الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

أفلا ترى منه التقبيح لدعوة الداعين الى حفظ الختان والشريعة والتنفير منهم ومن دعوتهم وما يدعون إليه ، والعمل بالمناقصة للاستئثار بالرئاسة ، واستجلاب الأهواء بالمداهنة بإبقاء العوائد المألوفة والراحة المحبوبة ، ولكن الرسائل المنسوبة لبولس زادت في التنقيص والمناقصة فقالت : ولا يصغون الى خرافات يهودية ووصايا اناس مرتدين عن الحق كل شيء طاهر للطاهرين «تي ١ ، ١٤ و ١٥» تفرض عليكم فرائض لا تمس لا تذق ولا تحبس التي هي جميعها للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعليم الناس «كو ٢ ، ٢٠ ـ ٢٣» لما ذا يحكم في حريتي «١ كو ١٠ ، ٢٩ و ٣٠».

نعم وقف هذا التنقيص عند قول القائل : ومن يغرس كرما ومن ثمره لا يأكل ، أو من يرعى رعية ومن لبن الرعية لا يأكل ، ان كنا نحن زرعنا لكم الروحيات أفعظيم ان حصدنا منكم الجسديات ، هكذا أيضا أمر الرب ان الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون «١ كو ٩ ، ٧ ـ ١٥» ويشارك الذي يتعلم الكلمة المعلم في جميع الخيرات «غل ٦ ، ٦ ، وانظر رو ١٥ ، ٢٥ ـ ٢٩».

* * *

٣٤١

الفصل الرابع

في النكاح

وقد حرّمت التوراة نكاح عدة من النساء فحرمت نكاح الأم ، وامرأة الأب ، والأخت من الأب ، أو من الأم أو منهما ، وابنة الابن ، وابنة البنت ، والعمة ، والخالة ، وامرأة العم ، وامرأة الابن وأم المرأة ، وبنتها ، وبنت بنتها ، وبنت ابنها ، والجمع بين الاختين ، ونكاح امرأة الأخ «لا ١٨».

ولكن التوراة الرائجة ذكرت لامرأة الأخ حكما آخر وهو انه إذا سكن اخوة معا ومات أحدهم وليس له ابن فإن أخاه يتزوج بامرأته ، والبكر الذي تلده يقوم باسم الميت لئلا يمحى اسمه ، وان لم يرض الرجل أن يتزوج امرأة أخيه الميت فان المرأة تأخذه الى شيوخ اسرائيل وتشتكي عليه بذلك ، فان أصر على أن لا يتزوجها تتقدم إليه أمام أعين الشيوخ وتخلع نعله من رجله وتبصق في وجهه وتصرخ ، هكذا يفعل بالذي لا يبني بيت أخيه فيدعى اسمه في اسرائيل بيت مخلوع النعل «تث ٢٥ ، ٥ ـ ١١».

وحاشا للوحي الإلهي وقدس موسى من هذه العادة الوحشية الفظة الهاتكة لناموس الأدب والحياء والشرف ، الواسمة بالعار مع انها لا فائدة فيها إلا زور لا حقيقة له ، وكيف يكون البكر من هذه المرأة يقوم باسم الميت وان مثل هذا الإبقاء لاسم الميت ليقوم بزور آخر مثل هذا ، فلا ضرورة الى جعل الرجل بين خطرين ، أما الشناعة ، وانهدام شرفه بالجرأة القبيحة من امرأة بذية ، وإما

٣٤٢

التقيد بامرأة لا يريدها ، بل ربما كان يتمنى خلاص بيتهم منها ولو بموت أخيه.

وذكرت من أحكام النكاح أيضا ان الرجل إذا تزوج فتاتا وأشاع عنها انه لم يجد لها عذرة فان أباها وأمها يأخذانها ويخرجان علامة عذرتها على الثوب الى شيوخ المدينة ويقول أبوها : ان هذا الرجل افترى على ابنتي ، ويخرج علامة عذرتها ويبسط الثوب ، فيؤدّب شيوخ المدينة الزوج ويغرمونه مائة من الفضة لأبي الفتاة وتكون امرأة لزوجها لا يقدر أن يطلقها كل أيامه.

وحاشا لله أن يكون هذا من شريعته وإنما هو تلفيق من وساوس المغفلين ، فان أبا الفتاة إنما يأتي الشيوخ بثوب عليه شيء من الدم الذي يمكن أن يؤخذ من كل دم وكل حيوان ، فكيف يكون علامة للعذرة؟ وكيف يكون ذلك حجة يفصل بها القضاء وتجب به الصادرة والنكال على الزوج المحتمل صدقه ، بل ان الأب في هذه الحال أولى بأن يتهم بالكذب لمظنة كونه يريد بهذه الحيلة رفع العار عنه وعن ابنته وتخليصها من القتل بحكم الشريعة القاسية الآتية ، بل ان هذا التشريع الفاسد يدعوه أيضا الى أن يجعل على خرقة دما كذبا فيحتج به ليكتسب مائة من الفضة ، ويلقى ابنته كلا على زوجها حتى لا يطلقها كل أيامه.

ثم قالت التوراة الرائجة في هذا المقام : ولكن إن كان الأمر صحيحا لم توجد عذرة للفتاة يخرجونها ويرجمها رجال المدينة حتى تموت لأنها عملت قباحة في اسرائيل.

وهذه أيضا شريعة قاسية مكذوبة على شريعة الله ممن لا معرفة له ولا حكمة ، فان العذرة غشاء رقيق فيه ثقب يخرج منه الحيض وربما تخرقه الطفرة والضواغط والتفحج العنيف والحيض الخارج بحدته عن مقتضى الطبيعة ، فلا ينبغي أن يحكم على المرأة بمجرد ذهاب عذرتها انها زنت وفعلت قباحة فترجم ، فإن هذا ظلم فاحش.

وأيضا كيف يعرف ان المرأة لم يجد لها زوجها عذرة وما ذا الذي يشهد له بأنه لم يكن هو الذي افتض عذرتها؟ فان اقتضاضها لا يستلزم قطع اذنها أو أنفها حتى يعرف الأمر بحصول هذا الأثر وعدمه ، نعم يثبت زنا المرأة

٣٤٣

بإقرارها ، أو شهادة الشهود عليها بأنها زنت قبل ذلك ، ولكن سوق التوراة الرائجة أجنبي عن ذلك.

* * *

٣٤٤

الفصل الخامس

في الطلاق

وهو ثابت في شريعة التوراة ، والأناجيل تذكر عن المسيح انه صدق على مشروعيته في التوراة ، وجعل السبب لشريعته فيها هي قساوة قلوب بني اسرائيل ثم منع منه إلا ما كان لعلة الزنا.

وقد ذكرنا لك في الجزء الاول صحيفة ٢٣١ ـ ٢٣٤ ما تذكره الاناجيل في الاحتجاج على المنع المذكور وبينا ما في الاحتجاج من الوهن الذي يجب ان ينزه عنه المسيحعليه‌السلام ، وان صورة الاحتجاج تعود بالتوهين والتغليط لشريعة موسى عليه‌السلام.

وذكرت التوراة ان الزوج لا يقدر على الطلاق في موردين «أحدهما» إذا ادعى انه لم يجد لامرأته عذرة وأظهر أبوها علامة عذرتها كما تقدم ، «وثانيها» إذا زنى بعذراء غير مخطوبة فانه يتزوجها ولا يقدر أن يطلقها كل أيامه «تث ٢٢ ، ٢٩».

ومن أحكام الطلاق ان الرجل إذا لم تعجبه امرأته لأنه وجد فيها عيب شيء وكتب لها كتاب طلاق وأخرجها من بيته فلها أن تتزوج بآخر ، فان طلقها الثاني أو مات فالأول لا يقدر أن يتزوجها ثانيا ، بعد أن تنجست لأن ذلك رجس عند الله يجلب خطيئة على الأرض التي لبني اسرائيل «تث ٢٤».

وليت شعري ما معنى كونها تنجست وبما ذا تنجست؟ هذا ولم تذكر

٣٤٥

التوراة الرائجة عدة تقعد فيها المطلقة قبل أن تتزوج بالثاني لكي يطمئن بعدم حملها من الاول فلا يختلط النسل ، وهذه حكمة لازمة المراعاة.

* * *

٣٤٦

الفصل السادس

في الحرب والجهاد

ذكرت التوراة الرائجة ان من بنى بيتا ولم يدشنه أو غرس كرما ولم يبتكره ، أو خطب امرأة ولم يأخذها فانه يرجع من الحرب الى بيته لئلا يموت فيدشن بيته أو يبتكر كرمه أو يأخذ مخطوبته رجل آخر ، والرجل الخائف والضعيف القلب أيضا يرجع.

وهذه شريعة تهون أمر الجهاد في سبيل الله ودعوة الحق ، وتذم شرف الشهادة في نصرة التوحيد وتمهيد العدل والصلاح ، وتصرف أنظار الناس وقلوبهم عن الجهاد الى زخارف الدنيا الفانية ، وتعطف قلوبهم الى الرغبة فيها فتوجب لهم التقاعد والتخاذل عن النهضة الحميدة خصوصا إذا نودي بذلك في الجيش ، وهذا مضاد للحكمة في نهضة الحق وجهاد المشركين.

نعم ما أحسن هذه الشريعة للنجاة مما تذكره التوراة الرائجة في شريعة الحرب القاسية من قتل الاطفال والنساء والبهائم كما ستسمعه.

فقد ذكرت التوراة الرائجة ان مدن الحثيين والآموريين والكنعانيين والفرزيين والحويين واليبوسيين يحرمها بنو اسرائيل تحريما لا يستبقون منها نسمة ولا يقطع معهم عهدا ولا يشفق عليهم.

وأما مدن غير هؤلاء من الامم فتستدعي الى الصلح ، فان أجابت فكل الشعب الذي فيها يستعبد وإن حاربت وفتحت فجميع ذكورها يقتلون

٣٤٧

وتكون النساء والأطفال والبهائم وكل ما فيها غنيمة «تث ٢٠».

وان ما في هذه الشرائع من الوحشية والقساوة ليدلك على انها ليست من شريعة الله ولا تعرف موسى ، ثم أي وجه وحكمة للتفرقة في سوء الولاية بين الشعوب الستة المذكورين وبين سائر الامم ، فان كان هو الخوف من الاغواء بشركهم والعدوى بضلالهم فهو موجود بالنسبة الى سائر الامم ، بل ان الخوف من الكبار الذين يبقون في الصلح والحرب ومن سائر الامم أشد وأشد من الخوف من الطفل الذي لا يعرف ما كان عليه آبائه ، فلما ذا حكم بقتل الاطفال من الشعوب الستة.

ومع ذلك فالتوراة الرائجة تذكر ان موسى عليه‌السلام لم يعمل بهذه الشرائع في سبي مديان ، بل أمر بقتل جميع الذكور من الأطفال وجميع النساء اللاتي قاربهن رجل ، استبقى البنات اللاتي لم يقربهن رجل وهن اثنان وثلاثون ألفا.

فقل : كم قتل من الأطفال الذكور والنساء الثيبات؟ ولما ذا ابقى البنات العذارى إن كن من الشعوب الستة؟ ولما ذا قتل الاطفال الذكور والنساء الثيبات إن كانوا من غيرهم ، حاشا لله ولرسوله موسى من تشريع هذه العوائد الجائرة القاسية ، أفترى ان الله يرسل رسله ليصبغوا الأرض من دماء الاطفال ، مع ان التوراة الرائجة لم تذكر من غايات هذه الحروب القاسية دعوة الامم الى التوحيد والعدل والصلاح وإنما ذكرت ان الغاية هو استلاب بني اسرائيل للأرض ، مع ان مقتضى العهد القديم ان بني اسرائيل لم يخلو في جيل من أجيالهم من عبادة وثنية ، كما ذكرنا في الجزء الأول صحيفة ٥١ ـ ٦٦.

ويا لهفاه على الحضارة والمدنية مما جنته عليها هذه العوائد الفظة القاسية ويا لهفاه للشريعة الإلهية إذ تلصق بها هذه القساوة والفظاظة الفاسدة ، وكيف تعجب إذا من حوادث الوقت إذا انبعثت من ثوراتها أمثال هذه المصائب ناتجة فيها من مجاهرة التوثب ودعوى الحياد.

سهم أصاب وراميه بذي سلم

من بالعراق لقد أبعدت مرماك

٣٤٨

الفصل السابع

في السياسة الشرعية

وقد ذكرت أحكاما كثيرة في القصاص والتغريمات والحدود والتعزيرات يعرف أغلبها من الحادي والعشرين والثاني والعشرين من الخروج والخامس والثلاثين من العدد وغير ذلك من متفرقات التوراة.

ولا يخفى على كل عاقل انه لا تستقيم المدنية ولا يطمئن الاجتماع ولا تسكن الثورات ولا يقل الظلم ولا تعرف الحقوق قرارها إلا بسيادة السياسة وسلطة التأديب وتدارك التغريم فان ذلك روح المدنية وحياة النفوس والحقوق ولم تنتظم بدون ذلك ملة ولا دولة ، بل لا تنتظم بدونها عائلة بيت ، وإن اختلفت مصادرها وتفاوتت مبانيها.

ولكن العهد الجديد يقول : قد سمعتم انه قيل ـ أي في التوراة ـ عين بعين وسن بسن ، وأما أنا فأقول لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الايمن فحوّل له الآخر أيضا ، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا «مت ٥ ، ٣٨ ـ ٤١».

وان من يحمل الكلام على أحسن وجوهه وأصحها ينبغي أن لا يحمل هذا الكلام على المعارضة والمقاومة لسيادة السياسة الشرعية الإلهية ليترك العباد هملا ، ويكون شريكا للفاسقين والظالمين والكافرين ، بل ينبغي أن يحمل على التعليم لصاحب الحق بالملاينة وفضيلة العفو والتصدق بالمسامحة كما ندب القرآن الكريم الى التصدق بالقصاص وفضيلة العفو الذي هو أقرب للتقوى.

٣٤٩

الفصل الثامن

في المواريث

جعلت التوراة الرائجة من ميراث الرجل للابن البكر مع اخوته نصيب اثنين «تث ١ ، ١٧» وليس للبنات مع وجود الابن أو الأبناء شيء ، نعم جعلت الإرث للبنت إذا لم يكن للرجل الميت ابن ، وإن لم يكن بنت فميراثه لأخوته ، وإن لم يكن له اخوة فلإخوة أبيه ، وإن لم يكن لأبيه اخوة فلنسيبه الأقرب «عد ٢٧ ، ٨ ـ ١٢».

هذا ما تعرضت له من المواريث ولم تتعرض للميراث من المرأة إذا ماتت ولم تجعل للأبوين شيئا من إرث ولدهما.

ولا يخفى ان حرمان البنات مع وجود الابن لا يخلو من القساوة والوحشية التي وبّخ عليها القرآن الكريم جاهلية العرب ، وحاشا للشريعة الإلهية أن تتركهن صفرات اليد متعوسات الحظ بعد ما مات أبوهن وكافلهن بالشفقة والرحمة وهنّ الضعيفات ..

هذا ما اقتضى الحال والاختصار ذكره من شريعة التوراة الرائجة.

* * *

وأما شريعة العهد الجديد

فقد ذكرنا لك منها ما تذكره الاناجيل عن قول المسيح من انه لم يجيء

٣٥٠

لينقض الناموس وانه يحث على العمل بوصاياه حتى الصغرى.

وذكرنا أيضا معارضة الاناجيل لحكم الطلاق ، والحلف ، والسياسة ومعارضة باقي العهد الجديد بإباحة ما حرمته التوراة وتطهير ما نجسته ونسخ حكم الختان وسائر القيود.

ثم لنذكر لك شيئا مما اختص به عن التوراة الرائجة ، فاعلم انه قد أكثر في الحث على التقوى ومكارم الأخلاق والزجر عن رذائلها بنحو يفوق على التوراة في حسن بيانه وروحانية تعليمه ، ولكنه متى تعدى عن مأخذه شذّت به الشواذ وتقلبت به الأحوال.

واعلم ان المسيح ويوحنا المعمدان ـ أي يحيى بن زكريا ـ عليهم‌السلام قد أشرقا على العالم بنور الموعظة والتعليم الروحي ، ونشرا لواء الدعوة الى الكمال الحقيقي ، ووقفا نفسيهما الكريمتين في سبيل تهذيب النفوس والأخلاق ونبها على ظاهر أدواء النفوس وباطنها ، ومثار أوبئة الأخلاق وفساد الأهواء فحذرا من عدواها ، وعلّما علاجها ، ودلا على دوائها ، ففتحا بيمارستان التعليم وطافا لعموم العلاج ، ولطفا للناس الدواء ، وروقاه بعذب البيان ولطف الدعوة ومزاج الحكمة ، واستشعرا الزهد والتقشف والوعظ والإرشاد والعبادة والاجتهاد رغبة فيما عند الله ، وليقتدي الناس بهما ويهتدون بهداهما فمهدا سبيل الوعظ والتعليم وسهلا للناس تعاطيه والتفنن في بيانه ، فسلكه بعدهما تابعوهما والملتصقون بتابعيتهما ، واختلفوا فيه بالقول والعمل بين صادق وماذق وعارف وقاصر وناصح ومخادع.

خليلي قطاع الطريق الى الحمى

كثير وان الواصلين قليل

فلا عجب إذا اذا تحرى العهد الجديد منهج الوعظ والتعليم تمثلا بشبه الانتساب ، ولكنه ويا للأسف كم وكم شذت به الشواذ فجمع بين الأضداد وألقى مضامينه في معترك التناقض «فضح التطبع شيمة المطبوع».

وجاء في الإنجيل الرائج عن قول المسيح لا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السماوات.

٣٥١

ويا أسفاه فأنا نرى كل من يتصدر من النصارى للرئاسة الدينية والسيطرة في تعليم الإنجيل لا يرضى من الناس إلا أن يدعوه «الأب فلان» فيدعوه الناس بذلك بلا نكير بل هو أيضا يسمى نفسه «الأب فلان» وليس هذا في عصر واحد وقرن واحد.

وما أكثر ما تسمع وترى في الصحف قول النصارى في رؤساء ديانتهم «الآباء اليسوعيين».

عجبا فأين نقل الإنجيل عن تعليم المسيح ، أتراهم يرون الإنجيل مكذوبا على المسيح؟ أم ألهمهم روح القدس أن يجعلوا هذا التعليم وهذا النهي تحت أقدامهم؟

ومما كرره العهد الجديد وأكده في تعليمه حث العبيد على طاعة ساداتهم وان يحسبوهم مستحقين كل الاكرام وإن كانوا غير مؤمنين «١ تي ٦ ، ١ و ٢» ويرضوهم في كل شيء «تي ٢ ، ٥٩».

ولم يتعرض في هذين المقامين لشيء من تعليم السادة بالرأفة بعبيدهم ، ولكنه أكد وشدد على العبيد بأن يخدموهم بخوف ورعد في بساطة قلب ، «اف ٦ ، ٥» ، ، ويطيعوهم في كل شيء من القلب ، كما للرب «كو ٣ ، ٢٢ و ٢٣» ، نعم في هذين المقامين أوصى السادة بمعاملة العبيد بالعدل والمساواة وان يتركوا التهديد.

وهذان التعليمان لم يجريا على ناموس الحكمة ، بل جريا على المحاباة ومصانعة الوجوه ، فان العبيد المساكين تكفيهم عصا السادات في التعليم وعنف التسخير خصوصا إذا كان ساداتهم غير مؤمنين ، وان الذي تقتضيه الحكمة هو التأكيد على السادات بمعاملة العبيد بالرأفة والرحمة والتخفيف ، وترغيبهم الى فك عبيدهم من أسر الرق وعنائه وذلته ، كما احتاط القرآن الكريم على هذه المكارم من جميع وجوهها حتى جعل العتق بابا من العبادات والقربات ، ونحوا من خصال الكفارات ، وجعل سهما من الزكاة لفك العبيد من عناء الرق ، وسيأتي بيان ذلك مفصلا مشروحا في محله إن شاء الله.

٣٥٢

وشدد أيضا بالتعليم بالخضوع للسلاطين القائمة معللا بأنها من الله ومرتبة منه ، وان من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله لأنه خادم الله للصلاح يلزم أن يخضع له بالضمير ويوفي الجزية لأنه خادم الله ، وان تعطى الجزية لمن له الجزية ، والجباية لمن له الجباية ، والخوف لمن له الخوف يعطى الجميع حقوقهم هذه «رو ١٣ ، ١ ـ ٨».

وهذا التعليم لأهل رومية الذين هم تحت سلطان قيصر ، وان القياصرة في الوقت المجعول له هذا التعليم قد كانوا وثنيين ، وأعداء للملة النصرانية مضطهدين لمن ينتسب للمسيحية ، وكل من يعتبر تلك الحال يعلم ان هذا التعليم قد تعدى الى الافراط الفاسد ، نعم لو كان بغير هذا الاسلوب لأمكن أن يجري على وجه صحيح.

ومضمون نقل الاناجيل عن المسيح هو أن الجزية ليست حقا للقياصرة ولا يجوز اعطائها لهم ، وذلك ان اليهود نصبوا له شبكة في سؤالهم عن اعطاء الجزية لقيصر لعلمهم بأنه لا يجوز ذلك فأرادوا أن يجاهر بذلك فيجعلونه ذنبا عليه عند قيصر والوالي ، فعلم بمكرهم وخبثهم فلجأ الى التقية والحياد عن الجواب بالمنع ولكنه مع ذلك سلك مسلك التعمية والايهام في الجواب فأخذ دينارا فقال : لمن هذه الصورة؟ فقالوا لقيصر فقال اعطوا ما لقيصر وما لله لله «مت ٢٢ ومر ١٢ ولو ٣٠» ، فجمع بين التقية والتخلص من مكرهم وبين عدم المجاهرة بمخالفة حكم الله ، فتلطف وعمى في الجواب ، ولكنه لما أمر بطرس بإعطاء الجزية عنهما بيّن له ان اعطائها لهم لئلا يكدرهم ويحملهم على العثرة به «مت ٣٧ ، ٢٧».

وأين هذا من التعليم المتقدم الذي يجعل الجزية حقا لقيصر ، أفلا ترى محاباة السلطان وخدمة أفكاره لائحة أو ظاهرة على تطرفه ومغالاته ، أم تقول انه تعليم سلطاني؟

وقد حث العهدان على السلام ، ففيهما أحبوا الحق والسلام «ز ك ٨ ، ١٩» ، طوبى لصانعي السلام لأنهم ابناء الله يدعون «مت ٥ ، ٩» وان ملكوت الله بر وسلام «رو ١٤ ، ١٧» وهو من ثمار الروح «غل ٥ ، ٢٢» ومن

٣٥٣

اهتمامها «رو ٨ ، ٦» ، وثمر البر يزرع بالسلام من الذين يفعلون السلام «يع ٣ ، ١٨» ، اتبعوا السلام مع الجميع «عب ١٣ ، ١٤» وإن كان ممكنا فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس «رو ١٢ ، ١٨».

حتى ان الإنجيل يذكر عن قول المسيح نهى المظلوم عن الانتصار والانتصاف بل والدفاع ، كما في قوله : لا تقاوموا الشر ، من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر ، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا «مت ٥ ، ٣٩ و ٤٠».

وان أولى من يتبع هذه التعاليم ويعلم بها هم الذين يدعون الروحانية والرئاسة الدينية ، ولكنك لو استنطقت التاريخ المتعجب عما جنته دوائر الكاثوليك على البروتستنت ودوائر البروتستنت على الكاثوليك؟ لأنبأك بغرائب المصائب ، ومنكرات الأحوال ، وان باح لك ببعض سرّه لا بكله أو جله ..

أفترى ذلك كان لأجل سياسة ملكية ، كلا ، ولكنها قساوة مزاعم الروحانية وعواصف تلك الأهواء الوبيئة.

ولو سألت الزمان المتحسر والتاريخ المتأسف وقلت : من هو الذي قاوم الدين والصلاح والإنسانية والسلام وأضرم نار الحروب الصليبية وقاد ظلها وساق قسوتها وأثكل الإنسانية وألبسها ثوب الحزن والعار والشنار لقالا لك بعين عبرى وقلب شجى : لا نعلم مثيرا لغبارها وناشرا للوائها وموريا لنارها وملقحا لها ومستنتجا منها ذاك النتاج المشئوم إلا الأسقفية والمطرنة ومزاعم الروحانية والرهبنة ، لما ذا؟ أهي لأجل الدعوة الى التوحيد ، لا بل للدعوة الى التثليث وتأليه البشر؟ أم هي لأجل ترك الأوثان ، لا ، بل لأجل تمثيل الصور والأيقونات.

أم لأجل العمل بالشريعة ، لا بل لأجل الاستراحة من نواميسها المكملة ورياضاتها المؤدبة.

أم لأجل تقديس المسيح وتنزيهه عن قول الباطل فيه ، لا بل لأجل أن يتلى في شأنه «قدس‌سره» «مت ١١ ، ١٨ و ١٩ ، و ١٢ ، ٤٦ ـ ٥٠ ولو

٣٥٤

٧ ، ٣٦ ـ ٥٠ ويو ٧ ، ٨ و ١٠ ، و ١٣ ، ٢٣ ـ ٢٦».

وسائر ما ذكرناه في الجزء الاول صحيفة ٢٢٧ ـ ٢٣٥ ـ و ٢٥٧ ـ ٢٦٦ «ودع عنك نهبا صيح في حجراته».

أفلا ترى وتسمع في يومك وأمسك ضوضاء الهمجية الفاحشة وتفاحش القول البذيء في الجرأة القبيحة على قدس رسول الله المصطفى «ص» مما يوقر صدى ضلاله اذنيك وتقذى به صحف السوء عينيك ، وهل تحد تلك النفثات الشيطانية والضلالات الدجالية إلا من مزاعم الروحانية التي اعتمدت بالماء ثم وارتكبت بالضلال والخطايا.

فيا للتوحيد والإيمان ويا للدين والتقوى ويا للعدل والصلاح ويا للآداب والشرف ، أليس رسول الله «ص» هو الذي نهض بنفسه الكريمة في معترك الضلال ومحتشد الشرك وغمرات الظلم وظلمات الوحشية فأقام منار التوحيد وأعلام الايمان ومحى ضلال الشرك واستأصل الوثنية ، ولا شيء العوائد الوحشية وأحيى نظام العدل وأوضح نهج الصلاح ومهد سبيل التقوى وسهل معارج السعادة ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، كل ذلك بأصدق دعوة وأحسن موعظة وأجمل دفاع أعد عدته بعواطف الرحمة وكريم الصفح وحسن الولاية وجميل الأثر.

وهل تراهم نقموا منه إلا تبليغه عن الله تقدست أسماؤه قوله جلت آلاؤه في كتابه الكريم (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ).

فهل وجدوا في ذلك دعوة الى شرك أو اختلاسا في التوحيد أو غشا في النصيحة أو شدة في التوبيخ أو عنفا في الزجر أو فحشا في القول أو غلطة في الموعظة ، أو بذاءة في الكلام ، ولئن ساءهم هدى هذه الدعوة ، وحسن هذه الموعظة ، والنصيحة ، فانه يسوء أولا سابقيهم في دعوة التثليث والأقانيم.

وها هم البراهمة ، والبوذيون لا تنفلت منهم هذه البوادر ، ولا تبدر منهم هذه الفحشاء.

٣٥٥

وقد اقتضى لي الاستعجال في نشر هذا المكتوب ان اختم الجزء الثاني من كتاب الهدى حامدا لله شاكرا لفضله مصليا على أنبيائه ورسله وأوليائه سائلا منه بحرمتهم أن يسددني بالتوفيق ويفتح لي باب الهدى والصواب ، انه ولي التوفيق وهو أرحم الراحمين.

٣٥٦

الفهرس

المقدمة الثالثة العشرة : في دفع الاعتراضات على قدس القرآن الكريم ،

وفيها فصول..................................................................... ٥

الفصل الاول : في الاعتراضات عليه من حيث العربية................................. ٥

عدم الفهم لما يلزم تفهمه........................................................ ١٣

اشتباهات اللغويين.............................................................. ١٥

براعة الاسلوب واعتلال النحويين................................................. ١٦

آية (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ).................................................. ١٨

فضل الصبر والصابرين.......................................................... ٢٠

البراءة من عهد الناكثين الناقضين................................................. ٢٣

معنى تحلة اليمين في العربية....................................................... ٢٤

آية (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ).................................................... ٢٥

نصب المقيمين الصلاة على المدح................................................. ٢٦

الحذف في اللغة العربية.......................................................... ٣٠

آية (تَفْتَؤُا تَذْكُرُ)............................................................. ٣١

آية (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ .. وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ)............................................. ٣٢

آية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ).................... ٣٣

الكلام المبتور في العهد القديم..................................................... ٣٧

آية (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ ، وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)............................ ٣٧

آية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ)............................................ ٣٨

٣٥٧

فضيحة الشطط على ابراهيم خليل الله............................................ ٤٥

آية : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ).................................................. ٤٧

آية : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ)............................ ٤٩

آية : (قالَ يا آدَمُ : أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ).......................................... ٥٠

آية : (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ)..................................................... ٥٦

الفصل الثاني : في اوهام الاعتراضات على القرآن الكريم

آية : (حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها).................................... ٦٠

خصب مصر والمتعرب........................................................... ٦٢

آية : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).................................. ٦٤

آية : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها)...................................................... ٦٤

آية (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ)................................. ٦٥

الاشارة الى امريكا............................................................... ٦٦

الفصل الثالث : في السموات.................................................... ٦٨

آية السماوات السبع والهيئة القديمة والجديدة........................................ ٧٠

الفصل الرابع : في دفع أوهام الاعتراض على قصص القرآن.......................... ٧٣

نتيجة......................................................................... ٧٥

التنبيه المقصود هاهنا............................................................ ٧٥

انموذج هذا المورد................................................................ ٧٧

في شهارة السبعينية على العبرانية.................................................. ٨٣

شهادة بوجود الزيادة في الاصل العبراني............................................ ٨٦

شهادة العهد الجديد بالنقصان والتحريف.......................................... ٨٦

تتمة الصدر والتمهيد........................................................... ٨٨

المعايب التاريخية على الكتاب.................................................... ٩٠

في اختلاف نسخ التوراة في التاريخ................................................ ٩٥

الاختلاف في الاعمار........................................................... ٩٨

خطأ المتكلف في دعوى البكورية................................................ ١٠٠

اختلاف العبرية والسبعينية والسامرية في الآباء والاعمار............................ ١٠٢

٣٥٨

اختلاف العهدين في إقامة بني اسرائيل في مصر................................... ١١١

آيات خلق السموات والارض ، والمتعرب......................................... ١١٧

آيات خلق الجان.............................................................. ١٢٢

بيلي والمتكلف والارواح النجسة................................................. ١٢٤

خلقة آدم وشأن الملائكة....................................................... ١٢٧

آية سجود الملائكة لآدم....................................................... ١٣٤

آيات أكل آدم من الشجرة وتوبته والتوراة........................................ ١٣٦

آية : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِ)....................................... ١٣٧

غرق ابن نوح في الطوفان....................................................... ١٤١

شأن ابراهيم والكواكب........................................................ ١٤٣

آيات محاجة ابراهيم مع النمرود................................................. ١٤٣

دعوى المتكلف ملاقاة نوح لابراهيم............................................. ١٤٥

نسبة الشك الى ابراهيم والتوراة.................................................. ١٤٦

عود الاجسام................................................................ ١٤٨

آية : استغفار ابراهيم لأبيه آزر................................................. ١٤٩

آية بشرى الملائكة لابراهيم..................................................... ١٥٠

عدد الملائكة الذين جاءوا الى ابراهيم............................................ ١٥١

آية امتحان ابراهيم بذبح ابنه................................................... ١٥٢

ابراهيم واسماعيل والكعبة....................................................... ١٥٣

الكعبة وبرية فاران والتوراة...................................................... ١٥٨

منازل بني اسماعيل والتوراة....................................................... ١٦١

رسالة هود الى عاد ، وصالح الى ثمود وشعيب الى مدين............................ ١٦٥

النبوة والتوراة.................................................................. ١٦٨

القرآن والمتكلف.............................................................. ١٧١

عاد وثمود والناقة.............................................................. ١٧٣

سورة يوسف في القرآن الكريم وقصته فيها........................................ ١٧٥

آية الوادي طوى ، وشجرة تخرج من طور سيناء................................... ١٨٥

٣٥٩

استطراد ومناسبة في الذكر...................................................... ١٨٧

آية دعوة موسى لفرعون الى الهدى والصلاح...................................... ١٨٩

دعوة رسول الله المباركة وسيرته الصالحة........................................... ١٩٣

آية تبوء بمصر بيوتا............................................................ ١٩٦

القرآن في شئون موسى وفرعون والسحرة......................................... ١٩٨

إيمان السحرة................................................................. ٢٠٤

موسى وفرعون وبني اسرائيل.................................................... ٢٠٥

الطوفان على المصريين ، هامان وزير فرعون....................................... ٢٠٦

القرآن وحال فرعون عند الغرق.................................................. ٢٠٨

آية نتقنا الجبل فوقهم.......................................................... ٢١٢

انفجار العيون لموسى.......................................................... ٢١٤

الآيات في عجل بني اسرائيل.................................................... ٢١٧

ألواح موسى والتوراة........................................................... ٢٢١

آيات طلب بني اسرائيل من نبيهم ملكا.......................................... ٢٢٢

آية ، قالوا انى يكون له الملك علينا.............................................. ٢٢٥

آية التابوت تحمله الملائكة..................................................... ٢٢٦

التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى.............................................. ٢٢٨

آية طالوت وجنوده والابتلاء بالنهر.............................................. ٢٢٩

سفر القضاة.................................................................. ٢٣١

سفر اصموئيل................................................................ ٢٣٤

آية تسبيح الجبال والطير مع داود................................................ ٢٣٥

آية ألنا له الحديد............................................................. ٢٣٧

آية تسخير الريح والجن لسليمان................................................ ٢٣٩

آية علمنا منطق الطير......................................................... ٢٤٢

إدراك الحيوانات............................................................... ٤٤٤

آيات الهدهد وملكة سبأ....................................................... ٢٤٥

آية السحر وما انزل على هاروت وماروت........................................ ٢٤٧

٣٦٠