الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

كتابا اسمه سفر أمور سليمان فيه بقية أمور سليمان وكل الذي صنعه ، ولا شك ان هذا الكتاب غير موجود في كتب العهد القديم لا باسمه ولا بوصفه ، فإذا ان بقية أمور سليمان ، وكل الذي صنعه غير مذكورة في كتب العهد القديم ...

وأيضا كيف يدّعي ان سفر الملوك الاول هو كتابة نبي عن الوحي ، إذا فليقل مدعي ذلك انه كتابة ـ أي نبي من الأنبياء ـ وإلى أي الأنبياء يوصله النقل المتواتر ، أفلا ترى انه لم يجسر على تعيين كاتبه حتى خبط العشواء ، وغاية ما في مكابرات المتكلف دعواه بأن سفري الملوك وسفري أخبار الأيام كتابات جملة من الأنبياء ، فانظر «يه ٤ ج ص ١١٧» ، ولعله يقول والبرهان الشافي الكافي على ذلك هو اتفاق الملوك الاول «٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣» ، والأيام الثاني «١٨ ، ١٨ ـ ٢٢» على نسبة الحيرة الى الله جل شأنه فيمن يغوي «اخاب» حتى اهتدى روح الكذب للرأي فاستعان بقدرته وصواب رأيه تعالى الله عما يقولون ...

فلهفي على كتاب التاريخ إذا كان كذلك فضلا عن الكتاب الذي ينسب الى الوحي ، وقد ذكرنا لك في التصدير حال العهد القديم ، ولأجل ذلك قد اشتغل سفر الملوك عن ذكر تسخير الريح لسليمان وأمثال ذلك من الكرامات بذكر شركه «وحاشاه» في آخر عمره ، وذهابه وراء آلهة اخرى ، وبنائه السواري والمرتفعات وشعائر العبادة للأوثان ، فانظر «١ مل ١١ ، ٤ ـ ٩».

فمن أين يسمع المتكلف بتسخير الريح لسليمان ، ومن أين يعلم بإسالة عين القطر ، وكيف يهتدي لمراد القرآن الكريم من ذلك.

وأما تسخير الجن في عملهم لسليمان فقد ذكرنا لك فيما تقدم صراحة العهدين كثيرا بوجود ما يسميه القرآن جنا وجانا على وجه تعرف ان الكتابي إذا أنكر ذلك فقد جحد كتابه واقتفى أثر «دارون» ، وإذا عرفت ذلك عرفت شطط المتكلف في قوله : «ان الذين بنوا الهيكل هم العملة لا الجن».

فان القرآن الكريم لم يقل ان الجن الذين بنوا الهيكل لم يكونوا عملة بل قال : ان الجن كانوا عملة ، ولم يقل كان لكل واحد منهم سبعة رءوس وعشرة

٢٤١

قرون وعلى قرونه عشرة تيجان لكي يعرف الناس انه من الجن لا من الإنس بل كانوا على صور بني آدم ، كما يقول العهد القديم ان الملائكة جاءوا الى ابراهيم على صورة ثلاثة رجال ، فدعاهم لأن يستريحوا ويغسلوا أرجلهم ويسندوا قلوبهم بكسرة خبز وعمل لهم ضيافة وجلسوا تحت الشجرة وأكلوا «تك ١٨ ، ١ ـ ٩».

وجاءوا الى لوط على صورة رجلين فدعاهما الى ضيافته وأكلا عنده ولم يكن يعرف في أول الأمر انهما ملكان ولم يعرفهما قومه ، بل استداروا بالبيت ليفعلوا معهما الفاحشة حسب عادتهم مع الناس فساء ذلك لوطا وصار يعمل التدابير في صرفهم عن ضيفه ، «انظر تك ١٩ ، ١ ـ ١٠» ، وان الملك جاء الى منوح وامرأته بصورة رجل «قض ١٣ ، ١ ـ ١٧» فلا يعرف ان عملة سليمان كانوا من الجن إلا من ناحية النبوة والوحي.

وقال الله تعالى في سورة النمل ١٦ (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ١٧ وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٩٩ و ١٠٠» ، فالقرآن ناطق صراحة بأن الطيور تعقل وتدرك وتتكلم وتنطق بحكم يعجز عن الإتيان بمثلها العلماء من بني آدم وهو غلط جسيم ، فإن الله سبحانه وتعالى خص الإنسان فقط بالنطق والعقل والبيان ، وعليه فيكون سليمان كذب على الناس والطيور أو يكون ما نسب إليه هو الكذب وهو الصواب ، وثانيا : هل كانت الطيور والحشرات في عصره تعقل وتدرك ثم جردها الله من العقل الآن قلنا : انها لا تزال واحدة كما كانت ، فمن نسب إليها الإدراك هو الذي غلط ، وثالثا لم يكن لسليمان جنود من الجن ، بل كانت جنوده من الأمة الاسرائيلية فقط وتقدم انه لا يوجد شيء يقال له جن وما نسب الى سليمان من معرفة لغة الطير هو من خرافات اليهود ، فتوسع فيها القرآن وخالها حقائق واقعية وهي خرافات وهمية لا أصل لها.

قلنا : انا نشاهد ان الحيوانات تصوت عند مقاصدها وأحوالها بأنحاء مختلفة تتفنن فيها كما وكيفا ووضعا ، وإن كنا في أغلبها لا نميز لها حروفا من

٢٤٢

حروفنا المألوفة ، ولكن الوجدان والتتبع شاهدان بأن كل من لا يعرف لغة فانه لا يميز حروفها إذا سمع من يتكلم بها ، بل يشذ عن سمعه كثير من حروفها فيحسبها صوتا مشتملا على حرفين أو ثلاثة وإن كانت في الحقيقة مشتملة على جميع أنواع الحروف ، فإن العربي إذا سمع الزنجي أو الهندي أو التركي أو الانكليزي مثلا يتكلم لم يميز من حروفه إلا قليلا ، ويخفى بل يشتبه على سمعه أغلب منطوقها مع انها الحروف الموجودة في اللغة العربية ولكن اللهجة وغرابة اللغة وجهل المعنى تحول بين السمع وبين تمييز جميع الحروف بحدودها.

ولأجل ما ذكرناه اختلج في أذهان بعض الحكماء أن يرصدوا أصوات بعض الحيوانات في مختلفات أحوالها ومقاصدها لكي يعرفوا وضع لغاتها وحروفها ، وأظن الذي صدهم عن ذلك انهم لم يتصوروا لهذا العناء العظيم في المدة الطويلة نتيجة تخرجه عن حدود العبث وتضييع الوقت.

والحاصل ان الجزم بأن الحيوانات ليس لها في تفننها بأصواتها أوضاع تنطبق على مقاصدها كما ينطبق كلام البشر على مقاصدهم إنما هو جزم لا يساعد عليه دليل ولا برهان ، ولا مشاحة بأن يدعى ان لغات الحيوانات أبسط من لغات البشر كبساطة لغة الطفل في مبادي نطقه مثلا ، وقد شاهدنا من الأطيار الببغاء الأخضر والأسود وهو يتكلم بكلام البشر في موارد كثيرة تمرن عليها ووجدناه يستعملها معهم في بيان مقاصده.

هذا ، وأما كون الحيوانات تدرك فهو مما لا ينبغي أن يرتاب فيه ذو إدراك وإنما الكلام في ان إدراكها هل هو محض شعور بالموارد الجزئية وإن صدرت منها الأفعال العجيبة والأحوال الباهرة من حيث الصناعات والحيل والذاكرة أو ان هذه الإدراكات الجزئية ناشئة عن تعقل للكليات وتطبيقها على الموارد الجزئية ، ولا سبيل الى البرهان القاطع على انها لا تعقل الكليات ، نعم لا مشاحة في دعوى كونها مهما بلغت أبسط من نوع البشر في أنحاء المعقول ، وإن كان من البشر من لو حاكمته بعض الحيوانات وقالت له : بأي حق وبأي إنصاف انك تدعي انك تعقل وان الحيوانات لا تعقل لضاق على العدل مجال الحكومة ، أو حكم لها إذا شرحت له من أحواله وأقواله ما يزيد في السخافة على عبثيات

٢٤٣

الجحش ، وانك لترى في البرابرة المتوحشين كثيرا من ذلك ، وإذا نظرت الى حيل ابن آوى في كيفيات صيده وتخلصه من أذى الناس وسائر الأذى ، وإلى الهرة في صيدها وتعليم أولادها ، وإلى النحل في صناعة بيته وانتظام أمره ، وإلى الأطيار في صناعة أعشاشها العجيبة ومعرفتها بأوكارها القديمة وإلى القرد في أفعاله وحيله في مقاصده ، وتتبّعت في أحوال الحيوانات فانك تقف قهرا عن الحكم بأنها لا تعقل.

وكيف تحكم وان من منحك العاقلية لا يمتنع عليه ان يمنحها إياها أيضا كما منحها الشعور ، فإن كان لك عقل فلا بد أن تقول ان عاقليتها في حيّز الإمكان ولو لم يدل عليها دليل.

دع هذا فانا لو اقتصرنا فيها على الإدراك شعوري لجاز أن تكون متكلمة بشعورها ، وكاشفة عن مقاصدها وأحوالها بأصواتها على أنحاء متمايزة مبنيّة على اصطلاحات خاصة ودلالات كاشفة ، وإذا أوضح الوحي ذلك فلا مساغ لإنكاره.

وإن من حرمه سوء الحظ بالإيمان بذلك الوحي فليس له أن يطعن عليه في اخباره بهذا الأمر الممكن.

ولم يقل القرآن الكريم ان الطيور كانت تكلم سليمان باللغة العربية أو الجيناوية فعلّمه الله لغتها لكي يعترض المتكلف ويقول : «انها الآن ليست كذلك ولا تزال واحدة كما كانت» ، وإن كان المعترض على قول القرآن كتابيا فقد نزع نفسه من الايمان بكتبه ، فان توراته تقول : ان الحية كانت أحيل جميع الحيوانات البرية ، وكلّمت حواء بخداع المغالطة حتى أغوتها وحملتها على الأكل من الشجرة ، فقال الله للحية : لأنك فعلت هذا ملعونة أنت ، على بطنك تسعين وترابا تأكلين كل أيام حياتك ، وان نسل حواء يسحق رأسها وهي تسحق عقبه انظر «تك ٣ ، ١ ـ ١٦».

وفي عاشر متى ١٦ فكونوا حكماء كالحيات ، وفي الخامس والثلاثين من أيوب ١١ الذي يعلمنا أكثر من وحوش الأرض ويجعلنا أحكم من طيور السماء ، وفي السابع عشر من الملوك الاول ٦ وكانت الغربان تأتي ايليا بخبز

٢٤٤

ولحم صباحا وبخبز ولحم مساء ، فالعهدان يقولان : ان في الحيوان ما هو ذو حيل ومخادعة وتعقل وكلام وكذب وحكمة ، فأين المتكلف عن هذا عند اعتراضه.

وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم واقعة الهدهد وملكة سبأ وعرشها ومجيئها الى سليمان ، فانظر الى سورة النمل من الآية ٢٠ ـ ٤٥.

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠٠ و ١٠١» وهذه الخرافة من الخرافات اليهودية ذكرت في كتبهم ، ومن اوتي ذرة من التمييز لا يقبلها ، ولم يرسل سليمان عفريتا من الجن وسرق عرشها ولم يأت بأخبارها هدهد ولا غير ذلك من الخرافات الفاحشة الدالة على ان الهدهد أعلم من سليمان.

قلت : ليس لمن يعرف قدره ان يحكم على الشيء بأنه خرافة حتى يقيّم البرهان على امتناعه عقلا كامتناع اجتماع النقيضين ، وليس له أن يتشبث بامتناعه العادي إذا كانت واقعته مرتبطة بقدرة الله وكرامته الخاصة لأنبيائه وأوليائه ، كما لا ينبغي أن يعترض بمجرد الاستبعاد والامتناع العادي على ما يذكره العهدان في كرامات موسى وهارون ، ويوشع ، وايليا ، واليشع ، والمسيح ، وبطرس ، وبولس.

وإنما للمعترض في المقام أن يطالب بمستنده فإن كان كتاب الوحي فليطالب بسنده وحجته إن لم يسعده التوفيق على الطلب لذلك بنفسه ليفوز بنعمة الايمان وينجو من هلكة الجحود الأعمى.

وليس له في قانون الادب وشرف الانسانية ان يجعل جهله الأعمى حجة على الانكار على كتاب الوحي ، وليس مما ذكره القرآن في هذا المقام شيء ممتنع عقلا ، ولا يلزم منه أن يكون الهدهد أعلم من سليمان مطلقا ، بل ان سليمان إنسان يجوز أن لا يعلم من البلاد مثل من شاهدها ، وان أراد المتكلف الخرافة التي تبطل بها دعوى كون الكتاب إلهاميا فلينظر أقلا الى ما تذكره التوراة الرائجة إذ تقول ان الله جل شأنه وتعالى صارع يعقوب الى طلوع السحر ، ولما رأى انه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته فقال له :

٢٤٥

اطلقني لأنه قد طلع السحر فقال يعقوب : لا اطلقك إن لم تباركني ، فقال له : ما اسمك؟ فقال يعقوب فقال لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب ، بل يسرائيل «أي يجاهد الله» لأنك جاهدت مع الله ومع الناس وقدرت ، وسأل يعقوب وقال : اخبرني باسمك فقال لما ذا تسأل عن اسمي؟ وباركه هناك فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل «أي وجه الله» لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي وأشرقت له الشمس وهو يخمع على فخذه «تك ٣٢ ، ٢٤ ـ ٣٢» وبقوته جاهد الله «هو ١٢ ، ٤».

فلسان حال التوراة الرائجة في منقولاتها يقول : لا تليق البركة ولا تهنأ إلا ليعقوب ، إذ لم يتحمل فيها منة وذلة ، فمرة أخذها من أبيه بغلبة المخادعة والكذب «تك ٢٧ ، ١ ـ ٣٧» ، ومرة أخذها من الله «تعالى شأنه» بغلبة القوة .. ولعله لذا لا يسمح الكتابيون بمثل هذه البركة لغير ذرية يعقوب.

ولينظر المتكلف الى ما يذكره الملوك الاول «٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣» والايام الثاني «١٨ ، ١٨ ـ ٢٢» من ان الله «ع يهوه» جل اسمه جلس على كرسيه وكل جند السماء وقوف عن يمينه ويساره ، فقال من يغوي «اخاب»؟ فقال جند السماء : هذا هكذا وذاك هكذا ، «ولكن المقدسون من جند السماء لم يهتدوا الى الرأي» ، وخرج الروح ووقف أمام الله وقال : أنا أغويه ، فقال بما ذا؟ فقال : اخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه فقال : انك تغويه وتقدر فاخرج وافعل هكذا.

فما ذا يقول المتكلف في هذا؟ ولما ذا لا يقول أقلا انه يلزم من ذلك ان يكون روح الكذب أعرف بصواب الرأي وأقدر على رفع الحيرة ، ولينظر المتكلف الى ما تذكره أناجيله «مت ٤ ، ١ ـ ١٠ ولو ٤ ، ١ ـ ١٠» من ان المسيح بعد نزول الروح القدس عليه وامتلائه منه وصومه أربعين يوما جاءه ابليس ليغويه فأخذه من البرية الى اورشليم وأوقفه على جناح الهيكل ثم أخذه أيضا الى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك المسكونة ومجدها في لحظة من الزمان وقال له : أعطيك هذه جميعا ان خررت وسجدت لي ، ولما ذا لا يقول المتكلف يلزم من ذلك أن يكون ابليس قادرا على التصرف والتنقل بأقنوم الاله والاله

٢٤٦

الذي توشح الطبيعة البشرية وهو أقدر منه على ارائته ممالك المسكونة بلحظة من الزمان .. فانا نقول ان ابليس يقل ويقصر عن أن يفعل مثل ذلك مع النبي الرسول.

وقد عرفت من جميع ما قدمناه ان المتكلف طالما تغريه طواياه باللجاج في الاعتراض على القرآن كلام الله وهو لا يدري بما في كتبه ، فمن ذلك اعتراضه على نقل القرآن الكريم لتسخير الشياطين لسليمان ، فقال «يه ٢ ج ص ٩٧» ان الشياطين أرواح شريرة لا شغل لها سوى الافساد ، ولا يتصور ان من كان دأبه هكذا يخترع الاختراعات التي تنفع ، «قلت» انها وإن كانت من حيث طبعها كما ذكر ، ولكنها كانت في عملها لسليمان مسخرة من الله له مقهورة على طاعته ، كما تذكره الأناجيل انها كانت تطيع المسيح وتخاف منه كما ذكرنا بعضه فيما تقدم في خلق الجن.

ويذكر العهد الجديد انها كانت تطيع التلاميذ وبولس «لو ١٠ ، ١٧ و ١ ع ٥ ، ١٦ ، و ٨ ، ٧ ، و ١٩ ، ١٢».

ومن ذلك اعتراضه على ذكر القرآن الكريم تسخير الريح لسليمان حيث قال ما حاصله : لا يليق هذا بحكمة الله وقدرته ، كأن الله أشرك سليمان في ملكه ، «قلت» وهذا كلام من لا يعرف للشرك والتوحيد معنى حيث جعل تأليه المسيح وتثليث الاقانيم توحيدا ، وجعل نعمة الله على أوليائه بالكرامة شركا مع الله في ملكه.

وليت شعري ألم يسمع أقلا من أناجيله ان المسيح قال لتلاميذه : لو كان لكم من الإيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا الى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكن لديكم «مت ١٧ ، ٢٠ ومر ١١ ، ٢٣ ولو ١٧ ، ٦» ، وكل شيء مستطاع للمؤمن «مر ٩ ، ٢٣» ، فلما ذا يكون تسخير الريح لسليمان مشاركة لله في ملكه ولا يكون هذا كذلك.

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٩٦ (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما

٢٤٧

نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) «الآية».

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٢٠ ـ ٢٣» على ذلك بوجوه.

أحدها : انه لم يكن في عهد سليمان شياطين يعلمون الناس السحر.

قلت : لا ينبغي للكتابي المتتبع لكتبه أن ينكر وجود الشياطين ، ولا ينبغي أن ينكر تصدّيهم لاضلال الناس وتعليمهم الضلال بكل نحو ، أفلا ينظر المتكلف أقلا الى ما في العهد الجديد وقوله في الدجال الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة «٢ تس ٢ ، ٩» على انه يجوز أن يراد من الشياطين شياطين الانس ، كما حكي عن المسيح انه قال لبطرس : اذهب عني يا شيطان «مت ١٦ ، ٢٣» وسمي يهوذا الاسطحريوطي شيطانا «يو ٦ ، ٧٠ و ٧١».

ثانيهما : ادعى ان مراد القرآن ان الله أنزل السحر على الملكين ، فأخذ يقول : حاشا المولى أن يصنع عثرة لبني آدم بأن يقيم معلمين خصوصيين لتعليم الناس الضلال.

قلت : لا يدل القرآن الكريم على ان المنزل على هاروت وماروت هو السحر الممحض للضلال ، بل ان سوق القرآن وخصوص عطفه على السحر ظاهر في انه شيء مقابل للسحر فيكون من الأسماء الفعّالة في الخير والشر ولذا كان الملكان يحذّران من يعلمانه ويقولان له : إنما نحن بما عندنا فتنة وامتحان فلا تكفر باستعمال ما نعلمك في الشر كما تفعل بالسكين المعمولة لمنافع البيت فتستعملها في قتل النفوس المحترمة ، وكالسموم المخلوقة للمنافع تستعملها في إهلاك النفوس فيتعلمون منهما ما يستعملونه بضلالهم في التفرقة بين المرء وزوجه ، ولا يستعملونه في منافعهم ، بل يتعلمون ما يعقبهم الضرر بغوايتهم ولا ينفعهم حيث رغبوا عن منافعه الى اقتراح أهوائهم وضلالاتهم ، هذا هو مقتضى دلالة القرآن الكريم ومقتضاه ان هاروت وماروت لم يكونا ضالين ولا مضلين ، بل لا يعلمان أحدا حتى ينبّهانه على وجه الامتحان ويحذرانه عن الضلال والكفر ، كما

٢٤٨

يحذر بائع السموم لاستعمالها في الأعمال الطبية والكيماوية ونحوها عن استعمالها في إهلاك النفوس.

وهذا ليس كصراحة كتب وحي المتكلف بأن الله يمكّن النبي الكاذب والدجال الداعين الى الشرك من المعجزات والأعاجيب والآيات ليمتحن عباده «تث ١٣ ، ١ ومت ٢٤ ، ٢٤ ومر ١٣ ، ٢٢ و ٢ تس ٢ ، ٨ ـ ١٢».

وثالثها : زعمه ان عبارة القرآن تفيد ان الملائكة غير معصومين ، وقال : ان الملائكة هم معصومون عن الخطيئة لأنهم خدام الله القائمون بطاعته وإنفاذ أمره.

قلت : قد قدمنا انه لا دلالة في القرآن الكريم على الطعن في هاروت وماروت ، بل ذكر انهما يؤدبان الناس وينبهانهم على مواقع الامتحان ، ويحذرانهم من الضلال والكفر ، ولو عوّلنا على اخبار الآحاد لما كان فيما ذكرته في شأنهما منافاة لعصمة الملائكة فانها تذكر انهما خرجا عن عنوان الملائكة المعصومين حيث ركبت فيهما الشهوة الحيوانية.

ورابعها : انه لم يرد بأن اليهود نسبوا الى سليمان الكفر.

قلت : إن لم ينسبوا له الكفر فقد نسبته إليه الكتب التي يزعمون انها كتب الوحي ، فانظر «١ مل ١١ ، ٤ ـ ١١ و ٢ مل ٢٣ ، ١٣» ، والقرآن الكريم تعرض لهذا الافتراء الباطل.

وخامسها : ان الملكين ظهرا ببابل وسليمان في اورشليم فكأنه ظن ان بابل هي اورشليم.

قلنا : إذا قلت أنت ان المتكلف يعلم في مصر بالتعاليم التي قررها المجمع النيقاوي ، فهل تريد ان زمان المجمع وزمان المتكلف واحد ، وان نيقية هي مصر ، وهل لأحد أن يعترض عليك ويقول لك : لما ذا تظن ان نيقية هي مصر وما ذا تقول لمن يعترض عليك بهذا الاعتراض؟.

والمتكلف لم يأت ببدع في إنكاره لما ذكره وحي القرآن الكريم في أحوال داود وسليمان ، بل لو ان العهدين ذكراها مفصلة ، وان سفر الملوك الاول لم

٢٤٩

يحل في بقية أمور سليمان وكل الذي صنعه على سفر أمور سليمان ، وان سفر سليمان كان موجودا وهو يشرح هذه الأحوال لكان للمتكلف اسوة واقتداء في إنكار ذلك بكثير من قومه الذين أنكروا كثيرا مما صرح به العهدان كتب وحيهم.

وقد ذكرنا لك جملة من ذلك في الجزء الأول صحيفة ١٦٣ ـ ١٦٥ ، وأشرنا الى الطوايا الباعثة على إنكار ذلك ، وتزيد على ذلك في هذا المورد الأسباب المقتضية للمجاهرة بالتحامل والتعصب على القرآن الكريم ، فلا حاجة الى تكرار حال العهدين في سندهما وكتبتهما وابتلائهما بالتقلب وما شحنتهما به الاهواء لكي تعلم ان عدم ذكرهما للحقائق لا يمس شرفها بمقدار ما يقذى العين ، ولو فرضناهما كتب تواريخ معتبرة ، كيف وهذه الحقائق مما لا يصل إليه ولا ينبئ عنه إلا الوحي الذي لم يضعه الضلال ولم تبلغه الحوادث ولم يشوّه كتابه التحريف والتبديل.

* * *

وقال الله تعالى في سورة الاعراف ١٦٣ : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) ١٦٦ (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٧ و ٥٩» ما ملخصه انه حاشا لله أن يجرب عباده على اقتراف المنكر ويجعل الحيتان تأتي يوم السبت ولا تظهر في باقي الأيام ، قال يعقوب الرسول ان الله : لا يجرب أحدا بالشرور ولكن كل واحد إذا يجرب انجذب وانخدع من شهوته.

وان عقاب المولى لهم بمسخهم قردة وخنازير من الخرافات ولا يوجد لذلك أثر في التوراة ، والقرآن جرى في ذلك حسب مذهب الوثنيين القائلين بالتناسخ.

قلت : جاء في التوراة الرائجة اذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما وأعطاك

٢٥٠

آية أو أعجوبة ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء آلهة اخرى لم تعرفها وتعبدها فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم وكل أنفسكم «تث ١٣ ، ١ ـ ٤».

وهذا الكلام يعطي ان امتحان الله وتجربته لعباده قد يقطع بإظهار الآية والاعجوبة على يد الكاذب الداعي الى الشرك ويعطيه حجة على ضلاله كما يعطيها للنبي الصادق الداعي الى الحق.

وفي العهد الجديد في حديث الدجال الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة ، وبآيات وعجائب كاذبة ، وبكل خديعة الإثم في الهالكين لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ، ولأجل ذلك سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سرّوا بالإثم «٢ تس ٢ ، ٩ ـ ١٣».

ولا يخفى عليك ان مثل هذا لا يجوز على جلال الله ولطفه وعدله ، فإنه إذا جاز ان يمكن الله الدجال أن يعمل بكل قوة ويأتي بآيات وعجائب فما ذا تكون إذا حجة النبي الصادق المرسل من الله بدعوة الحق ، وكيف يعذب الله من يصدق الدجال؟ وبما ذا يعلم ان هذا الذي أرسله الله هو عمل الضلال أفلا يصح حينئذ ممن صدقه أن يقول ان الدجال قد جاء بمثل ما يجيء به الرسل من الحجة الباهرة أو أكبر فان كان اولئك صادقين فالدجال مثلهم أو أولى منهم بالصدق لأن قواته وآياته وعجائبه إن لم تكن أكبر فهي مثل حججهم ، وإن لم يكن هذا النحو حجة فبما ذا اعرف الصدق لكي يصح عقابي على عدم الإيمان به ، وهكذا الكلام في الأنبياء الكذبة الذين ذكرت الأناجيل انهم يعطون آيات عظيمة وعجائب «مت ٢٤ ، ٢٤ ومر ١٣ ، ٢٢».

وهذا بخلاف تكثير السمك يوم السبت فانه ليس فيه تمويه الضلال ببرهان الحق وحجته ولا فيه إغراء بالضلال.

ألا ترى ان تكثير الزانيات في البلد وتكثير الخمر ليسا إغراء بالزنا وشرب

٢٥١

الخمر ، وإنما هو امتحان لصاحب الإيمان المستودع والتقوى الادعائية لكي يظهر غشه ويبرز كامن فسقه وضلال ريائه ، كما انه امتحان أيضا لثابت الايمان وصادق التقوى ليظهر كماله في طاعته وتقواه فيضاعف أجره ويرتفع مقامه ، كما امتحن الله ابراهيم بذبح ولده ، انظر «تك ٢٢ ، ١ ـ ١٩» ، ولا شك ان كثرة الحيتان يوم السبت لا تميل بالنفس عن التقوى والطاعة كالأمر بذبح الولد.

وأما تشبث المتكلف بما حكاه عن رسالة يعقوب فهو واه من وجوه «أحدها» انه كتابه فليحتج به على نفسه وليفرح بذلك ، «ثانيها» انه لو كان معناه كما يحاول لكان مناقضا لما ذكرنا من كتبه ، فانه ان كان تكثير السمك في السبت تجربة بالشر فالأمر بذبح الولد تجربة بشر منه واعطاء القوات والآيات والعجائب للمتنبي والحالم والدجال يكون تجربة بشر الشرور ، «ثالثها» ان الذي في رسالة يعقوب لا يؤاتيه على مزاعمه ، فان معناه ان الذي صار غلويا لا ينسب الاغواء الى الله لأن الله لا يغوي أحدا بل الخاطئ يغوي إذا انجذب وانخدع من جهة شهوته ونفسه الامارة ، فان الشهوة إذا حبلت ولدت خطيئة انظر «يع ١ ، ١٣ ـ ١٦» فان المتكلف قد بتر منقوله وشوشه.

وأما صيرورتهم قردة فهو عبارة عن تحول صور أجسامهم الى صور أجسام القردة ، ومادة الصورتين واحدة ، وهو المسمى في الاصطلاح بالمسخ وهو مباين للتناسخ ، فان التناسخ عبارة عن تحول النفس وحدها من جسم الى جسم آخر مباين له في المادة والصورة.

وان المسخ ممكن في قدرة الله ، وقد ذكر العهدان وقوعه ، فقد ذكرت التوراة ان امرأة لوط صارت في آن واحد عمود ملح «تك ١٩ ، ٢٦» وجاء في انجيل لوقا عن قول المسيح في علامات القيامة ووقوع الهلاك ، كما في أيام نوح ولوط ، في ذلك اليوم من كان على السطح وأمتعته في البيت فلا ينزل ليأخذها والذي في الحقل كذلك لا يرجع الى الوراء اذكروا امرأة لوط «لو ١٧ ، ٢٦ ـ ٣٦» ، إذا عرفت ذلك فقد اخبر الوحي بوقوع هذا الأمر الممكن فليس إنكاره إلا الجحود.

٢٥٢

ولم يذكر القرآن الكريم ان هذه الحادثة وقعت في أيام موسى حتى يعترض لمتكلف بكون التوراة الرائجة لم تذكرها ، فان أراد من التوراة مجموع العهد القديم فقد عرفت وتزداد يقينا إن شاء الله بأنه لا بأس على الحقائق إذا خلا منها العهد القديم ، فان عذره في ذلك مقبول ، كما ستسمعه إن شاء الله تعالى.

* * *

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٢٦١ : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

والمتكلف «يه ٢ ج ص ٣١ و ٣٢» في مقام الاعتراض هاهنا عدة أوهام.

الأول : روي عن مجاهد ان الرجل المذكور في الآية كان كافرا شك في البعث ، فاعترض عليه بأن الله خاطب هذا الرجل بقوله تعالى : (كَمْ لَبِثْتَ) والله تعالى لا يخاطب الكافر.

قلت : لما ذا لا يخاطب الله الكافر في مقام الحجة والموعظة والتوبيخ ، وان كتب المتكلف تذكر ان الله تعالى خاطب الحية التي أغوت حواء «تك ١٤٣ و ١٥» ، وخاطب «أبي مالك» ملك جرار «تك ٢٠ ، ٣ ـ ٨» وخاطب الشيطان «اي ١ ، ٧ ـ ٢ ، ٧».

الثاني : اعترض أيضا بقوله تعالى (آيَةً لِلنَّاسِ) فقال وهذا اللفظ لا يستعمل في حق الكافر وإنما يستعمل في حق الأنبياء.

قلت : ان الله لم يقل له قد أرسلتك رسولا للناس وجعلت لك هذه الآية حجة مصدقة لك على دعوى الرسالة ، بل قال الله جل اسمه (وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ) وحجة عليهم في أمر المعاد في القيامة ، وإنما سبيله في ذلك كسبيل ما

٢٥٣

يحكيه الإنجيل الرائج في قصة انقلاب الماء خمرا إذ قال فيه وهذه بدأت الآيات فعلها يسوع «يو ٢ ، ١ ـ ١٢» ، أفيقول المتكلف ان الخمر المنقلب عن الماء كان نبيا لأنه قيل فيه «آية» وإنما يستعمل ذلك في حق الأنبياء ، نعم لا يبعد فيه أن يقول.

الثالث : قوله : لو كان لهذه القصة أصل في كتب الوحي الإلهي لذكر اسم هذا الشخص.

قلت : وهذا الوهم ينحل الى أوهام.

أحدها : يعرفه كل من مارس القرآن الكريم وعرف منه انه لم يكن متبعا في مواعظ قصصه وحججها أحاديث العهدين (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) كما اختلفت كتب العهد القديم في قصصها والاناجيل في منقولاتها.

وثانيها : ان من عرف من القرآن انه كتاب هدى وموعظة وحجة وتمجيد للأنبياء والصالحين ليعرف انه لم يتعلق غرضه في قصصه إلا بهذه الفوائد فيقتصر في قصصه على ما يؤدي هذه الأغراض الحميدة من دون فضول وكل من له رشد يعلم انه ليس لذكر اسم الشخص هاهنا مداخلة في التذكير بالحجة على المعاد ، ولم يكن القرآن مجلة تاريخية تنص على الأسماء حتى على أسماء النساء وحتى في مقام الوقيعة والهتك لأعراض الأنبياء والاولياء ، ومع ذلك فان العهدين مع طريقتهما قد أهملا ذكر كثير من الأسماء في مقام التاريخ الذي يكون بإهمالها مشوها أبتر ، فقد قالت في تاريخ ولادة موسى وجاء رجل من بيت لاوي وأخذ بنت لاوي فحبلت المرأة وولدت ابنا ، ووضعت الولد ووقفت اخته «خر ٢ ، ١ ـ ٥» ، مع ان التاريخ والامتنان وبيان العناية والالطاف بموسى ، ونفوذ المشيئة الإلهية يوجب كل واحد منها النص على الأسماء ، ولكن لو كان وقيعة وهتكا للأعراض لنص على الأسماء على العادة الجارية في العهدين.

وفي العهدين أيضا في تاريخ يربعام وجاء رجل الله ، وقال رجل الله «وهكذا ١٥ مرة» ، وكان نبي شيخ ، النبي الذي أرجعه النبي الشيخ انظر «١ مل ١٢».

٢٥٤

وفي سيرة ايليا أمرت هناك امرأة أرملة تعولك ، وإذا بامرأة أرملة ، مرض ابن الأرملة ، فرجعت نفس الولد «١ مل ١٧».

وفي العهد الجديد : أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح أرسل اثنين من تلاميذه وقال له : أنت هو الآتي أم ننتظر آخر «مت ١١ ، ٢ و ٣ ولو ٧ ، ١٨ ، ١٩» ، وإذا ميت محمول ابن وحيد لأمه وهي أرملة ، فجلس الميت وابتدأ يتكلم فدفعه الى أمه «لو ٧ ، ١٢ ـ ١٧».

وقد ذكرنا عن العهدين في قصة «طالوت» شطرا من هذا النحو ومثله في العهدين كثير يطول بذكره الكلام.

وثالثها : ان كل فاهم وغبي يعلم انه لا بأس على كتاب الوحي إذا ذكر أمرا لم يذكر فيما قبله من الكتب المنسوبة الى الوحي وإن كانت معافاة من الابتلاء ، ولو تنبه المتكلف من نوم غفلته أو تعصبه لوافق على ذلك ولم يعترض ، كيف لا وقد ذكر في رسالة يهوذا ٩ مخاصمة ميخائيل رئيس الملائكة مع ابليس في جسد موسى عليه‌السلام مع انها لا يوجد لها أثر فيما تقدم من كتب العهدين على رسالة يهوذا مع ان هذه المخاصمة أولى بالموعظة والارشاد في الذكر وأنسب بكتاب الوحي من ذكر ملاعب شمشون «قض ١٤ ـ ١٧» وحالات راعوث وفضائح الأنبياء وعائلاتهم.

وأيضا ذكر في رسالة يهوذا «١٤ و ١٥» تنبي اخنوخ «أي ادريس» وهو السابع من ولد آدم ، مع انه لا يوجد له في الكتب قبل يهوذا عين ولا أثر ، وهو أولى بالذكر من أكثر ما ذكر فيها.

والحاصل لا يخفى انه لا بأس على كتاب الوحي إذا ذكر شيئا قد أهملته كتب الوحي الصحيحة فضلا عما كان دعيا في النسبة الى الوحي ، بل البأس كل البأس على الكتاب المنسوب الى الوحي إذا ابتلي بما ذكرناه أو أشرنا إليه في الصدر والتمهيد ، فراجع ذلك وما ذكره إظهار الحق من بعض ابتلاءات كتب العهدين.

ثم قال المتكلف : ومن تأمل كتب الوحي الالهي ـ أي التوراة والإنجيل

٢٥٥

والزبور ـ لا يجد فيها شيئا من ذلك ، وهي حكاية ابيمنيدس وهو كاهن يوناني.

قلت : سنبدي لك إن شاء الله عذر العهدين في تركهما لمثل هذا ، ونعرفك مشغوليتهما بما هو أهم من ذلك في اغراض كتبتهما المتأخرين ، ولكن المتكلف اشتهى أن يزيد في حجم كتابه بشيء من تاريخ اليونان وابيمنيدس فادعى على القرآن الكريم بأن قصته تتعلق بحكاية ابيمنيدس «يه ٢ ج ص ٣٢ و ٣٣» ثم لج في الانقياد الى بواعثه فادعى ان رسول الله «ص» جعل ابيمنيدس من الأنبياء ، انظر «يه ٢ ج ص ١٠٢ و ١١٠» ، فيا لهفاه على الصدق والأمانة والأدب.

* * *

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٢٤٤ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ).

وان طوايا المتكلف وعوائده لتقتضي أن يقول في هذا المقام ان هذا من الخرافات التي لا تعقل ولا تتصور ، ولكنه اسكته عن ذلك امتلاء كتبه بكثرة احياء الموتى في دار الدنيا.

ولا تحسب انه يتضايق بما ذكر في العهد القديم ولكنه يراعي أغراضه فيما ذكره العهد الجديد.

أما ما في العهد القديم فهو ما حصل على يد ايليا في احياء ابن الأرملة «١ مل ١٧ ، ١٧ ـ ٢٤» ، ومع اليسع «٢ مل ٤ ، ١٩ ـ ٣٧» ومع حزقيال حيث تنبأ على العظام المالئة للبقعة فتقاربت وكسيت العصب واللحم والجلد ودخلت فيهم الأرواح فحيوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا «حز ٣٧ ، ١ ـ ١١».

والأمر في ذلك عند المتكلف سهل ، وأما ما ذكره العهد الجديد فهو ما ذكرت الاناجيل حصوله على يد المسيح ومن جملته حياة لعازر بعد دفنه بأربعة

٢٥٦

أيام «يو ١١ ، ٣٩ ـ ٤٥». وانه عند حادثة الصليب تفتحت القبور وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامة المسيح ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين «مت ٢٧ ، ٥٢ و ٥٣» ، وانه حصلت الحياة للميتة على يد بطرس «١ ع ٩ ، ٣٦ ـ ٤٢» وحياة الميت على يد بولس «١٠ ع ٢٠ ، ٩ و ١٠».

فالمتكلف لم يعترض على ما ذكره القرآن الكريم بما اعتاده من قوله «خرافة» ، ولم يذكره أحد ، ولا يعقل ، ولا يتصور ، فلم يقل ذلك لا ورعا بل محافظة على ما ذكره العهد الجديد في الأناجيل وأعمال الرسل كما أشرنا إليه.

ومع ذلك فقد أبت سجيته إلا أن يعترض «يه ٢ ج ص ٢٤ و ٢٥» ، فذكر قول المفسرين بأن هؤلاء هربوا من الطاعون فأماتهم الله ثم أحياهم على يد حزقيل بن بوذي ، فكان أدب المتكلف أن يقول في اعتراضه ، ففي زمان حزقيال النبي لم يهرب عشرة آلاف من بني اسرائيل من الطاعون كما قال القرآن وان الله أماتهم وان النبي حزقيال بعثهم من الموت.

قلت : ولم يقل القرآن الكريم بأنهم هربوا من الطاعون ولكنه قال : «حذر الموت» ، ولم يقل القرآن والمفسرون انهم من بني اسرائيل ، ولم يقل القرآن والمفسرون ان حزقيال بعثهم من الموت ، بل قاله المتكلف بإلهام ذاك الروح المذكور «١ مل ٢٢ ، ٢٢ و ٢ أي ١٨ ، ٢١».

وهب ان القرآن أشار الى قصة حزقيال فان كتاب حزقيال على ما في العهد القديم من أسباب الخلل لم يقل ان العظام المالئة للبقعة كانت عظام أموات مات كل واحد في وقت منفرد ، بل لو كانوا كذلك لتدافنوا ، وفي كتاب حزقيال عن قول الله «٣٧ ، ٩» هلم يا روح من الرياح الأربع وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا ، والمتكلف حذف تسميتهم بالقتلى من منقوله ، وذلك لأجل دلالة وصفهم بالقتلى على انهم ماتوا دفعة واحدة بسبب واحد وان الموت بالوباء والطاعون ونحوهما من البلايا والعياذ بالله يسمى قتلا ، انظر «خر ٤ ، ٢٣ مع ١٢ ، ٢٩» فينطبق ما في حزقيال على قول المفسرين أحسن انطباق ، ولكن

٢٥٧

المتكلف لما أراد أن يعترض على المفسرين حذف لفظ «القتلى» ولعله قال في نفسه ومن ذا يلتفت إليها.

ثم ان المتكلف «يه ٢ ج ص ٢٥» بدل ما ذكره حزقيال من احياء العظام وقيام القتلى جيشا عظيما جدا جدا ، وجعله «رؤيا» والغاية منها انعاش قلوب بني اسرائيل وإحياء آمالهم ، وان الإحياء الذي ذكره القرآن الكريم لا فائدة فيه ولا مصلحة.

قلت : لعل تعصب المتكلف على القرآن الكريم حمله على أن يتأول ما ذكر في حزقيال ويجعله رؤيا منامية لكي يقول ان القرآن ذكره على سبيل الحقيقة وهي غير ممكنة ولا معقولة ولا بأس بها إذا كانت رؤيا خيالية ، فان كان كذلك فما عساه يقول بما ذكرناه عن متى من تفتح القبور ، وقيام كثير من أجساد القديسين وخروجهم من القبور ودخولهم المدينة المقدسة وظهورهم لكثيرين ، وكذا ما ذكرناه عن يوحنا من حياة لعازر بعد أربعة أيام من دفنه.

ولعل المتكلف تبعثه بعض الطوايا على إنكار حقيقة الجميع ودعوى ان المعقول منه ما كان رؤيا خيالية فيقتفي بذلك أثر بعض المفسرين المدققين حيث أنكروا حقيقة تكليم الاتان لبلعام وجعلوها رؤيا خيالية توهم منها بلعام ان الاتان قد كلمته فراغموا بذلك صراحة التوراة ورسالة بطرس كما ذكرناه في الجزء الأول صحيفة ٣٤٣ ـ ٣٤٤ ، أم تقول ان المتكلف سمى واقعة حزقيال رؤيا ولم يدر ما قال.

وأما زعم المتكلف ان الإحياء الذي ذكره حزقيال فائدته إنعاش افئدة بني اسرائيل ، والاحياء الذي ذكره القرآن لا فائدة منه ولا مصلحة فيه.

فهو زعم من استولت الغفلة على مشاعره ، فإنه إذا جاز أن يحي الله جيشا عظيما جدا جدا لأجل أن يسمع بنو اسرائيل بذلك من حزقيال فتنتعش أفئدتهم ، فلما ذا لا يجوز ان يحي الله ، اولئك الجيش لأجل التفضل عليهم بالحياة وانعاشهم من البلاء ، أفليسوا عباد الله أفلا يدعوهم ذلك الى الاطمئنان واليقين في الإيمان بالمعاد ولا يحتاجون في أمر المعاد الى مثل الاحتجاج الذي

٢٥٨

تذكره الاناجيل «انظر الى الجزء الأول صحيفة ٢٣٥ ـ ٢٣٦».

أفلا يؤدي بهم ذلك إلى الاعتبار والارتداع والتوبة ، أفلا يؤدي بهم ذلك الى شكر النعمة ، أفلا تحسن نعمة الله على عباده إلا لإنعاش افئدة بني اسرائيل ، وان انعاش أفئدة بني اسرائيل يحصل باحياء رجل واحد نصب أعينهم فيذكر لهم حزقيال البشارة عن الله.

وأما في غيبتهم فلا يفيدهم احياء أهل الدنيا خصوصا إذا كان المشاهد له حزقيال وحده ، فان بني اسرائيل من عرفت أحوالهم من العهد القديم والمخبر لهم بالأمرين واحد وهو حزقيال ، فإن لم يصدقوه بالبشارة لم يصدقوه بالاحياء ولا يكون انفراده بهذا الخبر إلا كقول القائل «أنا الشاهد لنفسي».

ولكن المتكلف كأنه سمع من كتبه شواهد التبليغ في أحوال اشعيا وأرميا ، وحزقيال ، وهوشع ، «كما ذكرناه في الجزء الاول صحيفة ٥٠ ، و ٥١» ، فجعل المتكلف هذا من ذاك ، ولم يدر أن ذاك على ما به أهون من هذا.

* * *

وقال الله جل اسمه في سورة لقمان ١١ : (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) ١٢ (وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، ثم وعظه بإقامة الصلاة ومكارم الأخلاق كما ذكره الله جل شأنه من الآية ١٥ ـ ١٩.

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠٢» من تتبع القرآن رأى محمدا «ص» لم يقتصر على جعل بعض فلاسفة اليونان الذين لم يعرفوا الاله الحقيقي من الأنبياء كما في ابيمنيدس ، وتقدم الكلام عليه بل سمى بعض السور باسم بعض الفلاسفة كما في سورة لقمان ، ففي هذه السور ادعى ان الله آتى لقمان الحكمة ، وان لقمان حض ابنه على أن لا يشرك بالله وهو من الغرائب فانه لم يرد في كتب الوحي ان الله أوحى الى لقمان ولا الى غيره من فلاسفة اليونان بل الكتاب المقدس قال : انهم لا يعرفون الاله الحقيقي ، وانهم كانوا يستبيحون

٢٥٩

المنكرات ، وكانت أذهانهم مظلمة والقرآن جعله نبيا ورجلا تقيا وواعظا لابنه.

وقد قدمنا لك ان دعوى المتكلف في ابيمنيدس إنما هي مما غلب به الهوى على شرف الأمانة والأدب.

وأما تسمية السورة باسم لقمان فلا دلالة لها على نبوته ولا ربط لها بذلك ، بل سميت باسمه للتسجيل على عنوان شأنه في توحيده وحكمته وأخلاقه وموعظته ، كما سميت بعض السور لأجل تسجيل العنوان والتذكير به بسورة الكهف والفيل ونحو ذلك ..

واما ان الله آتى لقمان الحكمة وان لقمان حض ابنه على أن لا يشرك بالله فلا ألوم المتكلف إذا ثقل ذلك على هواه.

فان من أوليات الحكمة الحقيقية وبديهياتها هتافها بأن الواحد الحقيقي لا يكون ثلاثة مختلفة في الآثار والمشخصات ، وهذه الثلاثة لا تكون واحدا حقيقيا ، ومن أساسيات الحكمة انها لا تقبل ما تحكم بداهة العقل بامتناعه واستحالته ، ومن أساسياتها أيضا ان الإله الغني العادل القدوس الرحيم الحكيم العليم اللطيف الخبير لا يترك عباده هملا فوضى من دون أن يجعل لهم من عنده قوانين تنتظم بها مدنيتهم وسياسات يستوسق بها اجتماعهم ، ونواميس عملية ترقى بهم الى معارج النواميس الروحية ، وتحكم الرابطة بينهم وبين إلههم فتكون لهم قيادا الى الطاعة ورادعا عن التمرد وطريقا الى الانقياد الروحي. ومن أساسيات الحكمة أيضا ان الله تبارك اسمه لا يترك عباده هملا بدون أن يقيدهم بزاجر الوعيد ويقين القصاص ولا يدعهم يترددون في غيهم آمنين .. وأشد شيء تضاده الحكمة وتقاومه بأولياتها وأساسياتها هو أماني الهوى ومغالطة الشيطان بأن الله الواحد هو ثلاثة تجسد أحدهم على الأرض وبعد ثلاثين سنة نزل عليه الآخر بشكل حمامة جسمية وبقي الثالث في السماء ليمهد عمله في الفداء الذي بمغالطته يطلق سراح المتمردين ويخرب الشريعة المدنية السياسية المكملة المهذبة ويلاشيها من مملكته ، وذلك بأن يفدي الناس من لعنة الناموس وقصاص خطاياهم بالموت في جهنم النار «ومرجع ذلك الى إغراء الغواة

٢٦٠