الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

بغرورهم وتأمينهم من وبال غيهم» فجعل الإله المتجسد عرضة للإهانة وللاضطهاد بحيث كان يتقي الضالين في اليسير من تعليمه.

ثم نبأ «قيافا» رئيس الكهنة بأن يسعى في قتل ذلك الإله المتجسد واضطهاده الشنيع ملقنا لقيافا في النبوة بأنه خير لهم ان يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الامة كلها «يو ١ ، ٤٧ ـ ٥٢» ، فجرى التصميم على قتل الاله المتجسد وان استعفى واستقال من معاملة الفداء وحزن واكتئب وصلى وطلب ان تعبر عنه كأسه ولكن لم يفده ذلك ، بل قتل ومات يومين وبعض يوما ، فتم العمل في قرار الفداء من قصاص الخطايا ولعنة الناموس وبعد ذلك ارسلت الرسل ليعلنوا بتمام قرار الفداء فهتف واحد منهم بالهامه المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار «وحاشاه» لعنة من أجلنا ، «غل ٣ ، ١٣» ، ولسنا بعد تحت مؤدب «عل ٣ ، ٢٥» ، وقد تقدم هذا متفرقا في الجزء الأول.

وإذا كانت الحكمة تقاوم هذا كله وتضاده ، قالت الكتب المنسوبة الى الوحي ـ لا بشر لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صلب المسيح ـ لأنه إذا كان العالم في حكمة لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة لأن جهالة الله أحكم من حكمة الناس وضعف الله أقوى من الناس ، «١ كو ١ ، ١٧ ـ ٢٦».

وزاد المتكلف في تلمذه على هذا التعليم فبشر بالتناقض ، وقال : «يه ٤ ج ص ١٥٩».

نعم لا ننكر ان تجسد الكلمة الأزلية هو فوق عقولنا ولكنه موافق للعقل ، ثم عقد فصلا لعجز العقلي عن إدراك صفات الله وأسرار حكمته وحقيقة الروح (١) فتوهم ان هذا يروج عند الناس عزل العقل عن بديهيات أحكامه وأساسيات قوانينه في الممكن والممتنع لكي يتم للمتكلف الأمر في كل وساوس أهوائه ، وسوف نتعرض لذلك إن شاء الله تفصيلا ، وان كل من منحه الله شيئا من العقل ليعرف ان العقل هو الدليل على الله ورسله وكتبه ، وهو النور الذي يستضاء به في معرفة الممكن والممتنع ، وانه وان حجب عن أشياء قد استأثر الله بعلمها ولكنه لا يعشو عن مشارق نورانيته إلا من ران

٢٦١

الهوى على بصيرته.

وليت شعري ان انجيله يقول : ان من يزعمه اقنوم الابن والإله المتجسد والكلمة التي هي الله لا يعلم من أمر الساعة ما يعلمه اقنوم الأب ، «مر ١٣ ، ٣٢» ، ، فلما ذا لا يقول المتكلف : لا أعتني بأحكام اقنوم الابن وعلومه لأنه لا يعلم ما يعلمه اقنوم الأب كما لم يعتن ببديهيات العقل وأساسيات أحكامه ، متشبثا بأن الله حجبه عن بعض المعلومات مثل الوصول الى حقيقة الروح .. وليت شعري لما ذا يستغرب المتكلف وينكر أن يكون في اليونانيين من يوحد الله وينهى عن الشرك به ، ويعلم بمكارم الأخلاق ، أفيدعي ان كل اليونانيين في أجيالهم يقولون في بعض البشر انهم آلهة وأولاد الإله قد تجسدوا واتحد لاهوتهم بناسوتهم ، فالواحد منهم إله وانسان حقيقيان وربما ولد بعضهم من عذراء.

أفلم يكن توحيد الإله وتنزيهه عن مثل هذه الخرافات الباطلة موجودا في العالم ، كيف وتوراته تقول : انه من زمان «شيث» ابتدأ ان يدعى باسم الرب «تك ٤ ، ٢٦».

وتقويم توراته العبرانية يحتمل أن يكون ابراهيم قد أدرك سنين عديدة من حياة نوح كما زعمه المتكلف «يه ٢ ج ص ٢١٧» ، وعليه فتكون دعوة التوحيد من الأنبياء مستمرة أو قريبة من الاستمرار ، أفلا يمكن أن تسري روحها في أرجاء الأرض ويشرق نورها على من له عقل يعرف به سخافة القول بتجسد الإله.

إذا فمن أين كان ملكي صادوق «وهو في فلسطين دار الشرك» كاهنا لله العلي «تك ١٤ ، ١٩».

فهل يقول المتكلف ان العقل لا يمكن له أن يغلب الهوى فيهدي الى توحيد الله ويرشد الى الصلاح ومكارم الأخلاق ، وان الأنبياء الكرام لم ينشروا الدعوة الى ذلك ..

وحقيقة الأمر ان العقل الحاكم بعدل الله وغناه وحكمته وقدسه ورحمته ولطفه ليحكم بأن الله تبارك اسمه لا يخلي الأرض من داع الى توحيده وتقديسه

٢٦٢

وهاد الى وسائل القرب من حضرته ومرشد الى نواميس الصلاح وقوانين الشريعة المتكفّلة بصلاح البشر واصلاح أمرهم لآخرتهم ودنياهم ، ولكن المتكلف لا بد أن يجعل هذا من الخرافات ، ويقول : ان الله جل اسمه لم يلطف ويرحم بالشريعة إلا بني اسرائيل ولم يبين حقيقة التثليث إلا للنصارى ولكن حينما اطلقهم من قيود الشريعة وفداهم من لعنة الناموس ، وكيف قال فانا نجد في هذا القرن كثيرا من عرفاء النصارى من أشرق نور التوحيد الحقيقي على عقولهم ، فتجنبوا أغاليط التثليث ومخادعات الفداء.

ومنهم من بقي في الظاهر على النصرانية كالكونت «تولستوي» وأتباعه المحتفلين بتعليمه في أشتات البلاد ، ومنهم من حظى بهدى الإسلام وعبد الله به ، ومنهم من يعترف بحقيقة التوحيد وحق الإسلام ولكنه تمرد على نواميسه بألفة الراحة واعتياد الهوى على الاستراحة من النواميس الإلهية.

ولئن استغرب المتكلف من القرآن الكريم ذكره لما لم تذكره كتب العهدين كذكره لما أكرم الله به داود وسليمان ، وذكره لموت رجل مائة عام ثم أحياه الله ، وكذكره للقمان وحكمته وتوحيده ووعظه ، فان ذلك لا يعود بالسؤال على القرآن الكريم ولا على الحقائق الثابتة ، بل يعود بالسؤال على كتب العهدين ، إلا أن تعتذر بلسان حالها وتقول انها صنفان صنف لا تعرف النبوة اسمه ولا مسماه ، وصنف لم تبق له دواهي الايام إلا بقايا أسماء تستعار للمسميات التي اختلفت عليها الموارد والمصادر وتقلبت بها الأحوال والنشآت وهي بصنفيها قد صرفت وجهها عواصف الأهواء ووجهت عنايتها الى ما شحنت به ارجائها من عظائم المصائب ، فتارة تنادي بتعدد الآلهة والأرباب وتارة تألّه البشر ، وتارة تصف الله جل شأنه بالعجز والحيرة والمشاورة مع جند السماء في بعض التدابير حتى كان روح الكذب هو الموفق لإصابة الرأي وتارة تصف الأنبياء بالشك في قدرة الله وسوء الادب في خطابه والاستعفاء من رسالته ، ونسبته الى الظلم والجور ، وكونه جل شأنه خداعا ، تعالى الله عن ذلك ، وتارة تصف الأنبياء بالفسق والفجور والشرك وشرب الخمر ، وتارة تبسط قولها وتطيل شرحها في نسبتها الى الأنبياء وعائلاتهم أقبح الفواحش والدنس في العرض ، وتارة تنسب

٢٦٣

الى الأنبياء المخادعة بالكذب وخلاعة الجنون في التبليغ وتنسب تلك السخافات الى أمر الله جل شأنه ، وتارة تصف المسيح بكونه وحاشاه شرّيب خمر وترميه بالقول بتعدد الآلهة والأرباب ، وبالكذب وبالعقوق لوالدته والقدح بايمانها ، وترميه أيضا بمنافيات العفة والقداسة ، وتنسب له الاحتجاجات الواهية والتناقض بين الاقوال ، وبين الاقوال والافعال ، وترمي تلاميذه بالشيطنة وغلظ القلوب وعدم الإيمان والشك في المسيح وخذلانهم له وهربهم عنه ، وتارة تقضي شطرا منها في ملاشاة الشريعة والذم لها وعيبها ، وتارة تقضي شطرا كبيرا في صنعة خيمة الاجتماع ، وثياب هارون ، وصيدلة البرص ، وملاعب شمشون وشئونه مع الكنعانيات ، وان أردت أن تدقق اعملت تدقيقها في نسب فاص وابن يهوذا المنتهي الى داود ثم الى المسيح وفي نسب يفتاح ، ونصت في نسب المسيح على ذكر بعض الامهات اشارة الى أحوالها المذكورة فيما سلف مع انها اهملت ذكر جملة من الآباء.

ثم جاء بعض المتبعين لهذه الكتب من المفسرين المدققين فأنكروا قصة بلعام المذكورة بثلاث فصول طويلة من التوراة وجعلوها دخيلة لا أصل لها وجعلوا تكلم اتان بلعام وهما من طائف الاحلام.

وعمد جملة أيضا الى شطر كبير من الاناجيل وباقي العهد الجديد مما فيها من معجزات المسيح وتلاميذه في شئون الارواح النجسة فجعلوها من الكذب مداهنة ومجاراة لغلط الاوهام.

ويسري هذا أيضا الى شطر كبير من العهد القديم ، ومع ذلك فقد جعلها التلاعب تتكافح في مكررات قصصها بالتناقض والاختلاف بل صارت نسخها العبرانية والسامرية والسبعينية تتكافح بالاختلاف في الأسماء والاجيال والتاريخ وبالزيادة والنقصان ، وجاء كتبتها فانتقدوا عليها بزيادة الكلمات والحروف ونقصهما غلطا ، وتبديل الحروف والخبط فيها ، وجاءت المجامع فتحكمت فيها بالرد والقبول.

وجاء مفسروها فوصموها بالنقصان والإلحاق ، وجاء الطابعون لها

٢٦٤

فاضطربوا فيها بالتبديل والنفي والإلصاق ، أفلا تجد من ذلك كله عذرا لها فيما أغفلته من الحقائق.

* * *

وقال الله جل اسمه في سورة الكهف في قصة ذي القرنين ٨٥ : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ...

فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ٩١» بما حاصله ان القرآن قد جعل الاسكندر نبيا لأن الله لا يخاطب إلا نبيا مع انه كان ملكا سفاكا للدماء.

قلنا أولا : ليس في القرآن الكريم ما يدل على ان ذا القرنين هو الإسكندر الرومي المكدوني.

ومن أين للمتكلف هذا التحكم فان أخذه من أقوال بعض الناس ، فان كثيرا من الناس من قال بخلافه ، فان أبا الفداء والبيروني وغيرهما قالوا انه الصعب ابن الرائش ، وقال بعض ان اسمه عيّاش ، وقال بعض : عبد الله بن الضحاك ، وهب ان الجميع لا حجة فيه ولكنه يكشف عن سوء تحكم المتكلف وتقوله على القرآن الكريم.

وثانيا : يمكن أن يراد من القول الإلقاء في الفكر والتأمل في النظر ، أو القول له بواسطة نبي يبلغه.

وقد جاء في العهد القديم وكلم الله منسى وشعبه فلم يصغوا «٢ اي ٢٣ ، ١٠».

وثالثا : قد ذكرنا عن كتب وحي المتكلف صراحتها بأن الله خاطب الحية التي أغوت حوا.

وخاطب قايين وأبي مالك والشيطان ، وتذكر أيضا انه جل اسمه خاطب حوا «تك ٣ ، ١٣ و ١٦» فإن كان المتكلف يسمح لهؤلاء بالنبوة فلما ذا يبخل بها على الإسكندر المكدوني ، وحتى متى يعترض وهو لا يدري بما في كتبه أو يدري ويتغافل ، فهل هو عدو نفسه.

٢٦٥

ورابعا : ان سفك الدماء لا يمنع من النبوة إذا كان لأجل احقاق الحق وقطع فساد الشرك والجور ، بل وكتب وحي المتكلف تفصح انه لا يمنع من النبوة حتى إذا كان لأجل امتلاك الارض واستلابها وسلطة الملك ، فان مقتضاها ان من أعظم السفاكين للدماء حتى دماء النساء والاطفال والبهائم جماعة من الأنبياء المقدسين وهم موسى ويشوع وداود عليهم‌السلام ، فانظر أقلا «عد ٣١ ، ٧ ـ ١٩ ويش ٦ ـ ١٢ و ١ اي ٢٢ ، ٨».

وقل للمتكلف :

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة

وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

ثم اعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٩٢» على ذكر السد في سورة الكهف في الآية ٩٢ ـ ٩٧ وجعله من خرافات الوثنيين الوهمية.

وقال المتعرب «ذ» ص ٥١ ان الإسكندر لم يبلغ تلك البلاد قط وان سور الصين متأخر عن زمان الاسكندر بزهاء مائة سنة ، فإن قالوا ان القرآن أراد بذي القرنين الصعب ابن الرائش كما ذكره أبو الفداء والبيروني ، قلنا : ان الصعب المذكور متأخر عن بناء السور بأكثر من مائة وعشرين سنة وذلك بحسب أصح تقاويمهم.

قلنا : هب ان بعض التواريخ المختلفة قد خالف نص القرآن الكريم ولكن لا يصح لمن يعرف قدره ان يعترض على القرآن الكريم بما يخالفه من التواريخ المختلفة المضطربة ولو لم يوافقه بعضها ، فقد بينا ذلك وأوضحناه في تتمة الصدر والتمهيد من هذا الجزء ، وبيّنا فيه وجه العيب التاريخي في الكتاب المنسوب الى الوحي ، وأشرنا الى الكتب التي ابتليت بذلك ، «فانظر صحيفة ٥٧».

* * *

وقال الله تعالى في سورة مريم حكاية عن زكريا ٥ (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ٦ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا).

٢٦٦

فاعترض المتكلف وقال «يه ج ص ٩٢» وكتاب الله يعلمنا ان زكريا وامرأته كانا بارين وسلما الأمر لله ولم يخشيا من وارث ولا غيره.

قلت : ان انجيل لوقا المتعرض لذكر زكريا يدل بأوضح دلالة على ان زكريا طلب من الله الولد ، حيث يذكر ان الملاك قال لزكريا لا تخف يا زكريا لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك اليصابات ستلد لك ابنا وتسميه يوحنا «لو ١ ، ١٣».

وقول الملاك «لا تخف لأن طلبتك قد سمعت الى آخره» صريح أو كالصريح في ان زكريا كان خائفا من أمر يرتفع الخوف منه بإجابة طلبته وإعطائه الولد ، وإلا فلا معنى للتعليل .. وهذا من نحو المعنى الذي ذكره القرآن الكريم ان لم يكن هو بعينه ، ولكن المتكلف ان كان ينظر في كتبه اتفاقا فان تحامله على القرآن الكريم يحول بينه وبين واضحاتها ، ولا يضر بذلك إلا نفسه وان القرآن الكريم لم يقل ان زكريا وامرأته لم يكونا بارّين ، بل وصف زكريا بصفات الأبرار ولم يذكر في حقه انه قال لله : لما ذا أسأت ، أرسل بيد من ترسل وإلا فامحني من كتابك ، أو أنه صنع العجل إلها يعبده بنو اسرائيل وبنى مذبحا أمامه ، أو انه زنى بالمحصنة من نساء أصحابه وحاول أن يلصق حملها منه بزوجها المسكين ثم سعى في قتل زوجها وتزويجها ، أو انه ذهب وراء آلهة اخرى وبنى المرتفعات والسواري للأوثان ، أو أنه قال لله حقا انك خداعا «أو ...» بل حكى القرآن عن زكريّا قوله (إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي) ولعله كانت له مداخلات مالية يخاف من مواليه أن لا ينجزوها على حقها إذا اغتنموا ميراثه ، فطلب الولد ليكون هو وليه الذي ينجزها على حقها ، فان الاعتبار والتجربة شاهدان على ان الولد أقرب لتنجيز مهمات والده في وجوه أمواله.

وقد طلب زكريا من الله أن يجعل ولده رضيا ، أو لأن مواليه كانوا من الكهنة الذين طالما ذمهم العهد الجديد ، وكان زكريا يأمرهم بالمعروف واداء حق الكهنوت وحفظ الشريعة واحترام بيت الله فخافهم أن ينقلبوا من ورائه ويعودوا الى سجاياهم فطلب من الله وليا وولدا رضيا يرثه في هداه ووعظه لقومه واداء وظيفة الهدى.

٢٦٧

وهب ان القرآن الكريم قال : ان زكريا طلب الولد لمجرد المحافظة على أن لا يرث مواليه أمواله فليس للكتابي أن يتفوه بالاعتراض على ذلك ويجعله خطيئة ينزه منها زكريا ، فإن زكريا مهما كان لا يكون أكمل ولا أبر ولا أعرف من ابراهيم خليل الله ، وهذه توراتهم تفصح عن انه جرى من ابراهيم في الحرص على الارث ما هو أشد من هذا ، حيث ذكرت ان الله جل اسمه قال لابراهيم : لا تخف يا ابرام انا ترس لك اجرك كثير جدا ، فقال ابرام : أيها السيد الرب ما ذا تعطيني وابن ملك بيتي هو اليعازر الدمشقي وقال ابرام : انك لم تعطني نسلا وهو ذا ابن بيتي وارث لي «تك ١٥ ، ١ ـ ٤».

ودع عنك ما في هذا الكلام من الرد على الله واحتقار عطاياه وأجره الكثير الموعود به مما عدا الولد الوارث للمال حتى العطاء والأجر الكثير جدا في الآخرة.

وقال الله تعالى في سورة آل عمران في شأن مريم أم المسيح عليه‌السلام ٣٢ (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

فأنكر المتكلف «يه ٢ ج ص ٣٦» ان زكريا كان يكفل مريم متشبثا لإنكاره ذلك بأنها كانت بنت هالي أو عالي من نسل داود ، وأنكر على القرآن الكريم لأجل قول المفسرين بأن الله تبارك شأنه كان يأتيها بفاكهة الجنة متشبثا بدعوى ان الجنة ليست محل أكل وشرب بل هي محل التسبيح والتقديس وكل تنعماتها روحية ، واستند في ذلك الى دعوى قول المسيح اجمالا ولم يذكره ولم يشر الى محله ، ثم قال ان هذه الاقوال مأخوذة من خرافات المسيحيين.

قلت : ان انجيل المتكلف يصرح بأن امرأة زكريا كانت من بنات هارون ، وانها نسيبة مريم ـ أي شريكتها في النسب ـ «لو ١ ، ٥ و ٣٦» ، ومقتضاه ان مريم هي من بنات هارون أيضا لأن أنساب بني اسرائيل كانت على ما يقال محفوظة متمايزة بحسب أسباطهم ، ولم يذكر الإنجيل ان مريم كانت بنت عالي أو هالي ، وإنما ذكر لوقا في نسب يوسف انه ابن هالي ، «لو ٣ ، ٢٣» ، ولكن بعضهم حاول أن يرفع التناقض الكثير بين متى ولوقا في نسب

٢٦٨

المسيح من جهة نسب يوسف ، فقالوا : ان لوقا نسب يوسف الى هالي أبي مريم.

وقد قدمنا في الجزء الاول صحيفة ٢٣٧ ـ ٢٤١ ما تعرف منه ان هذه الدعوى من تلفيقات الأوهام وتسويلات الخيال عند ضيق الخناق ..

دع هذا ولكن الباب الأول من لوقا يؤكد انه كانت بين مريم واليصابات قرابة وعلاقة اتصال وعواطف ، فلما ذا لا يكفي هذا في كفالة زكريا لمريم ، دع هذا وقل ما المانع لزكريا المؤمن البار أن يتقرب الى الله بكفالة امرأة عذراء مؤمنة برة من بني اسرائيل ، ولا يلزم في الكفالة أن تكون مضطرة يتصدق عليها بالقوت ، بل يكفي في ذلك قيامه بأمرها ورعايتها وحمايتها ، فهل تمتنع هذه الكفالة بوجوهها في الدين والمروات عند من تقدمت الدنيا بمعارفهم.

وأما الرزق الذي قالت فيه مريم لزكريا (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فلما ذا لا يحمل المتكلف قول القرآن الكريم فيه على انه رزق يبعثه الله الى مريم الصديقة البرة برحمته وقدرته ، كما يقول العهد القديم ان الله سخر الغربان لإيليا فكانت تأتيه بخبز ولحم صباحا ومساء «١ مل ١٧ ، ٤ و ٦» ، وكما هيأ له الكعكة «نوع من الخبز» وكوز الماء فنبهه الملاك للأكل والشرب حتى سار بقوة تلك الأكلة أربعين يوما «١ مل ٩ ، ٥ ـ ٩».

وما ذا ينكر المتكلف على المفسرين في قولهم ان ذلك الرزق لمريم كان من فاكهة الجنة ..

فلما ذا لا تكون من جنة آدم المذكورة في التوراة «تك ٢ ، ٨ و ٩» ، فهل يقول المتكلف : ان تلك الجنة قد يبست أشجارها ونابها الخراب فلم يساعد الوقت على غرسها وعمارتها ..؟ ولما ذا لا تكون من الكرمة التي يشرب المسيح جديدا من نتاجها مع تلاميذه في ملكوت الله «مت ٢٦ ، ٢٩ ومر ١٤ ، ٢٥ ولو ٢٢ ، ١٨» ، أو مما يأكل منه التلاميذ على مائدة المسيح في ملكوته «لو ٢٢ ، ٣٠».

وأما قول المتكلف ان الجنة ليست محل أكل وشرب بل كل تنعماتها روحية

٢٦٩

كما قال السيد المسيح ، فليس فيما تنقله الاناجيل عن أقوال المسيح ما يمكن التشبث به لهذه الدعوى الا نقلها عن قوله ان أبناء القيامة لا يزوجون ولا يتزوجون بل يكونون كملائكة الله في السماء «مت ٢٢ ، ٣٠ ومر ١٢ ، ٢٥» إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة ، وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة «لو ٢٠ ، ٣٥ و ٣٦» فإن كان المستند هو هذا فقد بينا لك في الجزء الاول صحيفة ٢٣٤ سقوط هذه الحجة ووهنها من جميع أطرافها على حد ينبغي أن ينزه عن مثله آحاد أهل الأدب والمعرفة فضلا عن المسيح رسول الله على انها لو تمت لما أمكن ان يراد انهم لا يأكلون ولا يشربون من حيث انهم كالملائكة ، وذلك لأن التوراة تنافي هذه الدعوى حيث ذكرت مكررا ان الملائكة أكلوا من ضيافة ابراهيم ومن ضيافة لوط «تك ١٨ ، ٨ و ١٩ ، ٣» وصدقت على ذلك رسالة العبرانيين «١٣ ، ٢» ، وسيأتي التعرض إن شاء الله لذكر الجنة في الأجزاء الآتية بحول الله وقوته.

وقال الله تعالى في سورة آل عمران في شأن زكريا وبشارته ٣٦ : (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً).

فاعترض المتكلف (يه ٢ ـ ج ص ٣٧) بأنه لم يفهم من الإنجيل ان زكريا طلب آية وبأن مدة صمته كانت تسعة اشهر وثلاثة ايّام.

قلنا أولا : ان انجيل لوقا يذكر ان زكريا قال للملك الذي بشره : كيف اعلم هذا لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها ، فقال له الملاك وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم لأنك لم تصدق كلامي «لو ١ ، ١٨ و ٢٠» ، فقوله : كيف أعلم هو طلب لما يحصل به العلم ، ولكن القرآن الكريم كلام الله ذكر الواقعة على الحقيقة المناسبة لبر زكريا وايمانه حيث انه طلب من الله الآية ليزداد ايمانا ويطمئن قلبه باستجابة دعائه ، فان زكريا أجلّ من يقول لله أو بالملك «كيف أعلم هذا» ولا يصدق الملك في بشارته.

وثانيا : ان القرآن الكريم كلام الله لم يكن متبعا في وحيه مضطربات العهدين في منقولها ولا معتنيا بإنجيل لوقا ، كيف ولو كان كذلك لمجد المسيح بما يذكره لوقا من وقوف الخاطئة عند قدميه وهي باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب فشكر لها صنيعها

٢٧٠

وكثرة حبها حتى باهى به الفريسي «لو ٧ ، ٣٦ ـ ٤٨».

وثالثا : ان كتب العهدين قد اضطربت واختلفت كثيرا فيما يرجع الى العدد فلم يقدح ذلك عند المتكلف في زعمه انها كتب وحي صادقة ، فمن الظلم الفاحش اعتراضه على القرآن الكريم إذا خالف أحدها ، فانا نذكرك بما ذكرناه في هذا الكتاب من اختلاف العهدين واضطرابهما في العدد ، فمن ذلك حكاية الملائكة الذين جاءوا الى ابراهيم وذهبوا الى سدوم فجاءوا الى لوط حيث جعلتهم التوراة ثلاثة ثم اثنين ثم واحدا فانظر «تك ١٨ و ١٩» ومن ذلك إقامة بني اسرائيل وتغربهم في مصر حيث جعلته التوراة أربعمائة سنة «تك ١٥ ، ١٣» ، وكذا العهد الجديد «١ ع ٧ ، ٦» ، ثم جعلته أربعمائة وثلاثين سنة «خر ١٢ ، ٤٠» ، وجعلها العهد الجديد أقل من ذلك بكثير «غل ٣ ، ١٧».

ومن ذلك اختلاف النسخة العبرانية والنسخة السبعينية في اعمار آباء السلسلة من آدم الى ابراهيم ، كما ذكرنا في تتمة الصدر من هذا الجزء ، ومن ذلك حكاية الاعمى والاعميين ، والمجنون والمجنونين.

ومكث المسيح في بطن الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال ويوم وليلتين ، انظر الجزء الأول صحيفة ٢٥٢ ـ ٢٥٧ ، ودع عنك سائر ما ذكره إظهار الحق.

* * *

وقال الله تبارك اسمه في سورة مريم في شأن حملها الطاهر بالمسيح وولادتها المقدسة ٢٢ (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا ٢٣ فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا ٢٤ فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا ٢٥ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا ٢٦ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً ٢٧ فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ٢٨ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا ٢٩ يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ٣٠ فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ٣١ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا).

٢٧١

فأنكر المتكلف ذلك «يه ٢ ج ص ٩٢ و ٩٣» وزعم ان القرآن نسب الى مريم قصة هاجر أم اسماعيل ، وان مريم ولدت المسيح في بيت لحم اليهودية ، ولم تكن في البرية ، ولم تهز جذع النخلة ، ولم يضرب ملاك ولا غيره الأرض برجله ، ولم تنذر لله السكوت ، وان هذه الأمور من خرافات المسيحيين ، وان كلام المسيح وهو طفل مأخوذ من خرافات المسيحيين.

قلنا : لا يلزم أن نقول ان جزم المتكلف في انكاره هاهنا لا يليق إلا من نبي مؤيد مصدق أو ممن يعتمد فيه على برهان قاطع ، بل نقول : ينبغي أقلا أن يكون من معروف بالأمانة وصدق اللهجة والمعرفة بمواقع الكلام وكتب ديانته ، سالم من داء التعصب والبواعث الردية والتحريف والتغافل أو الغفلة عما في كتب ديانته ، غير معروف باضداد ذلك ، ولا نقول أكثر من ذلك بل نجعل الحكم لمن ينظر في مباحثات كتابنا هذا.

ولا تقل ان المتكلف اغتر واعتمد في إنكاره على أناجيله لأنا نخبرك بأنه لم يتعرض من أناجيله لهذا الحال إلا انجيل لوقا وهو لا ينفي شيئا مما ذكره القرآن الكريم ، فانظر «لو ٢ ، ١ ـ ٨».

ولا تقل أيضا ان المتكلف اعتمد في ذلك على أحكام المجامع وإصلاحه الديني من ناشئة البروتستنت ، فإنه لا يخفى عليك انه ليس من ولاية المجامع والإصلاح إنكار وقوع الحوادث الممكنة في قدرة الله كرامة لأوليائه ، بل غاية ما يسع المجامع ان تنكر كون الكتاب المشتمل عليها كتابا قانونيا فيكون بذلك كتاب تاريخ أو مجموع تقاليد ، نعم ان سياسة البروتستنت اقتضت أن يطرحوا التقاليد المسيحية ويطووا غثها على سمينها ، ولكن ذلك كله لو استقام لما كان فيه جزم بنفي ما أنكروه ، بل غايته الاعراض عنه لشكهم فيه خصوصا أو في ضمن العموم ، فإن الجزم بنفي وقوع الشيء لا يسوغه الأدب والعقل إلا بإقامة البرهان على عدمه أو امتناعه ..

ولا اظنني اخطىء إذا قلت ان هذا الإنكار الجزمي من المتكلف وقوله : ان هذه الأمور من خرافات المسيحيين إنما جاءه من عدوى داء الطبيعة فاستحكم فيه وسخر افكاره بتعليمه ، وإلا فلما ذا تكون منقولات المسيحيين في شأن

٢٧٢

كرامات مريم والمسيح من الخرافات ، أو ليس المسيحيون أسلاف المتكلف وحملة ديانته.

ثم نقول : ان قصص الاناجيل في شأن ولادة المسيح تجد فيها في هذا الخصوص خللا من وجوه.

الأول : ان متى ولوقا المتعرضين لذلك قد اهمل كل واحد منهما شطرا مما ذكره الآخر ، فمتى اهمل ما ذكره لوقا في شأن مجيء الملاك جبرئيل في الناصرة الى مريم وبشارته لها بالمسيح ومكالمته معها ، وجوابها له وذهابها الى جبال يهوذا الى اليصابات ومكالماتهما «لو ١ ، ٢٦ ـ ٥٧» وكذا ذهاب يوسف ومريم من الجليل الى بيت لحم لأجل الاكتتاب ، وبشارة الملاك للرعاة وشأن مجيئهم الى المسيح ، ورجوع يوسف ومريم بالمسيح الى الجليل الى الناصرة بعد ما أكملوا أحكام الولادة في أورشليم فرجعوا منها الى الناصرة «لو ٢ ، ١ ـ ٤١».

ولوقا اهمل ما ذكره متى في شأن المجوس مع هيرودس ومع المسيح ، والوحي ليوسف بعد انصراف المجوس بأن يهرب بالمسيح الى مصر فهرب به ليلا سرا ، وقتل هيردوس للأطفال في بيت لحم ، ورجوع يوسف بالمسيح من مصر بعد ما مات هيردوس الى أرض اسرائيل ، وخوفه من ارخيلاوس أن يذهب به الى اليهودية فانصرف الى الجليل الى الناصرة «مت ٢ ، ١ ـ ٢٣».

الثاني : تناقض متى ولوقا في شأن المسيح بعد ولادته ، فمتى يذكر ان يوسف بعد انصراف المجوس من زيارة المسيح في بيت لحم هرب به الى مصر وبقي هناك الى أن مات هيرودس فرجع به الى أرض اسرائيل «مت ٢ ، ٧ ـ ٢٢».

ولوقا يذكر ان يوسف ومريم والمسيح بقوا في بيت لحم الى أن تمت أيام تطهير مريم «وهي ثلاثون يوما ، لا ١٢ ، ٢ ـ ٢٤» ، فصعدوا به الى اورشليم ليقدموا ذبيحة ، كما قيل في التوراة ، ولما أكملوا شريعة ولادة البكر بمقتضى التوراة رجعوا الى الجليل الى مدينتهم الناصرة ، «لو ٢ ، ٢٢ ـ ٤٠».

فمقتضى متى انه بعد انصراف المجوس من بيت لحم كان لا يمكن أن

٢٧٣

يؤتى بالمسيح الى اورشليم لأن هيرودس بسبب أخبار المجوس كان يطلبه ليهلكه ، بل هربوا به بمقتضى الوحي من هناك سرا الى مصر الى أن مات هيرودس ، وعلى ذلك كيف يمكن أن يؤتى به الى اورشليم ، ويتنبأ عنه سمعان وحنه كما ذكره لوقا ، ولوقا يذكر انهم جاءوا بالمسيح من بيت لحم الى اورشليم لكي يجروا شريعة ولادة البكر ثم رجعوا من اورشليم الى مدينتهم الناصرة.

الثالث : يذكر متى ان يوسف لما رجع من مصر أراد الرجوع بالمسيح الى بلاد اليهودية ولكنه خاف من ارخيلاوس أن يذهب الى هناك فأوحى إليه أن يذهب الى نواحي الجليل ، وأتى وسكن في مدينة يقال لها ناصرة لكي يتم ما قيل بالأنبياء انه سيدعى ناصريا.

ومقتضاه ان الناصرة لم تكن وطن يوسف ومريم ومسكنا لهما قبل ذلك ، بل بعد الرجوع من مصر صارت لهم دار هجرة وفرار بالمسيح لكي يتم ما في الأنبياء.

ولوقا يذكر ان الناصرة كانت قبل ذلك وطن مريم ويوسف وفيها حبلت مريم ، ومنها صعدا الى بيت لحم لأجل الاكتتاب وإليها لكونها مدينتهم رجعوا من اورشليم.

ثم نقول للمتكلف : أبمثل هذه الكتب تعترض على القرآن الكريم كلام الله ، أفلم يكن عليك في ناموس الأدب والإنصاف أن تقول أو تظن أو تحتمل ان مخالفة كتبك للقرآن الكريم كمخالفة بعضها لبعض ، وان غفلتها عما فيه كغفلة بعضها عما في البعض الآخر.

أفتقول ان المسيح افتداك حتى من لعنة هذا الناموس ، فبأي نبوة وبأي إلهام تنكر ما يذكره القرآن الكريم ..

ثم نقول مجاراة لك في إعجابك بأناجيلك المضطربة المختلفة ان القرآن الكريم قال : (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) ، وهذا لا يأبى الانطباق على هجرتها الى بيت لحم كما يذكره لوقا.

ولم يقل القرآن انها تاهت في البرية ، وقال : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ

٢٧٤

النَّخْلَةِ) ، وهذا يقربه ما يذكره لوقا من ان مريم لم يكن لها موضع في المنزل حتى انهم التجئوا الى وضع المسيح في المذود ـ أي الآخور ـ ، ومن كانت هكذا وهي من ذوات العفة والحياء فلا تسعها الولادة في هذا المنزل الضيق بكثرة أهله لا بد لها من أن تفر بولادتها الى موضع خال من الأجانب ، فإن زعم المتكلف انه لا يوجد في تلك النواحي نخل قلنا : ان انجيل يوحنا يقول ان الكثيرين في اورشليم أخذوا سعوف النخل وخرجوا للقاء المسيح «يو ١٢ ، ١٢ و ١٣» ، وان بيت لحم يعد من ضواحي اورشليم ... وأما كرامة الله لمريم بإحياء النخلة واثمارها لتأكل منها وتقر عينها ، فالمتكلف جدير بإنكاره فإنه لا نفع له فيه.

نعم لو ذكر القرآن الكريم «ان مريم جاعت فانفتحت السماء ونزل عليها اناء فيه كل دواب الأرض والزحافات والطيور ، وقيل لها اذبحي وكلي فقالت كلا يا رب اني لم آكل قط شيئا دنسا أو نجسا فقيل لها ما طهره الله فلا تدنسيه أنت «ا ع ١٠ ، ١٠ ـ ١٦».

وراغم بذلك شريعة التوراة وأشار به الى بطلانها لقال المتكلف : نعم هذا هو الحق لكي ينتفع بها في التمسك بعوائد الوثنية وإبطال شريعة التوراة وعيبها والرد عليها في نهيها عن لحوم كثير من الحيوانات وتنجيسها ، فإن قال المتكلف : ان اخضرار الجذع واثماره ونضج ثمرته في زمان قليل هو من الخرافات الخارجة عن حد المعقول «قلنا» لا نبهظه بذكر العقل والمعقول ، ولكن توراتكم تقول : ان عصا هارون وضعها موسى في خيمة الشهادة وفي الغد وجدها قد أفرخت فروخا ـ أي أغصانا ـ ، وأزهرت زهرا وأنضجت لوزا «عد ١٧ ، ٧ ـ ١١».

وصدق على ذلك العهد الجديد «عب ٩ ، ٤» ، فإن قال المتكلف ان حديث العصا في العهدين أيضا خرافة خارجة عن حد المعقول «قلنا» إذا قرة عيناه بالعهدين وقرة عيون العهدين به وببشارته.

وقس على ذلك إنكاره لتكلم المسيح في المهد وكيف لا يصر على ذلك والقرآن يذكر ان المسيح (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ).

وأما نذر مريم للصوم وانها لا تكلم أحدا ، فأي برهان قائم على عدم

٢٧٥

وقوعه ، وهل هناك إلا أن انجيل متى ولوقا لم يذكراه ، فلما ذا لا يقال انهما غفلا عنه كما اهمل كل منهما كثيرا مما ذكره الآخر.

واعترض المتعرب أيضا وقال «ذ» ص ٥٧ : جاء في القرآن ان الله أمر مريم ان تقول كذبا انها نذرت للرحمن صوما فلن تكلم اليوم إنسيا ، وهي لم تكن صائمة بدليل أمره إياها في العبارة نفسها ان تهز إليها بجذع النخلة تساقط عليها رطبا جنيا فتأكل وتشرب وتقر عينا ، وبعد فإن أمره إياها أن تقول انها صائمة لا تتكلم كلام متناقض لأن الصائم لا يتكلم ، فإن قالت ما أمرها بقوله فقد تكلمت.

قلنا : ان للكلام مجاريا ودلالات عرفية التزامية لا يجحدها غير المعاند أو الغبي .. فلا يخفى ان المولى إذا قال لعبده إذا جاءك فلان وأراد منك شيئا فقل له : إني ملتزم لمولاي بأن لا أعطيك ، فان كل من يفهم الكلام يفهم من هذا ان المولى قد أمره في مضمون كلامه بأن يلتزم.

فكلام الله دال بمضمونه على أمر مريم بأن تنذر السكوت ، وأيضا إذا قال المولى لعبده : إذا جاءك أحد فقل له بالقول اللفظي : اني ملتزم بأن لا اكلمك فمعناه الأمر بأن يلتزم أن لا يكلم أحدا بغير هذا القول المتكفل بالبيان ، فيكون هذا القول غير داخل من أول الأمر في الكلام المأمور بتركه بل المأمور بتركه هو ما بعد هذا القول وما عداه من الكلام.

فقول مريم (إِنِّي نَذَرْتُ ...) الخ» غير داخل من أول الأمر في الكلام المأمور بنذر تركه ، هذا إذا كان المراد من القول في الآية الكريمة هو القول اللفظي ، وأما إذا اريد منه الإشارة الى معاني هذه الألفاظ وعبر عنها بالقول مجازا لأجل افادة الإشارة فائدته فلا حاجة إذا الى الاستثناء ، فدعوى التناقض في هذا المقام إنما هي من تناقض السجية ، والبواعث مع دعوى الأدب وحرية الضمير ..

وأيضا ان وقت الصوم المنذور لم يكن هو وقت اكلها من الرطب ، بل كان وقته حينما ترى الناس وترجع إليهم ويسألونها عن شأنها ، فهو غير الوقت

٢٧٦

الذي اكلت فيه الرطب ، بل حينما وضعت المسيح في المهد وسألها الناس عن شأنه فأشارت إليه.

«مائدة المسيح» وقد ذكر القرآن الكريم قصة انزالها من السماء بطلب التلاميذ كما في سورة المائدة ١١٢ ـ ١١٥.

فاعترض المتكلف على ذلك ، وأنكر حقيقة هذه المائدة ، انظر «يه ٢ ج ص ٤٤».

وما السبب في ذلك إلا خلو أناجيله من ذكرها على الوجه الذي بيّنه القرآن الكريم ، ولو تحرى المتكلف رشدا لما اغتر بخلو أناجيله ، فانا لو أغمضنا النظر عن أحوالها وتغافلنا عن مشغوليتها عن الاستقصاء في تمجيد المسيح بذكرها لما ينافي قدسه كما مر في أشتات الكتاب لقلنا : ان اختلافها في منقولاتها يشهد على ان كل واحد منها قد فاته ذكر كثير من المهمات من أحوال المسيح وآياته وتعاليمه ودلالاته.

فإن متى ومرقس ولوقا قد فاتها ما ذكر يوحنا من حكاية قلب الماء خمرا في قانا الجليل ، وقد ذكر انها بدء الآيات «يو ٢ ، ١ ـ ١٢» ، فهي إذا بشارة الدعوة وطليعة المعجزات وهلال الحجة.

وفاتها أيضا ما ذكره من احياء لعازر من الموت «يو ١١ ، ١ ـ ٤٥» ، وهي واقعة ينبغي ان يكون لها دوي في جميع الاناجيل ، لامتيازها عن سائر ما ذكرته ...

وفاتها أيضا ما ذكره من البشارة بمجيء المعزى «يو ١٤ ، ١٥ ـ ١٦ ، ١٦» مع انها ناموس البشائر وأساس التعليم.

وان متى ومرقس ويوحنا قد فاتها ما ذكره لوقا من احياء المسيح لابن الأرملة في نايين «لو ٧ ، ١١ ـ ١٧».

وحكاية لعازر والغني وابراهيم في عالم الأموات الذي يسميه المسلمون بالبرزخ «لو ١٦ ، ١٩ ـ ٣١» مع ان مثل هذا أهم ما يكون في البيان لأجل

٢٧٧

الموعظة والترهيب وكشف الحقائق والتثبيت على الإيمان والترغيب في الصبر والزهد والورع.

وان مرقس ولوقا ويوحنا قد فاتها ما ذكره متى من حديث المجوس ومجيئهم في طلب المسيح والنجم الذي كان يتقدمهم في السير حتى وقف حيث كان المسيح «مت ٢ ، ١ ـ ١٢» ، ، مع ان ذلك من أكبر البشارات والدلالات والإرهاصات ..

وفاتها أيضا ما ذكره من حديث تفتح القبور عند حادثة الصليب ، وقيام كثير من أجساد القديسين الموتى ودخولهم المدينة المقدسة وظهورهم لكثيرين «مت ٢٧ ، ٥٢ و ٥٣».

وان متى ولوقا ويوحنا قد فاتها ما ذكره مرقس عن المسيح من بيان الآيات التي تتبع المؤمنين وهي انهم يخرجون الشياطين ويتكلمون بألسنة جديدة يحملون حيّات ، وإن شربوا شيئا مميتا لا يضرهم ويضعون أيديهم على المرضى فيبرءون «مر ١٦ ، ١٧ و ١٨».

وهذه علامات بآيات تبصر المرتاب ، وتقيم الحجة وتقطع المعاذير ، لو صحت الأحلام.

فنقول : ان القرآن الكريم ذكر بوحيه من حقيقة المائدة ما فات الأناجيل الأربعة ، لو ان مضامينها كانت وحيا .. فما بال القلوب التي في الصدور.

ومن الظرائف ان المتكلف «يه ٢ ج ص ٤٤» لج في إنكار مائدة المسيح وقال : بل المائدة التي نزلت من السماء نزلت على بطرس أحد الحواريين فانه كان جائعا ، ونزلت مائدة فيها من كل دواب الأرض والزحافات وطيور السماء وكانت الغاية منها أن يعلمه الله ان دعوة الإنجيل عامة ، كما في سفر الأعمال ص ١٠ ، ولكن المتكلف لم يذكر تتمة الحديث في المائدة التي ينسبها كتابه لبطرس ، فكأنه شعر بما فيها من البشاعة والسخافة من حيث العيب لشريعة موسى والاعتراض عليها في تنجيسها للحوم بعض الحيوانات ، فإن تتمة ما ذكره في مائدتهم المنسوبة لبطرس هكذا.

٢٧٨

وصار إليه صوت : قم يا بطرس اذبح وكل فقال بطرس : كلا يا رب لأني لم آكل قط شيئا دنسا أو نجسا فصار إليه أيضا صوت ثانية ما طهره الله لا تدنسه أنت ، وكان هذا على ثلاث مرات «١ ع ١٠ ، ١٠ ـ ١٧ ، و ١١ ، ٥ ـ ١١».

أفلا تعلم من هذا الكلام ان هذا الوحي الكذائي الذي ذكره فلان الاممي لا بطرس الاسرائيلي يقول : ان هذه الحيوانات قد طهرها الله فتدنيسها إنما هو بشري على خلاف ما عند الله.

وعلى ذلك جرى قول العهد الجديد : لا يصغون الى خرافات يهودية ووصايا اناس مرتدين عن الحق كل شيء طاهر للطاهرين ، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرا بل قد تنجس ذهنهم أيضا وضميرهم «تي ١ ، ١٤ و ١٥» ليس شيء نجسا بذاته الا من يحسب شيئا نجسا فله هو نجس «رو ١٤ ، ١٤» تفرض عليكم فرائض لا تمس ولا تذق ولا تجس التي هي جميعها للفناء في الاستعمال حسب وصايا وتعليم الناس «كو ٢ ، ٢٠ ـ ٢٣».

* * *

«أصحاب الكهف» وقد ذكر الله جل شأنه قصتهم في سورة الكهف الآية ٨ ـ ٢٣.

والمتكلف «يه ٢ ج ص ٨٩» جعل قصتهم من خرافات المسيحيين المذكورة في كتب اليونان ، وادعى ان حقيقة هذه الحادثة التاريخية هي قصة «انبابولا» من أهل الاسكندرية.

ومرجع كلام المتكلف هذا الى ان الله جل اسمه محجور على أعمال قدرته وألطافه مع أوليائه حتى تخرج له الاذن ممن تأخر من مؤرخي ناشئة البروتستنت وإلا فما يكتبه القدماء هو من خرافات المسيحيين خصوصا إذا كتبوه في تاريخ الكنيسة وخصوصا إذا كتبه الكاتبون من كبار المسيحيين وخصوصا إذا ذكره القرآن الكريم.

وليت شعري لما ذا صار نقل المسيحيين لواقعة أصحاب الكهف خرافة أو

٢٧٩

ليس المسيحيون هم أسلاف المتكلف الذين عنهم أخذ وعليهم اعتمد حتى انه صار يتشبث لصحة كتاب برمته باستشهاد واحد منهم بفقرة من ذلك الكتاب ، أو تجيء في كلام واحد منهم فقرة مشابهة لفقرة من ذلك الكتاب فانظر «يه ١ ج ص ١٤٣ ـ ١٥٧».

«والحاصل» ان كثيرا من الناس لم يجروا في المنقول على طريقة مستقيمة ، فتارة تراهم يقبلون الخرافات الكفرية ويقطعون بنسبتها الى الوحي ويغضون الطرف عما في سند كتابها من التمزيق والهرج والمرج خصوصا في تلك الخرافة بل تراهم يتشبثون لها بقول فلان واستشهاد فلان ، وإن كانت كتبهم قد قاءتها مرارا عديدة ثم يوجرها العناد في حلقها ، ورفضها مصلحوهم فراغمهم اتباعهم بالاحتفال بها ، فانظر «يه ٣ ج ص ٢٧٤ ـ ٢٧٧».

وتارة يقطعون بنسبة الكتاب الى الوحي ويحامون عنه ومع ذلك يقطعون بأن جملة وافرة منه ليست من الوحي وما هو صريح بالعيان والوقوع يجعلونه من الرؤيا والتوهم فانظر الجزء الاول ٣٤٣ ـ ٣٤٤.

أو يقطعون بأن الشطر الكثير من كتبهم في الآيات والدلائل إنما كان كذبا ومداهنة للرأي العام الغلط ، كما امتلأ العهد الجديد بهذا النحو في آيات المسيح والرسل بحديث الأرواح النجسة ، فانظر في هذا الجزء الى الكلام على خلق الجان صحيفة ٩٠ ـ ٩٥.

«وخلاصة الكلام» لو ان أحدا كتب تصوير أصحاب الكهف وخيال كهفهم على حجر ورسم الى جنبه صليبا أو بعض صور القديسين وأودع ذلك الحجر في بعض الآثار العتيقة فوجده بعض الأوربيين لكانت قصة أصحاب الكهف من الحقائق التي لا ريب فيها وخصوصا إذا اعطيت الاجرة الوافرة فكتب ذلك في صدر الجرائد والمجلات الشهيرة ، نعم وتحتمل مع ذلك ان داء المضادة والمحادة للقرآن يقتضي عدم التجاهر بتصديقها ، وهذا هو الداء الذي الجأ المتكلف وأمثاله الى تكذيب أسلافه المسيحيين لهذه الواقعة حتى سماها خرافة.

* * *

٢٨٠