الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

وكقول العهد الجديد في المؤمنين بصلاح المسيح ورسالته ، فالله يثبت فيه وهو في الله ، يثبت في الله والله فيه «١ يو ٤ ، ١٥ و ١٦».

وكقوله أيضا : نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح ، «رو ١٢ ، ٥» ، وقوله : لأن أعضائنا جسمه ـ أي المسيح ـ من لحمه ومن عظامه «ا ف ٥ ، ٣٠» ، ، والكنيسة جسده «اف ١ ، ٢٣» وان المؤمنين به جسده «١ كو ١٢ ، ٢٧».

«ومنها» ما يحكى عن قول المسيح الكلام الذي اكلمكم به لست أتكلم به من نفسي ، لكن الأب الحالّ في هو يعمل الأعمال «يو ١٤ : ١٠» ، وهو كما يحكى عنه من قوله للتلاميذ : لستم أنتم المتكلمين ، بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم «مت ١٠ ، ١٠».

والمراد من ذلك تأييد الله فنسب إليه الفعل والحلول فيه وفيهم ، وعن قول بولس لأهل كورنتوش : أما تعلمون انكم هيكل الله؟ وروح الله يسكن فيكم «١ كو ٣ ، ١٦» ، ولأهل فيلبي إله وأب واحد للكل الذي على الكل وبالكل وفي كلكم «أو وفي كلنا ، أو وفي الكل».

فاستعمال لفظ «الحال في» و «فيكم» و «في كلكم» مجاز جرى عليه العهد الجديد ، وليس على عهدتي أن يكون مقبولا.

«ومنها» ما يحكى عن قول المسيح أنتم من أسفل ، أما أنا فمن فوق أنتم من هذا العالم ، أما أنا فلست من هذا العالم «يو ٨ ، ٢٣».

وقد جاء مثله في العهد الجديد في شأن المؤمنين فوصفهم بالولادة من الله ومن فوق.

ففيه الذين ولدوا ليس من دم ولا مشيئة جسد ولا مشيئة رجل ، بل من الله «يو ١ ، ١٣».

وعن قول المسيح إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله ، لا تتعجب اني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق «يو ٣ ، ٣ و ٧» ،

٣٢١

وعن قوله في شأن التلاميذ لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم «يو ١٥ : ١٩» وانهم ليسوا من العالم ، كما اني لست من العالم «يو ١٧ ، ١٤ و ١٦».

«ومنها» عن قول المسيح الذي رآني فقد رأى الأب «يو ٤ ، ٩» ، وذات العهد الجديد يوجب تأويل هذا الكلام فضلا عن سائر القرائن لقوله فيما هو بمقتضى فرض الترتيب بعد زمان المسيح ، وبعد الكلام المذكور ما نصه : الله لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه «اتي ٦ ، ١٦» ، وان الله لم ينظره أحد قط «١ يو ٤ ، ١٢» ، والله غير منظور «كو ١ ، ١٥» ، ولو كان الكلام الأول له حقيقة لكان الله جل شأنه مرئيا ومنظورا ، ويقدر كل احد على أن يراه.

هذا هو العمدة مما يوهم الغلو وقد عرفت من نفس محاورة العهد الجديد سخافة توهم الغلو منه ..

وإن حكّمت عقلك في ذلك فقد فزت بالسعادة وأضاء لك صبح اليقين ، وقد جاء في الإنجيل عن قول المسيح في خطاب الله ، وهذه هي الحياة الأبدية ان يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته «يو ١٧ ، ٣».

وذكرت الاناجيل في عبادة المسيح لله انه اعتمد من يوحنا بمعمودية التوبة «وهو غسل التوبة» لكي يكمل كل بر «مت ٣ ، ١٥» وصار مع الوحوش في البرية أربعين يوما صائما ليجرب من ابليس «مت ٤ ومر ١ ولو ٤» ، «ومعنى ذلك انه يروض نفسه الكريمة على الطاعة لله ومجانبة الهوى» وكان يصعد الجبل ليصلي منفردا يقضي بذلك أكثر النهار وأكثر الليل «مت ١٤ ، ٢٣ ـ ٢٦ ومر ٦ ، ٤٦ ـ ٤٨» ، ويقصد لصلاته المواضع الخالية «مر ١ ، ٣٥» والانفراد «لو ٩ ، ١٨» ، ويبين ان بعض شفائه للمرضى لا ينال إلا بالصوم والصلاة «مت ١٧ ، ٢١ ومر ٩ ، ٢٩».

ويصرح بأنه لم يجيء لينقض الناموس ، ويذم على نقض وصاياه حتى

٣٢٢

الصغرى «مت ٥ ، ١٧ ـ ٢٠» ، ويحث على اتباع قول الكتبة والفريسيين لأنهم جلسوا على كرسي موسى «مت ٢٣ ، ١ ـ ٤».

* * *

وأما القيامة والآخرة والثواب والعقاب فيهما ، فلم تذكر التوراة الرائجة فيها شيئا أصلا حتى ان اهمال ذلك بالكلية في مقامات الوعد والوعيد ، فلم تذكر في الوعد والترغيب إلا التنعم الدنيوي الفاني كالاستعلاء على القبائل والبركة في المزارع ونتاج البهائم والسلة والمعجنة وثمرة البطن وما أشبه ذلك ، ولم تذكر في الوعد والتخويف إلا نحو اللعنة فيما تقدم ذكره ، والابتلاء بالأمراض الرديئة ، والقحط والذلة ، وانه يخطب امرأة ، ورجل آخر يضطجع معها ، ونحو ذلك ، انظر «تث ٢٨».

وعلى ذلك جرى سائر العهد القديم فلم تذكر فيه القيامة والآخرة إلا في دانيال «١٢ ، ١ و ٢» ، ، ولكنه نسب القيامة لكثير من الموتى الراقدين وهذا خلاف حقيقتها.

وجاء في اشعيا «٢٦ ، ١٩» كلام يشبه الكلام على القيامة ولكن سوقه يأباه ، وجاء في أيوب «١٩ ، ٢٦» كلام لا يدل الا على بقاء الروح في الجملة بعد الموت.

ويحتمل أن يكون لأجل ما ذكرناه من تفريط العهد القديم في ذكر القيامة والآخرة نبغت فرقة من اليهود يسمون الصدوقيين فأنكروا القيامة ، كما جاء ذكرهم في الاناجيل.

نعم ان العهد الجديد قد جاء فيه التعرض لذكر ما بعد الموت ، فقد جاء في انجيل لوقا في حال العالم الذي يسميه المسلمون عالم البرزخ وهو عالم الأموات فيما بين الموت والقيامة ، ففيه عن موعظة المسيح للفريسيين انه مات إنسان فقير مبتلي فحملته الملائكة الى حضن ابراهيم ومات غني فدفن فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب ، ورأى ابراهيم من بعيد ولعازر في حضنه ، فنادى يا أبي يا إبراهيم ارحمني وارسل لعازر ليبل طرف اصبعه بماء ويبرد لساني لأني

٣٢٣

معذب في هذا اللهيب ، فقال ابراهيم : يا ابني اذكر انك استوفيت خيراتك في حياتك ، وكذا لعازر البلايا والآن هو يتعزى وأنت الغني تتعذب وفوق هذا كله ان بيننا وبينكم هوة عظيمة لا يقدر من يريد العبور أن يجوزها ، فقال أسألك إذا يا أبت ان ترسله الى بيت أبي لأن لي خمسة اخوة حتى يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضا الى موضع العذاب هذا ، فقال له ابراهيم : عندهم موسى والأنبياء ليسمعوا منهم فقال : إذا مضى إليهم واحد من الأموات يتوبون فقال : ان كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء فلا يصدقون وإن قام واحد من الأموات «لو ١٦ ، ١٩ ـ ٣١».

ويوجد في أثناء هذا البيان خلل ظاهر يجل عنه تعليم المسيح حيث علل نعيم لعازر بابتلائه وعذاب الغني بثروته في الدنيا وهو تعليم فاسد ، فان الله العادل الكريم لا يعذب على نعمه التي وهبها برحمته وانما يعذب على المعاصي ، وقد يجتمع للصالح سعادة الدنيا والآخرة ، ولا يكون ثواب الآخرة مربوطا بمجرد الابتلاء في الدنيا ، بل إنما هو مربوط بالطاعة والصبر على البلاء ، والتسليم للقضاء ، فرب مبتلي يكون بمعصيته واعتراضه على الله من الكافرين فيخسر الدنيا والآخرة.

وجاء في رسالة بطرس الأول «٣ ، ١٨ و ١٩» في ذكر المسيح وانه تألم مماتا في الجسد ، ولكنه محيي في الروح الذي به أيضا ذهب فكرز للأرواح التي في السجن إذ عصت قديما.

وكان هذا الكلام يشير الى سجن الأرواح الشقية في عالم البرزخ .. ولعل هذا هو المأخذ لما كتبه البروتستنت في كتاب صلاتهم من وجوب الاعتقاد بأن المسيح نزل الى الجحيم.

ولكن المتكلف مع ما سمعته عن انجيل لوقا يقول في أمر البرزخ «يه ٢ ج ص ٢٠٥ س ٦» ، ، ان الديانة المسيحية منزهة عن هذه الخرافات ، فليس عندهم برزخ ..

ولعل المتكلف يقول فيما جاء في لوقا عن المسيح في شأن ابراهيم ولعازر

٣٢٤

والغني كما قاله كثير من أصحابه فيما جاء كثيرا في الاناجيل من حديث الأرواح النجسة بأنه كلام لا حقيقة له ولكنه كان مداهنة لأفكار الناس في غلطهم واصلاح رأي الناس في غلط الاعتقادات ليس من وظائف الرسالة ، بل من وظيفتها مداهنتهم بالغلط واغرائهم بالجهل.

وقد كثر في العهد الجديد التعرض لذكر القيامة محتجا لها ، ولكن باحتجاج واه لا يرضاه لأنفسهم عوام الناس وأوباشهم ، انظر الجزء الاول صحيفة ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

وفي كورنتوش الاولى يذكر ان بولس يحتج للقيامة بقيام المسيح من الأموات .. وبأن بولس تحمل المتاعب في افسس ولو لا القيامة لما فعل ذلك «١ كو ١٥ ، ١٢ ـ ٣٣.

ولا يخفى عليك انه احتجاج ساقط لا يثبت شيئا على من لم يثبت عنده قيام المسيح من الموت ، ولا يثبت القيامة بالنحو المطلوب وان فرض التصديق بموت المسيح وقيامه ، اذ لا ملازمة بين الأمرين خصوصا اذا كانت الشبهة في أمر القيامة من حيث بلاء الأجسام وانعدام صورتها وتفرق أوصالها ، وأما متاعب بولس فالاحتجاج بها واه ولو فرضنا ان كل من أجهد نفسه لم يقصد بمتاعبه الا وجه الله ، كيف والموجود المعروف ان سلطان الهوى وحب الجاه والرئاسة بعد الخمول يسخر لأكثر من ذلك ، فكم من مضرم لنار الثورة القاسية قاذف بنفسه في مهالكها معذب لنفسه في متاعبها وهو يعلم بإنكار القيامة.

وفي العهد الجديد عن بولس قوله : لا نرقد ـ أي لا نموت كلنا ـ ولكنا كلنا نتغير في لحظة في طرفة عين عند البوق الأخير فانه سيبوق فيقام الاموات عديمي فساد ونحن نتغير «١ كوه ١ ، ٥١ و ٥٢» وان الاموات في المسيح سيقومون ونحن الأحياء الباقين سنخطف جميعا معهم في السحب لملاقاة الرب وهكذا نكون مع الرب في كل حين «١ تس ٤ ، ١٦ و ١٧».

وقد ذكرنا في الجزء الاول صحيفة ٨٧ ـ ٨٨ ما في هذا الكلام من لزوم الكذب وبيّنا لك وهن ما تشبث به المتكلف لإصلاح هذا الكلام فراجع.

٣٢٥

وعن قول المسيح انه تأتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته ـ أي صوت المسيح ـ فيخرج الذين فعلوا الصالحات الى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات الى قيامة الدينونة «يو ٥ ، ٢٨ و ٢٩».

وهكذا يكون في انقضاء العالم يخرج الملائكة ويفرزون الأشرار من بين الأبرار ويطرحونهم في أتون النار «مت ١٣ ، ٤٩ و ٥٠» وان الصالحين أصحاب اليمين يرثون الملكوت المعد لهم منذ تأسيس العالم ، وأصحاب الشمال الملاعين يذهبون الى النار الأبدية المعدّة لإبليس وملائكته ، «مت ٢٥ ، ٣٤ و ٤١».

وهذا ناطق بأن الصالحين لهم ملكوت يرثونه لنعيمهم وهو معد لهم.

وعن قوله لتلاميذه : وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتا لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي «لو ٢٢ ، ٢٩ و ٣٠».

وقوله من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا الى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت الله «مت ٢٦ ، ٢٩ ومر ١٤ ، ٢٥».

وقوله لهم أيضا لا تضطرب قلوبكم أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي ، في بيت أبي منازل كثيرة والا كنت قلت لكم أنا ماض لأعد لكم مكانا ، يو ١٤ ، ١ و ٢».

وهذا صريح في التعليم بأن ملكوت الله الذي يرثه الأبرار في القيامة لنعيمهم فيه مساكن ومأكل ومشرب وشرب من نتاج الكرمة.

وجاء أيضا عن قول المسيح ان العصاة يمضون ويطرحون في جهنم النار التي لا تطفى حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفى «مر ٩ ، ٤٣ ـ ٤٩» ، وإن جسدهم يلقى في جهنم أتون النار الأبدية «مت ٥ ، ٢٩ و ٣٠ ، و ١٨ ، ٨».

نعم جاء عن قول المسيح ان أبناء هذا الدهر يزوجون ويزوجون ، ولكن الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الاموات لا يزوجون

٣٢٦

ولا يزوجون اذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله اذ هم أبناء القيامة «لو ٢٠ ، ٢٤ ، و ٢٧».

ومقتضى هذا الكلام ان القيامة مختصة بالأبرار الذين حسبوا أهلا للقيامة وهم أبناء الله ، وهذا مناقض لما تقدم في بيان قيام الاشرار أيضا للعذاب ودخول جهنم ، وقد أشرنا الى ما في هذا الكلام في الجزء الاول صحيفة ٢٣٤.

وعن بولس هكذا أيضا قيامة الاموات يزرع في فساد ويقام في عدم فساد يزرع في هوان ويقام في مجد يزرع في ضعف ويقام في قوة يزرع جسما حيوانيا ويقام جسما روحانيا «١ كوه ١ ، ٤٢ ـ ٤٥».

ومقتضى هذا الكلام أيضا اختصاص القيامة بالأبرار الذين يقومون في مجد وقوة.

وفي العهد الجديد ان يوم الرب تزول فيه السموات وتنحل ملتهبة وتنحل العناصر وتذوب محترقة وتحترق الارض والمصنوعات فيها ولكنه وعد بسماوات جديدة وأرض جديدة يسكن فيها البر.

وينبغي أن يكون هذا اليوم هو يوم القيامة.

وفيه أيضا المسيح باكورة الراقدين ثم الذين للمسيح في مجيئه وبعد ذلك النهاية متى سلم الملك لله الأب متى ابطل كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة لأنه يجب أن يملك حتى يضع جميع الأعداء تحت قدميه ، آخر عدو يبطل هو الموت لأنه أخضع كل شيء تحت قدميه ، ولكن حينما يقول ان كل شيء قد اخضع فواضح انه غير الذي اخضع له الكل ومتى اخضع له الكل ، فحينئذ الابن نفسه سيخضع للذي اخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل «١ كو ١٥ ، ٢٣ ـ ٢٩».

ولم يتيسر لي فهم المراد والمحصل من هذا الكلام ، ولكنه يتألف منه برهان على ان المسيح المسمى بالابن هو غير الله لأنه يخضع لله والخاضع غير الذي يخضع له الكل.

٣٢٧

وفيه أيضا ان التلاميذ سألوا المسيح عن علامة مجيئه وانقضاء الدهر فأعطاهم علامات بضيق وفتن وأضاليل وحذّرهم وذكر لهم ان مجيئه يكون بغتة ، وقال : وللوقت بعد ضيق تلك الأيام تظلم الشمس ، والقمر لا يعطي ضوئه والنجوم تسقط من السماء وقوات السماء تتزعزع ويبصرون ابن الإنسان ـ أي المسيح ـ آتيا على سحاب السماء بقوة ومجد كثير فيرسل ملائكته ببوق عظيم الصوت فيجمعون مختاريه من الاربع الرياح من اقصاء السماء الى اقصاها ، الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله ، السماء والارض تزولان ولكن كلامي لا يزول ، وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا ملائكة السماء الى أبي وحده ، «مت ٢٤ ، ٣ ـ ٣٧ ـ وانظر مر ١٣ ، ٣ ـ ٣٣ ، ولو ٢١ ، ٧ ـ ٣٤».

وقد اضطرب المتكلف وأمثاله في المراد من هذا الكلام ، فمرة قالوا : ان المراد من ذلك مجيء المسيح ورجوعه في آخر الزمان وقالوا ان المراد بالجيل الذي لا ينقضي حتى يكون هذا كله هو الامة اليهودية والقبيلة الإسرائيلية وانها لا تزال موجودة الى مجيء المسيح ، ولذا ترى الترجمة الكلدانية المطبوعة في نيويورك ذكرت بدل لفظ الجيل لفظ «هوجاج» ـ أي القبيلة ـ ومرة قالوا ان المراد من مجيء المسيح هو انتشار النصرانية ، والمراد من الجيل هو الطبقة من الناس ، ولذا ذكر في التراجم العبرانية بلفظ «دور» وفي الفارسية بلفظ «طبقه» ، وفي الإنكليزية والفرنساوية بلفظ «جنراشن» وان هذه الحوادث علامة لخراب بيت المقدس ولفظها كناية عن حادثة «انطوخيوس ابيغانس» ووقيعته ونكايته في اليهود.

وما وقعوا بهذا الاضطراب والتمحلات الواهية إلا من اضطراب الأناجيل ، فان متى ذكر هذه الامور جوابا لسؤال التلاميذ من المسيح عن مجيئه وانقضاء الدهر.

ولوقا ذكرها جوابا لسؤالهم عن وقت خراب الهيكل بيت المقدس ، ومرقس شوش الأمر وقرن الإشارة بأسباب الابهام والانحلال فلم يربط أطراف كلامه ، فانظر «يه ٢ ج ص ٢٣٠ ـ ٢٣٣».

٣٢٨

ومن الظرائف ان المتكلف صار يتشبث لتمحلاته باستعمالات لفظ الجيل في اللغة العربية بمعنى الصنف من الناس ، ولم يشعر ان لفظ الجيل ليس من اللغة الأصلية للأناجيل وإنما هو من لغات التراجم ، واشتراكه في اللغة العربية لا يؤاتيه على تأويله لاصلاح ظهور الكذب على أناجيله.

ولو تحرى رشدا ووجد مناصا أو كانت له سعة من الاطلاع لذكر اللفظ الأصلي من أناجيله باللغة اليونانية القديمة ، ثم بيّن انه هل يحتمل التأويل بمعنى الصنف من الناس كلفظ الجيل لكي يأول بالامة اليهودية أم لا يحتمل ذلك.

وفي العهد الجديد أيضا فان ابن الانسان ـ أي المسيح ـ سوف يأتي في مجد أبيه مع ملائكته وحينئذ يجازي كل واحد حسب عمله ، الحق أقول لكم ان من القيام هاهنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الانسان آتيا في ملوكته.

والمتكلف لم يجد هاهنا لفظ الجيل لكي يذكر معانيه في اللغة العربية ، وان جميع القائمين هناك قد ذاقوا الموت منذ قرون عديدة فالتجأ الى تأويل مجيء المسيح ومجازاته للناس حسب أعمالهم ، ورؤية بعض القائمين هناك له آتيا في ملكوته ، فانظر «يه ٢ ج ص ٢١٩ ـ ٢٢٣».

أترى المتكلف لا يشعر ان هذه التأويلات السخيفة لمثل هذا الكلام المنسوب الى مثل المسيح عليه‌السلام في مقام البيان والتعليم والاعلام بما يأتي ليفتح للكذابين بابا واسعا تتركهم يتكلمون بما يجري على لسانهم ثم يطبقونه بمثل هذا التأويل على أي حادثة تقع ، فيقول أتباعهم قد تمت نبواتهم والحمد لله فتأيدوا بالآيات الباهرة ..

فلا يبقى محل للعلامة التي أعطتها التوراة للدلالة على كذب الكاذب بدعوى النبوة وهي عدم الوقوع لما اخبر به ، انظر «تث ١٨ ، ٢١ و ٢٢» ولا يبقى لها وظيفة إلا أن تقف موقف الحيرة والتعطيل ، ولعلها إن قالت كلمة قيل لها ان أضاليلك كأضاليل إظهار الحق.

وليت اضطراب الأناجيل الرائجة وخللها قد اعطى قدس المسيح كفافا لا له ولا عليه.

٣٢٩

وقد تركنا في هذا المقام ذكر الهوسات التي جاءت في أمر القيامة في الكتاب المسمى رؤيا يوحنا تكريما لهذا المقام عن مثلها.

* * *

وأما شريعة موسى فقد ذكرت التوراة الرائجة في ابتدائها شريعة ذبح الفصح في ليلة الرابع عشر من شهر ابيب وهو نيسان بين العشاءين يذبحون لكل بيت شاة ، والفقراء يكتفي الجماعة من الجيران حسب أكلهم بشاة ويأكلون الفطير من ليلة الرابع عشر الى ليلة الحادي والعشرين من نيسان ومن شريعة الفصح أن لا يأكل منه إلا المختون ، ولا يخرج من لحمه خارج البيت ولا يكسر عظمه «خر ١٢».

وذكرت فيما بين المنزل الأول لهم من مصر وبين المنزل الثاني ان الله أمر موسى أن يقدس كل بكر فاتح رحم من الناس والبهائم فانه لله ، ومتى قدموا الى أرض الموعد يقدمون كل بكر ذكر من نتاج البهائم لله ولكن بكر الحمار يفديه بشاة وإن يفده يكسر عنقه ، وكل بكر من الأولاد يفديه ، ولم يعين حينئذ فدائه «خر ١٣».

وفي برية سين في نحو الخامس عشر من أيار أنزل الله عليهم المن وأرسل إليهم السلوى وشرع لهم في المن أن يأخذوا لكل واحد عمرا وهو عشر الأيفة يأخذوه يوما فيوما لا يوم الجمعة فانهم يأخذون فيه ليوم السبت ، والمن كبزر الكزبرة وطعمه كرقاق بعسل «خر ١٦».

وفي «رفيديم» أشار على موسى حموه «يثرو» وهو شعيب أن يعلم بني اسرائيل الشرائع ويقيم عليهم رؤساء ألوف ومئات وخماسين وعشرات فيقضون للشعب في الدعاوي الصغيرة ويرجعون الى موسى في الدعاوي الكبيرة لكي تخف عن موسى المشقة التي كان يتحملها بتصديه للقضاء بنفسه في كل الدعاوي ففعل موسى كل ما قال حموه «خر ١٨».

وهذا يقتضي أن يكون حمو موسى نبيا قد بلغ موسى بهذا الأمر عن الله وإلا فحاشا لموسى أن يسلط الناس على وظيفة القضاء وفصل الخصومات بدون

٣٣٠

أمر من الله بل بمجرد مشورة من رجل من سائر الناس ، والتوراة الرائجة تذكر ان موسى كان يؤخر ما يصدر عليه الى أن يبين الله له حكمه فذكرت انه لم يحكم على ابن الإسرائيلية الذي سب الاسم بل حبسه الى أن أمره الله بقتله رجما ، انظر «لا ٢٠ ، ١٠ ـ ١٧» ، وكذا فيمن وجدوه يحتطب في يوم السبت «عد ١٥ ، ٣٢ ـ ٣٧».

وذكرت عن أول كلام الله لموسى في طور سيناء في خطاب بني اسرائيل : لا تكن لك آلهة اخرى امامي ، لا تصنع لك تمثالا منحوتا ، «وعبارته في العبرانية فسل» ، ولا صورة مما في السماء والأرض والماء لا تسجد لهن ولا تعبدهن.

وكثيرا ما كررت وأكدت هذا النهي وتوعدت على مخالفته ونهت عن مخالطة شعوب الارض بل أمرت بملاشاتهم احتياطا لهذه الحقيقة وحماية لحوزة التوحيد من مهاجمة الأهواء بعادية أضاليلها وحفظا لصحة الاعتقاد من عدوى داء الوثنية وسريان وباء الشرك بالتجاوز عن التوحيد وتأليه البشر وعبادة جند السماء والحيوان والجماد.

ثم لنذكر باقي الشريعة في فصول ملخصة ، وربما نشير في مكرراتها الى مورد واحد.

الفصل الأول : في الأوامر والنواهي الواردة في الآداب وتهذيب الأخلاق ، وقد امرت بني اسرائيل بعبادة الله والحلف باسمه وإكرام الأبوين ، والمساعدة حتى للعدو والمبغض ، والحكم بالعدل لقريبهم.

ولكنها وحاشا التوراة الحقيقية قد باهضت التعليم الالهي وشوّهت صورته ، إذ خصت أمرها بالحكم بالعدل بالقريب ـ أي من كان اسرائيليا ـ ، فان التعليم الصحيح ووجدان كل البشر يشمئزان من حقيقة هذا التخصيص وصورته.

ونهت بني اسرائيل عن القتل والزنا والسرقة والالتفات الى الجان وطلب التوابع والتفؤل والعيافة وتدنيس البنت بتعريضها للزنا وعن أخذ الرشوة ومتابعة المنافق واتباع الكثيرين لفعل الشر والتحريف وعن الحلف باسم الله كذبا

٣٣١

واضطهاد الغريب وظلم الأجير والمسكين والاساءة الى الأرملة واليتيم وشتم الاصم وجعل المعثرة قدام الأعمى وعن الجور في القضاء.

ويا حبذا هذا التعليم الجاري على حقه من الاطلاق ، ولكنها لم تتم الاحسان به بل خصصت جملة من التعاليم ويا أسفاه.

فنهتهم عن الانتقام والحقد على أبناء شعبهم ، والسعي بالوشاة بين شعبهم وشهادة الزور على قريبهم وأن يغدر أحدهم بصاحبه.

ويا ليتها لم تقيد هذه التعاليم بالشعب والقريب ، فان الحقد والغدر والوشاية وشهادة الزور رذائل ينبغي أن تجتنب من أصلها وذاتها مع كل أحد ولا يحسن بالتعاليم الصحيحة ان تقيدها وتخصها ولو في الصورة ، ولكن في المثل «حنّ قدح ليس منها».

نعم لا يوجد هذا البأس في منعها عن أخذ الربا من الاسرائيلي وجواز أخذه من الأجنبي.

الفصل الثاني : في الشعائر والمواسم والعبادات «ومنها» محرقة كل يوم وهي خروف في الصباح وخروف بين العشاءين مع التقدمة والسكيب من الخمر ، «ومنها» محرقة السبت أيضا وهي خروفان مع التقدمة والسكيب من الخمر ، «ومنها» محرقة رءوس الشهور وهي ثوران وكبش وسبعة خراف حولية وتيس مع تقدمتها وسكيبها من الخمر ، «ومثلها» محرقة الفصح في كل يوم من خامس عشر نيسان الى الحادي والعشرين ، «ونحوها» محرقة عيد الأسابيع بعد خمسين يوما من أوائل الحصاد ومحرقة عيد المظال مع التقدمات والسكائب من الخمر مع تفاوت في المقادير والأيام.

هذا ما عدا محرقات القرابين ، وكيفية إحراقها أن توضع الليلة على الموقدة كل الليل ، والنهارية كل النهار والنار تتقد دائما ، ويحرق أيضا على هذه النار الالية والشحم من ذبائح الخطيئة وذبائح السلامة على تفصيل طويل في الذبح والاحراق وإلقاء الرماد والأكل من ذبائح الخطيئة والسلامة ، انظر «عد ٢٨ ولا ١ ـ ٩».

٣٣٢

ولا يمتنع فرض الحكمة في شريعة المحرقات باعتبار حال الوقت والعوائد وبني اسرائيل ، فلا تقل لا يوجد فيها أثر إلا اتلاف المال وتضييعه من دون نفع للفقير أو غيره ..

ولكن قل متأسفا ما أسوأ التعبير عن المحرقات بأنها رائجة سرور لله ، ومع ذلك تنسب العبارة الى قول الله جل وعلا ، وكذا رائجة سروري ، وقل أيضا ما معنى سكب المسكر ، وما أسوأ التعبير بأنه سكيب مسكر للرب وهذا يقتضي أن يعمل مصنع للمسكر ويدخر لأجل هذا الشعار ، أفلا يدعو هذا الى الرغبة في المسكر ودوام وجوده ، وهو رأس الخبائث ، ومنبع الشرور ، إذا وأين ذم الخمر والمسكر في العهدين كما ذكرناه في الجزء الأول صحيفة ٢١٠ ـ ٢١١.

«ومنها» السبت ولزوم ترك الاعمال فيه ، «ومنها» عيد الفصح وعيد الاسابيع وعيد المظال وأن يحضر في هذه الاعياد جميع الذكور من بني اسرائيل في المحل الذي يختاره الله كبيت المقدس في أورشليم.

ولعلك تشك في ان هذا من شريعة الله المعطاة لموسى وتقول ان الله الحكيم الذي شرع في القرآن الكريم صلاة الخوف والتحذر من العدو لا يناسب حكمته أن يأمر بني اسرائيل بأن يجتمع جميع ذكورهم في الاعياد في بيت المقدس ونحوه ويتركوا حرمهم ونسائهم بلا ذكر يحميهن من سوء الاعداء والفسقة ، وهم بين كفار وثنيين يطلبون بني اسرائيل بالاحقاد والثارات والذحول ، وان الله تبارك اسمه ليعلم انهم مئات من الألوف سينتشرون في أرض الموعد بحيث تبلغ مسافة كثير منهم عن بيت المقدس ونحوه مسيرة يوم أو يومين ، ويعلم ما تذكره التوراة الرائجة وكتاب يشوع «يوشع» ان صح نقلهما فيما صنعه بنو اسرائيل بسكان الارض من سوء الولاية وقتل النساء والاطفال واحراقهم مع البلاد والبهائم ، وقولهما ان ذلك عن أمر الله ، إذا فكيف يأمرهم بشريعة تترك نسائهم وبناتهم مطمعا للثائرين والفسقة.

«ومن الشعائر» صنعة خيمة الاجتماع والتابوت وثياب هارون وبنيه والذبائح لتقديسهم وللتكفير وسائر أحكام الكهنة ، «خر ٢٥ ـ ٣١ ولا ١٦ ـ و ٢١».

٣٣٣

ولا تستغرب ما ذكر في وضع ثياب هارون وزينته للكهنوت فان الازمان تختلف والزي والوقار يتفاوت بحسب الزمان والمكان وبذلك يمكن أن يكون لذاك المنقول حظ من الحقيقة.

«ومنها» شريعة المنذور لله وفيها اجتنابه عن الخمر وما يؤخذ منه كالخل والعنب ونحوهما .. وعند ما يحل من انتذاره يسوغ له شرب الخمر «عد ٦».

فأين حماسة المتكلف في قوله «يه ١ ج ص ١٣» في قوله فأنت ترى انها كانت جائزة والتوراة والإنجيل ناطقان بأنها حرام قطعا.

«ومنها» شريعة إخراج العشر لله من الحبوب والثمار ، وكذا البقر والغنم مما يعبر تحت العصا سنة بسنة ، «لا ٢٧ ، ٣٠ و ٣٢ وتث ١٤ ، ٢٢ و ٢٣».

ولكن التوراة الرائجة قد اختلفت في هذه الشريعة ، «فمرة» ذكرت ان هذه العشور لله واطلقت كما تقدم.

«ومرة» ذكرت ان الله أعطاها للاويين ميراثا ونصيبا واجرة عوض خدمتهم لخيمة الاجتماع إذ لم يجعل لهم قسمة في أرض الموعد حتى ان اللاويين يرفعون عشر العشر ويعطونه رفيعة لهارون كما يعشر الناس أملاكهم ، انظر «عد ١٨ ، ٢١ ـ ٣٢».

«ومرة» ذكرت ان العشر يأكله صاحبه ولكنها منعته عن أكله في محله بل يحمله الى المكان الذي يختاره الله ويأكله هناك ، وإذا طال عليه الطريق فلم يقدر أن يحمله فانه يبيعه بفضة ويحملها الى المكان الذي يختاره الله وينفقها في كل ما تشتهيه نفسه من البقر والغنم والخمر والمسكر وكل ما تطلب منه نفسه فيأكله هناك أمام الرب إلهه ، ولا يترك اللاوي بل يعطيه شيئا لأنه ليس له نصيب في الأرض «تث ١٢ ، ١٧ و ١٨ ، و ١٤ ، ٢٣ ـ ٢٧».

ثم ذكرت ان الإسرائيلي في آخر ثلاث سنين يخرج كل عشر محصوله في تلك السنة سنة العشور ويضعه في أبوابه فيأتي الغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابه ويأكلون ويشبعون ، وكذا اللاوي لأنه ليس له قسم ولا نصيب في

٣٣٤

الأرض «تث ١٤ ، ٢٨ و ٢٩ ، و ٢٦ ، ١٢ و ١٣».

وظاهر الكلام يقتضي ان هذا العشر غير العشور السنوية ولذا خالفها في الاحكام ويحتمل أن يكون منها ولكن الاحكام اختلفت من حيث النسخ أو تعدد مواليد التوراة.

«ومنها» ما جاء في التوراة الرائجة في خطاب الشعب الإسرائيلي ست سنين تزرع أرضك وتجمع غلتها ، وأما في السنة السابعة فتريحها وتتركها ـ أي لا تزرعها ـ ليأكل فقراء شعبك وفضلتهم تأكلها وحوش البرية كذلك تفعل بكرمك وزيتونك «خر ٢٣ ، ١٠ و ١١».

وهذا كلام غير مستقيم يشهد بأنه لا يعرف موسى عليه‌السلام فان الارض إذا اريحت ولم تزرع لم يمكن أكل الفقراء منها ولا وحوش البرية ، وهل يأكلون ترابها ، ولو قيل هذا في الكرم والزيتون لكان مناسبا كما جاء في «لا ٢٥ ، ٥ ـ ٧».

«ومنها» سنة الابراء وهي في آخر سبع سنين يبرأ فيها كل ذي دين من بني اسرائيل صاحبه وأخاه مما عليه من الدين إلا أن يكون غنيا أو يكون المديون أجنبيا عن بني اسرائيل «تث ١٥ ، ١ ـ ٥».

ومما يناسب ذلك ان العبد العبراني يخدم ست سنين وفي السنة السابعة يخرج حرا ويزوّده سيده من غنمه وبيدره ومعصرته وإن دخلت زوجته معه خرجت معه ، وان تزوج عند سيده وصار له أولاد خرج وحده وان أحب البقاء عند سيده مع أولاده يقدمه سيده الى الله ويثقب اذنه بالمثقب فيخدمه الى الأبد ويكون عبدا مؤبدا «خر ٢١ وتث ١٥».

ويا حبذا هذه الشريعة في إطلاق العبد العبراني لو لا قساوة ثقب اذنه ووسمه بسمة الذلة والندامة باستخدامه الى الأبد ، ويا حبذا لو وسعه كرم الاخلاق بغير هذه العادة القاسية ، وحاشا الوحي من ذلك.

«ومنها» سنة اليوبيل وهي السنة الخمسين لا يزرعون الأرض فيها ولا يقطفون كرمها وينادون في يوم الكفارة بالعتق في الأرض لجميع سكانها ، وتفك

٣٣٥

الأراضي المبيعة وترجع الى أصحابها على ميزان مخصوص ويخرج العبد العبراني حرا هو وبنوه «لا ٢٥».

ولم يتضح من ذلك ان العبد العبراني الذي حكم قبلا بثقب اذنه وخدمته وعبوديته الى الأبد هل يخرج في سنة اليوبيل حرا فيكون الحكم بالتأبيد منسوخا أم لا يخرج.

«ومنها» تقديس الابكار الذكور لله ، فعن كلام الله لموسى : قدس لي كل بكر فاتح رحم من بني اسرائيل من الناس والبهائم انه لي وذكر فداء الولد البكر مجملا «خر ١٣ ، ٢ و ١٢ و ١٣ و ١٥ ، و ٣٤ ، ٢٠».

وعن خطاب الله لبني اسرائيل وابكار بنيك تعطيني «خر ٢٢ ، ٢٩».

ثم ذكر فداء البكر من الإنسان والبهائم النجسة وهو خمسة شواقل فضة تكون لهارون لأن الله جعل الابكار لهارون ، وأما بكر البقر والضأن والمعز فلا يفدي بل يذبح ويرش دمه على المذبح ويوقد شحمه وقودا رائحة سرور ، ولحمه يكون لهارون «عد ١٨ ، ١٥ ـ ١٩».

ثم ذكر عن قول الله وها أنا أخذت اللاويين من بني اسرائيل بدل كل بكر فاتح رحم من بني اسرائيل فيكون اللاويون لي «عد ٣ ، ١٢» ، وعن قوله جل اسمه لموسى : عد كل بكر ذكر من بني اسرائيل من ابن شهر فصاعدا فتأخذ اللاويين لي أنا الله بدل كل بكر في بني اسرائيل وبهائم اللاويين بدل كل بكر في بهائم بني اسرائيل «عد ٣ ، ٤٠ و ٤١».

وهذا الاختلاف في حكم الابكار من الناس والبهائم من حيث التقديس والفداء وعدمه والاستبدال عنها باللاويين وبهائمهم لا يخلو عن أن يكون من ناحية النسخ أو من ناحية تشويش التوراة الرائجة لتعدد مواليدها.

«ومنها» انتخاب القهاتيين من اللاويين لخدمة خيمة الاجتماع عن أمر الله لموسى ، وان عمر الموظف للخدمة يكون من ابن ثلاثين سنة الى خمسين «عد ٤» فنصت التوراة العبرانية على هذا العدد في سبعة مواضع ، وخالفتها السبعينية في هذا المقام فأبدلت الثلاثين سنة بخمس وعشرين .. والعبرانية

٣٣٦

نفسها أيضا ذكرت ان المنتخب يكون من ابن خمس وعشرين سنة الى خمسين «عد ٨ ، ٢٤ و ٢٥».

وقد ذكرنا هذا الاختلاف وما قيل فيه في الجزء الأول صحيفة ٢٧٦ و ٣٠٠ ـ ٣٠٣ فراجعه.

٣٣٧

الفصل الثاني

في الملابس والمطاعم

وقد نهت التوراة بني اسرائيل عن لبس ثوب مصنف من صنفين أو مختلطا صوفا وكتانا ، ولا يكون متاع رجل على امرأة ولا يلبس رجل ثوب امرأة وأمرتهم بأن يصنعوا لهم أهدابا في أذيال ثيابهم ويجعلوا على هدب الذيل عصابة من اسمانجوني وأن يصنعوا جدائل على أربعة أطراف الثوب الذي يتغطون به.

ونهتهم عن أكل الدم والفريسة والميتة ، ومن البهائم ما لم يجمع صفتين وهما أن يكون يجتر وله ظلف ينشق الى ظلفين ، ونصت من ذلك على تحريم لحم الجمل والوبر والأرنب والخنزير.

ومن حيوانات الماء ما لم يكن له زعانف وحرشف.

ومن الطير : النسر والانوق والعقاب والحداة والباشق والشاهين وكل غراب والنعامة والظليم والساف والباز والبوم والغواص والكركي والبجع والقوق والرخم واللقلق والببغاء والهدهد والخفاش وكل دبيب الطير الماشي على أربع إلا ما كان له كراعان فوق رجليه يثب بهما على الأرض كالجراد والدبا والحرجوان والجندب «لا ١١» ، وهناك محرمات اخر لا يهمنا استقصائها.

٣٣٨

الفصل الثالث

في الطهارة والنجاسة

وقد حكمت التوراة بنجاسة هذه الحيوانات المحرمة وان من مس ميتتها يكون نجسا الى المساء ، وبنجاسة أشياء اخر تعرف هي ووجه التطهير منها من «لا ١١ و ١٢ و ١٥ و ٢٢ وعد ١٩».

وإن شئت ان تتعجب فتعجب من العهد الجديد المبني على ان التوراة الرائجة هي التوراة الحقيقية التي هي وحي الله وتكليمه لرسوله موسى عليه‌السلام ، أفلا تراه حيث أراد أن يلاشي شريعة التوراة في أحكامها وخصوص تحريمها لأكل كثير من الحيوانات وتنجيسها وأحكام النجاسات والتنجيس ، كيف لم يقدر أن يحبس بواعثه عن الظهور فلم يملك لسانه عن التنديد بالشريعة والتلويح أو التصريح بتكذيب كونها من الله ، ولم يتستر من مصانعة الامم بموافقتهم على عوائدهم استجلابا لأهوائهم ، فنسب الى بطرس انه امر في الوحي بأن يذبح ويأكل من الحيوانات التي حرمتها التوراة ونجستها ، فقال جريا على شريعة التوراة : كلا يا رب ، لأنه لم يدخل فمي قط دنس أو نجس فأجابه صوت من السماء ثانية ما طهره الله لا تنجسه أنت «١٠ ع ١٠ ، ١١ ـ ١٧ ، و ١١ ، ١٢ ـ ١١».

أفلا ترى ان هذا الكلام يقول مجاهرة لا مخالسة ان تنجيس الحيوانات وتحريم أكلها إنما هو بشري ، وأما عند الله فهي على خلاف ذلك بل هي

٣٣٩

طاهرة ، وما طهره الله فلا تدنسه أنت.

ونسب أيضا الى مشورة الرسل في عزمهم على ملاشاة الشريعة ان يعقوب قال أنا أرى أن لا يثقل على الراجعين الى الله من الامم بل يرسل إليهم أن يمتنعوا عن نجاسات الأصنام والزنا والمخنوق والدم لأن موسى منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به إذ يقرأ في المجامع في كل سبت ، ثم زعم ان الرسل بعد امضائهم لهذا الرأي كتبوا الى الامم ما ملخصه إذ قد سمعنا ان اناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم وقائلين ان تختتنوا وتحفظوا الناموس الذي لم نأمرهم لأنه قد رأى الروح القدس ونحن ان لا نضع عليكم ثقلا أكثر غير هذه الأشياء الواجبة ان تمتنعوا عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا «١ ع ١٥ ، ٦ ـ ٣٠».

أفلا تقول ـ أي مداخلة للرأي في شريعة الله ، وإذا شاء الله أن يثقل بشريعته على أهواء الناس لكي ينعم عليهم بأسباب الطهارة والكمال وشرف الطاعة ، فمن ذا الذي يعارض الله في شريعته ورحمته ويشاركه في أحكامه ، وما هو معنى قول القائل لأن موسى منذ أجيال قديمة له من يكرز به.

أفتفهم من هذا القول مرادا غير التلويح بأن العمل بقيود التوراة إنما كان محاباة لموسى وتنفيذا لرئاسته.

وكفاه من ذلك هذه المدة ، فان الايام دول ، والأشياء العتيقة قد مضت ، «٢ كو ٥ ، ١٧» ، وما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال «عب ٨ ، ١٣».

إذا فأين نقل الإنجيل عن قول المسيح في الحث على العمل بوصايا الناموس حتى الصغرى ، وانه لم يجيء لينقضه بل ليكمله «مت ٥ ، ١٧ ـ ٢٠» ، وأين حثه على حفظ ما يقول الكتبة والعمل به لأنهم على كرسي موسى جلسوا ، «مت ٢٠ ، ١ و ٢».

وأيضا ما ذا ترى من المعنى في قوله فيما تقدم قد سمعنا ان اناسا خارجين من عندنا أزعجوكم بأقوال مقلبين أنفسكم الى آخره.

٣٤٠