الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

ويقول العهد الجديد أيضا : والكلمة كان عند الله والكلمة كان الله ، (يو ١ ، ١».

فكيف يكون الكلمة الله والذي هو الله كيف يكون عند الله.

وجاء في العهد الجديد أيضا : لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه ، «١٠ ع ٢٠ ، ٢٨».

وهذه من الدواهي التي توقف العقل والعرفان موقف الحسرة والعجب.

هذا ودع عنك ما تضمنه العهدان مما يمكن حمله على المجازات الواهية المستهجنة كوصفه جل شأنه بطويل الروح «عد ١٤ ، ١٨» وانه حزن وتأسف في قلبه لأنه عمل الإنسان والحيوانات «تك ٦ ، ٦ و ٧» ، وانه ندم على جعله شاول ملكا «١ صم ١٥ ، ١١» وانه رجل الحرب «خر ١٥ ، ٣» وكنسبة الرأس له جل شأنه «ا ش ١٩ ، ١٧» ، وحدقة العين «تث ٣٢ ، ١٠» والأجفان «مز ١١ ، ٤» والأنف «خر ١٥ ، ١٠» والفم «تث ٨ ، ٣» ، والجناحين والأجنحة والخوافي وهي الريش الصغار من الأجنحة «مز ١٦ ، ٨ ، و ٩١ ، ٤» والحضن «يو ١ ، ١٨» وباطن القدمين «خر ٤٣ ، ٧» وموطئ القدمين «١ اي ٢٨ ، ٢» وكنسبة المشي له جل شأنه «مز ١٠٤ ، ٣» والجلوس «مز ٩ ، ٤» وانه جل شأنه ركب على كروب وطار «مز ١٨ ، ١٠» وجالس على الكروبيم «مز ٨٠ ، ١» والركوب على سحابة سريعة والقدوم الى مصر «ا ش ١٩ ، ١» والابتلاع «مر ا ٢ ، ٢» والالتحاف بالسحاب «مر ا ٣ ، ٤٤» ، والتحير «اش ٥٩ ، ١٦» ، والفرح «مز ١٠٤ ، ٣١» ، والضحك «مز ٣٧ ، ١٣».

* * *

ولا يخفى ان الملائكة مخلوقون لله يسبحونه ويقدسونه ويعملون بأمره كما جاء في العهد القديم «مز ١٠٤ ، ٤ و ١٠٣ ، ٢٠ ، و ١٤٨ ، ٢» وجاء أيضا ان الله ينسب إليهم حماقة «اي ٤ ، ١٨» وفيهم ملائكة أشرار «مز ٧٨ ، ٤٩» وانظر الى العهد الجديد «٢ بط ٢ ، ٤ ويه ٦» ، هذا والتوراة الرائجة

٣٠١

كثيرا ما تنسب الى الملاك ما تختص نسبته بالله جل شأنه وتسمى الملاك «يهوه» أو «الإله» وهما اسمان مختصان بذات الجلالة ، فمن ذلك قولها ان ملاك يهوه وجد «هاجر» وذكرت مكالمته معها ثم قالت : وقال لها ملاك يهوه تكثيرا أكثر نسلك فلا يعد من الكثرة.

ثم قالت التوراة فدعت «أي هاجر» اسم يهوه الذي تكلم معها أنت ايل رئى «اي إله رؤية» «تك ١٦ ، ٧ ـ ١٤».

فالتوراة الرائجة سمت الذي كلم هاجر أولا ملاك يهوه ثم نسبت له ان يكثر نسلها حتى لا يعد من الكثرة ، وهذه النسبة لا تصح إلا لله تبارك اسمه ثم سمت الملاك الذي كلم هاجر «يهوه».

وقالت التوراة أيضا ونادى ملاك الرب هاجر من السماء قومي احملي الغلام لأني سأجعله امة عظيمة «تك ٢١ ، ١٧ و ١٨».

وقد كثر خبط التوراة الرائجة بين الله جل اسمه وبين الملاك الذي هو الملك ، فقد جاء فيها ما ملخصه ان يهوه وهو الله جل اسمه كما قدمنا ظهر لإبراهيم فرفع عينيه وإذا ثلاثة رجال واقفون فنظر وركض لاستقبالهم وسجد الى الأرض وقال : يا سيد ان كنت وجدت نعمة في عينك فلا تتجاوز عبدك ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة وأخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون فعمل لهم طعاما وأكلوا فقالوا أين سارة وقال :

رجوعا ارجع كوقت الحياة وهو ذا لسارة امرأتك ابن ، وكانت سارة سامعة فضحكت فقال يهوه : لم ضحكت سارة؟ هل يستحيل على يهوه شيء للميعاد ارجع أليك ولسارة ابن ثم قام الرجال وتطلعوا نحو سدوم «تك ١٨ ، ١ ـ ١٧».

ويا للعجب كيف يكون الله جل شأنه ثلاثة رجال يمشون ويأكلون؟ وكيف يخاطبهم ابراهيم تارة بخطاب الواحد فيقول «يا سيد» «عينك» «عبدك» وتارة بخطاب الجمع فيقول «اغسلوا أرجلكم» «واتكئوا» «فتسندون قلوبكم» وكيف تعبر عنهم التوراة مرة بضمير الجمع فتقول «أكلوا»

٣٠٢

«وقالوا» ، ومرة بضمير الواحد فتقول «وقال» «وقال يهوه ارجع».

وليت شعري هل تقول التوراة ان الله يهوه جلت أسماؤه هو جمع الرجال الثلاثة الذين أكلوا أم هو واحد منهم ..

نعم ان الرسالة المنسوبة لعبد المسيح تقول : ان الرجال الثلاثة هم أقانيم الإله الواحد.

ولعله يحتج لخرافتها هذه بأنهم أكلوا تحت الشجرة فترغم بحجتها أنوف الوثنيين ، وتمثل مجد الإله وقدسه للملحدين سبحانك اللهم.

ولعل المتكلف يحتج على ان الرجال الثلاثة هم الله جل شأنه بقول التوراة ان ابراهيم ركض لاستقبالهم وسجد الى الأرض ، فإن المتكلف يدعي في مثل هذا المقام «يه ٤ ج ص ٢٠٥ و ٢٠٦» ان سجود ابراهيم دليل على ان الذي سجد له هو الله.

ولم يشعر المتكلف ان التوراة تبين من سخافة هذه الحجة ان ابراهيم سجد مرتين لبني حث «تك ٢٣ ، ٧ وط ١٢».

واعلم ان النصارى يتشبثون لدعوى الثالوث وألوهية المسيح بأوهام كلمات في كتبهم الرائجة ، فحاول إظهار الحق أن يجادلهم بما في كتبهم لكي يوضح انها لم يدعها قلم كذب الكتبة لأن تقف على حد المعقول وصواب المحاورة ، بل ان أمرها دائر بين المقالات الكفرية ، أو التأدي على سخافة الجاز وممقوت التعبير وان أبى الكثير منها إلا مناقضة الحقائق المعقولة في اسم الله والإله ويهوه ، وما تختص نسبته بالله جل اسمه كما سمعت بعضه ، ولكن المتكلف نكص الى تلفيقات لم يتدبر بها ما في كتبه ، فكأنه لم يفهم مراد إظهار الحق ، أو لم يجد ما يتعب به القلم ويسود به وجه الصحف إلا هذه التلفيقات حتى حاول أن يلوث إظهار الحق بما جادلهم به من كتبهم بل عابه به انظر «يه ٤ ج ص ٢٠٢ ـ ٢١٠».

ثم قالت التوراة في هذا الموضوع على الأثر ما ملخصه : وجاء الملا كان الى سدوم فاستقبلهما لوط وسجد بوجهه الى الارض ودعاهما الى ضيافته فأكلا فقال

٣٠٣

الرجلان للوط : اخرج من لك في هذا المكان لأن يهوه أرسلنا لنهلكه وكان الملا كان يعجّلان لوطا وكان لما أخرجاهم قال اهرب لحياتك فقال لهما لا يا سيد هو ذا عبدك وجد نعمة في عينيك وعظمت لطفك هو ذا المدينة قريبة اهرب إليها فقال : رفعت وجهك في هذا الأمر لأني لا أقدر أن أفعل شيئا حتى تجيء الى هناك «تك ١٩ ، ١ ـ ٢٣».

وليت شعري ان الرجال الثلاثة الذين جاءوا الى ابراهيم وذهبوا الى سدوم كيف صاروا ملاكين اثنين.

أيقول المتكلف ان ثالثهم هو يهوه الإله الذي كلم ابراهيم وذهب وانه رجع عن صحبة الملاكين بعد ما أكل من ضيافة ابراهيم؟ ولما ذا صار الملا كان واحدا يقول لهما لوط «لا يا سيد» «هو ذا عبدك»؟ ومن هو الذي يقول أنا لا أقدر أن أفعل شيئا حتى تجيء الى هناك.

وان الرسالة المنسوبة لعبد المسيح وأمثالها تقول : ان العهد القديم يرمز الى الثالوث ، أتراهم يريدون بذلك هذا الخبط في العدد.

وان يعقوب صارعه إنسان حتى طلوع الفجر ولما رأى ـ أي ذلك الإنسان ـ انه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فخذ يعقوب في مصارعته معه وقال ـ أي ذلك الانسان ـ اطلقني لأنه قد طلع الفجر فقال : ـ أي يعقوب ـ لا اطلقك إن لم تباركني ، فقال له : ما اسمك؟ فقال : يعقوب فقال : لا يدعى اسمك بعد يعقوب بل يسرائيل ـ أي يجاهد الله ـ لأنك جاهدت مع الله ومع الناس وقدرت ، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل ـ أي وجه الله ـ لأنه رأيت الإله وجها لوجه ونجيت نفسي «تك ٣٢ ، ٢٤ ـ ٣١».

والعهد القديم يقول أيضا : ان يعقوب بقوته جاهد الله جاهد الملاك وغلب «هو ١٢ ، ٣ و ٤».

فانظر الى سخافة هذا الكلام كيف جعل الموضوع الواحد إنسانا وملاكا وسماه الإله ووصفه بالجسمية والمصارعة ليعقوب والمغلوبية.

وتقول التوراة الرائجة في بدء خطاب الله لموسى ان ملاك يهوه ظهر لموسى

٣٠٤

بلهيب نار من وسط عليقة وناداه الله (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) وقال له أنا إله أبيك ابراهيم الى آخر كلام الله معه.

وهذا وإن أمكن حمله على ان الذي ظهر في لهيب النار لموسى هو الملك ، والذي كلم موسى هو الله.

ولكن التوراة الرائجة تأبى هذا التأويل حيث تقول : وغطى موسى وجهه لأنه خاف أن ينظر الى الله «خر ٣ ، ٦» وهذا يعطى انها تقول : ان الله هو الملاك الذي ظهر في لهيب النار ، ويؤكده قول العهد الجديد ان الذي كلم موسى هو الملاك «ا ع ٧ ، ٣٨».

ثم ان التوراة الرائجة تارة يصرح مضمونها بأن الله جل اسمه وهو يهوه سار أمام بني اسرائيل بعمود سحاب نهارا وعمود نار ليلا ، وذلك من سكوت وهو المنزل الثاني لهم من مصر الى عربات مواب حيث توفي موسى عليه‌السلام وذلك في مدة أربعين سنة.

كقولها عند ذكر ارتحالهم من سكوت ، ويهوه يسير أمامهم نهارا في عمود سحاب ليهديهم الطريق وليلا في عمود نار ليضيء لهم ليمشوا نهارا وليلا «خر ١٣ ، ٢١».

وقولها عن خطاب موسى لله يهوه في برية فاران ، وبعمود سحاب أنت سائر أمامهم نهارا ، وبعمود نار ليلا ، «عد ١٤ ، ١٤» ، وقولها عن قول موسى في خطاب بني اسرائيل في عربات مواب ، يهوه إلهكم السائر أمامكم في الطريق في نار ليلا وفي سحاب نهارا «تث ١ ، ٣٢ و ٣٣».

وتارة تنقض ذلك وتذكر ان السائر أمام بني اسرائيل هو ملاك الاله يهوه الذي يرسله يهوه.

فقد قالت في شأنهم في فم الحيروث وهو المنزل الثالث لهم من مصر عند ما أدركهم فرعون وجنوده ، فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر اسرائيل وسار ورائهم ، وانتقل عمود السحاب من أمامهم ووقف وراءهم «خر ١٤ ، ١٩»

٣٠٥

وذكرت عن قول الله لموسى في طور سيناء في خطاب بني اسرائيل ، ها أنا مرسل ملاكا أمام وجهك ليحفظك في الطريق ويجيء بك الى المكان الذي أعددته ، فان ملاكي يسير أمامك «خر ٢٣ ، ٢٠ و ٢٣».

وذكرت عن قول موسى في ذكر مراحم الله : أرسل ملاكا وأخرجنا من مصر «عد ٢٠ ، ١٦» وجاهرت بالصراحة في ذلك أذكرت عن قول الله لموسى في طور سيناء في خطاب الشعب ارسل «أو ارسلت» أمامك ملاكا ، فإني لا أصعد في قربك لأنك شعب صلب الرقبة ، وقال يهوه لموسى : قل لبني اسرائيل أنتم شعب صلب الرقبة لحظة واحدة ان صعدت في قربك أفنيتك «خر ٣٣ ، ٣ و ٥».

وهذا صريح في ان الله جل اسمه لم يسر أمام بني اسرائيل ولم يصعد بقربهم بأي نحو أولت صعود الله معهم وسيره امامهم ، بل ان السائر امامهم والذي أخرجهم من مصر هو الملاك الذي أرسله الله ويؤكد ذلك قول العهد الجديد في شأن موسى ، هذا هو الذي كان في الكنيسة في البرية مع الملاك الذي كان يكلمه في جبل سيناء «ا ع ٧ ، ٣٨».

وهذا كله مناقض لقول التوراة ان السائر أمام بني اسرائيل في عمود السحاب هو الله بأي نحو أولته.

وقد كثر في التوراة والعهد القديم قولها : «فنزل الله» «فصعد الله» «فتراءى الله» وهو في مقام يمتنع من أسلوبها التأويل ، فهو لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة : أما القول بالتجسيم وان الله «تعالى شأنه» يحويه المكان فيصح عليه الصعود والنزول وتقع عليه الرؤية تعالى الله عن ذلك ، وأما الخبط في تسمية الملك بالأسماء الخاصة بذات الجلالة ، وأما الضلال بالبناء على ان الملك هو الله جل شأنه.

وإذا نظرت الى التوراة الرائجة وجدتها كأنها كتابة اناس متعددين مختلفين في المعرفة وصحة الاعتقاد لا يدري كل واحد بما كتبه الآخر ، أو لأنه كتاب جدد اسمه في بقايا ديانة توحيدية سرت فيها روح الوثنية فتقاسمت مخائله مشابهة هذين الأبوين.

٣٠٦

ولذا جاء في العهدين وخصوص التوراة صراحة التعليم بوحدة الاله وان الله يهوه هو الاله وليس آخر سواه ، وهو الاله في السماء وعلى الأرض وليس سواه ، ولا إله معه ولا إله غيره ، وذكرت عن قول الله جل اسمه لا تذكروا اسم آلهة اخرى ولا يسمع من فمك ، ولا يكن لك آلهة اخرى أمامي.

وجاء في العهدين أيضا عن قول الله ان موسى إله لهارون ولفرعون ، وان الذين صارت إليهم كلمة الله آلهة انظر الجزء الأول صحيفة ١٥٣ ـ ١٥٤ وجاء في العهد القديم أيضا لأنه يولد لنا ولد ونعطي ابنا وتكون الرئاسة على كتفه ويدعى اسمه عجيبا مشيرا إلها قديرا أبديا رئيس السلام «ا ش ٩ ، ٦».

ولا يخفى ان هذه المقالة لا تناسب الديانة المؤسسة على توحيد الإله وتقديسه وتنزيهه عن النقائص البشرية.

بل إنما تناسب أن تدرج في كتب الهنود والصينيين والآشوريين واليونان والمكسيكيين من الوثنيين الذين يقال انهم يعتقدون بتولد الإله بالولادة البشرية ...

ومن هذه التعاليم جاء قول العهد الجديد ، ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلها مباركا الى الأبد «رو ٩ ، ٥».

ومن أجل هذا الداء صدر ما تضمنه العهدان من نسبة صفات النقص البشري الى الله جل جلاله وعلا شأنه ، كما نسبت له الدم وصفات الجسم في أساليب لا تحتمل المجاز كما نسبت له لوازم الضعف والمغلوبية والحاجة والحيرة والكذب وعدم العلم كما تعرفه مما سبق ، تعالى الله عما يقولون.

وكما نسبت إليه جل شأنه انه يمكن الكاذب في دعوى النبوة والداعي الى الشرك والدجال المضل الأثيم ويتركهم تجري على أيديهم الآيات والقوات والعجائب ، وان الله جل شأنه يرسل الى الناس عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب ، فانظر «تث ١٣ ، ١ ـ ٤ ، ومت ٢٤ ، ٢٤ و ٢ تس ٢ ، ٩ ـ ١٢».

وفي هذا نسبة جملة من القبائح الى الله جل شأنه بحد لا يرضاه لنفسه آحاد البشر.

٣٠٧

أحدها : إغراء الناس بالضلال ، فإن الركون في التصديق الى ظهور الآيات والقوات والعجائب العظيمة إنما هو من مرتكزات الفطرة وأوليات البديهة بحيث لا يتطرقه الشك كما يتطرق سائر البديهيات من المعارف ، ولذا ترى كثيرا من الناس قد كابروا البداهة وجانبوا عقولهم في المعارف لشبهة المعجزة ومنقولها الموهون.

وقل من يكون له العقل ونور الحقيقة هما الهاديان إليها والشاهدان عليها كما هو روح العرفان وثابت الايمان وقليل ما هم.

وثانيهما : سد باب الحجة على النبوة الصادقة وتضييع فائدتها لأجل التباس الأمر على غالب الناس فانه إذ جاز ظهور الآيات والقوات والعجائب العظيمة من الكاذب والداعي الى الشرك كما تزعمه الكتب التي تغر بصورة نسبتها الى الوحي فحينئذ لا حجة عند عامة الناس بظهور هذه الامور من النبي الصادق حيث يكون أمرها مشترك بين الصادق والكاذب.

وثالثها : لزوم العبث بإظهارها على يد الصادق سواء كان للحجة على رسالته أو لبيان كرامته حيث انها لا تفيد شيئا من ذلك مع اشتراكها بين الصادق والكاذب.

ورابعا : ان إظهارها على يد الكاذب نقض للغرض من إظهارها على يد الصادق وهو كونها حجة على صدقه.

وخامسها : إذا كان إظهارها على يد الصادق لأجل الحجة على صدقه مع إظهارها على يد الكاذب لزم من ذلك أمران :

أحدهما : قبح العقاب والملامة والتوبيخ لمن صدق الكاذب وآمن به لأنه قد جاء بما هو حجة على صدق الصادق.

وثانيهما : قبح العقاب والملامة والتوبيخ لمن لم يؤمن بالصادق ولم يصدقه وذلك لأنه لم يجيء إلا بما يجيء به الكاذب.

ولا يخفى ان كل واحد من البشر لا يرضى بأن ينسب إليه واحد من هذه الأمور.

* * *

٣٠٨

خلق السموات والأرض وما فيها

وقد قدمنا في هذا الجزء في آيات خلقها من القرآن الكريم ما تعرف به شيئا من تنافي كلمات التوراة واضطرابها في هذا الشأن ، «فراجعه صحيفة ٨٨ و ٨٩».

النبوة والأنبياء

أما النبوة فللعهدين مقالات غريبة وإن شئت قلت ظريفة «منها» انها تذكر ان المتنبّئ يقوم بخلع الثياب والتعري والانطراح عريانا انظر «١ صم ١٩ ، ٢٣ و ٢٤» ويقوم بالرباب والدف والناي والعود «١ صم ١٠ ، ٥ و ٦» وان ضرب العود يوجب حلول يد الله على النبي وإعلان الوحي له فيطلب النبي عودا وعوادا عند ما يسأل عن الوحي «٢ مل ٣ ، ١٥» ، بل ان العهد القديم سمى الجنون تنبيا حيث قال الأصل العبراني في أحوال شاول مع داود ويهيئ مما حارات وتصلح روح إليهم راعاه آل شاول ، ويتنبأ بتوك هبيت «١ صم ١٨ ، ١٠».

وتعريبه وكان من الغد ، واقتحم روح الإله الردي على شاول فتنبأ في وسط البيت ، والتراجم أصابت حيث ترجمت قوله «ويتنبأ» بقولها «وجنّ» ..

وقد ذكر العهدان أحوال الأنبياء عند الوحي إليهم وأحوالا ظريفة في تبليغهم ذكرناها في الجزء الاول صحيفة ٤٦ ـ ٥٢.

ولم يذكر العهد القديم ان الله أرسل نبيا الى عامة البشر ليدعوهم الى هدى التوحيد وحقيقة الايمان وأدب الشريعة وإصلاحها.

وغاية ما ذكر في أحوال الأنبياء قبل موسى بعض الأحوال الخصوصية ولكن كثيرا منها يرجع الى القدح بقدسهم أو التسجيل بالفضائح على عائلاتهم أو الجرأة على جلال الله وعظمته وقد ذكرناها أو أشرنا إليها متفرقة في هذا الكتاب فلا نؤثر إعادتها هنا مجموعة.

نعم تذكر التوراة الرائجة ان نوحا لمّا نجا من الطوفان بنى مذبحا لله

٣٠٩

وقرب فيه محرقات من كل الحيوانات والطيور الطاهرة ... وهذا يقتضي انه قد أعطى شريعة القرابين ، وطهارة بعض البهائم والطيور ، ونجاسة بعضها الآخر «تك ٨ ، ٢٠».

بل ومقتضى التوراة ان شريعة القرابين من الابكار وغيرها ثابتة من عهد آدم وهابيل وقابيل إذ عملا بها «تك ٤ ، و ٤» ، ، وان ابراهيم حينما بلغ عمره تسعا وتسعين سنة ، وعمر اسماعيل ثلاث عشرة سنة اعطى شريعة الختان له ولنسله ، وعبده الغريب المبتاع بالفضة علامة للعهد بينهم وبين الله فيختن المولود وهو ابن ثمانية أيام «تك ١٧ ، ١٠ ـ ١٤».

ولم تذكر لنوح ولا لإبراهيم ولا لغيرهما دعوة الى التوحيد والصلاح ولا نهيا عن عبادة الأوثان.

نعم تذكر ان موسى علم بني اسرائيل بالتوحيد ولم تذكر انه دعا إليه غيرهم حتى فرعون وقومه ، بل يكاد مضمونها أن يصرح بأنه لم يعلم بالتوحيد ولم يدع إليه إلا بني اسرائيل.

وذكرت ان موسى جاء من الله بالشريعة ولكن كثيرا من كلماتها يصرح باختصاص الشريعة ببني اسرائيل والجار الذي في وسطهم.

وأما العهد الجديد فانه يذكر عن قول المسيح انه لم يرسل إلا الى خراف اسرائيل الضالة «مت ١٥ ، ٢٤» : وانه ارسل دعاته وتلاميذه للدعوة وأوصاهم أن لا يذهبوا في طريق امم ولا يدخلوا مدينة للسامريين بل يذهبوا الى خراف بيت اسرائيل الضالة «مت ١٠ ، ٥ و ٦».

ولكن العهد الجديد يذكر عن المسيح بعد حادثة الصليب انه قال لتلاميذه : اذهبوا وتلمذوا جميع الامم «مت ٢٨ ، ١٩».

وأما ما ذكره العهدان في أحوال الأنبياء ونسبة المعاصي والكفر والكذب الى قدسهم فانك تعرفه من متفرقات الكتاب ، وخصوص الفصول المتقدمة من الباب الثاني من المقدمة الثامنة في الجزء الأول صحيفة «٩٠ ـ ١٥٠».

وان العهد الجديد يعتبر التلاميذ وبولس أنبياء ورسلا ، وقد ذكر في

٣١٠

أحوالهم ما تجل عنه مرتبة سائر الصالحين فضلا عن الأنبياء ، فانظر الى الجزء الأول «صحيفة ٦٢ ـ ٦٥» ، ، وقد أحلناك على متفرقاته استقباحا لجمعه في مقام واحد.

وذكرت التوراة الرائجة في أمر النبوة أشياء لا تناسب الوحي وكتبه بل تناسب خرافات الأهواء «منها» ان الله كلم موسى بأن الكاهن الذي يعمل ذبيحة الخطيئة يأكلها في مكان مقدس «لا ٦ ، ٢٤ ـ ٢٧» ، ثم ذكرت ان موسى طلب تيس الخطيئة فإذا هو قد احترق فسخط على العازرا وايثامار بني هارون وقال : ما لكما لم تأكلا ذبيحة الخطيئة في المكان المقدس فإن الله أعطاكما إياها لتحملا إثم الجماعة تكفيرا عنهم ، أكلا تأكلانها كما أمرت فقال هارون انهما اليوم قد قدما ذبيحة خطيئتهما ومحرقتهما أمام الرب وقد أصابني اليوم مثل هذه ـ يعني احتراق «ناداب» و «ابيهو» ابنيه ـ ، فلو أكلت ذبيحة الخطيئة اليوم هل كان يحسن في عيني الرب ، فلما سمع موسى حسن في عينيه «لا ١٠ ، ١٦ ـ ٢٠».

فيا عجبا ان الله يأمرهم بأكل ذبيحة الخطيئة وموسى يبلغ ذلك عن الله ، وهارون يعترض على هذه الشريعة وشريعة المحرقة ويتشاءم بهما ويقول : ان ذلك هل يحسن في عيني الرب؟ فما ذا ترى في هذا الكلام؟ أيقال ان هارون كان مكذبا لموسى في تبليغه عن الله؟ أم يرى ان له أن يعارض الوحي بالرأي والأعجب من ذلك قول التوراة ان موسى استحسن رأي هارون مع معارضته لما أوحاه الله من الشريعة المذكورة.

أيقال ان موسى كان شاكا في أمره فيستحسن الرأي المعارض للوحي ، حاشا لله (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ).

«ومنها» ان الإله أتى «بلعام» ليلا وقال له : ان أتى الرجال أليك فانطلق معهم وتعمل الكلام الذي اكلمك به فقط ، فقام بلعام صباحا وانطلق معهم فحمى غضب الإله لكونه منطلقا ووقف ملاك الرب في الطريق ليقاومه «عد ٢٢ ، ٢٠ ـ ٢٣».

ويا عجبا كيف يأمر الله بلعام بالانطلاق معهم ثم يحمي غضبه عليه لأنه

٣١١

انطلق ويرسل ملاكه ليقاومه ، مع ان بلعام حسب نقل التوراة لم يتكلم في ذهابه معهم إلا بما كلمه الله به ، «عد ٢٣ و ٢٤» ثم بعد هذا أيضا أمر بالذهاب معهم «عد ٢٢ ، ٣٥» أم تقول التوراة الرائجة «كلام الليل يمحوه النهار».

واعلم ان العهدين لم ينصا على نبوة آدم ، وغاية ما ذكرت التوراة خطاب الله معه في شأن الشجرة في النهي عن الأكل منها وبعد الأكل ولكن ذلك بمقتضى التوراة لا يدل على النبوة ، حيث تذكر ان الله خاطب الحية وحواء بنحو هذا الخطاب.

ثم ذكرت انه عند ما ولد «انوش» ابتدأ ان يدعى باسم الرب ، وهذا يشعر بوجود نبوة ودعوة الى الله في ذلك الوقت ، ولكنها لم تبين ان تلك الدعوة باسم الرب كانت من آدم أو من شيث ، فان ذلك الوقت كان بمقتضى التوراة قبل موت آدم بنحو ستمائة وخمس وتسعين سنة ، وبعد ولادة شيث بنحو مائة وخمس سنين ..

ثم ذكرت نوحا وذكرت خطاب الله معه بنحو يشعر بنبوته ، وصرح العهد الجديد بالوحي إليه «عب ١١ ، ٧» ، وذكرت «حنوك» ـ أي ادريس ـ ولم تذكر إلا انه سار مع الله والله أخذه ، وصرح العهد الجديد بنبوته «يه ١٤» ، وذكرت ابراهيم ونصت على خطاب الله معه وعلى نبوته ، وذكرت إسحاق ويعقوب وخطاب الله معهما ولم تنص عليهما بعنوان النبوة ، ولم تذكر لهؤلاء دعوة الى التوحيد ولا موعظة ولا إرشادا الى الهدى ، كما لم تذكر لهم شريعة ولا كتابا ولكنها لا تنفي ذلك.

وذكرت مع نبوة موسى نبوة هارون أخاه ومريم اختهما وسبعين من شيوخ اسرائيل ورجلين آخرين معهما ، ولم تصرح بنبوة يشوع ـ أي يوشع ـ بل ذكرت انه امتلأ روح حكمة إذ وضع موسى عليه يديه ، لكن سفر يشوع قد تكرر فيه قوله ان الله كلم يوشع ...

ثم لم ينص سفر القضاة فيما بين يوشع وصموئيل على نبوة أحد إلا على

٣١٢

نبوة «دبوره» امرأة لفيدوت ، ورجل آخر لم يذكر اسمه بل ان الله أرسله فوبخ بني اسرائيل ، نعم ذكر ان «جدعون» ظهر له ملاك يهوه وكلمه يهوه مرارا ثم من صموئيل صار العهد القديم يتعرض لكثرة الأنبياء فذكر انه كان مع صموئيل في الرامة جماعة من الأنبياء ، ولكنهم يتعاطون الرباب والناي والدف والعود حتى ان رسل «شاول» في دفعات ثلاث لما ذهبوا الى الرامة ووجدوا الأنبياء يتنبئون كان عليهم روح الله فتنبئوا ، وكذا شاول لما ذهب أيضا خلع ثيابه هو أيضا وتنبأ أمام صموئيل ، وانطرح عريانا ذلك النهار كله وكل الليل.

ولم تتضح حقيقة هذه النبوة والتنبي الذي يقوم بالدف والرباب والناي والعود والتعري والانطراح كل النهار وكل الليل.

وكان النبي في زمان صموئيل ونحوه يسمى «الرائي» «١ صم ٩ ، ٩» ، ويسمى أيضا في العهد القديم «رجل الله» ، والعهد القديم ذكر ان الله كلم داود وخاطبه ، وكذا سليمان ، ونص العهد الجديد على نبوة داود ، وذكر العهد القديم في زمان داود «ناثان» النبي و «جاد» النبي و «يدوثون» يرائي داود ، وذكر من بعد ذلك اخيّا الشيلوني ، ورجل الله من يهوذا ، والنبي الساكن في بيت ايل ، وحنّاني ، وشمعيا ، وعدوّ ، وعوديد ، ويعدو ، وعزرياهو ، وياهو بن حنّاني ، وايليا ، وجماعة في زمانه من الأنبياء الذين قتلت منهم «ابزابل» من قتلت وأخفى عوبديا منهم مائة ، واليشع ، ونبيا لم يسمه ، وآخر من الأنبياء لم يسمه أيضا ، وغلام نبي لم يسمه أيضا وميخا ابن يملة ، وعدة من الأنبياء في زمان «منسى» ، والنبية خلدة ، وحننيا ، والأنبياء الذين تنسب إليهم كتب من العهد القديم وهم أشعيا وأرميا وحزقيال ودانيال ، وهوشع ، ويوئيل ، وعاموس ، وعوبديا ، ويونان ابن امتاي ـ أي يونس بن متى ـ وميخا المورشتى ، وناحوم ، وحبقوق ، وصفينا ، وحجى ، وزكريا ، وملاخي ، ويقال ان ملاخي آخر أنبياء العهد القديم.

وأما الأنبياء الذين يذكرهم العهد الجديد فهم زكريا «لو ١ ، ٦٧» ، والنبية حنة «لو ٢ ، ٣٦» ، ويوحنا المعمدان ـ أي يحيى بن زكريا ـ ، والمسيح عليه‌السلام رسول الله ، وقد ذكره العهد الجديد بسمات وصفات «منها»

٣١٣

تسميته بالمسيح.

وهذه تسمية سبقت في العهد القديم «لشاول» سماه داود مرارا مسيح الرب ، وسبقت أيضا عن وحي الله لأشعيا ، هكذا يقول الرب لمسيحه «كورش» وهو من ملوك فارس «ا ش ٤٥ ، ١».

«ومنها» انه عليه‌السلام كان إذا أراد أن يعبر عن نفسه المقدسة يسمى نفسه ابن الإنسان.

أفلا تقول ان الالتزام بهذا التعبير إنما هو للمحافظة والاحتياط من وقوع الشبهة التي علقت بها الأوهام وسرى دائها من المجاورة.

«ومنها» انه نبي «ا ع ٣ ، ٢٠ ـ ٢٥» وانه هو النبي الذي قال عنه موسى لبني اسرائيل ان الله يقيم لهم نبيا مثل موسى «تث ١٨ ، ١٥».

«ومنها» انه رسول الله كما كثر ذلك في الأناجيل وخصوص يوحنا ، «ومنها» تسميته ابن الله ، والابن ، والابن الوحيد.

وهذا اصطلاح جرى عليه العهدان في ان المؤمنين أو الصالحين يسمون ابن الله البكر ، وأبناء الله ، أولاد الله ، ومولودين من الله ، والله ولدهم ، والله أبوهم ، ولا يسهل أن يحصى ذلك من العهدين لكثرته ، فانظر أقلا «تك ٦ ، ٢ و ٤ وخر ٤ ، ٢٢ و ٢٣ وتث ١٤ ، ١ و ١ أي ٢٢ ، ١٠ وهو ١ ، ١٠ ومت ٦ ، ٦ ـ ٣٢ ويو ١٢ و ١٣ و ١ يو ٣ ، ١ و ٢ و ٩ و ١٠ ، و ٥ ، ١ و ٢ و ٤».

وجاء في الاناجيل المترجمة بالعربية ان المسيح عبر عن نفسه بالرب ، «مت ٢١ ، ٣ ومز ١١ ، ٣ ولو ١٩ ، ٣١» ، وكثر التعبير بذلك في التراجم العربية لرسائل العهد الجديد ، ونص عبارة الاناجيل «الرب محتاج إليه» ، وفي الترجمة العبرانية «هادون» ـ أي السيد أو المولى ـ ، وفي التراجم الفارسية «خداوند».

ولكن لا يخفى عليك ان نفس الإنجيل يقول : ان لفظ الرب تفسيره

٣١٤

«المعلم» «يو ١ ، ٣٨ ، و ٢٠ ، ١٦».

وذكرت حواشي العهد الجديد ان المذكور في انجيل متى «٢٣ ، ٧» في العربية «سيدي سيدي» وفي الفارسية «آقا آقا» إنما هو في العبرانية «ربي ربي» والمراد بالعبرانية هي نسخة انجيل متى الأصلية.

ويشهد لذلك قوله لأن معلمكم أو مدبركم أو مرشدكم واحد ، وهذه شهادة كافية من ذات الإنجيل على ان اللغة العبرانية التي هي لغة المسيح وخصوصا في خطابه للتلاميذ واليهود يدعى فيها الرئيس والمعلم والمرشد «الرب» و «ربي» ، والمذكور في انجيل يوحنا «٣ ، ٣» في العربية «يا معلم» هو في اليونانية «ربي».

وان نفس قول الاناجيل «الرب محتاج إليه» يكفي في إبطال أوهام الغلو ويبين ان المراد منه وصف مخلوق محتاج ويكفي في ذلك ان الاناجيل تشهد ان المسيح لم يكن يمكنه أن يبين لبني اسرائيل مراتبه من النبوة والكمال البشري فكيف يدعى الألوهية.

وجاء في المزمور العاشر بعد المائة ما نصه : نأوم يهوه لادناي ـ أي أوحى الله لسيدي ـ فترجموه في المزامير العربية «قال الرب لربي» ، والفارسية «يهوه به خداوند من كفت» و «خداوند به خداوند من فرمود».

وذكرت الاناجيل ان المسيح استشهد بهذا الكلام من المزامير فترجمته بالعربية «قال الرب ربي» ، وبالفارسية «خداوند به خداوند كفت» ، واعلم ان الاناجيل تذكر عن قول المسيح أنه أنكر على الكتبة والفريسيين قولهم ان المسيح يكون ابن داود ، واحتج لإنكاره بأن داود قال بالروح القدس في المزامير «قال الرب لربي» ، فإذا كان داود يدعوه ربا فكيف يكون ابنه؟ ومن أين هو ابنه؟ «مت ٢٢ ، ٤١ ـ ٤٦ ومر ١٢ ، ٣٥ ـ ٣٨ ولو ٢٠ ، ٤١ ـ ٤٥».

فاتفقت تراجم العهد الجديد وتراجم أصحابه للمزامير على تغيير معنى «سيدي» الذي هو في الأصل العبراني الى معنى «ربي» وذلك لئلا تبطل صورة المغالط في الاحتجاج المذكور حيث ان كل أحد يعلم أن لا منافاة بين أن يكون

٣١٥

المسيح ابن داود وبين أن يدعوه داود «سيدي» فان كثيرا من الأبناء يكونون بشأنهم الجليل ورتبهم العظيمة سادات لآبائهم كما يكون الأنبياء بالنسبة الى آبائهم الذي ليسوا بأنبياء.

وان مقام المسيح في النبوة والرسالة العامة ليقتضي لداود وإن كان نبيا أن يدعوه سيدا.

فلذلك بدل المترجمون معنى «سيدي» بمعنى «ربي» لأن كل موحد يعلم ان ابن البشر لا يكون ربا ولا إلها .. لكن ما ذا يصنعون وعهدهم الجديد يصرح بأن المسيح هو ابن داود ، وقد قدمنا في الجزء الاول شيئا من هذا فراجعه صحيفة ٢٣٠ ـ ٢٣١.

وجاء في العهد الجديد انه هو صورة الله «٢ كو ٤ ، ٤».

ومن تتبع العهدين لم يجد من أمثال هذا الكلام دلالة الا على تقحمهما في سماجة التعبير حتى انهما لم يقفا فيه على حد ولا مجاز مناسب ، فقد جاء في التوراة الرائجة ان الله جل شأنه خلق آدم على صورته ، ولم ترض بهذا المقدار ، بل كررت وقالت على صورة الله خلقه «تك ١ ، ٢٧» ، وذكر العهد الجديد ان الرجل صورة الله «١ كو ١١ ، ٧» ، فلما ذا يكون الرجل والمسيح صورة الله؟ وكيف يكون ذلك؟

وجاء في العهد الجديد ان المسيح بكر كل خليقة «كو ١ ، ١٥» وبداية خليقة الله «روء ٣ ، ١٤».

ولا يمتنع أن يكون المسيح باعتبار نورانيته بكر خليقة الله وبداية خليقته إذ لا يمتنع أن يكون الأنبياء والمرسلون قد خلقوا بنورانيتهم قبل خلق أجسامهم ، وأما خلق أجسامهم فلا يشك عاقل في ان وجودها إنما هو بأزمانها وأوقاتها المحدودة المترتبة.

وكيف كان فهذا الكلام من العهد الجديد جرى على ما ينبغي في بيان الحقيقة والتصريح بأن المسيح مخلوق لله ..

ولكن ما ذا ترى في قول العهد الجديد : المسيح يسوع الذي إذا كان في

٣١٦

صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلا لله ، «أو لم يحسب المساواة بالله غنيمة» لكنه اخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرا في شبه الناس ، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه الله أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم «في ٢ ، ٥ ـ ١٠» أترى ان هذا القائل يريد في كلامه هذا ان هناك إلهين متعادلين في مجد الألوهية وصفاتها ، وان المسيح هو أحدهما فهو يستحق بمقامه الإلهي أن يكون معادلا لله ، ولكنه ترك الشقاق والنزاع وتنازل عن حقه من مجد الألوهية وصفاتها مراعاة ومحاباة أو صلحا بجعالة ، فأخلى نفسه من معادلة الله وأخذ بنفسه صورة عبد وصار من ذاته في شبه الناس.

وعلى هذا فلا يكون من خليقة الله ولا يكون هو الله لأن الله على هذا الكلام هو معادلة الآخر تعالى الله عما يقولون.

ولما ذا لم يتمم هذا الكلام بيانه فيبين ان هذا التنازل كان بمعاملة يصح فيها الفسخ أو لا يصح ، وان المسيح لو أراد فسخ هذه المعاملة هل يقدر على فسخها أو لا يقدر.

نعم يمكن أن يفهم من الاناجيل مع كلام المتكلف وأمثاله في مسألة الفداء ويعرف ان المسيح على أي حال كان لا يقدر على فسخ معاملاته مع الله ، وان أراد وطلب وبكى واكتئب وحزن وصلى بأشد لجاجة ، فانظر الجزء الأول صحيفة ٣١٦ ـ ٣٢٣.

ثم ان كان بهذا التنازل خرج عن حقيقة الألوهية الى حقيقة العبودية وشبه الناس فحينئذ لا يبقى له شيء من مجد الحقيقة الاولى وصفاتها العظيمة بل هو إنسان كسائر البشر ان فاز بشيء من المجد فبمجد النبوة والرسالة الذي يمكن ثبوته لآحاد البشر ، وإن كان لم يخرج عن حقيقته الاولى في الألوهية ومعادلة الله ، ولم تنقلب حقيقته الى الإنسانية ، فحينئذ لا بد أن تبقى له المعادلة لله ، وصفات الألوهية كالعلم والقدرة وسائر الكمالات الإلهية على وجه لا يمكن أن يتصف بضدها لأنها لا يمكن أن تنفك من حقيقة الالوهية.

٣١٧

قل : إذا فما حاجة هذا المعادل لله الى أن يرفعه الله ويعطيه اسما فوق كل اسم ، أم تقول : ان الكلام المتقدم المنقول عن ثاني «فيلبي» إنما هو من محض الغلو في التعبير ، وتعدي الحد المقبول في المبالغة ، فان الذي ينسب له هذا الكلام هو الذي ينسب إليه قوله ان المسيح بكر كل خليقة ، ولذا قال هاهنا ان الله رفعه وأعطاه اسما فوق كل اسم.

وزد على ذلك ان الإنجيل ينقل عن قول المسيح أبي أعظم مني «يو ١٤ ، ٢٨» ، وقوله وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب «مر ١٣ ، ٣٢».

ومن المعلوم من العهد الجديد ان المراد بالابن هو المسيح فهو لا يعلم بذلك اليوم وتلك الساعة.

وقوله : أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا «يو ٥ : ٣٠ و ١٩» وانه لم يقدر أن يصنع في وطنه ولا قوة واحدة «مر ٦ ، ٥» ، وليس له ان يعطي شيئا إلا للذين أعده الله لهم «مت ٢٠ ، ٢٣» وانه يتضرع الى الله ، ويعبده بالصلاة والصوم ويطلب منه ويفزع إليه في حوائجه وضيقه ، ويطلب منه النجاة ويجرب من ابليس ، ويطمع فيه ابليس بغوايته بالشرك وينقله من مكان ومن كان بهذه الصفات لا يقال فيه أنّه معادل لله ، وكيف والاناجيل تنسب له أنه قال على الصليب إلهي إلهي لما ذا شبقتني؟ ـ أي لما ذا تركتني ـ؟ وهذا كاف في الصراحة بأنه ليس معادلا لله وأنّه ليس إلها ، لأن الإله لا يكون له إله ، ولا هو الله ، وإلا كان هذا الكلام كله غلط وكذب.

وكذا حكاية الإنجيل اصعد الى أبي وأبيكم ، وإلهي وإلهكم ، «يو ٢٠ ، ١٧» ، أفليس في هذا صراحة في كونه مساويا للبشر في انه له إله هو إله البشر.

ولكن المتكلف يقول «يه ٤ ج ص ٢٨٧» لو سوى بينه ـ أي المسيح ـ وبينهم ـ أي البشر ـ لقال الى أبينا وإلهنا ، ولكنه لم يقل ذلك إشارة الى كونه الكلمة الأزلية الخالق للعالمين ، وانه والأب واحد ، فأبوة الأب للمسيح هي

٣١٨

أزلية لانه كلمته وروحه ، أما ابوته لنا نحن فهي ابوة الخالق للمخلوقين.

فنقول أولا : ان المسيح قال إلهي وإلهكم ، ويكفينا من ذلك قوله ان له إلها هو إله البشر ، ولا يجدي في ذلك اختلاف الجهات لو كان معقولا فان الإله لا يكون له إله ، وهذا من أوضح البديهيات على رغم فلتات الاوهام ، والمتكلف يقول «يه ٤ ج ص ٢٨٥» المسيح هو الله.

فليت شعري إذا من هو الإله للمسيح الذي يكون على ذلك إلها لله الذي هو المسيح.

وثانيا : ان العهدين ذكرا عن خطاب الله لموسى : أنا إله أبيك إله ابراهيم إله اسحاق وإله يعقوب «خر ٣ ، ٦ ومت ٢٢ ، ٣٢».

أفيقول المتكلف انه قال ذلك لكي يدل على ان ألوهيته لإبراهيم وإسحاق ويعقوب متخالفة في الجهات؟ ولو سوى بينهم لقال : إله ابراهيم واسحاق ويعقوب.

وثالثا : ان العهد الجديد يقول : ان المسيح بكر كل خليقة ، وبداية خليقة الله ، فلا بد حينئذ من أن تكون ابوة الله له ابوة الخالق للمخلوقين ، وكيف يكون الخالق والمخلوق واحدا.

ومن هذا كله يتضح لك الوهن والغلو في العبارة ، أو المراد في قول العهد الجديد في شأن المسيح الكائن على الكل إلها.

والمتكلف يقول «يه ٤ ج ص ٢٨٨ و ٢٨٩» فلا عجب إذا تألم وتوجع وحزن وطلب عبور الحزن واحتمل كل هذه الأحزان لأجلنا ، فقد مات البار من أجل الآثمة ليبررنا ، فاللاهوت لم يبتلع الناسوت ، بل كان إلها تاما وإنسانا تاما يجول ويمشي ويجوع ويحزن ويتوجع ، ولكنه كإله كان قديرا خالقا حفيظا.

أفلا تقول للمتكلف إذا كان المسيح إلها احتمل هذه الاحزان لأجل الآثمة ، فلما ذا يطلب عبور الحزن وكأس المنية ، وممن يطلب إذا كان هو الإله وهو الله ، وإن كان اللاهوت لم يبتلع الناسوت فلما ذا كان الناسوت قد ابتلع اللاهوت وشرب عليه الماء.

٣١٩

وليت شعري ما معنى قول المتكلف ان المسيح كان إلها تاما ولكنه كان كإله ، فهل كان المسيح يتقلب حسب هوى المتكلف مرة يكون إلها تاما ، ومرة يكون كإله.

وكيف يقول المتكلف كان قديرا حفيظا ، مع ان الاناجيل تقول : ان المسيح اعترف بعدم القدرة وعدم العلم ، وان بعض الامور ليس له أن يعطيها ، وتقول الاناجيل انه حزن واكتئب وسأل من الله بأشد لجاجة أن يعبر عنه كأس المنية فلم تعبر كما ذكرناه في الجزء الاول صحيفة ٣٢٠ ، بل يقول الإنجيل انه قال : على الصليب إلهي إلهي لما ذا شبقتني ـ أي لما ذا تركتني ـ وهذا قول عبد عاجز ضعيف مستغيث بإله يقدر على تخليصه.

وقد جاء في العهد الجديد في شأن المسيح كلمات لو كانت وحدها لأوهمت شيئا من الغلو ولكنها قد جاء مثلها في شأن غيره من البشر ، وذلك مما يكفي في ردّه لتوهم الغلو منها خاسئا ، فضلا عن سائر القرائن من ذات العهد الجديد.

فمنها ما يحكيه عن قول المسيح أنا والأب واحد «يو ١٠ ، ٣٠» وقد جاء مثله في شأن التلاميذ عن قول المسيح في الدعاء الى الله ليكونوا واحدا كما نحن «يو ١٧ ، ١١ و ٢٢».

وقوله في شأن التلاميذ وغيرهم ليكون الجميع واحدا كما أنت أيها الأب فيّ وأنا فيك ، ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ليؤمن العالم انك أرسلتني «يو ١٧ ، ٢١» ، ، وهذا بنفسه وحده يشهد بأن المراد بالوحدة والاتحاد هو الاتفاق على الحق ، وان المراد من قوله «أنت أيها الأب في» هو عناية الله به في تأييده بالمعجزات وإجابة الدعاء ونحو ذلك.

والمراد من قوله : «أنا فيك» إيمانه بالله ، والدعوة الى توحيده وطاعته ونحو ذلك ...

وكذا قوله : «ليكونوا هم أيضا واحدا فينا» ، فهو كما يحكى من قوله للتلاميذ : في ذلك اليوم تعلمون اني أنا في أبي ، وأنتم في وأنا فيكم «يو ١٤ : ٢٠».

٣٢٠