم يقل به ؛ لانتقض بسائر هذه الصفات ؛ فإنّها قائمة بطالب العلم ، أو الظّن ، وليست فكرا.

وبقوله : علما ، أو غلبة ظنّ ، تعميم القاطع ، والظّنى.

ويرد عليه إشكالات أربعة :

الأول : أنه إذا كان النّظر ، هو الفكر. وذلك الفكر : هو ما يطلب به العلم ، أو الظّن ؛ فالنّظر : يطلب به العلم ، أو الظّن.

والظّن المطلوب بالنّظر ، ينقسم إلى : ما المظنون فيه على وفق الظّن ؛ فيكون حقا. وإلى ما هو على خلافه ؛ فيكون جهلا ؛ ويلزم من ذلك أن يكون الجهل مطلوبا بالنظر ؛ وهو ممتنع.

__________________

(١) قارن بالمغنى للقاضى عبد الجبار ج ١٢ ص ٤ وما بعدها وشرح الأصول الخمسة له أيضا ص ٤٤ وما بعدها ، وانظر الإرشاد للجوينى ص ٦ والمحصل للرازى ص ٢٣ والإحكام للآمدى ١ / ٨ ، ٩ ومنتهى السئول له أيضا ١ / ٤ وشرح المواقف ص ٨٢ ـ ٩٠ للجرجانى وشرح المقاصد ص ٢٣ ـ ٢٥ للتفتازانى.

(٢) انظر ل ١٢٣ / أ.

١٢٥

الثانى : أن المطلوب إنّما هو تحديد النّظر مطلقا. ومن المعلوم أن ما يطلب به العلم غير ما يطلب به الظّن ؛ (١) لاستحالة الجمع بين (١) كون الشيء الواحد موصلا إلى العلم ، والظّن معا ؛ وهما داخلان تحت جنس النظر. وتحديد الشيء بذكر أقسامه ، وعد أنواعه ممتنع.

الثالث : أنه إذا كان الظن (٢) مطلوبا بالنّظر ؛ فلا يخفى أنّ المفهوم من غلبة الظّن يزيد على المفهوم من أصل الظّن.

وعند ذلك : فيخرج عن الحدّ. النظر الّذي يطلب به أصل الظّن دون العلم ، وغلبة الظن ؛ فلا يكون الحدّ جامعا.

الرابع : أنّ في الحدّ زيادة لا حاجة إليها. فإنه لو قال : النظر هو الّذي يطلب به من قام به علما ، أو غلبة ظنّ. (٣) لقد كان كافيا عن (٣) إدراج الفكر فيه. (٤)

ويمكن أن يجاب عن الأول : بأن النظر (٥) من حيث هو ظن. أعم من كونه (٦) مخالفا للمظنون ، أو موافقا (٦) له. وهو إنما يطلب بالنظر ، من جهة كونه ظنا. وليس بجهل ، إلا من جهة كونه مخالفا للمظنون.

وعن الثانى : أن الحدّ المذكور إنّما هو رسمى. والمذكور فيه إذا كان من الخواص المميزة له عما سواه ؛ كان صحيحا. والمحدود وإن كان هو النظر من جهة كونه نظرا ، وأنه مما يستحيل أن يطلب به العلم ، والظن معا ؛ فلا يخفى أن من خواصه انقسامه إلى : ما يطلب به العلم. وإلى ما يطلب به الظن ؛ فيكون صحيحا.

وعن الثالث : أن طلب العلم بالنظر ، وطلب الظن به ، وغلبة الظن من خواص النظر ، ولا يخفى أنّ الاقتصار على ذكر بعض الخواص ، دون البعض ؛ غير موجب لفساد الرسم.

__________________

(١) في ب (والاستحالة).

(٢) في ب (النظر).

(٣) في ب (لكان كافيا في).

(٤) زائد في ب (قال شيخنا رحمه‌الله).

(٥) في ب (الظن).

(٦) في ب (موافقا للمظنون ، أو مخالفا له).

١٢٦

وعن الرابع : أنّ ذكر الفكر في الحدّ. لم يكن لدخوله في الحد ؛ بل لبيان اتحاد مدلول النظر والفكر. والحد (١) هو قوله : ما يطلب به من قام به (٢) علما ، أو غلبة / ظن (٣).

وأما نحن فالذى نختاره أن نقول :

النظر عبارة عن تصرف العقل في الأمور السابقة المناسبة للمطلوبات (٤) بتأليف وترتيب ؛ لتحصيل (٥) ما ليس حاصلا في العقل (٦).

وهو منقسم : إلى ما علم فيه وجه دلالة الدليل على المطلوب ؛ فيكون صحيحا. وإلى ما ليس كذلك ؛ فيكون فاسدا.

وما ذكرناه من الحد فيعم القسمين ، ويعم الموصل إلى التّصور والتصديق ، والقاطع والظّنى على اختلاف أقسامه.

__________________

(١) في ب (فالحد).

(٢) ساقط من ب.

(٣) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٤) في ب (للمطلوب).

(٥) في ب (بتحصيل).

(٦) انظر الإحكام ١ / ٩ حيث يعرف النظر قائلا (النّظر عبارة عن التصرّف بالعقل في الأمور السّابقة بالعلم والظن ، للمناسبة للمطلوب بتأليف خاص ؛ قصدا لتحصيل ما ليس حاصلا في العقل) ، وانظر أيضا منتهى السئول ١ / ٤.

١٢٧

الفصل الثانى

في شرائط النّظر (١)

وشرائط النّظر :

منها ما يعم النظر الصّحيح ، والفاسد.

ومنها ما يخصّ الصّحيح دون الفاسد.

فأما الشّروط العامة : فالعقل ، وانتفاء أضداد النظر (٢).

أما اشتراط العقل : فلتعذر النظر دونه. وتحقيق ذلك يتوقف على بيان معنى العقل ، وحقيقته ؛ فنقول : اعلم أنّ اسم العقل : قد يطلق باعتبارات متعددة في الاصطلاحات :

فأما في اصطلاح الفلاسفة (٣) :

فقد يطلق بإزاء الماهية المجرّدة عن المادة وعلائقها. ولم يتحاشوا من إطلاق اسم العقل ـ بهذا الاعتبار ـ على البارى ـ تعالى ـ وعلى المعلول الصادر عنه ، والمبادئ المجرّدة عن المواد ، وعلائقها الصّادرة عنه ، وبتوسطه. على ما يأتى شرحه وإبطاله (٤). وقد يطلق على القوة التى بها التّوصل من المعلومات الكلّية إلى المجهولات المناسبة لها ؛ ويسمى : العقل النظرى.

وعلى القوة التى يتصرف بها بالفكرة (٥) والرّوية فيما يجب أن يفعل من الأمور الجزئية ؛ ويسمى : العقل العملى.

وعلى القوة التى بها استعداد الطّفل لإدراك الكتابة : فإن لم يكن قد حصل له العلم بمفردات الكتابة ؛ قيل لها العقل الهيولانى. وإن حصل له العلم بذلك : فإن كان يفتقر عند التركيب إلى الفكرة والرّوية ؛ قيل لها العقل بالملكة. وإن لم يفتقر إلى الفكرة والرّوية ، قيل (٦) : العقل بالفعل.

وعلى القوة التى بها إدراك المعلوم من غير تعلّم. ويقال لها العقل القدسى (٧).

__________________

(١) انظر شرح المواقف للجرجانى ص ١١٠ ـ ١١١ ، ١٢٨ ـ ١٣٠ وشرح المقاصد للتفتازانى ص ٢٣ ـ ٢٥.

(٢) في ب (العلم).

(٣) انظر الإشارات لابن سينا ٢ / ٣٥٩ ـ ٣٧٧.

(٤) انظر الفرع الثانى في الرد على الفلاسفة الإلهيين ل ٢١٨ وما بعدها.

(٥) في ب (بالفكر).

(٦) في ب (قيل لها).

(٧) انظر المواقف للإيجي ص ١٤٥ ـ المقصد العاشر : في مراتب العقل.

١٢٨

وأما في اصطلاح أهل العرف :

فقد يطلق العقل على صحة الفطرة ، وعلى كثرة التجربة ، وعلى الهيئة المستحسنة للإنسان في حركاته وسكناته ؛ لكن المقصود هاهنا : إنما هو تعريف العقل الّذي هو مناط التكليف.

وقد اختلفت عبارات المتكلمين فيه :

فقال بعض المعتزلة : العقل ما يعرف به قبح القبيح ، وحسن الحسن. بناء على فاسد أصولهم ، إن الحسن ، والقبح وصف ذاتى (١) يمكن تعقله لا من جهة / الشارع ؛ وسيأتى إبطاله (٢).

ومنهم من قال بناء على هذا الأصل أيضا : العقل هو ما يميز بين خير الخيرين ، وشر الشرين.

وفيه احتراز عن البهائم ؛ فإنها وإن ميزت بين الخير والشر ؛ فلا تميز بين خير الخيرين ، وشر الشرين.

وقالت الخوارج (٣) : العقل ما عقل به عن الله أمره ، ونهيه.

وفيه تعريف العقل بالتعقل ؛ وهو أخفى من العقل. كيف ويخرج عنه العاقل الّذي لم تبلغه دعوة الشارع بأمر ، ولا نهى ، أو بلغه. غير أنه ما يعقل أمره ، ولا نهيه ؛ فإنه عاقل ، وله عقل ؛ مع أنه ما عقل أمر الله ، ولا نهيه.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) في ب (بطلانه) انظر المسألة الأولى : في التحسين والتقبيح ل ١٧٥ / أوما بعدها.

(٣) الخوارج : هم الذين خرجوا على الإمام على رضى الله عنه حين رضى التحكيم في خلافه مع معاوية ، وهم عشرون فرقة يجمعها القول بتكفير على ، وعثمان ، وأصحاب الجمل ، والحكمين ، وكل من رضى بما صنع الحكمان. كما يجمعون على وجوب الخروج على الإمام الجائر ، وقد قاموا بحروب كثيرة بسبب هذا المبدأ ، كما أن معظمهم يقول بتكفير مرتكب الكبيرة. أما عن فرقهم وآرائهم بالتفصيل فانظر (مقالات الإسلاميين ١ / ١٦٧ ـ ٢١٢ والفرق بين الفرق ص ٢٤ ، ٧٢ ـ ١١٣ والملل والنحل ١ / ١١٤ ـ ١٣٨).

١٢٩

وأما أصحابنا :

فمنهم من قال : العقل هو العلم ـ ولهذا يقال لمن (١) علم شيئا : عقله ، ومن عقل شيئا : علمه (١). وهو اختيار أبى إسحاق الأسفرايينى.

وهو غير سديد ؛ فإنه إن أراد به : كل علم ؛ فيلزم منه : أن لا يكون عاقلا من [فاته (٢)] بعض العلوم ، مع كونه محصلا لما عداه. وإن أراد بعض العلوم ؛ فالتعريف غير حاصل ؛ لعدم التمييز. وما ذكر (٣) من الاستدلال ؛ فغير صحيح ؛ لجواز أن يكون العلم مغايرا للعقل ؛ وهما متلازمان.

ومنهم من قال : إنّه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة. وهو إن أراد بالغريزة العلم : فيلزمه ما لزم الأول. وإن أراد [بها] (٤) غير العلم : فقد لا نسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة ؛ وهو مما تعسر الدلالة عليه.

والّذي اختاره القاضى : (٥) أنّ العقل بعض العلوم الضّرورية : كالعلم باستحالة اجتماع الضّدين ، وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات ، وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديما ، أو حادثا ، (٦) وأن الجبال المعهودة لنا ثابتة ، والبحار غير غائرة (٦) ، ونحوه.

وقد احتج إمام الحرمين (٧) على صحة اختيار القاضى ، وإبطال ما عداه ، بطريقة جامعة مانعة ـ في زعمه ـ فقال : العقل موجود ؛ فإنه لو كان نفيا محضا ؛ لما اختص به ذات دون ذات. وإن كان موجودا : فإما أن يكون قديما ، أو حادثا.

__________________

(١) في ب (لمن عقل شيئا علمه ، ومن علم شيئا عقله).

(٢) في أ (قام به).

(٣) في ب (وما ذكره).

(٤) في أ (به).

(٥) انظر الإرشاد للجوينى ص ١٥.

(٦) من أول (وأن الجبال ...) ساقط من ب.

(٧) انظر الإرشاد للجوينى ص ١٥ ، ١٦.

١٣٠

لا جائز أن يكون قديما : إذ لا قديم غير الله ـ تعالى ـ وصفاته ، كما هو معلوم في مسألة حدوث العالم (١). ولا وجود للإله ولا لشيء من صفاته في شيء من المحدثات ؛ فلا يوجب كون شيء منها عاقلا ؛ فإن حكم الذات لا يكون ثابتا للذات من غير ما قام بها ، كما يأتى أيضا.

وعلى هذا فقد بطل قول الحشوية (٢) بكون العقل قديما.

وإن كان حادثا : فهو إما جوهر ، وإما عرض.

لا جائز أن يكون جوهرا : إذ الجواهر متجانسة كما يأتى أيضا (٣). فلو كان بعض الجواهر عقلا ؛ لكان كل جوهر عقلا ؛ لأن ما ثبت لأحد المثلين يكون ثابتا للآخر.

وأيضا : فإنه لو كان العقل جوهرا ؛ لما عاد بسببه إلى العاقل به حكم ؛ وهو كونه عاقلا ؛ إذ الأحكام إنما تثبت للجواهر / لا بها.

وإن كان عرضا : فلا يمكن أن يكون عبارة عن مجموع الأعراض ؛ فإنه قد يتصف بالعقل من لم يكن متصفا بجميع الأعراض.

فإذا كان هو بعض الأعراض : فإما أن يكون من العلوم ، أو من غيرها.

لا جائز أن يكون من غير العلوم : وإلا لصح أن يتصف بالعقل من لم يعلم شيئا. كيف وأنه ما من شيء من أجناس الأعراض إلا ويمكن تقدير وجود العقل مع عدمه ما عدا العلوم وما يصححها. وإذا كان من العلوم : فلا جائز أن يكون عبارة عن كل العلوم ؛ لاتصاف الإنسان بالعقل مع تعريه عن معظمها.

وإذا كان بعض العلوم : فإما أن يكون ضروريا. أو نظريا. لا جائز أن يكون نظريا : إذ العقل شرط في العلم النّظرى ، فلو كان العقل نظريا ؛ لكان دورا.

وأيضا : فإنه قد يتّصف بالعقل من لم ينظر ، ولم يستدل أصلا.

__________________

(١) انظر ل ٨٢ / ب وما بعدها من الجزء الثانى.

(٢) الحشوية : هم طائفة من المحدثين بالغوا في إجراء الآيات والأحاديث التى يفهم منها التشبيه على ظاهرها ، فوقعوا في التجسيم حتى أثبتوا لله ـ تعالى ـ جسما ، وأبعاضا. وقالوا إن طريق معرفة الله ـ تعالى ـ هو السمع لا العقل. (مناهج الأدلة ص ٣١ ، ٣٢ الملل والنحل ١ / ١٠٣ ـ ١١٣).

(٣) انظر ل ٥ / ب من الجزء الثانى.

١٣١

وإذا كان ضروريا : فلا يمكن أن يكون (١) هو مجموع العلوم الضّرورية (١) ؛ فإن العلم بالمحسوسات من جملتها ، وقد يتّصف بالعقل (٢) من لم يكن مدركا لشيء منها (٢).

فإذن هو بعض العلوم الضّرورية : وهى كل علم ضرورى يمتنع خلوّ الموصوف بالعقل منها (٣) ، ولا يشاركه فيها من ليس بعاقل : كالعلم بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ، وأن الموجود لا يخرج عن كونه قديما ، أو حادثا ، ونحوه.

وعلى هذا ما أمكن الاتصاف بالعقل دونه ، ولو في حالة ما ؛ فلا مدخل له في مسمى العقل : كالعلوم العادية ، ونحوها ؛ لجواز تغيرها (٤).

وقد يتجه على هذه الحجّة تشكيكات :

الأول : ما المانع من أن يكون مسمى العقل عدما.

قوله : لأنّ النفي المحض لا اختصاص له بذات دون ذات. إنما يصحّ في النّفي المطلق ، وما المانع من كونه عدما مضافا؟ لكن يمكن أن يستدل على كونه وجوديا بحجة أخرى. وهى أنه لو كان العقل عدما ، فسلبه يكون ثبوتيا ؛ لأنّ سلب السّلب إثبات. ولو كان كذلك ؛ لما صحّ سلب العقل عن الأعدام المحضة ؛ لما فيه من اتّصاف العدم بالثبوت ؛ وهو محال.

الثانى : وإن سلم كونه وجوديا ، فما المانع من قدمه ، كما ذهب إليه الحشوية؟ قوله : لأنه لا قديم إلا الله ـ تعالى ـ وصفاته ، ولا وجود لشيء من ذلك في شيء من الحوادث ؛ مسلم ؛ ولكن لم قال : إنه (٥) لا يكون عاقلا به؟

قوله : لأن كون العاقل عاقلا ؛ حكم للذّات ، وحكم الذّات ، لا يكون ثابتا (٦) لها من غير ما قام بها ؛ يلزم عليه العلم ؛ فإنه لا يوجب (٧) حكما لما تعلق به ، وهو كونه معلوما ، وإن لم يكن ذلك العلم قائما به ؛ بل بالعالم كما في / الجمادات (٨).

__________________

(١) في ب (مجموع العلوم ضرورية)

(٢) في ب (من لم يدرك شيئا منها).

(٣) ساقط من ب.

(٤) زائد في ب (قال شيخنا أبو الحسن الآمدي).

(٥) ساقط من ب.

(٦) ساقط من ب.

(٧) في ب (يوجب).

(٨) في ب (الكمالات).

١٣٢

ويمكن أن يجاب عنه : بأن المعلومية ليست حكما ثابتا للمعلوم وإلا قامت الصفة الإثباتية بالمستحيل ، ضرورة كونه معلوما ؛ وهو (١) محال (١).

الثالث : وإن كان حادثا ، فما المانع من كونه جوهرا؟

قوله : لأنّ الجواهر متجانسة ؛ غير مسلم. وما يذكره في تحقيق التجانس ؛ فسيأتى إبطاله أيضا في موضعه (٢).

الرابع : وإن قدر أنه عرض ؛ فما المانع من كونه من غير العلوم؟

قوله : لو كان من غير العلوم ؛ لصحّ أن يتصف بالعقل من لم يحصل له العلم بشيء ؛ مسلم ؛ ولكن لا نسلم : أنه لا يصحّ اتصافه بالعقل ، وإنما لا يصحّ اتصافه بالعقل أن لو كان العقل هو العلم ؛ فعدم اتصافه بالعقل ، يتوقف على كون العقل هو العلم ، وكون العقل هو العلم يتوقف على عدم اتصافه بالعقل ؛ فيكون دورا.

قوله : إنه ما من شيء من أجناس الأعراض إلا ويمكن تقدير وجود العقل مع عدمه ما عدا العلوم ، وما يصححها ، ممنوع ؛ فإنه من الجائز أن يكون مسمى العقل عرضا من الأعراض ـ وهو ملازم للعلم الّذي يوصف الإنسان بكونه عاقلا عنده ، ولا يكون هو نفس العلم ، ولا سبيل إلى تقدير انتفاء ذلك اللازم مع بقاء العقل.

الخامس : هو أن كون العاقل عاقلا حكم واحد : مثل كون القادر قادرا ، وكون العالم عالما ؛ فلو كان العقل عبارة عن بعض العلوم الضرورية ـ وهى ما ذكرتموه من العلوم ـ ؛ فيلزم (٣) أن يكون الحكم الواحد معللا بعلل متعددة ؛ وهو محال كما يأتى.

فإن قيل : العقل (٤) ليس مجموع ما ذكرناه (٤) من العلوم الضّرورية ؛ بل العلم بكونه عالما بها ، والعلم بكونه عالما بها (٥) ؛ علم ضرورى وهو واحد ؛ فلا يكون فيه تعليل الحكم الواحد بعلل متعدّدة.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) انظر ما سيأتى ل ٥ / ب من الجزء الثانى وما بعدها.

(٣) في ب (للزم).

(٤) في ب (العلم يسمى بجميع ما ذكرنا).

(٥) ساقط من ب.

١٣٣

قلنا : فالعلم بكونه عالما بكل واحد من تلك العلوم إن كان غير كل واحد منها ؛ فيفضى إلى التسلسل الممتنع ؛ وهو أن يكون العلم بالعلم بتلك الأمور : زائدا عليه ، وهلم جرا ؛ وهو محال. وإن كان العلم بالعلم بتلك العلوم الضرورية : هو (١) نفس العلم بها ؛ فيلزم من تعددها تعدده ؛ ويعود الإشكال.

السادس : أنه إذا كان العقل بعض العلوم الضرورية كما ذكرتموه ؛ فلا يخلو : إما أن يمكن تحديده ، أو لا يمكن تحديده.

فإن أمكن تحديده : فقولكم هو بعض العلوم الضّرورية ليس (٢) بحد ؛ لعدم التعين والحصر. وما لا يكون حدّا ؛ لا يكون معرفا لما كان من قبيل التصوّرات.

وإن لم يمكن تحديده : فالعلم (٣) به غير بديهى ؛ فلا يكون معلوما. وبهذا يندفع قول من قال : ليس من شرط كل معلوم أن يحد ؛ فإن ذلك إنما يكون فيما سلّم كونه / معلوما ، وأما ما ليس بمعلوم ؛ فلا بد في معرفته من التّحديد.

السابع : أنه إذا كان العقل عبارة عن العلوم الضّرورية التى لا خلو للنفس عنها ؛ فيلزم منه أن لا يقع التفاوت بين العقلاء في مراتب العقل. وأن لا يفرق بين العامى الأبله ، ومن هو في غاية الجودة من الذكاء ، وشدة القريحة ؛ لعدم اختلاف الناس فيما ذكرتموه من الضّروريات ؛ ولا يخفى ما فيه من المكابرة ، والعناد.

ويمكن أن يجاب عنه : بأن القضاء بالتفاوت في العقل بين النّاس ليس باعتبار العقل الّذي هو مناط التكليف : وهو ما نحن بصدد تعريفه. وإنّما ذلك باعتبارات ، وهى ما (٤) قدمنا ذكرها (٤) من صحّة الفطرة ، أو التجربة ، أو حسن الحالة (٥) ، أو العلم.

وعند ذلك : فقد يمكن تحديده بما لا بأس به ،

وهو أن العقل عبارة عن : العلوم الضّرورية التى لا خلوّ لنفس الإنسان عنها بعد كمال آلة (٦) الإدراك ، ولا يشاركه فيها شيء من الحيوانات.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) في ب (هو ليس).

(٣) في ب (مما لا يمكن تحديده والعلم).

(٤) في ب (ما قدمناه).

(٥) في ب (الإحالة).

(٦) في ب (ذلك).

١٣٤

ولا يخفى أنّ العقل بهذا الاعتبار موجود ، وأنه لا بدّ للنّظر منه ؛ قطعا للتسلسل الممتنع.

وأما اشتراط انتفاء أضداد النّظر : فلأنّ وجود كلّ واحد من الضدين ، متوقف على انتفاء الضّد الآخر ؛ لاستحالة الجمع بينهما.

وأضداد النظر : العلم بالمنظور فيه ، واعتقاده على خلاف (١) ما هو عليه ، والنّوم ، والغفلة ، والموت ، على ما سبق تحقيقه في قاعدة العلم (٢).

وأما الشروط الخاصة بالنّظر الصّحيح :

فأن يكون النّظر في الدليل دون الشبهة ، وفي الوجه الّذي منه يدل الدليل دون غيره.

وإن اختلّ شيء من ذلك ؛ فالنّظر يكون فاسدا.

__________________

(١) ساقط من ب.

(٢) انظر ل ١٥ / أ.

١٣٥

الفصل الثالث

في أن النّظر الصّحيح يفضى إلى العلم بالمنظور فيه ،

وإثباته على منكريه (١)

وإذا كان النّظر الصّحيح في دلالة قطعيّة ، ولم يعقبه ضدّ من أضداد العلم ؛ أفضى إلى العلم بالمنظور فيه. خلافا لبعضهم في قوله : إنّ النّظر لا يفضى إلى العلم (٢) ، وما يفضى إلى العلم الّذي ليس بديهيا ، غير خارج عن الحواس وأخبار التّواتر. وربما خالف بعضهم في الخبر المتواتر أيضا.

والحجة لنا من ثلاثة أوجه :

الحجة الأولى : [وهى] (٣) أنّ النّظر على ما حققناه : عبارة عن تصرّف العقل في المعلومات ؛ أو المظنونات السابقة المناسبة للمطلوب بترتيب بعضها إلى بعض ، توسّلا بذلك إلى تحصيل ما ليس حاصلا في العقل.

وعند ذلك : فلا يخفى أنّ من حصل عنده العلم بالمواد الصادقة ، والعلم بما اقترن بها من الصّورة الصّحيحة ، والتأليف الخاص الّذي يتولى بيانه / المنطقى ؛ علم بالضرورة لزوم المطلوب عنها ، وكونه صحيحا : وذلك كعلمنا بأن الأربعة زوج ، عند علمنا بأنّ الأربعة منقسمة بمتساويين ؛ وأنّ كل منقسم بمتساويين زوج.

الحجة الثانية : أنّا نجد من أنفسنا العلم بأمور كليّة حصلت لنا بعد ما لم تكن ، ولو خلينا على أصل الفطرة من غير طلب لها لم نعلمها ؛ وذلك كالعلم بمعنى النفس ، والعقل ، وغيره. ولا بدّ لها من مدرك يوصل إليها ؛ فإنها غير بديهية ، وليس المدرك لها الحواس ؛ إذ هى غير محسوسة. ولا الخبر المتواتر ؛ فإنه لا يفيد العلم فيما ليس بمحسوس ، والّذي يفيد العلم بها غير هذين المذكورين (٤) هو المعنى بالنظر.

__________________

(١) انظر المغنى ١٢ / ١٢٧ ـ ١٨١ وشرح الأصول الخمسة ص ٦٠ ـ ٧٥ للقاضى عبد الجبار ، والإرشاد ص ٦ ، ٧ ، والشامل ص ١١٠ وبحر الكلام ص ٤ ـ ١٤ للنسفى والمحصل ص ٢٨ وغاية المرام ص ١٨ ـ ٢٠ وشرح الطوالع ص ٢٨ ـ ٣٣ للأصفهانى ، وشرح المواقف ص ٩٠ ـ ١٠٧ وشرح المقاصد ص ٢٥ ـ ٣١ للتفتازانى.

(٢) في ب (العلم بالمنظور فيه).

(٣) في أ (هو).

(٤) في ب (المدركين).

١٣٦

وأيضا : فإنّا (١) نجد من أنفسنا العلم بوجود الإله ـ تعالى ـ وما يجوز عليه ، وما لا يجوز بعد ما لم يكن حاصلا لنا ، وليس ذلك من الأمور البديهية ، ولا من الأمور التى تعلم بالحس ، ولا التواتر ؛ إذ هى غير محسوسة ؛ فلم يبق إلا النظر.

الحجة الثالثة : وهى مختصة بإبطال مذهب الخصم هو أنا نقول : القول بنفي إفضاء النظر (٢) إلى العلم : إمّا أن يكون معلوما ، أو غير معلوم.

فإن كان معلوما : فإما أن يكون بديهيا ، أو غير بديهى.

لا جائز أن يكون بديهيا : فإنه لو خلى الإنسان ودواعى نفسه من مبدأ نشوّه مع قطع النّظر عن النّظر ؛ لم يجد من نفسه الجزم بذلك أصلا ، وليس البديهى كذلك. ولأن البديهى لا يخالف فيه أكثر العقلاء ، وأكثر (٣) العقلاء (٣) ـ وهم القائلون : بإفضاء النظر إلى العلم ـ مخالفون فيه.

وإن كان غير بديهى : فلا بد له من مدرك. وليس مدركه الحواس ؛ إذ هو غير محسوس ، ولا الخبر المتواتر ؛ لذلك أيضا ؛ فلم يبق إلا النظر.

وإن كان غير معلوم : فالجزم بنفيه متعذر.

وللخصوم على ذلك شبه :

الشبهة الأولى : هو أن المعلومات السابقة المناسبة التى يتصرف العقل فيها بالترتيب المفضى إلى المطلوب ؛ لا بدّ وأن تكون بديهية ، أو مستندة إلى البديهى ؛ قطعا للتسلسل ، والدور الممتنع ، والبديهيات لا حاصل لها. وبيانه من خمسة أوجه :

الأول : أنه لا يخلو : إما أن تكون الفطرة الإنسانية كافية في حصولها من غير احتياج إلى أمر آخر ، أو لا بد لها من أمر آخر. لا جائز أن يقال بالأول : وإلا لكانت البديهيات حاصلة لنا في مبدأ النشو ، وحصول علم للإنسان (٤) وهو لا يشعر به محال.

__________________

(١) في ب (لا نجد).

(٢) في ب (العلم).

(٣) ساقط من ب.

(٤) في ب (الإنسان).

١٣٧

وإن كان الثانى : فهى غير بديهية ؛ إذ لا معنى للبديهى ؛ إلا ما لا يتوقف (١) العقل في تعقله على (١) أمر خارج عنه.

الثانى : أنّ البديهيات من المعقولات ، والمعقولات فرع المحسوسات ، ومنتزعة منها ؛ ولهذا قيل : إنّ من فقد / حسا ؛ فقد فقد علما. وقد ذهب جمع من العقلاء : إلى أن المحسوسات غير يقينية ، فما هو متفرع عليها ؛ أولى أن لا يكون يقينيا.

وبيان أنها غير يقينيّة : ما نشاهده من القطرة النازلة ؛ (٢) خطا مستقيما (٢) ، والنّار في رأس العود الدائر بسرعة ؛ دائرة متصلة ، والصغير كبيرا : كالنار البعيدة في الظّلمة ، والكبير صغيرا : كالمرئيّات من بعد ، والمتحرك ساكنا : كالكواكب ، والساكن متحركا : كالأشياء التى يراها راكب السفينة على الشطوط ، والمتحرك إلى جهة ، وهو متحرك إلى خلافها : كحركة القمر في الغيم ، والمعدوم موجودا : كالمرئى في المرايا من الصّور ، والألوان المختلفة : كقوس قزح ، وما يشاهده النّائم في منامه ، وصاحب الرسّام من الصّور التى لا وجود لها. إلى غير ذلك.

وهذا كله مما يدل على غلط المحس ، فما هو متفرع عليه ، كيف يكون يقينيا؟

الثالث : هو أن أجلى البديهيّات : الحكم بأن لا واسطة بين النفي والإثبات ، وهو غير يقينى ؛ فما دونه أولى أن لا يكون يقينيا. وبيانه : أن التصديق بهذه القضية ؛ متوقّف على تصوّر مفرداتها ، وهما النفي والإثبات ، والنّفي غير بديهى التّصور ؛ ولذلك وقع الاختلاف بين العقلاء في تصوّره ؛ فما هو متفرّع عليه ؛ أولى أن لا يكون بديهيا.

الرابع : هو أنا قد نجد أنفسنا جازمة بقضايا على نحو جزمنا بالبديهيات ، والجزم بها غير جائز : كجزمنا بأنّ ما شاهدناه من ماء البحر باق بحاله مع جواز إعدامه ، أو قلبه دما عبيطا (٣) ، أو غير ذلك ، وكجزمنا بأن ما شاهدناه مرة بعد مرة : أنّه عين المرئى أولا. مع جواز إعدام الأول وخلق مثله ، وكالذى يجزم قضيته بناء على دليلها جزما لا يرتاب

__________________

(١) في ب (الأمر في تعقله إلى).

(٢) في ب (مستشما).

(٣) (دم عبيط) طرىّ خالص لا خلط فيه (المصباح المنير : باب العين فصل الباء).

١٣٨

فيه ، وقد يظهر له الغلط في ذلك حتى أنّه ينتقل عن اعتقاد شيء إلى ضدّه ، ويجزم به ، مع استحالة الجمع (١) بين الجزمين.

وإذا جاز ذلك في غير البديهيات ـ مع كونها جازمة ـ كالجزم في البديهيّات ؛ فكذلك في البديهيّات.

الخامس : (٢) هو أنّ كلّ صاحب مذهب قد يدّعى البديهة بأمور يكذبه المخالفون له فيها ؛ وذلك قادح في البديهيّات : كمن يدعى العلم البديهى بحسن الشكر ، وقبح الكفران ، وكون العبد خالقا لأفعال / نفسه ، وأنّ كل (٣) ما لا يكون متحيزا ولا حالا (٣) في المتحيز فليس بموجود. وأن الأجسام باقية ، وأن إعادة المعدوم ممتنعة ، إلى غير ذلك.

الشبهة الثانية : أنّ المطلوب بالنّظر : إمّا أن يكون معلوما من كل وجه ، أو مجهولا من كل وجه ، أو معلوما من وجه ، ومجهولا من وجه.

فإن كان معلوما من كل وجه : فلا حاجة إلى طلبه ؛ فإنّ تحصيل الحاصل محال.

وإن كان مجهولا من كل وجه : فلا يقع في النفس طلبه. وبتقدير الطلب ، قد لا يعلم أنّ ما ظفر به هو مطلوبه ، أم لا؟

وإن كان الثالث : فإما أن يكون مطلوبا من جهة ما علم ؛ أو من جهة ما جهل ، وكل واحد من الأمرين ممتنع ؛ لما سبق.

الشبهة الثالثة : هو أنّ القول بصحة النظر : إما أن يكون معلوما ، أو مجهولا (٤).

فإن كان معلوما : فإما أن يكون بديهيا ، أو نظريا ؛ لاستحالة كونه محسوسا.

لا جائز أن يكون بديهيا : وإلا لما خالف فيه جمع كثير من العقلاء. وإن كان نظريا : فيلزم منه توقف صحة النّظر على صحّة النّظر ؛ لأنّ العلم بصحة الطريق المفضى إلى المطلوب ؛ متقدّم على العلم بصحة المطلوب ؛ وفيه توقف (٥) العلم بصحّة النّظر على العلم بصحّة النّظر ، وتقدّم الشّيء على نفسه ؛ وهو محال.

__________________

(١) في ب (مع).

(٢) ساقط من ب.

(٣) في ب (ما يكون متحيزا أو حالا).

(٤) في ب (أو غير معلوم).

(٥) في ب (تقدم).

١٣٩

وإن كان مجهولا : فلا سبيل إلى (١) الجزم به (١).

الشبهة الرابعة : أنّ العلم بلزوم المطلوب عن النظر : إما بديهى ، أو (٢) نظرى.

وليس بديهيا ؛ لوقوع الخلاف فيه.

وإن كان نظريا : فيفتقر إلى نظر آخر ، والكلام فيه ؛ كالكلام في الأول ؛ ويلزم منه التسلسل ، أو الدور ؛ وهو ممتنع.

الشبهة الخامسة : هو أنّ كل واحد من أرباب الأديان ، والمقالات المختلفة جازم بما أدّى إليه نظره ، معتقد له اعتقادا لا يتمارى فيه ، ولا يشككه فيه مشكّك. مع استحالة الجمع في الصحة ، وليس بعضه أولى بالصحة من البعض ، مع أنّ كل واحد جازم بما ذهب إليه معتقد له.

الشبهة السادسة : أنّا نرى النّاظر قد يؤديه نظره إلى اعتقاد أمر لا يشككه فيه مشكّك برهة من الزّمان ، ثمّ ينتقل عنه بالنّظر إلى اعتقاد مقابله وإبطال معتقده الأوّل ، وتبين فساد النّظر المؤدّى إليه وعند ذلك : فلا نأمن في كلّ نظر يفرض من تبين فساده / ، وظهور إبطاله ؛ وما هذا شأنه ؛ فلا يمكن الجزم بصحته.

الشبهة السابعة : أن ملازمة المطلوب للنّظر : إما واجبة لا يتصور الانفكاك فيها ، أو غير واجبة.

فإن كانت واجبة : فهى اضطرارية ، غير داخلة تحت اختيار النّاظر ، ويلزم من ذلك قبح التكليف بحصول مثل هذه المطلوبات ، وامتناع المدح ، والذّم عليها إيجادا وعدما ؛ واللازم ممتنع باتفاق الأمة.

وإن كانت غير (٣) واجبة : فكل ما ليس واجبا أن يكون فهو : إما ممكن ، أو ممتنع. وعلى كلا التقديرين ؛ فلا يمتنع القول بعدم ملازمة المطلوب للنظر.

__________________

(١) في ب (العلم).

(٢) في ب (وإما نظرى).

(٣) ساقط من ب

١٤٠