الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

والرفق والده ، والصبر أمير جنوده» أي هو الذي يدبر أمرها ويثبتها عند محاربة الهوى والشيطان.

وروى في ربيع الأبرار عن مستودع علم الرسول علي عليه‌السلام انه قال : «الحياء زينة ، والتقى كرم ، وخير المركب الصبر». وقال عليه‌السلام «الصبر مطية لا تكبو بصاحبها».

ولكن أتدري لما ذا يجحد المتعرب فضيلة الصابرين؟ لأنهم هم الذين قاموا بنصرة التوحيد ، ولم يثنهم عن عزمهم تضايق الشدائد ، وأهوال الملاحم ، ومحك الامتحان ، حتى اشرقوا الشرك بالريق ، وارغموا أنف الضلال ... وأيضا لا يسمح المتعرب بأن تتوجه الأذهان الى فضيلة الصبر والصابرين ، وذلك ليستر ما ذكره انجيلهم في شأن التلاميذ الذين هم بزعمه عطية الله للمسيح (١) وخيرة العالم (٢) ونوره (٣) وملح الارض (٤) ، فقد ذكر في شأن الأحد عشر منهم عن قول المسيح بأنهم كلهم يتفرقون عنه في ساعة الامتحان كل واحد الى خاصته ويتركونه وحده ، ويشكون أو يعثرون فيه «حينما ينتقدهم الاختبار» ، وطلب منهم المواساة بسهر ليلة فلم يتركهم الوهن والخور ليسمحوا ، ولما هجم اليهود تركه الجميع وهربوا «مر ١٤ : ٢٧ ـ ٥١» وراجع ج ١ / صحيفة ٦٢.

ولعل المتعرب مع ذلك يقول : ليست الفضيلة بالصبر عند الشدائد على امتثال الواجب ونصرة الدين والثبات على الإيمان ، بل الفضيلة كل الفضيلة ان يجتمعوا ويرتئوا لاستجلاب الناس للإيمان بالثالوث ولو بطمس رسوم الشريعة ومصانعة المشركين بعوائدهم والتقرب بالثالوث الى شركهم ومداهنة أهل الشريعة بالرياء «انظر صحيفة ٦٣ و ٦٤ من الجزء الأول.

وأما اعتراض المتعرب على تمييز الصابرين المذكورين في الآية على الموفين بعهدهم ، فليس لأنه يجهله لكن ليتوصل به في المغالطة الى ضلالة التعريض

__________________

(١) يو ١٧ : ٢٤.

(٢) يو ١٥ : ١٩.

(٣) مت ٥ : ١٤.

(٤) مت ٥ : ١٣.

٢١

بالقرآن والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن كل أحد يعلم ان الوفاء بالعهد ، وإن كان خلقا حسنا إلا انه يتصف به المؤمن والمشرك والشجاع والجبان.

ولكن الصبر المذكور في الآية لا يتصف به إلا خاصة الأبرار وعيون الرجال ، وأما تعريضه بنبذ العهد في سورة براءة ، فإن كل من له أدنى إلمام التاريخ الاسلام لا يجهل انه قد وقعت الموادعة في عام الحديبية بين رسول الله وبين قريش وأحلافهم ، وتصالحوا على ترك الحرب مدة بشروط وروابط منها عدم التعرض للاسلام والمسلمين ، ومن دخل في عهد رسول الله ، ودخلت «خزاعة» في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودخلت «بكر» في عهد قريش ، ثم غدرت بكر وظاهرتهم قريش ، فنقضوا الصلح والموادعة وعدوا على خزاعة فقتلوهم ، فقدم مستغيث خزاعة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال فيما قال :

لا هم اني ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيك الأتلدا

ان قريشا أخلفوك الموعدا

ونقضوا ذمامك المؤكدا

هم بيتونا بالحطيم هجدا

وقتلونا ركعا وسجدا

وقد ترجم المتعرب هذه الوقائع من نقل «سايل» لها «ق ص ١٠٣ و ١٠٧» فكان هذا النكث من المشركين موجبا لانحلال عقدة الموادعة مع الناكثين عرفا وشرعا ، فإن كل متعاقدين على شروط وروابط قد تبانيا في عقدهما على ان نكث أحدهما حال للعقد ومحلل للآخر من ذمته ، ولو لا ذلك لما كان معنى لجعل الشروط والروابط في المعاهدات ، وإن كنت في شك من ذلك فانظر الى طريقة الملوك والسوقة في معاهداتهم ، وانظر الى ما يذكره العهد القديم في معاهدات الله مع بني اسرائيل «خر ٣ : ١٧ و ٩ : ٥ و ٦» ومع داود في مملكته «٢ صم ٧ : ١٦ وخر ٨٩ : ٢٨ ـ ٣٧».

وانظر الى نبذ هذه العهود «عد ١٤ : ٢١ ـ ٢٤ ومز ٩٩ : ٣٨ ـ ٤٥ وار ٧ : ٢٣ ـ ٣٠ و ١١ : ٢ ـ ٩ و ١٤ : ٢١» ، فإن هذا كله إنما يصح على ما ذكرناه.

٢٢

ولا نطالب المتعرب بما ذكره العهد القديم عن ميثاق الله «لفينحاس» «عد ٢٥ : ١٢ و ١٣» ، نعم لنا عليه المطالبة بما يذكره العهد الجديد عن عهد «بطرس» الذي أيسر مدحه في الإنجيل ان المسيح فوض إليه بناء الكنيسة وأعطاه مفاتيح ملكوت السموات ، وأناط الحل والربط فيها بحله وربطه على الارض «مت ١٦ : ١٨ و ١٩» وجعل إليه رعاية الامة «يو ٢١ : ١٥ ـ ١٨» فإنه قد كان عاهد المسيح نبيه ، وبزعم المتعرب ـ واستغفر الله ـ «إلهه» معاهدة بأكثر تشديد على ان لا ينكره ولو اضطر الى الموت «مت ٢٦ : ٣٥ ومر ١٤ : ٣١» ، وانه مستعد لأن يمضي معه حتى الى السجن والى الموت «لو ٢٢ : ٣٣» ولم تمض من هذا العهد سويعات حتى جعل عهده المشدد تحت قدميه. وكثر منه الحلف بأنه لا يعرف المسيح وصار يحلف ويلعن «مت ٢٦ : ٧٠ ـ ٧٥» ولمن تظن يلعن ، وان المتحلي بأقل قليل من الصبر الذي نوهت به الآية لا يستهويه الشيطان في مثل هذا الخور ، واني لأحاشي بطرس من هذه الوصمة ولكن المتعرب لا يحاشيه.

ثم اعلم ان سورة براءة هي التي تعلم بالوفاء بالعهد والدوام عليه مع غير الفجرة الغادرين الناقضين للعهد ، فقد قال الله جل اسمه فيها بعد ان برء من اولئك الناقضين للعهد ٤ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الموفين بعهودهم مع من لم يغدر بنقضها.

فإن قلت : أفما كان من المعروف أن يتم العهد للناقضين وإن غدروا وفجروا ، قلت هذا سؤال من لم يعرف من المعروف إلا اسمه ، واحاشيك من ذلك إذ لا يخفى عليك انه لو لا ان اقامة الحجة ومصلحة دين الحق وسياسة ترقيه اقتضت الموادعة معهم مدة من الزمان لما حسن الابقاء على الشرك وعوائد الضلال ، ومكالبات الجور والعدوان.

أفيقول موحد بأنه يحسن الإبقاء على الشرك والمشركين الفجرة وضلالهم بعد جرأتهم على الغدر ونكث العهد الذي فتحوا به باب التكالب على مقاومة التوحيد والموحدين ، وراموا به تجرئة العرب على نقضهم لعهد رسول الله

٢٣

والنهوض لنصرة شركهم وضلالاتهم ، كلا بل ان الاغضاء عن هؤلاء إنما هو من الوهن والفشل ، والتقاعد عن نصرة الحق ، والقيام بواجب الدين القويم ولو لا ان شوكة الحق تفقأ أعينهم لكثر الهرج والمرج في مضايقة التوحيد والموحدين.

وأما تحلة الإيمان الواردة بقوله تعالى في سورة التحريم ٢ (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

فإن تعريض المتعرب بها في كلامه السابق وتسميتها حنثا ، لمن قبيح التعصب ، كيف لا؟ وان تحلة اليمين لها معنيان «احدهما» الاستثناء بقول الحالف «إن شاء الله».

وتسمية هذا الاستثناء بالتحلة تؤخذ تارة من الحل ، كقولهم : حلا أبيت اللعن ، وقول عمر بن معديكرب : حلا يا أمير المؤمنين فيما تقول ، وقول أبي بكر : حلا أم فلان ، وذلك باعتبار ان هذا التعليق على مشيئة الله يحل عقدة اليمين الجازمة لو كانت على رسلها ، وتؤخذ تارة من التحليل كقول امرئ القيس في معلقته :

يوما على ظهر الكثيب تعذرت

علي وآلت حلفة لم تحلل

وذلك باعتبار ان تعليقها على المشيئة سبب للتحلل من تحريمها البتي.

«وثانيهما» هو بر اليمين والوفاء بها ، قال : قبيصة ابن النصراني الجرمي من طي :

لم ار خيلا مثلها يوم أدركت

بني شمجي خلف اللهيم على ظهر

ابر بإيمان وأجرأ مقدما

وأنقض منا للذي كان من وتر

عشية قطعنا قرائن بيننا

بأسيافنا والشاهدون بنو بدر

فأصبحت قد حلت يميني وأدركت

بنو ثعل تبلى وراجعني شعري

فيتحلل الحالف وتحل اليمين بالوفاء بها ولو بفعل شيء مما حلف على فعله لتكون اليمين به مبرورة فيتحلل به الحالف منها ويبرأ من ذمتها ، كما إذا حلف

٢٤

على ضرب ولده مثلا فإنه يبرأ يمينه بضربة واحدة ويتحلل منها ويتخلص بذلك من إثم الحنث بالترك الكلي ... وقد ضربت العرب بذلك مثلا في القلة قال كعب بن زهير يصف الناقة :

تخدى على يسرات وهي لاهية

ذوابل وقعهن الأرض تحليل

وقال ذو الرمة «قليلا كتحليل الألي» ومنه ما تكرر في الحديث من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تمسه النار الا تحلة القسم» ، ويحتمل ان يكون منه قول امرئ القيس المتقدم على وجه بعيد في السياق .. فالمولى العليم الحكيم شرع بلطفه لعباده أن يستثنوا في ايمانهم بمشيئة الله لئلا يورطهم الشيطان في اثم الحنث إذا عقدوهما على البت ، او انه جل شأنه بين لهم في الشريعة انهم يتحللون من ايمانهم ويبرونها إذا فعلوا شيئا مما حلفوا على فعله ، كما يقتضيه اللفظ ، ولعل المتعرب سمع من بعض المفسرين تفسيرهم لتحلة الإيمان بالكفارة ، وهو اشتباه بيّن ، فإن الكفارة إنما هي عقوبة على الحنث واليمين على حالها لم تحللها الكفارة أصلا .. نعم غاية ما يقال في الكفارة انها عقوبة معجلة تدرأ شيئا من عقوبة الآخرة ، ولا أثر لها في تحليل الحرام لا لغة ولا شرعا ، فانظر في حال كفارات الإحرام والصيام.

«تتمة» قال الله تعالى قبل هذه الآية في السورة المذكورة ١ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢ قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) الآية.

وقد اضطربت الرواية في سبب نزول الآية الاولى ، فروي ان النبي خلا بأمته مارية في يوم عائشة فعلمت بذلك حفصة فقال لها : اكتمي ، وقد حرمت مارية على نفسي.

وروي انه «ص» خلا بمارية في يوم حفصة واسترضاها بتحريم مارية على نفسه.

وروي انه شرب العسل في بيت زينب فقال بعض نسائه شيئا فحرمه على على نفسه ، وروي انه شربه في بيت حفصة ، وروي في بيت أمّ سلمة ،

٢٥

وحاصل الأمر ان النبي «ص» عز على الامتناع عن شيء استصلاحا لعائلته ، فإن التحريم هو المنع ، ولكن شاء الله ان يخفف عن رسوله ثقل هذا القيد ، ويتولى إصلاح عائلته بتأديب الوحي فأنكر عليه أن يلقي على نفسه الشريفة ثقل القيود والامتناع عن الحلال.

والمتعرب من خبطه وتعصبه جعل «ذ ص ٦٢» الآية الثانية من تتمة مضمون الآية الاولى ومرتبطة بحكم واقعتها ، وان المعني فيها تحليل الحنث بيمين تضمنها بزعمه التحريم ، ولم يشعر ان تغيير الاسلوب في الآيتين يقطع علاقة الارتباط بينهما.

فإن الآية الاولى خطاب للنبي ، والثانية خطاب للامة ، مضافا الى ان غالب الروايات الواردة في واقعة التحريم ليس فيها ذكر لليمين ، ولو كان في الواقعة يمين لما أمكن تعلق الآية الثانية به وكونها تبيح مخالفته ، لأنه ان قلنا ان التحلة المشروعة هو التعليق على مشيئة الله ، فإنما ذلك شريعة وتعليم بالنسبة الى الإيمان المستقبلة ولا ربط لها بيمين قد مضى.

وإن قلنا : ان التحلة هو التحلل من اليمين بفعل شيء من المحلوف على فعله فلا يمكن ارتباطها بواقعة التحريم ، لأنها لو كان فيها يمين لكان على النفي لا على الفعل (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) ، وهذا بعض الوفاء لما وعدناك به «ص ١٤٣».

«عود الى النصب على المدح والتعظيم» وقد جاء أيضا في قوله تعالى في سورة النساء ١٦٠ (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً).

فنصب (الْمُقِيمِينَ) على المدح للغرض الذي أشرنا إليه في نصب «الصابرين» فإن المراد من المقيمين الصلاة غير الذين يصلونها بسوق الوجوب ، وحث الوعيد ، وتوصلا الى الدعاء الزخارف الدنيوية ، فإنها حينئذ إذا عوفيت من وباء الرياء وتشويه العجب لم تعد أن تكون جسما بلا روح وشجرة بلا ثمر بل انهم هم الذين يرتاحون إليها ويعدون وقتها أسعد أوقاتهم وأفضل أعمارهم

٢٦

فيغتنمون فيه الانس بمناجاة مولاهم وفضيلة المثول في حضرته فيقيمونها بالاقبال والعرفان والانس والهيبة والرغبة والرهبة والنشاط والخشوع على حدود شريعتها وآداب سنتها وشروط اخلاصها ووظائف التعبد بها ، فهذا هو إقامة الصلاة واولئك قادة المؤمنين وسادة الموحدين ، وان تشرف من هو دونهم ببعض مراتب الإيمان بالله واليوم الآخر.

فالقرآن الكريم نبه الذهن بأيسر تغيير في الأسلوب الى حقيقة إقامة الصلاة وامتياز مقيميها عن سائر المصلين والمؤمنين.

وبهذا تعرف شطط المتعرب في إنكاره لامتياز هؤلاء على سائر المؤمنين «ذ ص ٧٤».

وأما ضلال المتعرب في تعريضه بقوله «ذ ص ٧٤» وقصارى ما يقدرون عليه «يعني من يزعم انهم مؤمنون بالله واليوم الآخر» هو انهم إذا رأوا واحدا منهم يغدر ويخون وينهب ويقتل الأسرى حتى يثخن في الأرض ساغ لهم ان يرتابوا في صحة إيمانه بالله واليوم الآخر.

فإنه يكفي في ازهاقه ما ذكرناه من ج ١ ص ١٥٩ الى ص ٢٠٠ فراجعه.

ولكن القلم الغير ان للحق أبى إلا ان يقف للمتعرب موقف الاستفصال وقول الفصل ، فقال للمتعرب : ان الايمان الذي عندنا والايمان الذي عندك قد تبينا الى حيث لا ملتقى.

فإن الايمان عندنا بمقتضى هدى العقل ونور الكتاب وإرشاد الشريعة هو الإيمان بأن إله الحق هو الله الواحد الأحد القادر القاهر العزيز الجبار القدوس الحي الذي لا يموت لم يلد ولم يولد ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، جل وتعالى عن المثل والمكان ، لا يتجرأ ولا يتعدد ولا يتجسد ، قد اصطفى بعلمه وحكمته ولطفه من عباده رسلا اطهارا بررة معصومين من الذنوب مبرءين من العيوب دائبين على طاعة الله صادعين بأمره ، ليس لقائل فيهم مغمز ، ومن عدادهم المسيح عبد الله المقرب ورسوله المنتجب ، خلقه بقدرته وأودعه في رحم أمه الطاهرة العذراء من غير نطفة فحل ، ثم ابتعثه رسولا هاديا مهديا وانزل عليه الإنجيل

٢٧

نورا وهدى ، وان الحواريين انصار المسيح الى الله وأما الايمان بحسب عقيدتك واقتضاء كتابك ومجامعك هو الايمان بأن الله روح ، ومحبة ، واحد هو ثلاثة ، وثلاثة هم واحد ، الأب ، والابن ، والروح القدس ، فتجسد الابن في الأرض ، وبعد مدة نزل عليه الروح القدس بشكل حمامة جسمية ، ثم قاده الروح الى البرية وبقي فيها اربعين يوما وابليس يحاول اغواءه ويتصرف به وينقله من مكان الى مكان ويطمعه بممالك المسكونة ليسجد له ، وبقي الأب في السماء ، وبقي الابن أي الإله المتجسد على الأرض يعاني الاضطهاد ، الى ان دنا الوقت فحزن وبكى وألح في السؤال من الأب أن يجيز عنه كأس المنية ، فلم يشأ الأب بل أسلمه للهوان والصلب فمات ودفن في الأرض ، وبعد ثلاثة ايام اقامه الله من الموت وجلس عن يمين الأب ، ولما كان هذا الإله على الأرض كان من رأفته قد ميز من تلاميذه بفرط الحب غلاما يافعا يجلسه في حضنه ، ويفضي إليه بسره ويتركه يتغنج عليه ويتكئ على صدره ، وان الزانية يكون ايمانها الكامل إذا ثنت عطفها عليه وهو ابن نيف وثلاثين سنة ، وجعلت تقبل قدميه ، وتبلها بالدموع وتمسحها بشعر رأسها ، وان رسل هذا الإله المتجسد الذين هم خيرة العالم ونوره وملح الأرض منهم من يجلس في حضن إلهه المتجسد ويتغنج عليه ، ومنهم من يغتاظ عليه ، ومنهم من ينكره وينقض عهده.

وكلهم قد شكوا فيه ، وتركوه في الشدة وهربوا عنه ، ثم انتجت مشورتهم ان يلاشوا الشريعة بالكلية ، ويطلقوا الأهواء من قيدها ببشارة الفداء ، وكانت الأنبياء قبل ذلك منهم من يكذب ، ومنهم من يستلب البركة بالمخادعة والتزوير ، ومنهم من يستعفي من الرسالة بخشن الكلام وينسب إلى الله الاساءة ويستهزئ بوعده ويفرط بشفتيه ، ومنهم من يصنع وثنا وينادي لعبادته ، ومنهم من يزني بالمحصنة ويسعى في قتل زوجها ويغضي عن المناكير في بيته ، ومنهم من يذهب وراء آلهة اخرى ويبني لها المرتفعات مع انه الابن المختار ، ومنهم من يدعو الله جل شأنه خداعا.

فيا أيها المتعرب إن كنت تعني بالمؤمنين بالله واليوم الآخر من كان على مثل ايماننا ، فانهم لينادون كما يعتقدون وهو الحق اليقين بأنه ما هدى الى حقيقة التوحيد وحق الايمان وحقائق العرفان ، ولا اوضح محجة الحق واقام حجته

٢٨

وأعلى كلمته إلا رسول الله الصادع بأمر الله ...

وإن كنت تعني بالمؤمنين من كان على مثل ايمانك فمن الغلط والشطط أن يشكوا في ايمان رسول الله بل لا يسعهم إلا القطع بأن رسول الله مستمسك بوثقى عروة الكفر بمثل ما تقول به أنت في ايمانك.

ومن لغة العرب رفع المعطوف على المنصوب (١) ومنه رفع المعطوف في الصورة على اسم «ان» ، قال بشر بن أبي حازم الأسدي يخاطب بني طي :

إذا جزت نواصي آل بدر

فأدوها وأسرى في الوثاق

وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق

وقال الحارث بن ضابئ البرجمي :

ومن يك امسى بالمدينة رحله

فأني وقيار بها لغريب

وقال آخر :

خليلي هل طب فأني وانتما

وان لم تبوحا بالهوى دنفان

وقال عنتر يرثي مالكا :

وكان إذا ما كان يوم كريهة

فقد علموا اني وهو فتيان

وقال الله تعالى في سورة المائدة ٧٣ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) فرفع لفظ «الصابئون» تمييزا لهم من النسق وتنبيها على ان الصابئين وإن كانوا أبعد من اليهود والنصارى عن صورة التوحيد إلا انهم مثل اليهود والنصارى في ان من آمن منهم وعمل صالحا فهو آمن ، ولا حاجة الى هذه الفذلكة في الآية التاسعة والخمسين من سورة البقرة ، وذلك لأجل ان التنازل في الترتيب فيها كاف في الاشارة الى هذه النكتة ، فالآيتان معا دالتان عليها ولكن كل واحدة بنحو من الأسلوب. وأما الآية السابعة عشرة من سورة الحج فلا محل لهذه النكتة فيها.

__________________

(١) انظر شواهده في كتاب سيبويه ص ٨٨ وغيره من كتب النحو.

٢٩

«ولنستطرد الكلام في الحذف» ولا يخفى عليك انه قد شاع في كلام العرب في الشعر والنثر اكتفاء بدلالة المقام ، وتوصلا في بعض الموارد إلى غرض ونكتة لا تحصل بدونه ، فيخرج الكلام به كالذهب المصفى والجوهر المجلو ، وقد جروا في الحذف على أنحاء :

«أحدها» انهم التزموا بالحذف فيما إذا كانت دلالة المقام لازمة ، وجعله النحويون من الحذف الواجب في العربية ، فمن ذلك خبر المبتدأ قبل جواب «لو» نحو «لو لا البعد لزرتك» وقبل جواب القسم الصريح نحو «لعمري لأفعلن» ولا يحتاج هذا الى ذكر الشواهد ، وكذا في نحو «اخطب ما يكون الأمير قائما» و «ضربي زيدا قائما» و «كل رجل وضيعته» ومن هذا النحو ما يلتزم النحويون بتقديره في الظرف والجار والمجرور المستقرين. «وثانيها» انهم اطرد عندهم الحذف في موارد جعل لها النحويون ضابطا منها حذف الضمير المنصوب أو المجرور العائد على الموصول ، ومنها حذف الجر قبل «ان» المصدرية.

«وثالثها» ما لا ينحصر بعنوان عام إلا بدلالة المقام وهو كثير لا يحصى فلنذكر من ذلك شيئا من شعر مشاهير الشعراء في العرب ممن طرقوا باب البلاغة وشهد لهم بالتقدم.

قال امرؤ القيس في معلقته :

فيا لك من ليل كأن نجومه

بأمراس كتان الى صم جندل

أي كأن نجومه شدت ، وقال طرفة بن العبد في معلقته يصف ذنب ناقته :

فطورا به خلف الزميل وتارة

على حشف كالشن ذا ومجدد

أي فطورا تضرب به .. وقال أيضا :

ألا ايهذا اللائمي اشهد الوغى

وان احضر اللذات هل أنت مخلدي

اي على ان اشهد .. وقال أيضا :

وان يلتقي الحي الجميع تلاقني

الى ذروة البيت الكريم المصمد

٣٠

وقال يزيد بن الحكم الكلابي :

مسسنا من الآباء شيئا فكلنا

الى حسب في قومه غير واضع

اي انتمي ، وننتمي الى ... وقال اوس بن حجر :

حتى اذا الكلاب قال لها

كاليوم مطلوبا ولا طلبا

اي ليس كاليوم .. وقال النمر بن تولب :

وقولي إذا ما اطلقوا عن بعيرهم

تلاقونه حتى يئوب المنخل

اي لا تلاقونه ... وقال امرؤ القيس :

فقلت يمين الله ابرح قاعدا

وان قطعوا رأسي لديك وأوصالي

أي لا ابرح .. وقال آخر :

تنفك تسمع ما حيي

ت بهالك حتى تكونه

أي لا تنفك ... وبهذا ونحوه تعرف شطط المتعرب «ذ ص ٨٢» في اعتراضه على قوله تعالى (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ).

وقد أفحش المتعرب في الغلط إذ قال في اعتراضه والوجه لا تفتؤ لأن فتئ وما جرى مجراها لا يستعمل إلا منفية ، فقل له : أتقول ان «تفتؤ» في الآية مستعملة في الإثبات.

ومن الحذف في كلامهم وشعرهم ما يعرفك المقام والأسلوب انه كان لأجل نكتة لطيفة وغرض سام لا ينال بذكر المحذوف ، والقرآن الكريم قد تأنق في هذه البراعة ما شاء اعجازه ، فانتقى يتائمها ، واستولى على غايتها.

قال امرؤ القيس :

ملوك من بني حجر بن عمرو

يساقون العشية يقتلونا

فلو في يوم معركة اصيبوا

ولكن في ديار بني مرينا

وقال أيضا :

فلو انها نفس تموت سوية

ولكنها نفس تساقط أنفسا

فإن التقدير في جواب «لو» في البيتين «لهان الخطب ، أو سهل ، وما

٣١

يجري مجرى ذلك» ولكنه لم يسمح في هذا المقام ان يصرح بذكر الهوان ونحوه فأبدع في الاسلوب وطوى ذكر ما لا يجب ذكره ، فأوحاه الى الفهم بطرف خفي وبيان شجي.

وقال عبد مناف الهذلي في آخر قصيدته :

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة

شلاكما تطرد الجمالة الشردا

فطوى ذكر الحال بعد ذلك ولم يأت بجواب «اذا» ليوكل الأمر إلى رجم الظنون ، وقال الله تعالى في سورة يوسف ١٥ (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فطوى القرآن الكريم من حال يوسف واخوته في تلك الساعة ذكر ما يتوزع السامع بين الشجي المبرح والغيظ المهيج ، فلم يتعرض لما يلزم في تلك الحال من تذلل يوسف بين يدي إخوته وتوسله بهم ، واستعطافه لهم ، ولواذه بواحد واحد منهم ، ومناشدته لهم بالله والرحم بطرف خاشع وعين عبري وقلب مروع يسترحم لشبابه ، ويستبقيهم على مهجته بلين الخطاب وشجي البيان. ومن قسوة اخوته وغلظتهم وما جرى لهم معه في تلك الحال من الكلام القاسي والأحوال الفظة ..

فما ظنك بالغلام اليافع ربيب الترف والدلال إذا شاهد تلك الحال المدهشة كيف يفعل؟ وكيف يتوسل بمن يمت إليه بالاخوة ويرجو فيه الرقة ويستثير منه العواطف؟ أفلا يقرح قلبك شرح حاله ، أم لا يوري غيظك ما يجري معه إذ ذاك من نكاية القسوة وبوادر الغلظة.

فالقرآن الكريم راعى في هذا المقام كل جانب تنبغي مراعاته ، فطوى الكلام بأحسن طي وأشار إلى الحال بأجمل اجمال وألطف تنبيه ، فكأنما أوقفك عليه بفكرك ومثله لوجدانك ، ولكنه قبل أن يقرع الفكر بالشجي قلبك عجل لك البشارة على النسق بأن الله جل شأنه قد سلى يوسف بالوحي وبشره بالنجاة والرفعة التي ينبئ فيها اخوته بأمرهم هذا وهم لا يشعرون فالقرآن الكريم لأنه كلام الله لم يدمج القصة كما أدمجتها التوراة الرائجة «تك ٣٧ : ٢٣ و ٢٤».

٣٢

وجل عن ان يغرق في حكايات الحالات المستبشعة السمجة ، كما زعمت الاناجيل الرائجة ان اليهود وبيلاطس وعسكره فعلوه مع المسيح وحاشا ، انظر أقلا «مت ٢٦ : ٦٧ و ٢٧ : ٢٦ ـ ٣٢».

وقال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته :

لا تخلنا على غراتك انا

قبل ما قد وشى بنا الأعداء

فلم يذكر خبر «انا» ليترقى الذهن في محتملاته إلى أشد الحماسة ، وعدم المبالاة بالملك.

وقال عبيد بن الأبرص يخاطب امرئ القيس :

نحن الأولى فاجمع جمو

عك ثم وجههم إلينا

ولم يذكر صلة «الاولى» ليترقى الذهن في محتملاتها أيضا إلى أشد الحماسة والتهويل ..

وقال الله تعالى في سورة الحج ٢٥ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) فلم يذكر خبر «ان» تهويلا بما يستحقه هؤلاء الكفرة المردة من عظيم النكال والعذاب ، أو بما يستحقونه من القذع والذم على كفرهم وعتوهم فيبلغ الذهن في ذلك ما لا يبلغه البيان اللفظي ، وان المقام لجدير بذلك ، ومقتضى الحال لا يليق بغيره.

ولعلك لا يخفى عليك جهل المتعرب في اعتراضه «ذ ص ٧٧» على الآية بعطف «يصدون» المضارع على «كفروا» الماضي ، فإنه لا ينبغي أن يخفى على غير المتعرب ان الغرض هو التسجيل والتشنيع عليهم بتماديهم على الغي والصد عن سبيل الله والمسجد الحرام ، ولا تحصل هذه الفائدة إلا بالفعل المضارع الدال على الثبوت ، ولم يكن الغرض هو التشنيع عليهم بما فعلوه من الصد في الماضي فقط.

«تتمة» وتتمة الآية المتقدمة قوله تعالى في ذكر المسجد الحرام : (وَمَنْ يُرِدْ

٣٣

فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

فقال المتعرب «ذ ص ٧٧ و ٧٨» فهذا أيضا كلام ناقص لأنه جاء فيه بفعل متعد وهو «يرد» ولم يأت بمفعوله ، ثم قال : نذقه من عذاب أليم ، وكان المقام يقتضي العذاب الأليم أو عذابا أليما.

قلت : لا يخفى على كل من يميز بعد الطفولية كيف يتكلم ، سواء كان يتكلم باللغة العربية أم بغيرها من لغات الدنيا ، ولا يلتبس عليه ان الفعل المتعدي تارة يقصد بالإتيان به بيان وقوعه على المفعول فقط ، ولأجل ذلك يعرض المتكلم عن بيان الفاعل ويبني الفعل في اللغة العربية للمفعول ، وتارة يقصد به محض وقوعه من الفاعل فلا يذكر المفعول ولا يقدر في الصناعة ولذا قالوا : ان المفعول فضله ، أي يصح الاستغناء عنه في الكلام ومرمى الاسناد فالآية الكريمة لم يتعلق فيها الغرض بالمفعول ، بل إنما تعلق الغرض فيها بمحض صدور الفعل القبيح من الفاعل المتمرد على الجهة الخاصة والباعث الخاص ، فإن قبح الإرادة بالإلحاد والظلم في المسجد الحرام لا ارتباط له بتعلق الإرادة بالإلحاد والظلم بمفعول خاص ، بل هو مسجد حرام سواء العاكف فيه والبادي ، فهو كقول الملك من يضرب بشقاوة بظلم نعذبه ، فليس في الآية الكريمة شيء من الحذف.

ومما ذكرناه تعرف غلط المتعرب في اعتراضه «ذ ص ٩٠» على قوله تعالى في سورة البقرة ٢٨ (وَنُقَدِّسُ لَكَ) وذلك لأن المقام غني عن بيان ان المقدس هو الله ، وإنما المهم في التقديس بيان كونه لله خالصا مخلصا في قصد القربة الذي هو روح العبادة ..

وأما قوله تعالى : (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فلأن الظالم بالحاد وإنكار للمعاد والعقاب يكفي في وعيده بيان خيبته في اغتراره واطمئنانه وتهديده بأنه لا مناص له عن سوء المنقلب الذي أنكره بإلحاده.

والنكتة التي اقتضت التعبير بقوله تعالى (نُذِقْهُ) لا بد معها من التعبير بقوله تعالى (مِنْ عَذابٍ) فإن الذوق إنما هو لبعض الشيء ، هذا مضافا إلى انه لم يقل

٣٤

نذقه بعض ما يستحقه ، بل بعض العذاب المعد عند الله للأشرار ، فإن كل معذب شخصا كان أو صنفا إنما يعذب ببعض العذاب ، ويعذب غيره ببعض آخر ، أعاذنا الله من ذلك ببركة الإيمان والإخلاص في توحيده وتقديسه ، وبهذا تعرف إن شاء الله أن المتعرب يعيب المسك برياه.

وقال لبيد بن ربيعة العامري :

قالت غداة انتجينا عند جارتها

أنت الذي كنت لو لا الشيب والكبر

فحذف خبر «كنت» لنكتة آثرها ، وقال آخر :

إذا قيل سيروا ان ليلى لعلها

جرى دون ليلى مائل القرن اعضب

فحذف خبر «لعل» لنكتة آثرها أيضا ، وقال مساور بن هند بن قيس :

زعمتم ان اخوتكم قريش

لهم ألف وليس لكم ألوف

اولئك اوهنوا خوفا وجوعا

وقد جاعت بنو أسد وخافوا

فاكتفى عن ذكر تكذيبهم بالحجة عليه.

ومما ذكرناه تعرف الحسن والبراعة في قوله تعالى في سورة القصص ٤٦ (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) فإنه طوى ذكر المستدرك بقوله تعالى (وَلكِنْ) لأجل تلألؤ المقام به واشراقه على ارجائه ، وتركه ليستعذبه الفهم من المورد نهلا وعلا ، ويقتبسه من مشكاة البرهان ، ويكون هو الزعيم باستنتاجه والمستأنس ببرهانه ، لا كما يلقى عليه باللفظ ثقلا على وساوسه.

وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى في سورة البقرة ٦٧ : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ٦٨ فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) فقد ألقى حياة المقتول إلى الفهم بسبب ضربه ببعض البقرة السابق ذكرها ، ولقنه بها من سوق المورد وحججه بأحسن مما يلقيها إليه بفضول اللفظ ، كما لا يخفى إلا على تعصب المتعرب فانظر الى شططه «ذ ص ٩١ و ٩٢».

٣٥

كما تعرف البراعة وعلو الشأن في قوله تعالى في سورة البقرة ١٦ (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فإنه بعد ان فتح عين الفهم بضرب المثل ودله على مغزاه أوقفه على ربوة التنبه ، وموعد الانتظار ، وكفاه بعد المسافة ، ومعثرة التطويل وملل التكرار ، وناوله تتمة المثل ونتيجة التمثيل بيد واحدة من مكان قريب قد راعى في اسلوبه أولوية الكافرين بصفة المثل ، وان يروع الذهن بهول حقيقتها قبل أن يألف بفرض مثالها ، ولو أجرى الكلام على السذاجة المبتذلة لتباعدت أطرافه وتشتت معانيه وانحل نظامها ، واضمحلت خواص مقاصده ، ولم ينجح في طوله الممل بطائل ، واستوضح ذلك من تفكيكه وتطويله حسب ما يقترحه البسطاء ، واتل لمن ينكر نورانية اعجازه بهذا الأسلوب الخاص (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ..) الآية والتي بعدها.

ومما ذكرنا تعرف انه لا حاجة الى ان نجعل «الذي» بمعنى «الذين» فإن هذا التقدير زيادة على وهنه يذهب برونق السياق وفرائد الفوائد.

والمتعرب «ذ ص ٧٧ ـ ٧٩» يعد هذه الآيات من الكلام المبتور الذي يتحير فيه السامع زاعما في تمويهه ان هذه الأساليب مخلة بالبلاغة لعدم الدلالة فيها على المحذوف.

وقد ذكرنا لك ما يحتمله الاختصار من شعر العرب الذي يوقفك على أسرار البلاغة وتفنن البلغاء في كلامهم حسب مقتضى الحال ، على انك لو قسته بالآيات المذكورة لوجدته كالمصباح مع الشمس والصبابة مع النهر. أم يريد المتعرب أن يكون القرآن الكريم في التطويل المضجر والتكرار الفارغ ، كالتوراة الرائجة في صنعة المسكن وثياب هارون ، «فانظر خر ٢٥ ـ ٣١» «وانظر أيضا خر ٣٥ ـ ٤٠».

أو يريد ان تكون امثال القرآن الكريم كأمثال الإنجيل الرائج التي شوه التطويل صورتها ، وشردت بها الفضول الفارغة عن مطابقة الممثل حتى كانت النتائج بعدها أجنبية ، مضافا الى انها قد اشتملت على فقرات ان كانت داخلة في غرض المثل لزم منها الكفر ونسبة الظلم الى الله جل شأنه ، والمعاملة مع

٣٦

عباده بالمحاباة والمجازفة ، وان لم تكن داخلة في ضرب المثل كانت لغوا ومعثرة فانظر الى «مت ٢٠ : ١ ـ ١٧ و ٢١ : ٢٨ ـ ٤٥ و ٢٢ : ١ ـ ٤ و ٢٥ : ١ ـ ٣١» ويا عجبا ان التعاليم المنسوبة في الإنجيل للمسيح لا تبلغ أن تملأ جريدة اسبوعية أو يومية ومع ذلك كان ما في الإنجيل الرائج ككتابة صحافي ضايقته وظيفة الوقت فصار يملأ أعمدة الجريدة بسفاسف التطويل ... أهذه تعاليم المسيح كلمة الله؟ حاشا وكلا.

وان أراد المتعرب أن يعرف الكلام المبتور الذي لم يقف الفهم فيه على محصل ما ، ولم يستشم منه رائحة الفائدة.

فلينظر الى ما تذكرت التوراة الرائجة في شأن العلامة لابراهيم على انه يرث ارض الكنعانيين ، كما ذكرناه سابقا ، ولينظر الى قول العهد القديم ان نسيتك يا اورشليم تنس يميني .. ليلصق لساني بحنكي ان لم اذكرك «مز ١٣٧ ، ٥ و ٦».

وقوله : من منكم من كل شعبه الرب إلهه معه ويصعد ٢ أي ٣٦ ، ٢٣ وقوله : ويكون إذا سمعتم صوت الرب إلهكم «زك ٦ ، ١٥» ،

وقد جاء في لغة العرب حروف كثيرة تفيد في الكلام فوائد لا تحصل بدونها ، وهي مثل «من» و «الباء» الجارتين في مثل قولك «ما فيها من احد وما زيد بقائم» و «ان» في مثل قولك «ما ان فعلت» و «كان» في مثل قول المتعجب «ما كان أحسنها» و «ما» بعد «إذا ، وأي» ، و «لا» قبل القسم والشواهد لذلك لا تكاد تحصى في شعر العرب فضلا عن نثرهم .. ولكن لما رأى أهل الصناعة ان الكلام يمكن أن يتألف بدونها إذا لم تقصد فيه فائدتها جعلوا تلك الكلمات زائدة ، ولما لم يصلوا إلى حقيقة فوائدها بعنوان من عناوينهم أدمجوا أمرها وقالوا : انها للتأكيد.

وبعض المفسرين جعل بعض الحروف في القرآن الكريم من هذا النحو فصار المتعرب يعترض عليه «ذ ص ٧٩» ويقول : انه زائد فهو إذا لغو ، ولو انها كانت كما زعم هؤلاء البعض لقبح من المتعرب ان يشط بزعمه انها لغو فمن

٣٧

ذلك قوله تعالى في سورة القيامة ١ (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ٢ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ٣ أيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ) وليس كما حسب المتعرب وتوهم ، فإن الحقائق النيرة لا يحجبها غبار القيل والقال ، فإن «لا» في الآية وأمثالها للنفي وجيء بها لأعظام القسم والمحلوف به ، كما يرشد الى ذلك ويدل عليه قوله تعالى في سورة الواقعة ٧٤ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ٧٥ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ).

ويرشد الى ذلك أيضا شائع الاستعمال العرفي ، فإن المخبر المؤكد لخبره قد يجمع بين التعريض بالقسم واعظامه بإنشاء واحد ، فيقول : لا احلف برأس ابيك قد كان الأمر كذا ، وهو اسلوب لطيف وغرض حميد ، وان صاحب الكشاف قد تنبه في تفسير سورة القيمة لهذا الوجه الواضح فجزم به في التفسير واحتج لتقريبه بقوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) ، وان كان عند تفسيره لسورة الواقعة قد اتبع في هذه الآية قول بعض المفسرين فقال : ان «لا» صلة ، أي زائدة.

«فإن قال قائل» إذا كان ذلك جامعا بحسن اسلوبه بين التعريض بالقسم واعظامه ، فأين الخبر الذي عرض بالقسم لأجل تأكيده ، قلنا : «أفلا يسمع النداء بيوم القيامة» ، وقوله تعالى (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ) أم يريد أن لا يجري القرآن على خصائص اللغة العربية ومحاسنها.

وقال الله تعالى في سورة الحديد بعد ذكر الذين اتبعوا المسيح ٢٨ : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ٢٩ لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

فذهب جماعة الى ان «لا» في قوله تعالى : (لِئَلَّا) زائدة ، وتشبث المتعرب «ذ ص ٨٠» بكلامهم ليتعرض على القرآن الكريم بزيادتها ، ولكن الصواب قد اخذ بيد جماعة ففهموا من الآيات ان «لا» غير زائدة وان الضمير في (يَقْدِرُونَ)

٣٨

يعود على المؤمنين المخاطبين في الآية المتقدمة على نحو الالتفات من الخطاب الى الغيبة ، ويكون قوله تعالى : (وَأَنَّ الْفَضْلَ) معطوفا على المجرور بلام التعليل في «لئلا» ، أي يتفضل على المؤمنين حق الايمان بالهدى والثروة والشوكة لكيلا يعلم أهل الكتاب ان لا يقدر المؤمنون على شيء من ذلك ، ولأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء.

والسبب المقتضى للالتفات هو ان التعليل المذكور في الآية الثانية غير داخل في الوعد بالجزء المذكور في الآية السابقة وإنما هو حكمة في الجزاء ووجهه ، فراعى القرآن بيان ذلك بتغيير الاسلوب بالالتفات لئلا يوهم النسق انه غاية داخلة في الجزاء والامتنان.

ولكن المتعرب لأنه يتعذر عليه الالتفات الى الحق صار يعترض على ما جاء من الالتفات في القرآن الكريم «انظر ذ ص ٨٠» مع ان الالتفات يعد من محاسن اللغة العربية ، ولم يجيء في القرآن إلا لنكتة شريفة ، وان عشى عنها من عشى :

قال عمر بن كلثوم في معلقته :

بأي مشيئة عمرو بن هند

تطيع بنا الوشاة فتزدرينا

تهددنا وأوعدنا رويدا

متى كنا لامك مقتوينا

فالتفت من الخطاب الى الغيبة ، ومن الغيبة الى الخطاب ، وقال امرؤ القيس في معلقته :

الى مثلها يرنو الحليم صبابة

إذا ما اسكرت بين درع ومحول

تسلت عمايات الرجال عن الصبا

وليس فؤادي عن هواك بمنسلي

وقال عنتر في معلقته :

حلت بأرض الزائرين فأصبحت

عسر علي طلابك ابنة محرم

ثم التفت الى الغيبة في البيت الذي بعده ، ثم الى الخطاب فيما بعده ثم الى الغيبة ، ثم الى الخطاب ، ثم الى الغيبة وقد تنقل بالالتفات في ستة أبيات

٣٩

على النسق ، وقال قيس بن جروة الطائي :

أيوعدني والرمل بيني وبينه

تبين رويدا ما إمامة من هند

وقد جاء الالتفات أيضا في التوراة الرائجة العبرانية «انظر لا ٢ ، ٨».

«تتمة» واعترض المتعرب أيضا «ذ ص ٨٠» على قوله تعالى في الآية المتقدمة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ).

فقال : انهم ان كانوا حقيقة قد آمنوا كما دعاهم فقد اتقوا الله وآمنوا برسوله وإلا فما هم بمؤمنين.

قلنا : مما لا يخفى ولا يستر ان عموم النصارى على سعة شريعتهم الفعلية واطلاقها وقلة تكاليفها غير معصومين عن مخالفة التقوى ، ولا نذكر شيئا مما يشهد به العيان والتاريخ القطعي ، بل نقول : ان ملوكهم وحكامهم قد بذلوا غاية جهدهم في كسر سورة الظلم وطغيان الفساد ، وقرروا بينهم في ذلك مؤكدات الروابط والمعاهدات ، وانك لترى مع ذلك ما يحدث في العالم من النكال ببعض المقصرين الذين عرف أمرهم ولم يحابهم الوقت.

وترى ما يحدث من مخالفة التعاليم النبوية والآداب العقلية والنواميس الروحية التي قد اتفق هتافها ونجواها في الحث على الوداعة والصفاء والسلام ، وترى من المخالفة المذكورة ما يكاد أن يأتي على رمق المدنية والإنصاف ، ويدفنهما في رمس العواطف البالي.

ولو تركنا القلم وجريه لقال : ضع يدك على من شئت مستشهدا بشواهده مدليا بحججه.

أفترى المتكلف يقول : في أهل نحلته انهم ما هم بمؤمنين أو يغالط وجدانك ويقول : كلهم فائقون في العصمة والتقوى على أنبياء العهدين الذين نسبا إليهم عظائم الذنوب وقبائح الأحوال ، كما ذكرناه لاقتضاء المقام وعز علينا ذكره صحيفة ٤٨ ـ ١١٦.

ولعلك تسأل ان المتعرب لما ذا لم يعرف ان للايمان معارج ومراقي ، أولها :

٤٠