الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

التحلي بفضيلة الاقرار بالإله الصانع ، والتطهر من رجاسة الشرك ، فلا يخالس به التوحيد أو يسر حسوا بارتعاء ، ثم يترقى في معارجه بالعمل الصالح ، والتقوى ، والصبر ، والتوكل والعرفان ، والتسليم ، والتهيؤ لطاعة الرسول فيما يبلغه عن الله.

فنقول : دع عنك المتعرب إذ وصلت بسؤالك الى ان الله جل شأنه أمر المؤمنين في الآية بالترقي في معارج الإيمان ببركة التقوى والإيمان بالرسول ليقوم بذلك نظام الشريعة والمدنية وتنال به سعادة الدنيا والآخرة.

فأما قوله تعالى في سورة الأعراف ١٦٠ (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) ، فإن المعدود فيه محذوف يهدي إليه المقام ، أي اثنتي عشرة قبيلة حال كونهم أسباطا وامما.

والمتعرب توهم ان السبط في اللغة العربية بمعنى القبيلة كما توهمه مترجمو التوراة الى العربية ، ولم يدر أن السبط هو الشخص الواحد ، وأما القبيلة فهي أسباط متعددون لا سبط واحد.

وأما قوله تعالى في سورة المنافقين ٩ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ ١٠ وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، فجزم «اكن» لأجل التنبيه على ان الكون من الصالحين اولى بأن يكون جزاء للطلب «بلو لا» وغاية للتأخير. ليتدارك به الخسران الحاصل بسبب اللهو بفتنة الأموال والأولاد عن تقوى الله. ونسيانه بفعل المعاصي : ولو لم يجزمه بل تركه على النسق لضاعت هذه المزية الشريفة والتنبيه البارع. بل وكذا لو قدمه في النسق. ومن هذا النحو قول خارجة بن الحجاج الأيادي :

فابلوني بليتكم (١) لعلي

اصالحكم واستدرج نويا

__________________

(١) البلية : ناقة كانت الجاهلية تعقلها عند قبر الميت حتى تموت عطشا وجوعا. يزعمون ان الميت يركبها : يقول اصنعوا الى البلية لعلى اصالحكم واقرب بركوبها نواى.

٤١

فجزم «استدرج» لينبه على انه اولى بكونه جزاء للطلب.

وأما قوله تعالى في سورة آل عمران ٥٢ (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) : فقال جل شأنه في مقام الاحتجاج بالتمثيل (فَيَكُونُ) بالفعل المضارع الدال على الثبوت. وذلك لبيان الملازمة الدائمة بين قوله تعالى (كُنْ) وبين ان الشيء يكون بهذا الأمر لا محالة. وبهذه القدرة التامة والملازمة الدائمة خلق عيسى من غير فحل اذ قال له (كُنْ) ولا تقوم الحجة بهذا التمثيل ولا يحصل المراد منه في الاحتجاج الّا بيان الملازمة بخلاف ما لو قيل. كن فكان. لأن هذا الأسلوب لا يفيد الا ان آدم كان. سواء كان ذلك باتفاق او بملازمة خاصة بذلك الكون او عامة. وهو امر معلوم لا فائدة في بيانه ولا حجة فيه على خلق عيسى من غير فحل. فلا يكون التفريع لو قيل : كن فكان. الا لغوا في كلام متهافت ، وبما ذكرناه تعرف غلط المتعرب ذ ص ٧٥ وانه يعيب المسك برياه ـ كما غلط أيضا في اعتراضه ذ ص ٩١ على قوله تعالى في سورة البقرة ٥١ فتاب عليكم انه هو التواب الرحيم.

حيث قال ثم ان قوله (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ظاهره انه جواب لجملة سقطت فيما سقط ولو قال فيتوب مكان فتاب لكان الكلام اصح.

قلت : تعسا لغرور العصبية. أفلا يعلم الناظر في خطاب الله لبني اسرائيل في سورة البقرة ٣٨ ـ ٨٨ انه انما كان خطابا لبني اسرائيل المعاصرين لرسول الله «ص» لا المعاصرين لموسى. فاستوضح ذلك من الآية ٣٨ ـ ٤٤ ومن انه لا يصح خطاب الاموات الذين صاروا رميما بمثل هذا الخطاب. بل قد خاطب الله الموجودين وامتن عليهم ووعظهم باحوال آبائهم وشئونهم. فاسندها إليهم كما هو المتعارف في خطاب القبائل والفرق ، وبذلك تعرف ان التوبة ماضية بالنسبة للخطاب وعصر المخاطبين. «فإن قال قائل» : كيف يخاطب الموجودون باحوال الماضين؟ «قلنا» هذا نهج متعارف في خطاب القبائل والفرق. فان ابى الاذعان بذلك من المحاورات فلينظر الى العهدين. فان التوراة الرائجة صريحة بأن بني اسرائيل الذين خرجوا من مصر وحضروا طور سيناء لم يبق منهم الى السنة الأربعين لخروجهم من مصر احد حي بل ماتوا كلهم في القفر قبل ان يقتلوا

٤٢

«مديان» ويغنموهم. ولم يبق من ذلك الجيل الا موسى. ويوشع. وكالب. انظر اقلا عد ٢٦ : ٦٤ و ٦٥ وقد جاء في التوراة أيضا ان موسى في اواخر السنة الأربعين بعد سبي مديان خاطب بني اسرائيل الموجودين بشئون آبائهم وقال لهم «وكلمتكم في ذلك اليوم» اي في حوريب «فاجبتموني وقلتم» تث ١ : ٩ و ١٤ «فكلمكم الرب من وسط النار وانتم سامعون صوت كلام ـ واخبركم بعهده ـ لم تروا صورة ما يوم كلمكم في حوريب» «تث ٤ : ١٢ ـ ١٦» وانظر أيضا «تث ٥ : ٢٣ ـ ٢٨» ، كما جاء نحو ذلك عن خطاب المسيح لمعاصريه من الكتبة والفريسيين «مت ٢٣ : ٣٥».

«تتمة» واعترض المتعرب في هذا المقام على امتنان الله على بني اسرائيل بشأن امره لهم بذبح البقرة مع تمردهم في مراجعة السؤال عن المسارعة الى الامتثال بمقتضى اطلاق اللفظ «البقرة ٦٣ ـ ٦٧» وعلى امتنانه جلت آلاؤه على النسق بشأن احياء المقتول بضربه ببعضها «٦٧ و ٦٨» فقال ذ ص ٩١ انه كلام في غاية المعاناة ولا يقدر احد ان يفهم معناه.

وكان يقترح ان تكون آيات الامتنان الأول حشوا في آيتي الامتنان الثاني توهما منه أو ايهاما بأن القرآن الكريم في صدد أن يذكر قصة البقرة حكاية تاريخية لقوم بسطاء كحكاية بنتي لوط «تك ١٩ ، ٣١ ـ ٣٨» او صناعة المسكن وثياب هارون «خر ٢٥ ـ ٤٠» او حكايات الأناجيل الرائجة «مت ٤ ، ١ ـ ١١ ولو ٧ ، ٣٦ ـ ٥٠ ويو ٢ ، ١ ـ ١١ و ١٣ ، ٢١ ـ ٣١» ولم يفهم ان القرآن الكريم إنما هو في مقام الامتنان على بني اسرائيل بتعداد نعم الله عليهم وألطافه بهم على ما هم عليه من الغلظة.

فذكر أولا : منته عليهم في شأن أمره لهم بذبح البقرة ومجاراته بلطفه لهم على جهلهم وتمردهم في تكرير السؤال.

وذكر ثانيا : منته عليهم بفصل القضاء المعجز بإحياء الميت وإخماد الفتنة وفضيحة العادي ، ولقد أبهر القرآن الكريم باعجازه هاهنا ولا بدع ، فقدم الامتنان الأول توطئة لبيان الامتنان الثاني على وجهه وخصوصيات حاله ، حيث انه بعد ان ملأ السمع والقلب بحال الامتنان الأول قال في الامتنان الثاني «فقلنا

٤٣

اضربوه ببعضها» اي تلك البقرة التي تقدم ذكرها ، فنظم البيان نظم العقد ، واوحى الى الفهم بواسطة الضمير في قوله «ببعضها» جميع خصوصيات القصة من دون ان ينحل نظام البيان وتتباعد اطراف الكلام وتبعد مسافته على الفهم ، بل جلاء القصة مع المحافظة على عناوين الامتنان احسن جلوة ونوع الامتنان أحسن تنويع ، وما ظنك لو اقحم الامتنان الأول في اثناء الامتنان الثاني ، أفلا يتشتت شمل البيان ، وتندمج بينات الامتنان ، ويعود الكلام بيداء ماحلة تأتي على الفهم بطول المسافة بعد ان كان روضة زاهرة يرتاح إليها ويتمتع بشذاها ..

ولئن استهزأ المتعرب بالقرآن الكريم والراسخين في العلم فانا لا نستهزئ بالمغمورين بالتعصب ، المفضوحين بالجهل والضلال ، (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

وأما قوله تعالى في سورة الصافات ١٣٠ : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) بعد قوله تعالى ١٢٣ : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) فذلك لأن هذا الرسول لاسمه العبراني في اللغة العربية تعريبان «الياس ، والياسين» كما ان اسمه في العبرانية جاء في العهد القديم على وضعين : احدهما «الياء» باشباع فتحه الياء وإسكان الهاء بعدها «انظر ٢ مل ١ ، ٣ و ٤ و ٨ و ١٢» ، وثانيهما «الياهو» بضم الهاء وتشديد الواو «انظر ٢ مل ١ ، ١٠ و ١٥ و ١٧».

وأما قوله تعالى في سورة التين ٢ (وَطُورِ سِينِينَ) فلأن لهذا المسمى في العربية اسمين «سيناء ، وسينين» ، كما انه يسمى في العبرانية في العهد القديم مرة «سيني» بفتح النون بالفتحة الخالصة ، وإسكان الياء بعدها «انظر خر ١٩ ، ٢ و ١٨ ومز ٦٨ ، ٩» ونص في حاشية هذا المزمور على ذلك فضلا عن رسم الاعراب ويسمى مرة اخرى «سيناي» بفتح النون بالفتحة المشالة الى الألف «انظر خر ١٩ ، ١ ولا ٢٧ ، ٣٤» هذا كله مع قطع النظر عن رموز النغمة المصطلحة عند اليهود في قراءة العهد القديم ، وبهذا تعرف بعضا من مبلغ عصبية المتعرب وجهله في كلامه «ذ ص ٧٦» وكأنه إذ ألصق نفسه بالعرب حسب انه صار الحكم المحكم في العربية ، ولكنه من أين يتورع عن مثل هذه الاقتحامات ، وفي كتاب إلهامه ، لأن هاجر جبل سيناء في العربية «غل ٤ ،

٤٤

٢٥» ، فيا لهفاه على العربية.

وأما قوله تعالى في سورة الحج ٢٠ (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) فثنى فيه في الأولين باعتبار ان الخصومة على طرفين وبين فريقين ، وهما الذين كفروا والذين آمنوا ، وجمع في الأخيرين باعتبار كثرة المتخاصمين من الفريقين ، فلو جمع في الأولين لما دل الكلام على ان الخصومة على طرفين وبين فريقين ، ولو ثنى في الآخرين لما دل على كثرة المتخاصمين ، فلو غير الاسلوب الموجود في الآية لخرج الكلام الى ضد حقيقته.

وأما قوله تعالى في سورة الحجرات ٩ : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) فقد جمع في قوله «اقتتلوا» باعتبار ان القتال يقع بين آحاد الطائفتين الكثيرين ، وثنى في قوله «بينهما» ، فلبيان ان الواجب هو الصلح بين الطائفتين ، ولا يحصل امتثال الواجب أصلا إذا اصلحوا بين بعض افراد الطائفتين وإن كانوا جمعا كثيرا ، وأيضا فإن قرار الصلح وروابطه لا يقع غالبا بين جميع المقتتلين ، وإنما يقع بين عنوان الطائفتين ورابطتي رئاستيهما ، فلو غير الأسلوب الموجود في الآية أيضا لخرج الكلام إلى غير المراد منه.

وأما قوله تعالى في سورة الأنبياء ٣ : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإن الغرض فيه إسناد الفعل الى اللاعبين اللاهية قلوبهم ، كما سبق فاسند إلى ضميرهم شرحا لذميم حالهم وتسجيلا عليهم بقبيح تماديهم في الغي ، ثم جاء بقوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدلا من الضمير ، او منصوبا على الاختصاص والذم اعلاما بظلمهم في اسرارهم النجوى بجحد الرسالة بالذكر وتسميته سحرا ، واحتجاجهم الفاسد بكون الرسول بشرا ، ولو اسند الفعل رأسا إلى الذين ظلموا لا نحل ارتباط الكلام ولم يدل على المراد منه كما ذكرنا.

وبما ذكرناه تعرف شطط المتعرب في كلامه «ذ ص ٧٦ و ٧٧» وأما اعتراضه على القرآن الكريم «ذ ص ٧٧» بخرافة جمع القلة والكثرة ، فهل عدا فيه ان اتبع به الأصمعي وأمثاله على غير هدى ولا كتاب منير ، ولو ان القرآن الكريم كان كلام واحد من سائر العرب لقبح الاعتراض عليه بعثرات اوهام الأصمعي وأمثاله ، بل كان هو الحاكم عليهم والمقيم لأودهم ، او لم يصد المتعرب عن

٤٥

غلطه صاد ، ولا أقل مما عربه من كلام سايل حيث قال في شأن القرآن العظيم «ق ص ١١٩ س ٤» ومما لا خلاف فيه أيضا انه «اي القرآن» الحجة التي يرجع إليها في العربية.

وقد توغل المتعرب في شطط التعصب فصار يدعي ان القرآن الكريم يستعمل الألفاظ العربية في غير ما وضعت له «اي خطأ واشتباها» وعد من ذلك «ذ ص ٨١» قول القرآن عن دين ابراهيم انه حنيف ، وزعم ان العرب تسمى عابد الوثن حنيفا ، وان الحنيف عندهم الملتوي الضال والخب الخداع.

والذي ورط المتعرب هاهنا بهذا الافتراء هو ما ذكر في اوائل الرسالة المنسوبة لعبد المسيح فنسي ما نص عليه قبل «ذ ص ٢٥» من ان العرب سئمت الوثنية ، وقد ادرك منها محمدا «ص» رجال كثيرون يدعون بالحنفاء ، وإنما دعوا بذلك لحنفهم أي ميلهم عن الوثنية ، فكانوا يحرضون قومهم على اطراح عبادة الأصنام ويدعونهم الى التدين بدين لا شرك فيه.

فاسأل المتعرب لما ذا تناقض كلامه؟ فهل هو على المثل الفارسي «دروغ گو حافظه ندارد» اي الكذاب لا حافظة له.

أم يقول : دع هذا فإن لكل مقام مقال؟ او لم يتعظ بما فضح الله به صاحب الرسالة المذكورة في هذا الافتراء حيث أظهر عليه كذبه ومخالفته لصراحة العهدين مع انه نصراني يزعم انهما كتب إلهية.

أو لم يعتبر به إذ قال في اوّل رسالته : فقد علمنا الآن ان ابراهيم كان منذ ولد إلى ان أتت عليه تسعون سنة حنيفا عابد صنم ـ يعبد الصنم المعروف بالعزى مع آبائه وأهل بيته وهو بحران.

مع ان التوراة لم تذكر ان ابراهيم عبد صنما لا يوما ولا تسعين سنة بل تذكر انه حينما خرج من «حاران» عن امر الله وبركته له في خطابه كان ابن خمس وسبعين سنة «تك ١٢ ، ١ ـ ٤».

ويقول العهد الجديد : ان الله ظهر لابراهيم وهو في ما بين النهرين قبل ما سكن «حاران» وأمره بالخروج فخرج حينئذ بأمر الله ووحيه من ارض

٤٦

الكلدانيين وسكن في حاران «١ ع ٧ ، ١ ـ ٥» ، وعلى هذا فلا بد أن يكون عمره الشريف حينما ظهر الله واوحى إليه بالهجرة اقل من خمس وسبعين سنة بمقدار سكناه في حاران وزيادة ، وبالإيمان لما دعى اطاع ان يخرج «عب ١١ ، ٨».

ويكفي من صارحة ما ذكرناه عن العهد الجديد انه يلزم منه ان يكون ابراهيم مؤمنا بالله نبيا موحى إليه قبل ما يأتي الى حاران ، وانك لتعلم من هذا ان مثل صاحب الرسالة في جرأته على خليل الله ومخالفته لكتب دينه ليروج أضاليله وأباطيله «كمثل كلب الأكراد يعض الضيف وصاحب المنزل».

وكيف كان فالحنيف في العربية هو من كان على حقيقة التوحيد وعبادة الحق. قال الجارود بن بشر من عبد القيس ، وكان نصرانيا فاسلم طوعا :

فأبلغ رسول الله مني رسالة

بأني حنيف حيث كنت من الأرض

وقال حسان بن ثابت يخاطب أبا سفيان :

هجوت محمدا برا حنيفا

أمين الله شيمته الوفاء

وأما استشهاد المتعرب «ذ ص ٨١ س ١٤» بحكاية قول «بسطام» النصراني لأخيه «ان كررت يا بجاد فانا حنيف» ، فلا شهادة فيه وإن صحت الحكاية ، فإن مراد بسطام تهديد أخيه بترك النصرانية وتثليثها ، والقول بتوحيد الحنفاء ، فانهم كانوا يقاومون التثليث والسجود للأيقونات والصور كما يقاومون الوثنية الصريحة.

وقال الله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ٢ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً).

فاعترض عليه المتعرب «ذ ص ٨٢» حيث قال بعض المفسرين ان «هل» بمعنى «قد» فقال : انا لا نجد لها هذا المعنى في شيء من كلام العرب ، وقال قبل ذلك ان المتبادر الى الذهن من هذا انه سؤال منكر.

فنقول أولا : ان حقيقة الاستفهام هو طلب الفهم ، وإنما يعرف كونه استفهام تقرير او إنكار إذا دل الحال او المقال على ذلك ، فمن أفحش الغلط

٤٧

قول المتعرب : ان المتبادر الى الذهن كونه في الآية سؤال منكر «اي استفهام انكار» مع اعترافه بأن القرآن لم يرد منه إلا الاثبات ، ومع العلم بأن حال رسول الله ومقاله ومقال القرآن في هذا المقام وغيره يناضل ويحامي اشد المحاماة عن هذه الحقيقة التي هي العمدة والأصل من أساسيات دعوته وتعليمه بوجود الصانع الواحد العليم ، «وثانيا» قد جاء مثل سوق الآية الكريمة في قول زهير في معلقته :

ألا ابلغ الاحلاف عني رسالة

وذبيان هل اقسمتم كل مقسم

وقول الحرث بن حلزة اليشكري في معلقته مفتخرا ومحتجا :

هل علمتم ايام ينتهب النا

س غوارا لكل حي عواء

وقول زيد الخيل :

سائل فوارس يربوع بشدتنا

أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم

ومن الواضح ان الشعراء المذكورين لا يريدون حقيقة الاستفهام ، لأنهم عالمون بما بعد «هل» ، ولا ينكرونه لأنه يوافق غرضهم ، بل لا يريدون منه إلا الاثبات والاحتجاج به ..

فإن كانت «هل» في الشعر بمعنى «قد» فالشعر شاهد لذلك وإن كانت للتقرير والتسجيل عليهم بالاحتجاج ، فإن «هل» في الآية الكريمة كذلك وهو الأصح الذي ذهب إليه المحققون من المفسرين.

ثم اعترض المتعرب «ذ ص ٨٢» على قوله تعالى في سورة البقرة ٢٢٩ (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها).

فقال : ان المقام يأباه وانه يلزم ان يعدى «تعتدوا» بعلى لا بنفسه.

فنقول : ان من له ادنى تمييز يعرف من اللغة وموارد الاستعمال ان الاعتداء والتعدي إنما هما بمعنى واحد وكلاهما بمعنى التجاوز ، فقولك اعتدى عليه وتعدى عليه بمعنى واحد ، والمراد منهما اعتدى الحد ، وتعدى الحد عليه ،

٤٨

نعم يختص التعدي المذموم بلفظ الاعتداء ، فالاعتداء هو تعدي الحد حيث لا ينبغي.

ثم اعترض أيضا «ذ ص ٨٢ و ٨٣» على قوله تعالى في سورة القصص ٧٦ : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).

فقال الوجه لتنوأ بها العصبة اي تنهض على تثاقل ، فالعصبة هي التي تنوء بالمفاتح لا المفاتح بالعصبة.

فأقول : جاء في النوع السادس والثلاثين من إتقان السيوطي ان سائلا سأل عن قوله تعالى : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) ، فأجاب المجيب بقوله : ا ما سمعت قول امرئ القيس :

تمشي فتثقلها عجيزتها

مشي الضعيف ينوء بالوسق

والظاهر ان سؤال السائل كان عن مجيء ذات اللفظة في العربية لا عن معناها الخاص في الآية الكريمة فاكتفى المجيب بذكر ما يدل على وجودها وان كان مخالفا لمعناها في الآية.

واحتمل ان المتعرب رأى ذلك في الاتقان ، فتوهم ان السؤال كان عن مجيء «تنوء» على المعنى الذي في الآية فاستشعر من مخالفة الجواب ان المجيب لم يجد شاهدا على ما في الآية ، واحتمل أيضا ان المتعرب جرى على عادته في اقدامه على الاعتراضات الباطلة تمويها بتعصبه وترويجا لباطله.

ومهما يكن من ذلك فلا يخفى ان اللغويين اتفقوا على قولهم : «ناء بالحمل نهض به على تثاقل ، وناء الحمل به أثقله وأجهده».

وان العرب تسند بعض الألفاظ إلى أمور متقابلة.

قال امرؤ القيس في معلقته :

كميت يزل السرج عن حال متنه

كما زلت الصفواء بالمتنزل

فاسند الزلل في صدر البيت إلى السرج المتحول ، واسنده في العجز إلى الصفواء المتحول عنها المطر ، ومن ذلك «ناء ينوء» فانها تسند تارة إلى المثقل

٤٩

المجهود كقوله : «ينوء بالوسق» ، وتارة الى الثقيل المجهد كما في الآية الكريمة. وقول عمر بن كلثوم في معلقته :

ومتني لدنة سمقت وطالت

روادفها تنوء بما ولينا

فاسند «تنوء» الى الروادف الثقيلة التي تجهد ما وليته بثقلها ، وأشد اللغويون في ذلك أيضا :

الا عصا ارزن طارت برايتها

تنوء ضربتها بالكف والعضد

وأما المفاتح في الآية الكريمة فهو جمع «مفتح» وهو ذات الكنز لا المفتاح الذي هو آلة الغلق.

واعترض المتعرب أيضا على قوله جل شأنه في سورة الكهف ٧٦ : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً).

فقال «ذ ص ٨٥» والوجه استطعماهم.

وذلك لتوهمه ان قوله تعالى : (اسْتَطْعَما أَهْلَها) جواب «لإذا» ولم يفهم انه وصف للقرية وجواب «إذا» إنما هو قوله تعالى في آخر الآية (قالَ لَوْ شِئْتَ) وحينئذ لو قيل «استطعماهم» لخلت جملة الصفة من ضمير الموصوف وأيضا ان الاتيان في الآية لجميع أهل القرية باعتبار الدخول الى قريتهم ، والاستطعام لم يكن لجميعهم ، وإنما كان لمن هو لائق للضيافة ، ولو قيل استطعماهم لأوهم الكلام ، ان الاستطعام كان لجميع اهل القرية ، فلأجل ذلك كرر ذكر الأهل لئلا يمتنع انصرافه الى المتعارف بخلاف الضمير العائد إلى ما يراد منه العموم.

واعترض أيضا «ذ ص ٨٥» على العدول عن الاضمار إلى تكرار الظاهر في قوله تعالى في سورة البقرة ٣١ : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ...

فما ذا تقول في اعتراضه هذا هو محض تمويه وتعصب؟ أم انه لا يفهم من المحاورات فوائد تكرار الظاهر فيها لكي يفهم ان تكرار الظاهر هاهنا لأجل

٥٠

التسجيل بالصراحة فيما هو العنوان للحجة والقصة ، فلم يطوه بغمغمة الإضمار ، وان الفوائد التي أشرنا إليها لمعتنى بها في البلاغة ، فقد قال عنتر في معلقته :

يا دار عبلة بالجواء تكلمي

وعمي صباحا دار عبلة واسلمي

وقال سوادة بن عدي :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغص الموت ذا الغني والفقيرا

وذكرنا لك قول امرئ القيس :

فلو انها نفس تموت سوية

ولكنها نفس تساقط أنفسا

وقول الآخر :

إذا قيل سيروا ان ليلى لعلها

جرى دون ليلى مائل القرن اعضب

ومن هذا الوجه مجيء التكرار في قوله تعالى : (بِإِذْنِي) في قوله تعالى في سورة المائدة ١١٠ : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) ، والمتعرب ضجر من تكرار هذه الكلمة لأمر لا يحير بيانه.

ولا يخفى عليك أن القرآن الكريم لما كان متجردا لتثبيت حقيقة التوحيد منابذا لما يجاهرها او يخالسها بالشرك فلا جرم ان كانت له العناية التامة في تكرار البيان او تأكيده بأن أفعال المسيح العجيبة لم تكن بقدرته كما شتت به المزاعم ، وإنما هي بإذن الواحد القادر القاهر وبقدرته ، وأن الحال ليوجب ان يتكرر قوله تعالى «بإذني» في هذه الموارد وأمثالها وإن بلغ تعدادها ألفا وان غاظ المتعرب تكرارها المرغم لأهوائه في ثالوثه.

ومن الظرائف ان المتعرب موه تألمه من مباهضتها لهواه. وأبدى ان إنكاره لها ، لأن اولها مثل «إذ» ولعله ابغض «إذ» لأنها مثل أول «بإذني» وإلا فما ذا يبهظه من تكرار «إذ» إذا اقتضى الحال به تسجيل الامتنان بعظائم النعم وعوائد مزيدها في ظروفها تسجيلا لازما في البيان في مقام الامتنان والتذكير لا يحصل لو خلى السوق ونسق العطف بدون التسجيل بالظرف فاعرف ذلك من

٥١

مراجعة الآية التي قبل هذه.

ومما يستظرف نقله ان المتعرب قد أخذته الرقة على «حين» فتألم من القرآن إذ لم تذكر فيه إلا سبعة عشرة مرة ، وأحمشه الحسد «لإذ» حيث ذكرت في القرآن مائتين وأربعا وثلاثين مرة فحقد ذلك عليه.

وما ذا على المتكلم البليغ اذا استعمل الألفاظ التي هي ادخل بمقاصده مما اربها في المعنى.

فقد قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته :

ما جزعنا تحت العجاجة إذ و

لوا شلالا وإذ تلظى الصلاء

وأقدناه رب غسان بالمن

ذر كرها إذ لا تكال الدماء

وقالت الخنساء :

كان لم يكونوا حمى يتقي

إذ الناس إذ ذاك من عز بز

وقال الأخطل :

كانت منازل آلاف عهدتهم

إذ نحن إذ ذاك دون الناس اخوانا

ولعل الزمان سيرينا من مخبئاته من يعترض على القرآن الكريم بأن ألفاته أكثر من تاءاته وظاءاته.

ولما ذا يتضجر المتعرب من التكرار فإن التكرار رفيقه في أناجيله فقد تكررت «لما» تسع مرات في الاصحاح الثاني وربع الاول من متى ، وجاء في اوّل يوحنا في البدء كان الكلمة ، والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا كان في البدء عند الله كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه ، لم يكن هو النور بل ليشهد للنور كان النور الحقيقي الذي يبرر كل الناس آتيا الى العالم كان في العالم وكون العالم به ولم يعرفه العالم.

وكم وكم ترى في انجيل يوحنا مثل هذا التكرار وأكثر ... وان قيل ان

٥٢

الإنجيل لم يكن مبنيا على البلاغة ، والقرآن المبني على البلاغة قد جاء فيه التكرار الكثير ..

قلنا أولا : حاصل هذا الكلام ان التكرار الفارغ لا يضر في الإنجيل لأنه غير مبني على البلاغة.

وثانيا : انه لم يتكرر في القرآن الكريم الا ما كان مقتضى الحال موجبا لتكراره ، فكيف ترى التكرار الذي اعترض عليه المتعرب «ذ ص ٨٥» وذلك في قوله تعالى في سورة المائدة ٩٤ (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا).

فإن نفي الجناح في المطعوم وعدم لحوق الوبال منه إنما يتم بالنسبة الى هؤلاء الثابتين الدائبين على الايمان والعمل الصالح والتقوى والاحسان ، فكم من مؤمن عمل صالحا ثم جره الشره والانهماك في الطعام الى سوء الظن بالله وعدم التوكل عليه ، ومنته نفسه الامارة وحرصه ان يستزيد رزقه بتدبيره ، وكم من مؤمن عمل صالحا ثم جره الشره الى مخالفة التقوى والورع بالإغماض والتساهل في مطالب رزقه ، وكم من مؤمن عمل صالحا واتقى مدة ثم جره الشره والاعتياد على ملاذ المطعم الى الاقدام على كسب الحرام. وكم من مؤمن عمل صالحا واتقى قد أدى به الشره والانهماك بلذة المطعم الى العجز والتثاقل عن العبادة والعمل الصالح واكتساب الفضائل الروحانية ، فإن تكلف شيئا من ذلك جاء به صورة مشوهة وجسما بلا روح.

وكم من هؤلاء من جره الشره الى الاسراف المحرم والإكثار المضر ببدنه فضلا عن دينه ، وكم وكم جرهم الشره الى الشح وذمائم الأخلاق والتعطل من زينة الاحسان. ولكن أغلب الناس يقولون : لسنا من هؤلاء والحمد لله فلا يسلم الطاعم من الجناح والوبال إلا إذا تأدب بأدب الآية الكريمة (وقليل ما هم» ، ولا يحسن نفي الجناح إلا مع هذا التأكيد في الثبات والدوام على الايمان والعمل الصالح والتقوى والإحسان.

فإن القرآن الكريم لم تجر تعاليمه على الفداء والمغالطة بكفاية اسم الايمان

٥٣

«فان قيل» ان القرآن قد كرر في سورة القمر قوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) أربع مرات.

وكذا قوله : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) ، وكرر في سورة الرحمن سورة المرسلات قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) عشر مرات فما الوجه في هذا التكرار في السورة الواحدة؟ «قلت» ان للتكرار في الخطابة مناهج البلاغة لمقاما يتنافس فيه البلغاء ، وغاية يتسابقون إليها فيكررون ما يعنيهم أمره ويهمهم تثبيته في القلوب ، ويجلونه بالتكرار ليفتحوا به المسامع ويملئوا به القلوب تنويها بشأنه ، وحياطة للغرض المهم فيه ، فيتفاوتون في الاحسان به كما يتفاوت في الجودة والمناسبة واقتضاء الحال. قال الحرث بن عباد في قصيدة لما قتل مهلهل ابنه بجيرا :

قرّبا مربط النعامة مني

لقحت حرب وائل عن حيال

فكرر صدر البيت في أربعة وأربعين بيتا ، الى قوله :

قربا مربط النعامة منى

ليجير فداه عمى وخالى

وقال مهلهل في قصيدة :

على أن ليس عدلا من كليب

إذا خاف المغار من المغير

فكرر صدر البيت سبعة عشرة مرة ، الى قوله :

على أن ليس عدلا من كليب

إذا هتف المثوب بالعشير

وكرر قوله «قربا مربط المشهر مني» في صدور أبيات كثيرة ، وكرر عمر بن كلثوم في معلقته قوله «بأي مشيئة عمر بن هند» في صدري بيتين وكررت ليلى الاخيلية في رثاء ، توبة قولها في قصيدة «فنعم الفتى يا توب كنت إذا التقت» في صدور ستة أبيات ، وقولها منها «لعمري لأنت المرء أبكي لفقده» في صدور أربعة أبيات ، وقولها منها «فلا يبعدنك الله ياتوب» في صدور أربعة أبيات.

وهكذا حسان بن ثابت في شعره قبل الاسلام جوابا لقيس بن الحطيم

٥٤

فكرر قوله في قصيدة (ويثرب تعلم) في صدور أربعة أبيات. وما هو من هذا النحو كثير. وغير مختص باللغة العربية ، بل يوجد في خطابة كثير من اللغات وكلامها الذي يتسامى الى البراعة ومراعاة مقتضى الحال.

حتى أن المزامير الرائجة لما كان اسلوبها طامحا الى البلاغة جاء فيها كثير من ذلك ، فقد جاء في المزمور التسعين (وعمل ايدينا ثبت علينا وعمل ايدينا ثبته) ، وتكرر في المزمور السابع والخمسين قوله «ثابت قلبي» مرتين وفي أول الرابع والتسعين «يا إله النقمات» مرتين ، وفي المائة والخامس عشر «اتكلوا على الرب» ثلاث مرات ، وفي المائة والثامن عشر «احمدوا الرب لأنه صالح الى الابد رحمته» مرتين «ان الى الأبد رحمته» ثلاث مرات ، وفي المائة والرابع والعشرين «لو لا الرب الذي كان لنا» مرتين ، وفي المائة والسادس والثلاثين «لأن الى الابد رحمته» ستا وعشرين مرة ، على ان هذا المزمور لا يبلغ النصف من سورة الرحمن.

وأيضا قد تكرر في العشرين من القضاة «بين رجليها انطرح سقط» مرتين ، وفي الأربعين من أشعيا «يبس الشعب ذبل الزهر» مرتين ، وفي العشرين من حزقيال «التي ان عملها انسان يحيا بها» ثلاث مرات ، وأيضا تكرر في سابع متى عن قول المسيح «من ثمارهم تعرفونهم» مرتين ، كما في الثالث عشر منه أيضا عن خطاب واحد للمسيح مع تلاميذه قوله «هناك يكون البكاء وصرير الاسنان». وفي هذا المقدار من العهدين كفاية وإن كان فيه أكثر من ذلك.

وانك إذا نظرت الى مكررات القرآن في مواردها وجدتها مما لا يساغ لغرض البليغ في تركها ، كيف لا وهي في مقام الامتنان بتيسير القرآن للذكر والحث على الادكار للاتعاظ بما جرى على الكفرة المتمردين من عظيم النكال.

وفي مقام التهديد والتهويل بذلك البطش الشديد حيث تمت عليهم الحجة بالنذر ، وفي مقام التنويه بآلاء الله وبيان انه لا مجال في التكذيب بها ، وفي مقام التهديد والوعيد بالويل في يوم القيامة للمكذبين بالمعاد والجزاء ، وانك لترى ان هذه المقامات هي الرأس والعمدة في الاصلاح ، والتكميل ، ونظام المدنية ، والهدى الى الايمان والسعادة ، فراجع مواردها فإنها توردك بتوفيق الله من زلالها

٥٥

العذب نهلا وعلا.

وأما تكرار القرآن لقوله تعالى في سورة الشعراء : (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) خمس مرات فذلك لأجل انه حكاية لكلام خمسة من الأنبياء في خمسة مواقع وهم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب حيث احتج كل واحد منهم على قومه بأنه لا يريد في إنذاره لهم إلا النصح والهدى ولا يرجو فيه طمعا ولا يسألهم عليه أجرا.

وأما ما تكرر في مجموع القرآن ، فما عسى ان يكون إذا اقتضاه الحال او لم يتكرر «متى» عن قول المسيح «هناك يكون البكاء وصرير الاسنان» ست مرات مع ان الكلمات المنسوبة فيه الى المسيح لا تقارب واحدة من كبار سور القرآن ، هذا فضلا عن التكرار في كتب العهدين.

وبما ذكرناه تعرف شطط المتعرب «ذ ص ٧٦ و ٧٤» وتحامله بضلاله على القرآن الكريم.

قال الله تعالى في سورة البقرة ١٦٥ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ١٦٦ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ).

والمراد منه ان الذين كفروا تجري ألسنتهم في كفرهم بما لا يعقلون غلطة ولا يتدبرون شططه ، فكأنهم ليس لهم اسماع يسمعون بها ضلال اقوالهم وقبيح فلتاتهم ، فإنها قد بلغت من الغلط والضلال حدا لا ينبغي ان لا يعقله إلا من لم يسمعها.

أفيقول من لم يوقر الغي اذنيه لا اتبع ما أنزل الله بل اتبع ما الفيت عليه آبائي أفلا يسمع ما يقوله من الغلط والضلال فمثل الذين كفروا في ضلال اقوالهم هذه كمثل الأصم الذي ينعق بما لا يسمعه ولا يميز من مداليل كلماته الا الصوت والدعاء والنداء ، فكلامهم الغلط الفاسد إنما هو بالنسبة الى غباوتهم عما فيه كنعيق من لا يسمع.

٥٦

والمتعرب سمع من بعض المفسرين انهم يقدرون في الآية ، مثل واعظ الذين كفروا ، ويجعلون سوق الآية لتشبيه وعظ الواعظين بالنعيق ، والذين كفروا بالأنعام التي ينعق بها ، فقال المتعرب «ذ ص ٩٣» هذا التمثيل لا معنى له ، وكان الوجه ان يقول ، ومثل الذي يعظ الكفار او يدعوهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع.

ولا ألوم المتعرب إذ لم يعقل المراد من الآية ، ولم يدر ما يلزم في تقديره من الفساد ، أفلا يتدبر انه حاشا لله وبلاغة القرآن ان يصف وعظ الواعظ الهادي وإرشاده الشافي بالنعيق المهمل. ويعيب إرشاده بعيب غيره بل حاشا كل من يعرف مواقع الكلام من ذلك ، هب ذلك ولكن المثل الشريف حينئذ يخطئ مرماه ويلغو معناه. فإن الناعق بالأنعام طالما ينجح بنعيقه بها ويندر ان لا تجبيه باقبالها وانزجارها وان كان نعيقه مهملا ، وأين ذلك من خيبة واعظ الكفار الذين حرنوا على اتباع ما الفوا عليه آباءهم.

وأما اعتراض المتعرب على قوله تعالى في سورة البقرة ٢٧٦ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا).

حيث قال «ذ ص ٩٣» ، وكان الوجه ان يقول : إنما الربا مثل البيع.

فيكفي في رده ان القرآن كلام الله الصادق قد حكى ما قاله آكلو الربا على وجهه ، لا كالأناجيل التي تنقلب في نقلها الواقعة الواحدة حسبما تقتضيه الغفلة وغيرها. كما ذكرنا بعضه في الجزء الاول في «صحيفة ٢٥٢ ـ ٢٥٧» ، ولا كالعهدين الذي يختلف منهما الحاكي والمحكي اختلافا فاحشا ، كما سنذكر بعضه إن شاء الله في المستقبل القريب.

ولا علينا ان نقول : ان اعتراضهم انما هو النقض على الشريعة بحل البيع لتوهمهم ان العلة في تحريم الربا موجودة فيه فهو مثل الربا ، فلما ذا أحل مع تحريم الربا ، وهذا النحو من الاعتراض يستلزم هذا التعبير.

وأما اعتراض المتعرب على عربية القرآن باستعماله بعض الالفاظ التي يدعي انها عجمية في الأصل : كالسندس ، والاستبرق ، والاباريق ، والنمارق

٥٧

والقسطاس ، والفردوس.

فنقول : ان من المعروف في جميع اللغات انها قد تتداخل وتنقل اللفظة من لغة الى لغة اخرى فتكون بهذا الأخذ في اللغة الثانية كسائر موضوعاتها الخاصة ، وقد كثر ذلك في الأسماء في كل لغة ، فالذي ينقل من لغة الى اللغة العربية يسمى معربا ، اي صار عربيا بعد أن كان غير عربي ، وذلك كغالب اسماء الأنبياء ، فلا يلزم بعد ذلك في فصيح العربية اجتنابها ، بل ان الالفاظ المعترض بها لا مناص في الفصاحة والبلاغة وحسن البيان عن استعمالها لأنك تعلم ان مثل السندس ، والاستبرق ، والنمارق ، والقسطاس الذي هو ميزان خاص مبني على الدقة ، كل هذه لم تكن من صناعة العرب ولا متداولة عندهم ليضعوا لها الاسماء من لغتهم ابتداء ، بل لم يكن يستعملها الا ملوك الحاضرة ومترفوهم ، فاكتفوا في تسميتها في لغتهم بتعريب اسمائها ، فلا يمكن البيان عن حقائق مسمياتها الا بأسمائها ، ولو عدل عن أسمائها المذكورة الى نحو آخر من التعبير لما تيسر بيان المسميات على ما ينبغي ولو بطول الكلام الفارغ ، فاعتبر بما اذا جاء في بليغ الكلام الانكليزي «سلدين» اي صلاح الدين و «جبرلتار» أي جبل طارق ، و «ارابيك» اي عربي ، فهل ترى مميزا يعترض على انكليزية ذلك الكلام بوجود هذه الالفاظ المأخوذة من العربية او يقول ، كان يلزم في بيان معانيها ومسمياتها ان تستعمل الالفاظ الانكليزية الاصلية ، وان أدى الى التطويل والهذر ، كلا.

وأما دعوى المتعرب ان الملة ، والسكينة ، والمثانى ، والمائدة مأخوذة من اللغة العبرانية فهي دعوى ناشئة من فلتات الجهل وبوادر العصبية.

وأما اعتراضه على القرآن الكريم «ذ ص ٨٥» بأنه يوجد فيه كثير مما تنافرت حروفه نحو فسبحه ، ومن يسمعها ، ومن يكرههن ، وإذ سمعتموه وإذ زاغت.

فقد تلقن دعوى التنافر فيه من اعاجم يعسر عليهم النطق بالحاء والعين والذال ، وما أشبهها ، بل تراهم يتلكئون في النطق بالكلمات العربية ، وإن كانت حروفها متداولة بينهم.

٥٨

وقد تكلفوا الكلام باللغة العربية ، وترددوا في النطق بحروفها بين افراط وتفريط ، فاما أن يقلبوا الحاء هاء ، والذال زاء ، والعين أيضا ، واما أن ينطقوا بالحاء على وجه يكاد أن يجرح الحلقوم ، وبالعين على وجه يكاد ان يخنق ، ووضع لهم ارباب الصناعة وهم منهم حدودا للحروف لا تنفك أن تخرجهم من التفريط الى الافراط وهو تفريط أيضا ، فان كان هذا هو الميزان في التنافر ، فكل اللغة العربية متنافرة الحروف بالنسبة الى غير العرب ، بل كل لغة متنافرة بالنسبة الى غير أهلها.

٥٩

الفصل الثاني

في أوهام الاعتراضات على القرآن الكريم

من حيث وضع الارض

قال الله جل شأنه في سورة يوسف في قصة الجدب والخصب ٤٩ (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).

فقال المتعرب «ذ ص ٥١» ويترتب عليه ان خصب مصر مسبب عن المطر ، وهذا خلاف الواقع ، فالمطر قلما يقع في ذلك القطر ولا دخل له في خصبه بل ذلك مسبب عن قبض النيل ، وهذا لا يجهله احد من أهل البلاد النازحة عن مصر فضلا عن العرب المتاخمين لها.

قلت : أترى هذا النصراني المتصدي للأمور الدينية والمباحث العلمية كيف أدى به العناد والتمرد على الله ورسوله الى أن فضح نفسه بالجهل بصراحة التوراة التي هي كتاب ديانته وبمبادىء الجغرافية التي لا يجهلها اطفال المكاتب الابتدائية في هذه القرون.

أما التوراة فانها تقول بصراحتها ان القحط قد عم مصر وأرض كنعان وكل وجه الارض «انظر تك ٤١. ٥٤ ـ ٥٧ و ٤٢ ، ١ ، ٢ و ، ٤٣ ، ١ و ٢ و ٨ و ٤٥ ، ٤ ـ ٨» ، وانظر أيضا «مز ١٠٥ ، ١٦ ، ١٧ وا ع ٧ ، ١١» هذا وان الوجدان شاهد بان الخصب في ارض كنعان لا يكون الا بالغيث من المعصرات ، وان الجغرافية الشائعة في المكاتب الابتدائية قد فهمت الاطفال ان خصب مصر وزيادة نيلها انما هما من نزول الغيث من المعصرات. وقد حددت

٦٠