الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

ابتداء زيادة النيل بابتداء المطر في حوضه ، وانتهائها بانتهائه وعينت موقع حوض النيل الذي يمده بماء المطر الواقع فيه ، وعينت مساحة الحوض أيضا.

وان المتعرب قد حقق كلامه هذا كون القرآن الكريم من الله علام الغيوب ، فانه لو كان من الناس لأسند خصب مصر الى فيض النيل جريا على ما هو المعروف في تلك القرون التي لم تكتشف فيها مواقع البلاد ، وطبيعيات الأرض وحياض الانهار.

وما ظنك بجرأة المتعرب لو جاء في القرآن الكريم مثل ما جاء في توراته بأنه كان نهر يخرج من عدن ليسقي الجنة وهناك ينقسم فيصير أربعة رءوس ، واسم النهر الثاني جيحون وهو المحيط بجميع ارض كوش ، واسم النهر الثالث حد أقل «أي دجلة» وهو الجاري شرقي آشور ، والنهر الرابع الفرات «تك ٢ ، ١٠٠ ـ ١٥».

أفتراه لا يقول ان جيحون وأرض كوش في افريقيا ، ومبدأ الفرات من ارمينية ، ومبدأ الدجلة من كردستان ومنتهاهما خليج فارس ، فأين هذا وأين عدن ، وأين هذا من العلم بتوقيع البلدان؟

ومن نحو هذا الفصل اعتراض المتكلف والمتعرب على القرآن الكريم إذ سمى صانع العجل لبني اسرائيل «بالسامري» وقد اوضحنا لك حقيقة الحال ومقدار جهلهما في «صفحتي ٣٤ و ١٣٥ من الجزء الأول فراجع.

وقال الله تعالى في أول سورة الاسراء : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ).

فاعترض المتعرب على ذلك «ذ ص ٥١» بأن المسجد الأقصى الذي هو الهيكل السليماني كان قد خرب وانمحت آثاره منذ خمسمائة وخمسين سنة.

قلنا : لا يخفى ان المسجد لا يخرج عن فضيلة المسجدية وشرفها وعنوانها وان صار خربة وانمحت آثاره منذ آلاف من السنين ، وعلى ذلك عمل اليهود والنصارى فانهم يعظمون بيت المقدس بناء على مسجديته السابقة على خرابه .. وأما اعتراضه باعتبار الرواية فساقط لما قدمناه في المقدمة السابعة.

٦١

وقال الله تعالى في سورة النحل ١٥ : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ، ونحوه في سورة الأنبياء ٣٢ ، وسورة لقمان ٩.

فنقل المتكلف «يه ٢ ج ص ٨٤» أقوال بعض المفسرين الظاهرة في دعواهم : ان الجبال بثقلها تمنع الأرض عن ان تتحرك كرتها على الاستدارة ونحوها ، فصار بمقتضى هذه الأقوال يغلط بضلاله القرآن الكريم مدعيا ان الأرض متحركة.

أفتراه لم يشعر بأن ما نقله إنما هو قول بعض المفسرين الذين لا نصيب لهم بشيء من التحقيق ، ولم يفوزوا إلا بكثرة الحفظ ، ولم يكن همهم إلا رسم التفسير من المسموعات بدون تحقيق ، ويكفي في بطلان هذا التفسير ان التضاريس في الكرة والدولاب ادعى لحركتهما على الاستدارة بواسطة ما يصادم التضاريس من القوى ، ثم إذا كانت الكرة على عظم حجمها قابلة للحركة الى فوق او الى اليمين ونحو ذلك.

فهل ترى التضاريس الجزئية التي هي من طبيعتها تمنعها عن الحركة ... ومما يوضح فساد هذا التفسير وانه تقول على القرآن بدون علم ، هو ان الميدان لغة وعرفا ليس من نحو تحرك الكرة على الاستدارة أو الاستقامة ، وإنما هو حركات متضادة الى جهات مختلفة على التتابع بواسطة القاسر العنيف ، كالزلزال والرجيف.

وهب ان القرآن الكريم كلام واحد من الناس ، فهل يحسن ولا يقبح لك ان تعترض عليه بتفسير غيره ، أو إنما يحسن لك ان تأخذ تفسيره من ذات المتكلم أو من الحقائق المنطبقة عليه.

ولكن المتكلف رأى ان الهيئة الجديدة رائجة حتى ان غالب المعاصرين يعدونها زعيمة ببيان الحقائق على ما هي عليه ، ويعدون مخالفتها من الغلط ، فصار يحاول ان يموه على الناس ان فلسفة القرآن الكريم مخالفة لها .. ولما كان القرآن الكريم يصادمه ، والحقائق البينة تجبهه التجأ الى التمويه بقول بعض المفسرين.

٦٢

وهاك دلالة القرآن ، وبيان الحقائق لكي تعلم ان فلسفة القرآن لا يمكن ان تصدر من مثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير الوحي الالهي فاعلم ان الميدان ليس هو الحركة مطلقا ، وإنما هو التزلزل والتزعزع بالحركات المتفاوتة الى جهات مختلفة على التتابع بواسطة القاسر فهو غير الحركة الطبيعية التي تثبتها الهيئة الجديدة للأرض ..

ولكن لما اقتضت الحكمة الالهية ايداع الحرارة المتحركة وأبخرة البحار في جوف الأرض لكي تتولد بسببها المعادن والفلزات ، وتتصعد بها مجاري العيون لعمارة المسكونة ، جعل لها منافذ مرتفعة عن السطح المعمور وفتح فيها بحكمته أفواه البراكين ، ومنافذ الينابيع ، وتعاهد بالمطر ودوام الثلج عليها فتح مسامها ، كل ذلك لكي تتوجه إليها بسبب ارتفاعها وانفتاح منافذها تلك القوى النارية السيارة في جوف الأرض لتنفذ من خلالها بدون ان تصدم بعاديتها شيئا من المعمور ، ولو لا ذلك لاستدام الزلزال في السهل المعمور واستمر الميدان وسلب القرار بسبب ميل القوى النارية الى الخروج من الارض بحدتها العنيفة فيعم الضرر في المعمور وساكنيه بشيوع الزلزال ، فالجبال من اجل هذه الحكمة البالغة هي المانع من شيوع الزلزال في الأرض والحافظة لها من ان تكون مائدة.

ألا ترى القوى النارية مع هذه المنافذ لها في الجبال كيف تزلزل سطح المعمور وتميده إذا اقتضت الحكمة خروجها منه ، بل قد يستتبع خروجها منه الخسف والانفجار الناري والمائي.

ولعل الحكمة في ذلك ارهاب الخلق به لئلا يأمنوا بطش الله فيطغوا ويبغوا ، واشعارهم بالنعمة عليهم بخلق الجبال وحكمتها البديعة في كونها حافظة للمعمور من هذا البلاء العظيم ، كما صرح بذلك القرآن الكريم فأظهر الله حكمته ورحمته وامتن على الناس بحفظهم من ميدان الأرض المزعج المخرب فضلا عن الخسف والانفجار ..

بل قد تساعد الفلسفة والاعتبار على ان نقول : ان الجبال بطبعها موجبة لميل القوى النارية إليها والخروج منها ، وإن كانت صخرية ليس فيها براكين ولا ينابيع.

وقد امتن الله أيضا على عباده بجعل الجبال راسية في مواطنها

٦٣

لاجراء حكمتها ، ودوام النعمة بوجودها ، فلا تزعزعها القوى النارية كما تزعزع سطح الأرض ، ولو لا القوة التي اودعها الله فيها لاقتضى نفوذ القوى النارية منها على الدوام أن يحللها ويزعزعها ويلاشيها ، جلت حكمة الله وعظمت آلاؤه ، وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها.

وقال الله تعالى في سورة الحجر ١٩ وسورة ق ٧ (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) وفي سورة نوح ١٨ (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً ..) والمراد من ذلك انه جل اسمه وعظمت نعمته جعل الأرض ذات ارجاء واسعة ممتدة وسهول منبسطة رحيبة ، فلم يضق رحبها ، ولم تستوعر كلها على ساكنيها بتضاريس الحزون وأسنمة الجبال ، وان مد الأرض وبسطها بهذا المعنى لا ينافي كرويتها التي لا تدرك إلا بدقة الرصد وكلفة البرهان ..

وقد جاء في العهد القديم الباسط الأرض على المياه «مز ١٣٦ ، ٦» باسط الارض «اش ٤٢ ، ٥ و ٤٤ ، ٢٤» هل أدركت عرض الارض اخبرني ان عرفته كله «أي ٣٨ ، ١٨» ، وبعد هذا رأيت أربعة ملائكة واقفين على اربع زوايا الارض «روء ٧ ، ١ و ٢٠ ، ٨» ، وهذا يقتضي كون الأرض مسطحة مربعة ذات زوايا أربع.

وأظن ان هذا الكلام هو الذي دعا جماعة كثيرين من قدماء المسيحيين الى تكفير من

يقول بكروية الارض.

ومع هذا كله يقدم المتكلف «يه ٢ ج ص ٨٤» بقبيح جرأته على القرآن الكريم فيما ذكرنا ، ويعترض عليه بأن مضمونه مناف لكروية الأرض ، وقد عرفت انه ليس فيه شيء من المنافاة ، وان ما في العهدين أولى بالمنافاة ، وليت شعري ان الذي لا يفهم الكلام ولا يدري بما في كتب دينه لما ذا يقتحم مهالك البحث فيقع في فضيحة الجهل فضلا عن ضلال الكفر ولما ذا لم يكتف بالأكل من أرزاق الجمعيات كسائر المبشرين ..

فإن حاول التقرب الى الجمعيات بالتمويه والتلبيس ، فانها لا تجبره على ذلك ، وإنما تتوقع منه ما يرفع ذكرها ، لا ما ينبه الغافلين على جهل المبشرين بكتب دينهم وعدم تماسكهم في امرهم إلا بالتزوير والتمويه.

٦٤

قال الله تعالى شأنه في شأن ذي القرنين في سورة الكهف ٨٤ (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ).

فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ٩١» ، وجعله من الجهل بمبادىء علم الفلك.

«قلت» : لا يخفى ان المغرب أمر مبهم إضافي ، وان لكل ناحية مغربا وهو ما تغيب فيه الشمس عن تلك الناحية ، والمغرب العمومي للمعمور القديم وهو «آسيا وافريقيا واوربا» إنما هو البحر المحيط ، فالشمس لا تغرب عن المعمور المعتد به من هذه القطع الثلاث إلا ويكون تمام غروبها أو بعضه في البحر المحيط.

والآية الكريمة تعرضت لسر الغيب الذي أظهره الاكتشاف بعد قرون عديدة ، وجرى التعبير في الآية عن البحر بالعين مجازا ، كما جرى التعبير في بليغ الكلام عن الفرات بالنطفة «وهي القطرة من الماء ونحوها» وهو من محاسن المجازات في مقامها ، وبوصف هذه العين بكونها حمئة ذات طين قد اشير الى غيب «امريكا» لأنه لا يكون تخصيص هذا البحر ، ووصفه بكونه ذا طين إلا باعتبار الإشارة الى امريكا ، فلا تحسب ان وصف البحر بكونه ذا طين كان باعتبار وجود الطين في قراره أو حافاته وشواطئه ، لأن كل بحر وكل نهر وكل عين لا بد ان يكون في حافاته وقراره طين ، فلا بد أن يكون المراد هو الطين الذي في وسطه.

ومقتضى المناسبة في وصف المحيط العظيم بأن في وسطه طينا لا بد أن يكون المراد منه قطعة امريكا ، ألا ترى ان اقل الأقطار لهذا المحيط يبلغ مائة وثمانين درجة ، كما في ناحية الدرجة السادسة والستين وما قاربها من العرض الشمالي ، فما ظنك بالطين المناسب لوصف هذا البحر به ، أتراه يناسب ان يكون غير امريكا.

«فإن قلت» : إذن فلما ذا عدل عن إيضاح هذه الحقيقة بالصراحة إلى الإشارة إليها بهذه الإشارة وهذه العبارة «قلنا» : ان حكمة الوحي في دعوته إلى الهدى ودين الحق لتقتضي أن لا يلقي على أذهان الناس شيئا يثقل عليها

٦٥

بمخالفته لقطعياتهم الوقتية إلا أن يكون في أمر الدين وتعليم الشريعة ، فإن الدين المدعو إليه أثقل ما يكون على الأهواء والجهالات المألوفة ، فلا يصح في الحكمة أن يلقى أيضا على أذهان الناس صراحة ينكرونها بجهالاتهم مع انها لا يهم أمرها في الدين الذي هو الغرض من الدعوة ، فإن ذلك معثرة في سبيل الهدى وناقض للغرض من الدعوة.

ألا ترى انه قد ذهب قوم في الاعصار القديمة إلى ان الارض كشكل السفينة الطافية على الماء ، وذهب آخرون الى تكفير من يقول بكرويتها ، أفترى يحسن مع ذلك في حكمة الوحي أن يضاد أذهانهم بالصراحة بوجود امريكا ، ألم تسمع ان «كولمبيوس» لما عرض على الدول أفكاره في اكتشاف الطريق البحري من اوربا إلى الصين لم يحتفلوا برأيه إلا بالتسفية ، وإنما أسعفته ملكة اسبانيا من خالص مالها التزاما بوعدها ، فأسعده الجد بالعثور على امريكا من حيث لا يحتسب.

هذا مع أن كروية الأرض المقتضية لتصحيح أفكاره وتصويب مشروعه كانت مقررة مسلمة في ذلك الوقت.

والحاصل ان الحكمة اقتضت للقرآن الكريم أن يشير إلى حقيقة امريكا في البحر المحيط بنحو لا يصادم الجهل ، بل بإشارة يسطع نورها ، ويتضح مرادها عند انكشاف الحقائق للحس في الأعصر التي يترك فيها التقليد للاسلاف في الطبيعيات ، ونسأل الله برحمته ولطفه أن يوفق عباده لترك التقليد في معارف الدين ، وهو القائل جل شأنه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) ، ولك العبرة في حسن هذا المجاز في هذه الإشارة ولطف اسلوبه ومناسباته وجريانه على مقتضى الحكمة في الإشارة الغيبية في ذلك العصر فانه يظهر ذلك كله عند المقايسة بما يذكره الإنجيل الرائج عن قول المسيح في خطاب اليهود انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة ايام اقيمه ، فأنكر اليهود ذلك أشد الإنكار ، والإنجيل يقول : انه قال ذلك عن هيكل جسده ، ولما قام من الأموات تذكر تلاميذه انه قال : هذا «يو ٢ ، ١٩ ـ ٢٢» ، وبقي هذا الكلام مجهولا حتى جعله اليهود باعتبار ظاهره من الذنوب التي تشبثوا بها في حادثة الصليب «مت ٢٦ ، ٦١

٦٦

و ٢٧ ، ٤٠» ، هذا وزعم الإنجيل أيضا ان المسيح خاطب التلاميذ في مقام التعليم المضيق وقته بقوله : تحرزوا من خمير الفريسيين والصدوقيين ، وهو يريد بذلك تعليم الفريسيين والصدوقيين بعدوى اخلاقهم برذيلة الرياء والاخلاق الذميمة ، فنسب إلى المسيح انه أتى في مقام التعليم الديني المضيق بمجاز لا مناسبة له ولا يخطر المراد منه على البال حتى تحير التلاميذ فيه وصاروا يتفكرون ويتحاورون في اوهامهم «انظر مت ١٦ ، ٦ ـ ١٢ ومر ٨ ، ١٥ ـ ٢١» مع ان التعليم الديني هو اولى المقامات بالصراحة والبيان الشافي.

٦٧

الفصل الثالث

في السماوات

قال الله تعالى في سورة المؤمنين ٨٨ : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

وفي سورة الطلاق ١٢ : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ).

فتشبث المتكلف بالهيئة الجديدة لجرأته بالاعتراض على القرآن الكريم في هذا المقام «فانظر يه ٢ ج ص ٢٦».

وان الهيئة الجديدة لو طابقت الواقع لما خالفت القرآن الكريم ، فاعلم ان اصحاب فن الهيئة وجدوا كواكب مرئية بعضها ساكن أو شبيه بالساكن ، وبعضها له حركات على الاستدارة موزونة متناسبة في تكرارها ، فحاولوا ان يجعلوا لتلك المتحركات اوضاعا تناسب تلك الحركات وتنطبق عليها ، ولا تخرج عما عندهم من المقدمات ليجعلوا من ذلك ميزانا لبيان تلك الحركات ومقاديرها وآثارها ، وأحوال تلك الكواكب المتحركة بعضها مع بعض من حيث المحل والقرب والبعد.

فالمتقدمون استخرجوا وضعا للمتحركات مناسبا لتلك الحركات وبنوه على الحدس من مقدمات حسابية وهندسية واستحسانية وملاحظة الكاسف والمنكسف واقتضاء الحركات والتحريك ، وامتناع الخلاء ، والخرق والالتئام في

٦٨

الفلك ، وعدم الفضل في الأفلاك ، ولو أدت بهم المقدمات التي عندهم إلى وضع آخر مناسب لما امتنعوا عنه إذ لم يشاهدوا تلك الأوضاع التي بنوا عليها ، ولا يستندون في ذات الوضع إلى الحس.

والمتأخرون منعوا كثير من مقدمات المتقدمين فتوجهوا بما عندهم من المقدمات والاستعداد إلى استخراج وضع آخر يناسب الحركات المذكورة ولا تحسب ان نظاراتهم دلتهم على الوضع الذي يقولون به ، وإنما أدت بهم إلى توسعة دائرة الاحتمال والتخمين في أحوال ذات الكواكب ، فانظر إلى مقالاتهم ومباحثاتهم في هذا الفن.

نعم استخرجوا بها كواكب خفية ، ومن جملتها ثلاث سيارات سموها «فلكان» و «اورانوس» و «نيطون» فأثبتوا لها ثلاثة افلاك ، ثم انهم بتخمينهم جعلوا الكواكب اكر قائمة بنفسها في الخلاء وإنما الأفلاك عبارة عن دوائر متوهمة من استدارتها في الخلاء ، وجعلوا الشمس هي المركز لأفلاك الكواكب السيارة ، كما جعلوا الأرض من السيارات حول الشمس ، وجعلوا القمر او الأقمار ليست بسيارات مستقلة وإنما هي توابع لسيارات اخر تدور عليها كما تدور بمدارها.

ولا تنفك مقدماتهم فيما ذهبوا إليه عن الحدس والتخمين كما تعرفه من مباحثهم ومباحثاتهم في ذلك ، مع ان من مقدماتهم ما هو قابل للمنع ، او غير مستلزم للمدعى.

وانا وان منعنا على القدماء حكمهم بامتناع الخلاء فان جوازه لا يستلزم كون الأفلاك عبارة عن دوائر خلائية يفرضها الوهم في مدار السيارات ، بل يجوز ان تكون الأفلاك أجراما شفافة لا تحجب ما وراءها ولطيفة لا لون لها ، ولا تتلون بغيرها ، ويجوز في طبيعتها الخرق والالتئام ، بل ان سعادة التوفيق للاعتقاد بوجود الإله القادر الحكيم مما يوضح فساد القول بامتناع الخرق والالتئام.

والحاصل ان كلا من وضعي الهيئة القديمة الهيئة الجديدة ممكن من حيث انطباق الحركات المحسوسة عليه ، ولكنه يمكن أن يتعداه التحقيق والبحث في

٦٩

المقدمات إلى وضع ثالث ورابع وهكذا ، فلا يحسن الجزم بأحد الوضعين المذكورين بجميع تفاصيله المدونة إلا بالمشاهدة التفصيلية للجزئي والكلي ، او بالتفصيل من صراحة الوحي ، ولكن الحكمة الالهية لم تقتض أن يتولى الوحي بصراحته تفصيل ذلك بجميع أنحائه جزئيا وكليا ، بل مقتضى الحكمة الالهية واللطف في حصول الغرض من الدعوة هو ان لا يبين حقيقة ذلك على الدقة والتفصيل لئلا يتمرد على الدين الذي هو الغرض من سولت له أوهامه وقطعيات وقته خلاف ما يذكره الوحي ، فيكون بيان غير المهم معثرة في سبيل المهم.

ولا يسع المقام للمناقشة في المقدمات التي استندوا إليها في كل من الهيئتين ، ومع هذا كله فالقرآن الكريم لم يصرح بخلافهما لئلا يجترئ المغرور باحداهما على الاعتراض بجهله وإلحاده على كلام الله ، فتكون الصراحة معثرة في سبيل الايمان.

وان قوله تعالى : (سَبْعَ سَماواتٍ) و (السَّماواتُ السَّبْعُ) لا يمتنع انطباقه على كل واحدة من الهيئتين أعني القديمة والجديدة ، فيمكن أن يقال على الهيئة القديمة ان السموات السبع هي افلاك السيارات السبع ، وان فلك الثوابت هو الكرسي في قوله تعالى في سورة البقرة ٢٥٦ : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وان الفلك الأطلس المدير على ما زعموا هو العرش في قوله تعالى (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).

ويمكن ان يقال على الهيئة الجديدة ان السموات السبع هي افلاك خمس من السيارات مع فلكي الأرض و «فلكان» والعرش والكرسي هما فلكا نبطون واورانوس ، وأما الشمس فهي مركز الأفلاك ، والقمر تابع للأرض وفلكه جزء من فلكها ، هذا كله في مقابلة من اشرب في قلبه إحدى الهيئتين ، والله أعلم بحقيقة الحال.

وأما الأرض فلم تذكر في القرآن الكريم إلا مفردة ، نعم قال جل اسمه (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ، وهو يحتمل وجوها ثلاثة :

الأول : ان يراد مثلهن في الطبقات باعتبار اختلاف طبقات الأرض في

٧٠

بدائع الحكم والآثار.

الثاني : ان يراد مثلهن في عدد القطع والمواضع المعتد بها «كآسيا» و «اوربا» و «افريقيا» و «امريكا الشمالية» و «امريكا الجنوبية» ، و «استراليا» ، ، وارض لم تكتشف بعد ، او لاشتها الحوادث البحرية بالكلية ، أو بقي منها ما لا يعتد به ، أو هي ما تحت القطب الجنوبي ، على ما يظن البعض.

الثالث : ان يراد بالمماثل للسماوات هو غير ارضنا بل ما هو من نوعها فيراد منه ذات السيارات على الهيئة الجديدة ، أو ما هو مسكون من الكواكب ولم يظهر للاكتشاف ، والله أعلم بحقيقته.

وبما ذكرناه يظهر لك غلط المعترض على القرآن الكريم بالهيئة.

ولئن صح الاعتراض بالهيئة فان العهدين الرائجين هما المخالفان للهيئة القديمة والجديدة.

فقد جاء في التوراة وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلا بين مياه ومياه فعمل الله الجلد وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد ، وكان كذلك ودعا الله الجلد سماء «١ تك ١ ، ٦ ـ ٩» ، وبهذا الكلام صرحت بمخالفة الهيئة القديمة حيث حكمت بأن السموات فوقها مياه ، وانها فاصلة بين المياه التي فوقها والمياه التي تحتها.

وكذا قول المزامير يا أيتها المياه التي فوق السموات «مز ١٤٨ ، ٤» وخالفت الهيئة الجديدة حيث قالت في أصل العبراني بدل الجلد «رقيع» وهو الشيء المبسوط «انظر في الأصل العبراني مز ١٣٦ ، ٦ ، واش ٤٢ ، ٥ و ٤٤ ، ٢٤».

وعلى ذلك جاء قوله الذي ينشر السموات كسرادق أو يبسطها كخيمة للسكن «اش ٤٠ ، ٢٢» وعلى ذلك أيضا جاء ان السموات تلتف كدرج «اش ٣٤ ، ٤» وكالدخان تضمحل «اش ٥١ ، ٦» وتنحل ملتهبة «٢ بط ٣ ، ١٢» وهي والأرض تبيد وكلها كثوب تبلى كرداء تتغير «مز ١٠٢ ، ٢٥ و ٢٦» ، وانها انفتحت «مت ٣ ، ١٦» وانشقت «مر ١ ، ١٠» وانفلقت كدرج ملتف «روء

٧١

١٦ ، ١٤» وهذه السموات المذكورة هي التي جعلوها في الهيئة الجديدة عبارة عن المداراة الموهومة للسيارات في الخلاء ، فلا يصح وصفها بالأوصاف المذكورة في العهدين.

وجاء في المزامير ان الشمس مثل الختن «اي العريس» الخارج من حجلته ، تبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيها «مز ١٩ ، ٥ و ٦» وهذا مخالف للهيئة القديمة فان المقرر عند اصحابها ان الشمس ومدارها في السماء الرابعة لا في اقصى السموات ولا إلى أقاصيها ، ومخالف للهيئة الجديدة أيضا لأن الشمس عند اصحابها مركز للسماوات لا تدور وليس مدارها إلى أقصى السموات بل السيارات تدور عليها بخلاف قول العهد القديم الشمس تشرق والشمس تغرب وتسرع إلى موضعها حيث تشرق «جا ١ ، ٥».

«فإن قلت» ان المتكلف يزعم ان الهيئة الجديدة مبنية للحقائق الواقعية وزعيمة بالصواب.

ويزعم ان كتب العهدين الرائجين كلام الله السميع العليم ، فما ذا يصنع أذن في هذه الاختلافات الصريحة؟ «قلت» : إنما يتحير في ذلك من يتكلم بميزان ، وأما من لا يبالي فلا يعسر عليه ان يقول وعلى كل حال فلا مخالفة ، كما لهج في مبحث النسخ بقوله : وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.

٧٢

الفصل الرابع

في دفع اوهام الاعتراض على قصص القرآن

الكريم وتاريخه

«صدر ، وتمهيد»

اعلم أن أكثر اعتراضات المتكلف في هذا المقام يتشبث فيها بخلو العهدين الرائجين مما يذكره القرآن الكريم أو بمخالفته لهما ، فاقتضى ذلك أن نذكرك قبل الشروع في رد شططه ، ونعيد على ذهنك إجمالا ما ذكرناه في المقدمة الخامسة عن كتب العهد القديم من ارتدادات بني اسرائيل ويهوذا وملوكهم في الشرك حتى ان مملكة بني اسرائيل كادت ان تتمحض للوثنية ، ومملكة يهوذا يكاد نور التوحيد فيهم أن يتلاشى ، ثم تبدو منه ذبالة تخفق بها الأهواء. ومن جملة شئونهم في ذلك ان هدموا بيت المقدس وصيروا كل أقداسه للبعليم «اصنام» ثم عادوا بعد ترميمه فأغلقوا أبوابه وأبواب الرواق وأطفئوا السرج ولم يوقدوا بخورا ولم يصعدوا محرقة ، وجعلوا الآلهة الغريبة في بيت المقدس وعكفوا على ضلالات المشركين وعوائدهم القبيحة حتى كان فيهم مأبونون يسميهم العهد القديم «قديسيم ، قديسين» «وهم ذكور ينذرون انفسهم للأوثان لكي يلاط بهم» واستمرت هذه العادة القبيحة تتفاحش وتقل من أيام «رحبعام» ابن «سليمان» «١ مل ١٤ ، ٢٤» الى أيام «يوشيا» حتى جعلوا بيوتهم عند بيت المقدس فهدمها «يوشيا» «٢ مل ٢٣ ، ٧» ، ومضت لبني اسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق ، ولا كاهن معلم ، ولا توراة ، وبيت المقدس بينهم عرضة للنهب والتخريب ، والتنجيس ، وجعل الأوثان فيه حتى إذا مضت ثمان سنين من

٧٣

ملك «يوشيا» وطهر بيت المقدس وأراد ترميمه جاء «حلقيا» الكاهن بكتاب يزعم انه سفر التوراة ، وقد وجده فقرأ فيه «يوشيا» ما لم يكن يعرفه ولا يعهده فطار به فرحا ، واحتفل به هو وبنو اسرائيل احتفالا عظيما إذ سمعوا منه ما لم يكونوا يعرفونه ولا يعهدونه مع ان العادة والاعتبار الصحيح يمنعان ان يكون «حلقيا» وجده في المكان الذي زعم انه وجده فيه ، فمن ذلك الزمان تكون توراة بني اسرائيل هي بنت «حلقيا» المولدة في حجره.

ثم تمادى بنو اسرائيل بعد ذلك في تقلباتهم في الشرك إلى أن سباهم «بخت نصر» الى بابل ، فقضى ذلك عليهم ان أثكلهم توراة «حلقيا» أيضا حتى انهم لما رجعوا من السبي بعد دهر طويل فزعوا في اعادة ذكرها وتجديد اسمها الى «عزرا» فصار يقرأ عليهم جميعا ما لا يعرفونه ولا عهد لواحد منهم به ، فلبس اسمها ثوب الوجود بعد العدم أيضا.

وقد ذكرنا هذا كله مفصلا ، وذكرنا مكابرات المتكلف فيه وبينا شططها في الجزء الأول «صحيفة ٥٦ ـ ٦٠».

ونذكرك أيضا بما ذكرناه في المقدمة السادسة من وجوه الخلل ، وخصوص شهادة «ارميا» النبي على بني اسرائيل بتحريف كلام الله وتحويلهم توراة الله الى الكذب بكذب قلم الكتبة واستغاثة «اشعيا» النبي من تحريف اليهود واستعظامه لذلك ، وخصوص ما ذكرناه من تحريف المطابع والتراجم فراجع الجزء الأول وخصوص الصحيفة ٦٨ ـ ٧٠.

ونذكرك أيضا بما مر في متفرقات الكتاب ، مما يمتنع من كتب العهد القديم أن يكون من الوحي الإلهي كما اوضحه البرهان ، ونستلفت نظرك إلى ما يأتي من هذا القبيل.

ونذكرك أيضا بما حكينا في الجزء الأول «صحيفة ٣٢٥» عن بعض المفسرين المدققين في حكمهم بأن قصة «بلعام» المذكورة في سفر العدد «ص ٢٢ ـ ٢٤» هي دخيلة في التوراة ، أي ليست منها وإنما أدخلها عبث الكذب.

ونستلفت نظرك الى ما نقله إظهار الحق في الباب الثاني عن مفسري

٧٤

النصارى في حكمهم بزيادات كثير من فقرات العهدين ، ووجود كثير من السقط والتحريف فراجعه.

نتيجة

ومن هذا كله أو بعضه تحصل لك شهادة قاطعة من ذات العهد القديم ومعاملة متبعيه معه بأن العهد القديم أجنبي عن النسبة إلى الوحي ، بعيد العهد به قد استولى عليه التلفيق ، والخلل ، والتحريف ، والخطأ ، واشتماله على ما لا يعقل ، او يؤول إلى الكفر على وجه لا يترك لعاقل عليه اعتماد ولا يتداركه مغالطة مكابر.

التنبيه المقصود هاهنا

ونزيدك هاهنا على ان ننبهك على امور داخلية في العهد القديم تكشف لبصيرتك حق اليقين ، وهو ان اصله العبراني الرائج إنما هو مأخوذ من نسخة وحيدة لا ثانية لها ، وهي مملوءة بالغلط والسقط ، ولكنهم لا ملجأ لهم سواها ، بل اغتنموا وجودها بعد العدم الكلي تجديدا للاثر الدارس وتعبدوا باتباعها في وضعها ورسمها وغلطها الفاحش ، والامور العرضية الخالية عن الفائدة في وضع الكتابة.

ومع الالتفات الى هذا كله أو بعضه لا يمكن للذهن الصافي من الشوائب أن لا يتيقن بأن الرائج من التوراة العبرانية ليس مأخوذا عن النسخة التي كتبها «موسى» وسلمها للكهنة وشيوخ بني اسرائيل وأمر بوضعها بجانب التابوت «تث ٣١ ، ٩ ، و ٢٤ ، ٢٧».

ولا مما يشابه هذه النسخة ، إذ لا يعقل ان ما كتبه «موسى» أو كتب بمراقبته يشتمل على هذه الأغلاط الفاحشة.

وكذا الكلام في باقي العهد القديم فانه لا يمكن أن تكون كتابات الأنبياء او ما يكتب بمراقبتهم يشتمل على مثل هذه الأغلاط الفاحشة.

بل يحصل لك اليقين بأن بني اسرائيل حينما حرصوا على اتباع هذه

٧٥

النسخة وتعبدوا بصورتها المشوهة لم يكونوا يجدون غيرها ، بل حينما ظفروا بها اغتنموا بها تجديد الاسم لما اندرس من آثار سلفهم فأكرموا وحدتها بالتعبد بصورتها لكي يتداركوا بإفراطهم في الجمود تفريط اسلافهم في التقلب والتلون في الديانة حتى استأثر العدم بكتب الوحي وعادت نسيا منسيا ، ولم يتعرضوا لتلك الأغلاط إلا بالإشارة إلى صحيحها في الحواشي ، وتركوا المتن على سقمه ، ولكن المترجمين اعرضوا عن مراعاة المتن وطابقوا بتراجمهم تصحيح الحواشي ، فطابق أنت بين الأصل العبراني ، والتراجم لكي يتضح لك الحال ولا تغتر وتحسب ان الأصل على ما هو موجود في التراجم.

ولنذكر لك ذلك في موارد :

المورد الأول : ان الحواشي ذكرت نقصان الحرف في الأصل العبراني من العهد القديم في أكثر من ستة وأربعين موضعا منها في خصوص التوراة احد عشر موضعا وأشاروا الى ذلك في الحاشية بذكر الحرف ولفظ «حسر».

المورد الثاني : ذكروا زيادة الحرف غلطا في مائتين وثلاثة عشر موضعا ، أربعة منها في خصوص التوراة ، وأشاروا إلى ذلك بذكر الزائد ، ولفظ «يتير».

المورد الثالث : انهم وجدوا بعض الكلمات او الحروف منقوطا عليها بغير النقط التي هي علامات الحركات والسكنات المسماة في العبرانية «طعميم» وذلك اما علامة المحو والضرب على الكلمة او الحرف ، واما أن تكون لغوا من غلط الكاتب وذلك في احد عشر موضعا في العهد القديم ، سبعة منها في خصوص التوراة ، وقد أشاروا إلى ذلك في الحاشية بذكر المنقوط عليه ولفظ «نقود».

المورد الرابع : انهم وجدوا في المتن حروفا هي اكبر من اخواتها بلا خصوصية ولا إشارة ، فتعبدوا برسمها كبيرة ، وذلك في ثلاثة وثلاثين موضعا ، خمسة عشر منها في خصوص التوراة ، فأشاروا في الحاشية برسم الحرف الكبير ولفظ «رباتي».

المورد الخامس : انهم وجدوا أيضا بعض الحروف اصغر من اخواتها بلا خصوصية ولا اشارة أيضا فتعبدوا برسمها صغيرة ، وذلك في سبعة وعشرين

٧٦

موضعا ستة منها في خصوص التوراة ، وأشاروا الى ذلك برسم الحرف ولفظ «زعيرا».

المورد السادس : قد ذكروا في حاشية الأصل العبراني أكثر من ألف موضع تكون فيه القراءة على خلاف المكتوب في المتن ، وذلك يرجع الى تصحيح الأغلاط الواقعة في المتن من حيث التذكير والتأنيث ، والافراد والتثنية ، والجمع ، وابدال بعض الحروف ببعض غلطا ، وسقوط بعض الحروف وتقديم بعضها على بعض غلطا ، وأشاروا الى ذلك في الحاشية بذكر القراءة الصحيحة ، ولفظ «ق» أو «قرى» ، وقد وقع من ذلك في خصوص التوراة ما يزيد على سبعة وسبعين موضعا.

ولأجل شهادة الحال وسوق الكلام ومعلومات اللغة على غلط المتن جرت التراجم على طبق الحواشي إلا نادرا ، وهذا من المترجمين أيضا شهادة وتصديق على غلط الأصل العبراني.

انموذج هذا المورد

ولنذكر لك من هذا المورد انموذجا من التوراة ، وسائر العهد القديم في مواضع :

١ ـ اختلاف حروف الكلمة واسقاط بعضها.

فقد جاء في التوراة اسم بلدة من البلاد مرة «صبيم» بباء مضمومة وياء واحد «تك ١٠ ، ١٩» وسميت مرة اخرى «صبييم» بباء مضمومة وياءين «تك ١٤ ، ٢ و ٨» ، والذي عليه التراجم وتصحيح القراءة في الحاشية هو إثبات الواو بعد الباء.

وأيضا تسمى الامة «جوى» والامم «جوييم» «انظر تك ١٥ ، ١٤ و ١٤ ، ١ و ٩» ، ثم جاء فيها «جيم» بإسقاط الواو وضم الياء الاولى «تك ٢٥ ، ٢٣» وصحح في الحاشية بلفظ «جويم» بالواو وياء واحدة ، وأيضا كتبت «يسجدون» المسند للجماعة مرة «يشتحوو» بواوين مع تشديد الأخيرة ومرة «يشتحو» بواو واحدة ، «انظر تك ٢٧ ، ٢٩» ، وصححت الأخيرة في الحاشية بواو ثانية.

٧٧

٢ ـ زيادة لفظ «لو» بحيث لا معنى لوجودها «تك ٢٩ ، ٢٨».

٣ ـ ابدال الواو التي هي ضمير المذكر الغائب بالألف فتكون «لو» بمعنى «له» «لا» فينعكس المعنى وينقلب المراد انقلابا فاحشا «انظر خر ٢١ ، ٨ ، ولا ١١ ، ٢١ ، و ٢٥ ، ٣٠» ، وصححت في الحواشي وجرت التراجم على مقتضى التصحيح.

ثم لنستدرك على الحواشي بعض الأغلاط التي اهملت تصحيحها ، ونقتصر في ذلك على الأسماء الأعلام :

وذلك ان التوراة ذكرت اسم واحد من أبناء «شمعون» ابن «يعقوب» فكتبت اسمه «يموئيل» بالياء في اوله «تك ٤٦ ، ١٠» ثم كتبته «نموئيل» بالنون بدل الياء «عد ٢٦ ، ١٢» ، وكتبت اسم واحد من أبناء «جاد» ابن «يعقوب» «صفيون» بالياء قبل الواو «تك ٤٦ ، ١٦» ثم كتبته «صفون» بإسقاط الياء «عد ٢٦ ، ١٥».

وكتبت اسم واحد من أبناء «بنيامين» ابن «يعقوب» «مفيم» «تك ٤٦ ، ٢١» ، ثم كتبته «شفوفام» بفائين و «شوفام» بإسقاط الفاء الاولى «انظر عد ٢٦ ، ٣٩».

وكتبت واحدا من أبناء «بنيامين» أيضا «نعمان» بنونين من أوله وآخره ، ثم كتبته بإسقاط النون من آخره «انظر عد ٢٦ ، ٤٠» ، وبعكس هذا كتبت واحدا من أبناء «يهوذا» شيلاه» بالهاء في آخره ، وكتبت واحدا من أبناء «يساكر» «فواه» بالهاء أيضا ، ثم كتبتهما بحذف الهاء منهما وزيادة النون بدلها «انظر عد ٢٦ ، ٢٠ و ٢٣».

وكتبت واحدا من أولاد «يعقوب» «شمعون» بالواو قبل النون ، ثم كتبته بإسقاط الواو «انظر عد ٢٦ ، ١٢ و ١٤».

وبعكس هذا كتبت واحدا من اولاد «روابين» «حصرن» ، ثم كتبته بزيادة الواو قبل النون «انظر عد ٢٦ ، ٥» ، وفي هذا القليل كفاية فان التطويل يؤدي إلى السأم والملل.

٧٨

ومن انموذج هذا المورد في العهد القديم كتابة «لو» أي له «لا» فينقلب المعنى من الإثبات الى النفي «اش ٤٩ ، ٥ و ٦٣ ، ٩» ، ومنه التقلب في كتابة «دمشق» فتارة تكتب هكذا «تك ١٤ ، ١٥ ، و ٢ مل ٨ ، ٧» وغير ذلك ، وتارة تكتب «درمشق» بزيادة الراء بعد الدال «١ أي ١٨ ، ٦ و ٢ مل ١٤ ٢٨» ، وتارة تكتب «دومشق» بزيادة الواو المشددة بعد الدال «٢ مل ١٦ ١٠» ، وكتب فيه من اسماء الأعلام «عخان» بالنون في آخره «يش ٧ ، ١٨» ثم كتبه أيضا «عاخار» بابدال النون بالراء وزيادة المد «١ أي ٢ ، ٧» ، وكتب «داود» بكسر الواو ، و «يورام» «٢ صم ٨ ، ١٠» ، ثم كتبهما «داويد» بزيادة الياء و «هدورام» «١ أي ١٨ ، ١٠» ، وربما يقع التعرض لكثير من ذلك إن شاء الله فلنقتصر في الأنموذج على هذا المقدار.

المورد السابع : قد اشارت الحواشي إلى ان سبع كلمات في العهد القديم قد زيدت فيه غلطا ، حيث نصت على انها كتبت وهي لا تقرأ ، وذلك لاختلال المعنى بوجودها ، كما هو ظاهر ، وهي هذه «١ ـ ٤» «أم» «٢ صم ١٣ ، ٣٣ ، و ١٥ ، ٢١ ، وار ٣٩ ، ١٢ ورا ٣ ، ١٢ (٥) «ات» ار ٣٨ ، ١٦ (٦) «يدرك» ار ٥١ ، ٣ (٧) «حمش» حز ٤٨» ، ١٦».

المورد الثامن : وأشارت أيضا الى ان عشر كلمات فيه قد سقطت منه غلطا ، حيث نصت على انها تقرأ وهي غير مكتوبة وهي هذه :

١) «بني» قض ٢٠ ، ٣.

٢) «الفرات» ٢ صم ٨ ، ٣.

٣) «ايش» ٢ صم ١٧ ، ٢٣ ،.

٤) «كن» ٢ صم ١٨ ، ٢٠.

٥) «صيبائوت» ٢ مل ١٩ ، ٣٧.

٦) «بنيو» أي ابنا ٢ مل ١٩ ، ٣٧.

٧) «بائيم» ار ٣١ ، ٣٧.

٧٩

٨) «له» أي لها ، ار ٥٠ ، ٢٩ ، «٩ و ١٠» «إليّ» ر ٣١ ، ٥ و ١٧».

المورد التاسع : قد استدركت الحواشي على الموجود في الاصحاح الحادي والعشرين من سفر «يشوع» عددين محلهما بين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من المتن ، ونص معربهما «ومن سبط روابين باصر ومسرحها ويهصه ومسرحها ، وقد يموت ومسرحها وميفعه ومسرحها اربع مدن» ، والتراجم الموجودة ادخلت هذا في نفس المتن ، وهذا بعينه موجود في الأصل العبراني من سفر الأيام الاول «٦ ، ٦٣ و ٦٤».

ففي الحواشي والتراجم وسفر الأيام الاول شهادة مرغمة بالنقصان في سفر يشوع العبراني.

ويشهد لذلك أيضا ان هذا الأصل بذاته صرح بأن المدن المعطاة لبني مراري اثنتي عشرة «يش ٢١ ، ٣٩» ، مع انه لم يعد الاثمان مدن «يش ٢١ ، ٣٤ ـ ٣٩».

وصرح أيضا بأن مدن اللاويين ثمانية وأربعين «يش ١٢ ، ٣٩» مع انه لم يعد إلا أربعا وأربعين «يش ٢١ ، ٣ ـ ٣٩».

ويشهد لذلك أيضا ان باصر قد أفرزها «موسى» من سهم بني روابين مدينة للملجإ تكون للاويين كما افرز «راموت» من سهم الجاديين وجولان من سهم المنسّايين «تث ٤ ، ٤٣».

وذكرت هذه المدن الثلاث أيضا في «يش ٢٠ ، ٨» فلما ذا لم تذكر «باصر» في الأصل العبراني في عداد الثمان وأربعين مدينة كما ذكر «راموت» و «جولان» والحاصل ان لزوم السقط في الأصل العبراني هاهنا من أوضح الواضحات ، وكذا في قول التوراة «تك ٤ ، ٨» وقال قاين لهابيل وكان بكونهم في الحقل ، وقام قاين الى هابيل أخيه فقتله ، انظر الأصل العبراني.

وزيادة على وضوح السقط والنقصان في هذا الكلام قد ذكرنا لك في الجزء الأول صحيفة ٣٧ كيف اضطرب في هذه العبارة المترجمون ، والنسخة السبعينية والنسخة السامرية ، وان هذه الموارد لتوضح لك وضوح الشمس في رابعة النهار

٨٠