الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

وقال الله تعالى شأنه في أول سورة الاسراء (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ).

والمتكلف يريد أن يعترض على معراج رسول الله «ص» الى السماء فاعترض على هذه الآية الكريمة «يه ٢ ج ص ٨٥» وقال وقصة المعراج هذه اخذت من كتب الفرس ومن خرافات اليهود القديمة فانها مذكورة في كتبهم ٤٠٠ سنة قبل الهجرة.

قلنا : ان هاهنا حقيقتين «إحداهما» الاسراء برسول الله «ص» من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله ، «وثانيتهما» عروجه صلوات الله عليه الى السماء ، والآية المذكورة إنما تعرض لفظها للحقيقة الاولى ، فالاعتراض عليها من حيث الحقيقة الثانية إنما هو من سوء الفهم.

أما الاسراء الى بيت المقدس فلا ينبغي أن يختلج الشك في إمكانه في قدرة الله إلا أن تأتينا دواهي الأيام بمن يطرح عقله ودينه وأدبه ويقول : «واستغفر الله» ان هذه القدرة مختصة بإبليس حيث تنقل بالمسيح من البرية مرة الى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في طرفة عين ، ومرة اخرى الى جناح الهيكل «مت ٤ ، ٥ ـ ٩ ولو ٤ ، ٥ ـ ١٠».

وقد أعطى رسول الله لقريش علائم شاهدها حال الاسراء به كنفار بعض إبلهم في طريق الشام وأسمائها وأوصافها وكلام أصحابها ، فلما وردت القافلة بعد أيام تحقق المشركون من ذلك ما ارغم آنافهم وألقمهم حجرا. وأما الحقيقة الثانية فإنه وإن شك فيها بعض بواسطة سفاسف قد قيلت في الطبيعيات والهيئة القديمة مما لا يختص شططه بالجحود لحقيقة المعراج ، بل أول ما يعود الى الالحاد والجحود لقدرة الله وإرادته واختياره.

والكلام على هذه إنما يلزم في مقابلة الطبيعي الملحد ، وسيجيء إن شاء الله في المقاصد.

وأما من يتظاهر باليهودية والنصرانية فيكفينا أن نحتج عليه في إمكان الصعود الى السماء ووقوعه بكتبه التي ينسبها الى الوحي حيث تذكر صعود البشر

٢٨١

الى السماء مكررا ، فلا يبقى في أمر المعراج إلا المطالبة بالحجة على وقوعه ، ومرجع ذلك الى الحجة على صدق النبي «ص» الذي اخبر به في دعوى النبوة ...

أما ما جاء في العهدين من أمر الصعود الى السماء فقد جاء في صراحة الملوك الثاني «٢ ، ١ و ١١» ان ايليا صعد الى السماء.

وجاء في الاناجيل ان المسيح صعد بجسمه الى السماء «مر ١٦ ، ١٩ ولو ٢٤ ، ٥١».

وعن كورنتوش الثانية عن بولس في مقام افتخاره «١٢ ، ٢ ـ ٥» اعرف إنسانا في المسيح قبل أربع عشرة سنة أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم ، الله يعلم اختطف هذا الى السماء الثالثة واعرف هذا الإنسان أفي الجسد أم خارج الجسد لست أعلم الله يعلم انه اختطف الى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ للإنسان أن يتكلم بها.

وهذا الشك منه لا يصح إلا مع تجويزه لصعوده بجسده الى السماء الثالثة وإلى الفردوس.

وأيضا في شأن «حنوك» ـ أي ادريس المسمى في العهد الجديد اخنوخ ، جاء في التوراة ان الله أخذه «تك ٥ ، ٢٤» ، وفي العهد الجديد ان الله نقله لكي لا يرى الموت «عب ١١ ، ٥» ، والمعروف ان المراد من هذا الكلام اصعاده الى السماء ..

هذا وان المعلوم من دين الإسلام ان رسول الله «ص» أخبر بعروجه بجسده الشريف الى السماء ، فالحجة على نبوته حجة على وقوع ما اخبر به ، كما ان صعود حنوك وايليا والمسيح يتوقف التصديق به على العلم باخبار النبوة به ، وكذا الصعود الجسماني أو الروحاني الذي نسبت دعواه الى بولس.

«فإن قلت» : إذا كان الصعود الى السماء مذكورا في العهدين بهذا التكرار فلما ذا يقول المتكلف ان المعراج مأخوذ من خرافات اليهود القديمة ، «قلت» ان شئت أن تقول انه لا يدري بما في كتبه ، وإن شئت أن تقول انه يريد أن يموه

٢٨٢

على البسطاء ، ومن لم يطلع على العهدين ويغشهم بأن دعوى الصعود الى السماء دعوى ابتدائية لم يتفق لها حقيقة ، فيتيسر له بزعمه أن يقول لهم : انها خارجة عن حد المعقول ..

«فإن قلت» : لعل المتكلف يدعي انحصار الصعود الى السماء بصعود المسيح ويحتج لدعواه بقول انجيله نقلا عن قول المسيح : ليس أحد صعد الى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الانسان الذي هو في السماء «يو ٣ ، ١٣» ، «قلت» : لا نحتاج الى ان ننبهك على حال الاناجيل ، ونذكرك بما ذكرناه من تناقضها واختلافها ونسبتها الى المسيح ما لا يرضاه له من يحبه ويعتقد بإيمانه وكماله وصلاحه ، على ان هذا بل بعضه يكفي في بطلان هذا التشبث الواهي ، بل نقول ان هذا المنقول كذب على المسيح لأن هذا الكلام يكذبه العهدان ، فانه ان اريد منه الزمان الماضي بالنسبة الى حال التكلم كما يقتضيه لفظ «صعد» فانه يكذبه العهد القديم بما يذكره من صعود ايليا ، وهو كاذب أيضا بنسبة الصعود الى المسيح لأنه حينئذ لم يكن قد صعد الى السماء ، وهو مع كذبه من هاتين الجهتين لا يمس معراج رسول الله بشيء من أوهام النفي ، وإن اريد منه ما يعم الماضي والمستقبل رغما على اللفظ فانه يكذبه أيضا صعود ايليا وكلام بولس في صعوده الى السماء الثالثة ، فانه لو كان هذا الكلام صادقا لما صح لبولس أن يتردد في صعوده بين كونه في الجسد أو خارج الجسد.

وأيضا ما معنى قوله ابن الإنسان الذي هو في السماء ، فهل في السماء إنسان يكون المسيح ابنه.

* * *

وقد اقسم الله جل شأنه في جملة من فواتح السور بأشياء من بدائع صنعه إذ كانت مظاهر قدرته وآثار رحمته ووسائل نعمه ، فاقسم بها تنويها بآثار القدرة في خلقها وتنبيها الى أسرار النعمة فيها وإعلاما بتشرفها بشرف الآثار وجلالة أسرار الآلاء.

فقال جل اسمه مخاطبا لرسوله «ص» : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ

٢٨٣

الْمُرْسَلِينَ) ، وقال جل اسمه : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ، وقال جل شأنه : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) ـ وهما أظهر ثمار الارض المقدسة ـ (وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) .. ونحو ذلك من الاقسام.

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠٨» بقوله : والمسيح يعلمنا ما نصه لا تحلفوا البتة لا بالسماء لأنها كرسي الله ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم ، ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء ، بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا وما زاد على ذلك فهو من الشرير «مت ٥ ، ٣٤ ـ ٣٧» يعني ان الحلف هو من عمل الشيطان والقرآن يحلف بكل شيء.

قلنا : ان الذي أقسم بهذه الأقسام في القرآن هو الله جل جلاله ، فهل يقول المتكلف ان الله جل شأنه محكوم لإنجيل متى ، مع ان العهدين يذكران ان الله جل اسمه اقسم بذاته لإبراهيم «تك ٢٢ ، ١٦» وبقدسه لداود «مز ٨٩ ، ٣٥» ، وباسمه العظيم ليهوذا «ار ٤٤ ، ٢٦» وبيمينه وذراع عزته لصهيون «ا ش ٦٢ ، ٨» وبغضبه لبني اسرائيل «مز ٩٥ ، ١١» وبفخر يعقوب «عا ٨ ، ٧» ، وذكر أيضا لله أقساما كثيرة فانظر «لو ١ ، ٧٣ و ١ ع ٢ ، ٣٠ وعب ٧ ، ٢١» وغير ذلك ..

وان القسم هو توسيط العظيم في تثبيت الكلام وتأكيد مضمونه ، وقد يقصد به مع ذلك معنى آخر وهو التنبيه على عظمة المحلوف به والتنويه بشأنه ، كما تقول المزامير ان الله اقسم بغضبه ، فإن المراد من غضبه جل شأنه هو انتقامه وتنكيله بمن يعصيه لأنه جل جلاله منزه عن عروض صفة الغضب كما تعرض للبشر ، فأراد الله بقسمه بغضبه أن ينبه الى عظمة نقمته وشرف شأنها في التأديب والتوبيخ وقطع دابر المفسدين.

ونحو ذلك ما ذكرناه عن اشعيا من ان الله اقسم بيمينه وذراع عزته ، فان المراد من ذلك آثار قدرته في نعمته ونقمته جلت عظمته ، وبهذا الاعتبار اقسم الله في القرآن الكريم بالقرآن الحكيم والأماكن المقدسة مظاهر البركة والرحمة كما

٢٨٤

نبهنا عليه في أول العنوان.

ولا بأس أن نتعرض لنهي انجيل متى عن حلف البشر ، فنقول : ان العهد القديم جعل الحلف بالله نحوا من العبادة والاعتراف بإله الحق وتوحيده فقد جاء فيه الرب إياه تعبد وباسمه تحلف «تث ٦ ، ١٣ ، و ١٠ ، ٢٠» يفتخر كل من يحلف به «مز ٦٣ ، ١١» والذي يحلف في الارض يحلف بإله الحق «ا ش ٦٥ ، ١٦» كيف اصفح لك عن هذه ، بنوك تركوني وحلفوا بما ليست آلهة «ا ر ٥ ، ٧» ويكون إذا تعلموا علما طرق شعبي ان يحلفوا باسمي حي هو الرب «ا ر ١٢ ، ١٦» وكثير من نحو ذلك.

وجاء أيضا : إذا نذر رجل نذرا للرب أو اقسم قسما أن يلزم نفسه بلازم ، فلا ينقض كلامه بكل ما خرج من فمه يعمل «عد ٣٠ ، ٢».

وجاء في متى (٥ ، ٣٣» أيضا قد سمعتم انه قيل للقدماء : لا تحنث بل أوف للرب اقسامك ٣٤ وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة بالسماء لأنها كرسي الله ٣٥ ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم ٣٦ ولا تحلف برأسك لأنك لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة بيضاء أو سوداء ٣٧ ، بل ليكن كلامكم نعم نعم لا لا وما زاد عن ذلك فهو من الشرير ..

وهذا الكلام ان كان المراد منه تحريم القسم مطلقا صادقا كان أم كاذبا ، فهذا الاحتجاج فيه لا يستقيم وذلك لوجهين «أحدهما» أنّ القسم إنما يكون بما له شأن وجهة عظيمة ، وان كون السماء كرسي الله هي المصححة للقسم بها لا مانعة منه.

وكذا كون الارض موطئ قدميه ـ أي محل نفوذ مشيئته ، وكذا كون اورشليم مدينة الملك العظيم.

فإن هذه الثلاثة قد اكتسبت بنسبتها الى الله جل جلاله شرفا وكرامة فيحق القسم بها وإلا فبما ذا يحق القسم ، أتراه يحق بالأوثان وهياكلها ومرتفعاتها وسواريها.

وأيضا ان صورة هذا الاحتجاج تعطي ان المانع من القسم بالامور

٢٨٥

العظيمة هو أمر عقلي لا يختلف بحسب الأزمان والشرائع ، وفي ذلك اعتراض على التوراة بتسويغها القسم وتغليط لشريعتها في ذلك.

أجل فأين يكون القول المنسوب في هذا الإصحاح للمسيح ، لا تظنوا اني جئت لأنقض الناموس والأنبياء ـ بل لأكمل ـ الى تزول السموات والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس ، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعى أصغر في ملكوت السموات «مت ٥ ، ١٣ ـ ٢٠».

فإن هذا الكلام يناقض مخالفة التوراة ولو بنحو النسخ فضلا عما يعود عليها بالاعتراض والتغليط لشريعتها ، نعم الذي يناسب هذا الاحتجاج هو قول القائل : لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضعا لثان «عب ٨ ، ٧» ولو لا تشويش الكلام المتقدم لأمكن حمله على التعليم بالاجتناب من إكثار القسم حذرا من الوقوع في الحنث الكثير وأن لا يستهان بالحلف بالسماء والارض وأورشليم والرأس الذي هو من عجائب صنع الله ، وذلك لكرامة هذه المذكورات بانتسابها الى الله بالوجوه المذكورة ، فتكون الاستهانة بها جرأة على الله.

فطريق الاحتياط هو اجتناب القسم لئلا يعتاد اللسان على إكثاره فيقع في الحنث كثيرا ، فإن إكثاره هو استسهال أمره من الشرير.

ويؤيد هذا الحمل ما جاء في الرسالة المنسوبة الى يعقوب «٥ ، ١٢» لا تحلفوا بالسماء ولا بالأرض ولا بقسم آخر ، بل لتكن نعمكم نعم ، ولاكم لا لئلا تقعوا في دينونة أي لئلا توقعكم كثرة الحلف في دينونة الحنث وعقابه.

وقال الله جل شأنه في سورة البقرة ٢٢٤ : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) ، وفي سورة القلم ١٠ (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ).

«تنبيه» : لا يوجد في التوراة ما ذكر في متى من قوله قيل : للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك ، بل الموجود فيها من هذا النحو ما ذكرناه عن

٢٨٦

عد «٣٠ ، ٢».

* * *

وقال الله تعالى في سورة النحل ١٠٨ : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٨٥» نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك فإن المشركين أخذوه وأباه وأمه وغيرهم فعذبوهم وقتلوا أباه وأمه ، وأما عمار فوافقهم وكفر بمحمد وقلبه كاره فأتى عمار محمدا «ص» وهو يبكي فقال له محمد «ص» ما وراك؟ قال : شر يا رسول الله نلت منك وذكرت فقال : كيف وجدت قلبك؟ قال مطمئنا بالإيمان فجعل محمد «ص» يمسح عينيه وقال : ان عادوا فعد لهم بما قلت ، يعني يجوز الكفر باللسان ، إذا كان في القلب الإيمان وهو تعليم فاسد ، وهل يرضى الله بالشرك به باللسان انظر قول المسيح من ينكرني قدام الناس أنكره قدام ملائكة أبي في السموات ، وقوله لا تخافوا ممن يقتل الجسد بل خافوا ممن يقتل الجسد ويعذب النفس معا فالمبدأ الذي وضعه محمد «ص» يساعد المنافق على نفاقه.

قلنا : أما الآية الكريمة فلا تعرض فيها لتسويغ الكفر باللسان مع اطمئنان القلب بالإيمان ، وغاية ما تعرضته هو استثناء هذا المكره المطمئن القلب بالايمان ، وأخرجته من الوعيد بغضب الله والعذاب العظيم الذين يستحقهما الكافر الذي شرح بالكفر صدرا ، وهذا الاستثناء حقيقة لازمة لا يمكن لذي شعور إنكارها ولا يسوغ لذى عقل ومعرفة ان يدعي ان المكره على كلمة يقولها والمرتد الحقيقي يكون عذابهما واحدا.

وأما تشبث المتكلف فإنما هو ببعض وجوه الرواية الآحادية المختلفة الألفاظ المضطربة

النقل المقطوعة السند.

وزاد المتكلف على ذلك فخبط ولفق ما ذكره من روايات مختلفة ويكفي في اضطراب الرواية ان المذكور من طريق أبي عبيدة «فإن عادوا فعد» وعن محمد

٢٨٧

بن سيرين «فإن عادوا فقل ذلك لهم» ، وفي مرسلة الكشاف «ما لك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت».

وفيما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس لم يذكر من ذلك شيء بل مقتضى الرواية المذكورة انه لا محل لشيء من هذا القول ، فانها تذكر ان عمارا أخبر رسول الله «ص» بما جرى له حينما لحقه في هجرته الى المدينة دار المنعة والأمن من عود المشركين الى تعذيب عمار وإكراهه ..

وأما النقل لما قاله عمار للمشركين فهو مضطرب أيضا ، ففي رواية ابن عباس ان عمارا قال للمشركين كلمة أعجبتهم تقية.

وفيما روي من طريق أبي عبيدة سب النبي «ص» وذكر آلهة قريش بخير ، وفيما عن السدي ان عمارا وخبابا أخذهما قريش وعذبوهما حتى كفرا ، وفيما عن قتادة ان بني المغيرة غطوا عمارا في بئر وقالوا : أكفر بمحمد «ص» فاتبعهم على ذلك وقلبه كاره ، وفي مرسلة الكشاف ان عمارا أعطى قريشا ما أرادوا بلسانه ، وغاية ما يتفق عليه هذا النقل المضطرب هو ان عمارا نال من رسول الله «ص» بلسانه وهو مكره ملجأ ، وعلى فرض صحة ذلك ، لنا أن نقول ان فلسفة الايمان ونشر كلمة الحق وإعلاء كلمة الدين تقتضي أحوالا مختلفة بحسب اختلاف الوقت ومصلحته ومناسباته ، فرب وقت لا يسع فيه إلا الملاينة والابقاء على أنفس المؤمنين الداعين الى الحق ليتلطفوا في نشر الدعوة بالرفق والمطايبة الى أن تسنح له الفرصة الى نشرها بالحزم والجد ، وذلك حيث يأمنون بحسب العادة من استئصالهم الموجب لانعدام أنصار الدعوة ، فان الغرض في مثل هذه الامور ليس مجرد تسليم النفوس للهلاك وإنما هو النهضة لاعلاء دين الحق ببث الدعوة وكسر شوكة الضلال بتعاضد الأنصار ، فربما لا يمنع العقل ولا الشرع من بعض أنحاء الملاينة والمداراة من بعض الأشخاص في بعض الأحوال إذا كان الحزم والشدة فيها هادمين لبنيان الدعوة مضعضعين لأساسها ، نعم لا يجوز للنبي معلم الدعوة أن ينكل عنها وينكرها أو يبدل في تعليمها بحال من الأحوال ، وإنما له في فلسفتها ان يتمهل في الجد في تكرارها ويتلطف في أمرها الى أن تسنح له الفرصة في اجرائها بالحزم والشوكة ، فنقول بناء على

٢٨٨

الرواية والسيرة المعلومة ان عمارا قد اخذ في أمر الايمان ونصرة الحق بمجامع الحكمة واعطى كل مقام حقه بحسب حاله ، فانه رجح الملاينة مع المشركين بكلمة يوري بها في شأن رسول الله «ص» وذلك حيث كان محتقرا بين المشركين يعلم ان قتله لا يجدي في قوة الدعوة ولا يهيأ لها ثأرا تعتز بطلبه ، بل إنما ينقص قتله من عديدها ، ومع ذلك فقد رهقه الوجل مما قال وجاء الى رسول الله «ص» باكيا.

ولعل هذا الحال أحسن أثرا في نصرة الدعوة من قتله في تلك الحال ، ولكن لما قويت شوكة الحق وكثرت دعاته وعلم ان قتله ان لم يشيد كلمة الحق لا يضعضعها اخذ حينئذ بالحزم والشدة بحدي سيفه ولسانه .. هذا ولو صح من الرواية ان رسول الله «ص» قال لعمار : ان عادوا فعد لهم بما قلت لكان ناظرا الى مثل الحال في اكراه عمار وان يقول مثل ما قال مما تصلح التوراة فاسدة.

وقد بيّنا ان حكمة الدين قد تقتضيه ويرضاه الله لأجل إعلاء دينه ولم يكن ذلك تجويزا للكفر باللسان مطلقا ولا تعليما به ، ولكن جاء في انجيل المتكلف عن قول المسيح كل خطيئة وتجديف يغفر للناس ، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس ، ومن قال كلمة علي ابن الانسان يغفر له ، واما من قال على الروح القدس فلن يغفر له «مت ١٢ ، ٣١ و ٣٢».

ولا تلتفت الى تشبث المتكلف للمنع من ذلك مطلقا بما نقله عن قول المسيح : من ينكرني قدام الناس أنكره قدام ملائكة ابي في السموات ، فانه لا بد ان يحمل الانكار على إنكار المسيح حقيقة كمن شرح بالكفر صدرا ، ولا يمكن عمومه للكفر بالمسيح وإنكاره باللسان ، وإلا كان هذا الكلام المنقول عن المسيح كاذبا بمقتضى العهد الجديد.

فإن الأناجيل اتفقت على ان بطرس أنكر المسيح وصار يحلف ويلعن مع ان المسيح أنذره بذلك وهو قد عاهد المسيح على أن لا ينكره ، ومع ذلك فالعهد الجديد يقول : ان المسيح بعد ذلك بأيام قلائل سلم إليه رعاية الكنيسة «يو ٢١ ، ١٥ ـ ١٨».

ومن الظرائف ان المتكلف لم يكتف باختلاف متى ولوقا في نقلهما

٢٨٩

لكلام المسيح حتى ثلثهما بالاختلاف والتحريف ليكمل له التثليث ، ففي متى «١٠ ، ٣٣» من ينكرني قدام الناس أنكره أنا أيضا قدام أبي الذي في السموات ، وفي لوقا «١٢ ، ٩» ومن أنكرني قدام الناس ينكر قدام ملائكة الله ، والمتكلف ينقله بتحريفه هكذا : من ينكرني قدام الناس أنكره قدام ملائكة أبي في السموات ، وكذا ثلث بالاختلاف والتحريف في نقله عن قول المسيح : لا تخافوا ممن يقتل الجسد بل خافوا ممن يقتل الجسد ويعذب النفس معا ، فطابقه مع «مت ١٠ ، ٢٨ ولو ١٢ ، ٤ و ٥».

ويكفي في بطلان التشبث بهذا الكلام انه يفتح باب الاعتراض على المسيح حيث تذكر الاناجيل انه سئل عن اعطاء الجزية لقيصر فصار يعمى في الجواب ويوري به على وجه يوهم ما يخالف حكم الله ، فانظر «مت ٢٢ ومر ١٢ ولو ٢٠» ولم يتردد في اليهودية لأن اليهود كانوا يطلبون ان يقتلوه «يو ٧ ، ١» ولأجل ذلك لم يكن يمشي بينهم علانية «يو ١١ ، ٥٣ و ٥٤» وهذا يقتضي ان الخوف من الناس قد صده عن دعوته وتعليمه ، هذا كله ولم يكن في دعوة التلاميذ إلا الوعظ بأنه قد اقترب ملكوت السموات وملكوت الله «مت ١٠ ، ٧ ولو ١٠ ، ٩».

وليس في هذا مظنة خوف لأنه ليس فيه مصادمة لنحلة المدعوين لا في عبادتهم ولا في شريعتهم ، بل هي بشارة مجملة تمتد إليها الأعناق وتنشرح لها الصدور فان اليهود كانوا ينتظرونها.

* * *

وقال الله تعالى في سورة النحل ٧١ : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٨٤» : ادعى القرآن ان عسل النحل شفاء من كل داء.

قلنا : لا يخفى على من اطلع على الطب ان العسل فيه شفاء من أدواء كثيرة ، وأيسر ذلك انه الجزء المقوم في المعاجين والترياقات الكبار الفعالة وقد

٢٩٠

قال القرآن الكريم فيه شفاء ورحمة ولم يقل فيه شفاء من كل داء ، وإنما قال ذلك روح الكذب والتعصب.

* * *

وقال الله تعالى في سورة الأحزاب ٧٢ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠٤» ولم يكتف القرآن بأن جعل البهائم والدبابات من العقلاء بل جعل الجمادات أيضا ، ثم قال : ان الإنسان وحده المختص بالعقل.

قلنا : مما جاء في كتاب العهدين من هذا النحو قوله : ابصرتك ففزعت الجبال حب ٣ ، ١٠» رأت الارض وارتعدت مز «٩٧ ، ٣» لما ذا أيتها الجبال المسنمة ترصدن جبل الله «مز ٦٨ ، ١٦» ترنمي أيتها السماوات اهتفي يا أسافل الارض أشيدي يا جبال ترنما الوعر وكل شجرة فيه «ا ش ٤٤ ، ٢٣» إن سكت هؤلاء فان الحجارة تصرخ «لو ١٩ ، ٤٠».

فإن قال المتكلف ان هذه حقائق غيبية قد كشف عنها الوحي وأعلمنا منها بما قصرنا عن إدراكه فلما ذا لا يقول بمثل ذلك في القرآن الكريم.

وإن قال انها استعارات وكنايات فلما ذا لا يقول بمثل ذلك في القرآن الكريم ، أم انه لا يدري بما ذكرناه من كتابه ، أو يدري ولكن روحه لا تدعه حتى ينفث بما عنده.

* * *

وقال الله تعالى في سورة النمل ٨٤ : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ).

فزعم المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠١» نقلا عن بعض المفسرين ان الدابة المذكورة هي الجساسة الواردة في أخبار الآحاد المضطربة والأقوال المشوشة المختلفة فجعلها من الخرافات ..

٢٩١

وذكرها «سايل» «ق ١٥٧» ، وذكر اضطراب الأقوال فيها ، ثم قال «ص ١٥٨» وكل هذا الهذيان إنما هو نتيجة خواطر مختبلة أصلها الوحش المذكور في سفر الجليان.

قلنا : لم يدل دليل قاطع على ان المراد بدابة الأرض غير الإنسان ، بل دلت بعض الأدلة المعتبرة ان المراد بها إنسان خاص ، وان الإنسان مما يدب على الأرض ، وقد قال الله تعالى : (ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) وانظر التوراة الرائجة «تك ٧ ، ٢١ و ٢٢» ، وشتان ما بين حسن هذا الإبهام المناسب لمقتضى الحال وبين سماجة الكناية عن المسيح بالخروف الذي له سبعة قرون «روء ، ٥ ، ٦ و ٨» وعن جسده بالهيكل ـ أي بيت المقدس ، «يو ٢ ، ٢٠ و ٢١».

ولئن قبلنا أخبار الآحاد في هذا الشأن فليكن ما روى فيها من تأثير الدابة على الجباه مثل ما جاء من السمة والكتابة على الجباه «خر ٩ ، ٤ وروء ٧ ، ٣ ، و ١٣ ، ١٦ ، و ١٤ ، ١».

وان مقتضى أخبار الآحاد ان الدابة المذكورة أشبه شيء بالخروف المذكور «روء ٥ ، ٦» أو أحد الحيوانات الأربعة المذكورة «روء ٤ ، ٦» ، ولئن كانت أقوال بعض المسلمين وروايات آحادهم في الجساسة من الهذيان الناشئ عن خواطر مختبلة ، فمما ظنك بسفر الجليان ـ أي رؤيا يوحنا ـ الذي يمثل لك سورة البرسام وهذيانه ، وان أخبار الجساسة والأقوال فيها ليست من أصول الإسلام ولا كتب وحيه ، ولا يقطع المسلمون على صدورها من مأخذ الدين الإسلامي ، ولكن النصارى في قرون كثيرة قد اتفقوا على أن سفر الرؤيا ليوحنا الرسول ولا يشكون في انه كتاب وحي وإلهام.

* * *

وقال الله تعالى في سورة الحجر في شأن الناوين اتباع ابليس ٤٣ (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ٤٤ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٨٣» وكتاب الله يعلمنا انه لا يوجد سوى

٢٩٢

محلين وهما الجنة والنار ، فمحل المؤمنين الحقيقيين هو النعيم ومحل غير المؤمنين هو الجحيم ، فالاعتقاد بوجود سبع دركات وسبع أبواب لجهنم من الاعتقادات الوثنية ومن خرافات اليهود.

قلنا : لا يخفي اختلاف الغاوين في غوايتهم والمجرمين في عظائم جرمهم ، فلا بد لمن يؤمن بالآخرة والعقاب وجهنم ان يذعن باختلاف العقاب فيها بحسب أنحاه الالحاد والكفر والفساد والظلم واضطهاد الداعين الى الله ، ولا بد أن تختلف دار العقاب في معاقل سجونها في شديد العقاب وأشده ، وهذه حقيقة لا ينكرها غير الملحد ولا طريق لتفصيل مجملها إلا الوحي الالهي ، وقد بين الله العظيم في كتابه الكريم نحوا من ذلك حسبما يقتضيه حال الموعظة ، وأما الكتب الرائجة التي اغتر المتكلف بها فلم تصرح بخلاف هذه الحقيقة ولم تقل ان جهنم لها باب واحد أو طبقة واحدة ، وان اقتصارها على ذكر جهنم لا يقتضي دلالتها على انها عرصة بسيطة فيها نار واحدة بكيفية واحدة وعقاب واحد ، وانها لينبغي التشكر لبعضها إذ سمح بذكر جهنم ، فان التوراة الرائجة ـ وحاشا الحقيقية ـ لم تطر لجهنم ذكرا ، وإنما شددت وعيدها بالقحط والأمراض ، وأن يتزوج الخاطئ امرأة ورجل آخر يواقعها «تث ٢٨ ، ٣٠».

وقد عرفت من أشتات كتابنا حال كتب المتكلف الرائجة في نسبتها الى الوحي ، واشتغالها بالتناقض والفضاول الفارغة ، والحجج الواهية ، والتفصيل القبيح في مثالب الأنبياء والأولياء ، ونسبة الكفر والفضائح الى قدسهم وإلى عائلاتهم.

ولعل المتكلف يغتر ويقول ان الكتب التي لا يفوتها مثل الاكثار من ذلك لا يفوتها تفصيل الحقيقة لجهنم لو كان لها أصل ، فقل له : مهلا ولا تبشر أوهامك فان الكتاب الذي تستودعه تقلب الأحوال والنشآت وتلاعب الأيام والأهواء مثل ما ذكرناه لا بد من أن تستلب منه كثيرا من الحقائق وكفى بحال التوراة الرائجة حجة عليك ، فإنها أكثرت في سفاسفها في شأن الأنبياء والأولياء وتفصيل ثياب هارون وصيدلة البرص ولم تسنح لها الفرصة بذكر جهنم أصلا ورأسا ، وانك في اعتراضك على القرآن بغفلة كتبك قد فتحت للطبيعي باب

٢٩٣

الاعتراض على العهد الجديد إذا قال لك ان جهنم المذكورة في العهد الجديد هي من الخرافات ، فإن التوراة التي هي أساس تعليم العهدين لم تذكر جهنم أصلا ، على ان اعتراضك على القرآن الكريم بغفلة كتبك المعروف حالها انما هو شطط واه ، واعتراض الطبيعي على كتبك بتوراتك جدل لازم فحتى متى.

* * *

٢٩٤

المقدمة الرابعة عشرة

فيما تضمنه العهدان الرائجان من حيث اللاهوت والنبوات

والشريعة والآداب ، وفيها فصول

* * *

الفصل الأول

في الإلهيات

لا يخفى ان عنوان العهدين هو التعليم بوجود الإله الصانع القادر العليم الحكيم الحي الأزلي الدائم ، وبجلال قدسه وكمال ذاته وبتوحيده ، وانه جل جلاله لا إله غيره ولا شبيه له ولا مثل ، غير منظور ولا يرى ، والتعليم بالتنزه من ضلالة الشرك وعبادة الأوثان.

ولكن دواهي الأيام ودواعي الأهواء قلما تدع حقيقة لا تكدر صفوها ولا تدخل عليها أضدادها في ديوان بيانها وكتاب تعليمها حتى تتركها وأضدادها في معترك التناقض ومثابرة التنافر ، وإن أوهمت كثيرين بتلبيس المختلس على الغافل وخدعة الماذق للغر انها قد نظمت فرائدها في سمط البيان وجمعت فوائدها في ديوان الوحي ، «وهيهات فقد سبق السيف العذل واتسع الخرق على الراقع ، ولن يصلح العطار ما أفسد الدهر».

ولذا جاء في العهدين في الأمور الإلهية والشئون النبوية ما لا يقف في صف الحقيقة ، ولا يستقيم على قاعدة الايمان ولا يدور على محور العرفان.

فقد ذكرت التوراة الرائجة عن وحي الله لموسى باللغة العبرانية ان اسمه المقدس جل اسمه «يهوه» «خر ٣ ، ١٥ و ٦ ، ٣».

وكذا جاء في المزمور «٨٣ ، ١٨ وعا ٤ ، ١٣ ، و ٥ ، ٨ ، و ٩ ،

٢٩٥

٦» ، ويهوه هو الاله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت ليس سواه ، «تث ٤ ، ٣٩».

وهو إله ابراهيم واسحاق ويعقوب «خر ٣ ، ١٥ و ١٦» ، وهو الاله الذي خلق السموات والأرض وجبل آدم ترابا من الارض «تك ٢ ، ٤ و ٧» ومقتضى هذا ان «يهوه» اسم علم لله جلت أسماؤه.

ولكن التوراة الرائجة تقول : وأخذ يهوه الاله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ، وأوصى يهوه الإله آدم قائلا من كل شجر الجنة أكلا تأكل ومن شجرة معرفة الخير والشر «أو معرفة الحسن والقبيح» فلا تأكل منها لأنك بيوم أكلك منها موتا تموت «تك ٢ ، ١٥ ـ ١٨».

وقالت «الحية» للمرأة «حوا» : أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل ومن ثمر الشجرة التي في وسط الجنة ، قال الله تعالى : لا تأكلا منه ولا تمساه لئلا تموتا ، وقالت الحية للمرأة لا تموتا موتا بل يعلم الله انه بيوم أكلكما منه تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارف في الخير والشر ، «فلما أكل آدم وحوا» انفتحت أعينهما وعلما انهما عريانان.

فالتوراة الرائجة تقول بسخافة مضمونها واستغفر الله انه قد كذب القول لآدم بأنه بيوم أكله من شجرة الخير والشر يموت موتا بل كانت الحية هي الصادقة في قولها ، فانهما لما أكلا من الشجرة انفتحت أعينهما وعلما انهما عريانان وصارا عارفين في الخير والشر كما سيأتي.

والمتكلف «يه ٢ ج ص ١٣١» جمع في الاعتذار عن ذلك بين امرين متباينين تتكفل ذات التوراة ببيان غلطهما «أحدهما» ان المراد من الموت هو الموت الروحي لأن آدم لما تعدى الوصية استوجب سخط خالقه ، وتوراة المتكلف تغلطه في هذا الاعتذار فانها تقول ان آدم قبل أكله من الشجرة لم يكن عارف الخير والشر حتى انه لا يميز انه عريان ولا يخجل من ذلك وهذا الحال هو الهمجية والموت الروحي ، وإن من كان على مثل هذا الحال لا يدرك قبح

٢٩٦

المخالفة ولا يصح السخط عليه ، وكيف يصح السخط على من لا يعرف الخير والحسن لكي يعرف حسن الطاعة ولا يعرف الشر والقبيح لكي يعرف قبح المخالفة وتعدي الوصية.

بل مقتضى التوراة ان أكله من الشجرة أوجب له الحياة الروحية ، إذ صار عارف الخير والشر كالإله وصار قابلا بمعرفته أن يشرق في قلبه نور العرفان والايمان والرغبة في الطاعة.

وثانيهما : انه يوم أكله من الشجرة دبت فيه أسباب الموت وغرست في جسمه بذور الفناء ..

والتوراة توضح ان هذا وهم فاحش لأن مقتضاها ان آدم لم يخلق للبقاء بل قد وقعت المحاذرة والتدابير لئلا يأكل من شجرة الحياة فيعيش الى الأبد كما ستسمعه فهو من يوم خلق قد غرس التقدير في جسمه بذر الفناء فهذا الموت التقديري لازم له قبل أكله من الشجرة.

ثم اعلم ان كاتب التوراة الرائجة وحاشا الحقيقية قد اودع مضمونها السخيف أكثر مما قالته الحية في المنشأ لنهي آدم عن الأكل من الشجرة ، غفرانك اللهم وأنت المستعان على عبث الاهواء.

وتقول التوراة الرائجة أيضا ان يهوه تبارك اسمه وجل شأنه سمع آدم وحوا صوته وهو متمش في الجنة عند ريح النهار فاختبأ آدم من وجهه في وسط شجر الجنة فنادى يهوه الاله آدم وقال له أين أنت؟ فقال : سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت فقال : من أعلمك انك عريان هل أكلت من الشجرة «تك ٣ ، ٨ ـ ١٢».

أفلا ترى ان هذا الكلام يقول بسخيف مضمونه ان الله جل شأنه جسم يتمشى في الجنة وله في تمشيه صوت ، وان آدم بعد ما صار عارفا للخير والشر عرف ان الاختباء في شجر الجنة يخفيه على الله تعالى شأنه ، وكأنه لأجل ذلك سأله أين أنت.

وتقول لما أكل آدم من الشجرة وصار عارفا للخير والشر ، قال يهوه : هو

٢٩٧

ذا الانسان صار كواحد منا عارفا الخير والشر والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحي الى الأبد فأخرجه يهوه الاله من جنة عدن وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة «تك ٣ ، ٢٢ ـ ٢٤».

أفلا ترى ان هذا الكلام يقول مضمونه ان الله جلت عظمته وعظمت قدرته قد خاف من عاقبة آدم وصار يحاذر منه على استقلال مملكته واستبداده في أمره حتى أعمل التدابير والاحتياطات اللازمة.

وتقول أيضا «لما عزم بنو آدم بعد الطوفان أن يبنوا في بابل مدينة وبرجا حصينا لئلا يتبددوا على وجه كل الارض» نزل يهوه لينظر المدينة والبرج للذين كان بنو آدم يبنونهما ، وقال يهوه : هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل ، والآن لا يمتنع عليهم كلما ينوون أن يعملوه ، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض ، «تك ١١ ، ٥ ـ ٨».

أفلا تقول : ما حاجة علم الله جل جلاله الى النزول لأجل الاطلاع وما حاجة قدرته العظيمة الى الاستعانة والنزول ، وما أقبح هذه التعبيرات حتى لو سمح أسلوب التوراة الرائجة بحملها على المجاز ولكنه لا يسمح ، أو لا ترى ان مضمون هذا الكلام يقول بسخافته ان الله جل شأنه خاف على مملكته من تمرد الرعية وخروجهم عن نفوذ سلطانه فاستغاث بمن يعينه على النزول معه لإعمال التدابير والاحتياطات في حفظ المملكة عن الانحلال.

وتقول أيضا : وقال يهوه صرخة سدوم وعمورة قد كثرت وخطيئتهم قد عظمت جدا انزل وأرى كصرختها الآتية إلي عملوا كلها وإلا أعلمها ، «تك ١٨ ، ٢٠ و ٢١».

وقل ما حاجة علم الله جل اسمه الى النزول لأجل الاطلاع وتحقيق الحال والكشف على مطابقة الصرخة والشكاية لحقيقة العمل ، أم لا لكي يحصل له العلم بحقيقة الحال في هذا النزول للاكتشاف.

وتقول أيضا : ما حاصله ان يهوه جل اسمه وعد موسى بأن يصعد بنو

٢٩٨

اسرائيل من مصر الى أرض الكنعاني والآموري والحوي واليبوسي ، ولكنه جل شأنه قال لموسى : تدخل أنت وشيوخ بني اسرائيل الى ملك مصر وتقولون : يهوه إله العبرانيين استقبلنا فالآن نمضي طريق ثلاثة أيام في البرية ونذبح ليهوه إلهنا.

مع انها تصرح بأن الله لم يستقبل بني اسرائيل ، بل أرسل إليهم موسى ولم يكن المقصود هو الذهاب طريق ثلاثة أيام الذبح ، بل المضي الى أرض الموعد المذكورة ، وحاشا لله أن يعلم بالكذب ويفتح رسالته بهذا العمل الفاسد.

وتقول أيضا : لما رجع موسى برسالة الله من مديان الى مصر حسب الأمر والموعد صار في الطريق في المنزل والتقاه يهوه وطلب أن يقتله فأخذت صفورة امرأة موسى صوانة فقطعت غرلة ابنها ومست رجليه وقالت : انك عريس دم لي فانفك عنه «تك ٤ ، ٢٤ ـ ٢٦».

أفلا ترى ان هذا الكلام يقول بسخافة مضمونه ان الله جل شأنه أخلف وعده لبني اسرائيل وموسى ، وطلب أن يقتله ولكنه انفك عنه بمخادعة صفورة.

وتقول أيضا : ان يهوه كلم موسى وهارون أن يأمرا بني اسرائيل في مصر بذبح الفصح ، وأن يجعلوا من دمه على أبوابهم ويعبر يهوه ويضرب كل بكر في أرض مصر من الناس والبهائم ويكون الدم الذي على الأبواب علامة على بيوت اسرائيل فيرى يهوه الدم ويعبر عنهم فلا تكون عليهم ضربة للهلاك حينما يضرب مصر «تك ١٢ ، ٦ ـ ١٤ و ٢١ ـ ٢٤».

ويا للعجب العجيب ما حاجة الله الى العلامة ، أفلم يكن من الممكن في علمه جل شأنه أن يعرف بيوت اسرائيل بدون العلامة.

وتقول أيضا : ان موسى وهارون وناداب وابيهو وسبعين من شيوخ اسرائيل رأوا إله اسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف ، وكذات السماء في النقاوة ، فرأوا الله وأكلوا وشربوا «خر ٢٤ ، ٩ ـ ١٢».

وكيف يكون التجسيم إذا ، بل لو قيل ان الله جل شأنه جسم متحيز في

٢٩٩

مكان لاحتمل من المجاز ما لا يحتمله هذا الكلام.

وتقول أيضا : فنزل يهوه في السحاب ووقف ـ أي موسى ـ عنده هناك ونادى باسم الرب وعبر يهوه قدامه «خر ٣٤ ، ٥ و ٦» فنزل يهوه في عمود سحاب ووقف بباب الخيمة «عد ١٢ ، ٥».

ويقول العهد القديم : ان يهوه كان جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره ، فقال يهوه : من يغوي اخاب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد؟ فقال هذا هكذا ، وقال ذاك هكذا ، ثم خرج الروح ووقف أمام يهوه فقال : أنا أغويه فقال له يهوه بما ذا؟ فقال أخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه فقال انك تغويه وتقدر فاخرج وافعل هكذا «١ مل ٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣ ، و ٢ اي ١٨ ، ١٨ ـ ٢٢».

ولا تخفى سخافة هذا الكلام في تضمنه للتجسيم والعجز والحيرة وعدم الاهتداء الى الرأي حتى اهتدى إليه روح الكذب ، وان القدرة تقصر عن نفوذها حتى تتوصل بالكذب.

ويقول العهد القديم عن وحي أرميا ، فقلت : آه يا سيدي يهوه حقا خداعا خادعت الشعب هذا وأورشليم قائلا : سلام يكون لكم وقد بلغ السيف. الى النفس.

وسخافة هذا الكلام لا تحتاج الى البيان.

وجاء في العهد الجديد ان المسيح لما صعد الى السماء جلس عن يمين الله «مر ١٦ ، ١٩ وعب ١٠ ، ١٢ وانظر ا ع ٧ ، ٥٦».

وهذا يقتضي التجسيم وان الله جل جلاله يحويه المكان ويكون له جهة يمين ، كما جاء في التوراة ان الله جل شأنه له جهة وراء «خر ٣٣ ، ٢٣».

ويقول العهد الجديد أيضا ان الله جل شأنه محبة «١ يو ٤ ، ٨ و ١٦».

ولا يخفى ان المحبة ميل شيء الى شيء فهي عرض لا تأصل له في الوجود.

٣٠٠