الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

وانها تحدث في الارضيات من أثرها روحا كهربائيا.

فلا مساغ في الأدب والدين للمتكلف ان يسمى نفسه نصرانيا يسلم بكتب العهدين وهو يعترض على القرآن الكريم بنحو هذا الاعتراض.

نعم إذا جاهر بمكنونه وقال : ان نواميس الطبيعة ، وقوانين دارون تأبى هذا كله ، وتعده من خرافات اليهود والنصارى والمسلمين ، فإن لنا معه موقفا آخر.

وقال الله تعالى في سورة الاعراف في شأن موسى لما عبد قومه العجل ١٤٩ : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) ـ ١٥٣ (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).

فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ٥٦ و ٥٧ بثلاثة اعتراضات :

١ ـ ان القرآن الكريم ذكر الألواح بصيغة الجمع الدالة على انهما أكثر من اثنين ، وان توراته تذكر انهما لوحان.

٢ ـ ان القرآن يدل على ان موسى لم يكسر الألواح ، بل انه لمّا سكت عنه الغضب أخذها بعينها وهي صحيحة ، وتوراته تقول ان موسى كسر اللوحين ثم بعد مدة أعطاه الله لوحين آخرين.

٣ ـ ان موسى لم يجرّ أخاه من رأسه كما يفعل السفهاء.

قلت : أما عدد الألواح فقد اختلفت فيه التوراة الرائجة ، ففي بعض المقامات صرحت بأنهما لوحان اثنان حيث صرح الأصل العبراني بقوله : «شنى لوحت» ، وفي بعض المقامات قال : «لوحت» «خر ٢٤ ، ١٢» ، وهذه في اللغة العبرانية كلمة جمع لا تخرج الى التثنية إلا بالتقييد بلفظة «شنى» ـ أي اثنين ـ.

فالقرآن الكريم بوحيه الإلهي الصادق أبان لنا ان التوراة الرائجة أصابت في قولها «لوحت» ، ولكنها بعد ذلك حوّلها قلم كذب الكتبة ، كما قال أرميا

٢٢١

الى «شنى لوحت» ، كما شوّه صورتها بالتناقض والتقلب والغلط في عدد الملائكة الذين جاءوا الى ابراهيم ، ثم توجّهوا الى سدوم ، وجاءوا الى لوط حيث ذكرت انهم ثلاثة ، ثم قالت : انهم اثنان ثم جعلتهما واحدا «انظر تك ١٨ ـ ١٩ ، ٢٣».

ثم اعلم ان القرآن الكريم بوحيه الالهي الصادق ومعارفه الحقة لينزّه أنبياء الله ورسله الكرام عن السفاهة والهتك لحرمات الله والاستخفاف بأماناته وعهوده والنكول بالغضب والتهور عن وظائف النبوة ، فلا يصح في التعاليم الحقة أن يكون موسى رسول الله وكليمه يفعل مثل ذلك ، أتقول ان موسى رسول الله يعطيه الله لوحي العهد المكتوبين باصبع الله ويأمره بأن يصنع لهما صندوقا مصفحا بالذهب ليضعهما فيه ويضعه في أشرف الأماكن المقدسة وبهذه العناية يكونان كواسطة العقد لنبوة موسى ولواء الديانة لبني اسرائيل وأعز ودائع النبوة وأشد شعائر الله حرمة ، ومع ذلك كله يلقيهما موسى من يده ويكسرهما عند الغضب ، مع انه لا يجدي كسرهما شيئا لا في العقوبة ولا في العتاب ولا في الحث على التوبة إلا العبث والحماقة والاستخفاف بعهد الله وأمره والخيانة لأمانته والهتك لحرمته ، قل إذا فما ذا يتوقّى النبي عند غضبه؟ وأي حرمة لله يحتشم هتكها؟ حاشا لله ورسوله موسى ، الله أعلم حيث يجعل رسالته.

ومن العجب ان المتكلف يستر هذا بذيل أمانته ويعترض على قول القرآن الكريم ان موسى أخذ برأس أخيه يجره ويقول : ان هذا من فعل السفهاء ، وقد بينا لك في الجزء الأول صحيفة ١٢٨ ما يمكن أن يكون وجها له ، ولكنا نقول هاهنا ان وجهه ما هو المعروف من ملاومة الأرحام وتشاكيهم عند النوائب العظيمة ، فيكون جر موسى لرأس أخيه المعاضد له في مهماته ونوائبه من باب الشكاية والتلهف كما يجر رأس نفسه ويضرب وجهه ، وإذا كان هذا من فعل السفهاء فكسر الألواح من فعل من يكون؟.

* * *

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٢٤٧ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ

٢٢٢

عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ٢٤٨ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

والمتكلف «يه ٢ ج ص ٢٦» قد اعترض على قوله تعالى من بعد موسى فقال الصواب من بعد القضاة.

قلت : ان القرآن الكريم لم يكن من مقصوده بيان التاريخ السنوي وتشخيص الزمان ، بل ان الذي يدخل في مقصوده هو الظرف الذي بيّنه ، لأن المقصود هو الموعظة والتوبيخ لبني اسرائيل على ملازمتهم في أجيالهم للتلون والتقلب ببيان انهم كانوا مع موسى رسول الله المظفّر المنصور بالمعجزات والسيف ، وقد شاهدوا منه آيات النصر وخرجوا ببركته من الذل الى العزة ، ومن الضعف الى الشوكة ومع ذلك كانوا يتمردون على أوامره وينكصون عن دعوته حتى بدلوا دينه وتقلبوا في طغيانهم فأبدلهم الله بالعز ذلا وبالأمن خوفا ، فجاء هؤلاء وهم أبناء أولئك القوم وعلى وتيرتهم يطلبون ملكا يقاتلون معه في سبيل الله مع ان القول أبناء القوم في التقلب والتمرد ، ولذا حذرهم نبيهم من ان يكونوا كآبائهم إذ كتب عليهم القتال فلم يقاتلوا .. ولكن المتكلف لا يدعه فهمه وسجيته إلا أن يقول :

فقول القرآن ان بني اسرائيل طلبوا من نبيهم بعد موسى ـ أي بعد وفاته ـ هو غلط والصواب انه من بعد صموئيل آخر قضاة بني اسرائيل.

لكي يقال له :

أولا : ان القرآن قال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ولم يقل قالوا من بعد موسى ، فإن أردت أن تتلاعب بالتراكيب حسب فهمك وأغراضك فاقصد بذلك كتابك لتكون كواحد من قومك ، وأما

٢٢٣

القرآن الكريم فانه مرصود بالعناية الإلهية ، وينتهرك في تبديلك ألوف عديدة من حفاظ أطفال المسلمين.

ثانيا : ان كتابك يقول : ان الذي طلب منه بنو اسرائيل ان يجعل لهم ملكا هو نفس صموئيل ، وان طالوت «شاول» ملك في حياة صموئيل انظر «١ صم ١٠ ـ ٢٥ ، ١» ، وتواريخكم تقول : ان مدة ملكه في حياة صموئيل كانت خمسا وثلاثين سنة ولم يلبث بعد موت صموئيل إلا نحو أربع سنين مع ملك متضعضع ، وافتراق داود وجملة من بني اسرائيل عنه.

فكيف تقول «والصواب انه من بعد صموئيل آخر قضاة بني اسرائيل» فأفق ثم تكلم في مثل هذه المقامات بعد أن تعرف ما في كتابك أقلا.

واعترض أيضا على حكاية القرآن الكريم لقول بني اسرائيل : (أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) فقال انه لم يكن أحد سبى بني اسرائيل ، ولا اخرجهم من ديارهم ، بل انهم طلبوا الملك ليقضي لهم ويحارب حروبهم ويخرج أمامهم.

قلت : ان العهد القديم مع تفريطه في الحقائق التاريخية ، ليكذب المتكلف في دعواه.

أفلم ينظر مدة عمره في سفر القضاة ليرى تسلط الامم على بني اسرائيل من بعد يوشع ، وان الله غضب عليهم فدفعهم بأيدي ناهبين نهبوهم وباعهم بيد أعدائهم حولهم «قض ٢ ، ١٤» ، وباعهم بيد كوشان ملك آرام النهرين وضرب ملك عمون بني اسرائيل وملك مدينة النخل «٣ ، ٨ و ١٣» ، وباعهم الرب بيد يابين ملك كنعان «٤ ، ٢» ، ودفعهم ليد مديان حتى انهم عملوا لأنفسهم الكهوف والمغاير بسبب تسلط المديانيين ، وإذا زرعوا تنهبه الامم ولا يتركون لهم قوتا ولا بقرا ولا غنما ولا حميرا «٦ ، ٢ ـ ٦» وان الله دفعهم ليد الفلسطينيين أربعين سنة «١٣ ، ١» فلم يزل بنو اسرائيل عرضة لاضطهاد الملوك تعمهم النوائب أو تتناوب على قبائلهم.

أفلا يكفي المتكلف هذه الأحوال في صدق قولهم أخرجنا من ديارنا وأبنائنا ، وهل قال القرآن الكريم انهم قالوا سبينا بأجمعنا الى آشور أو الى بابل.

٢٢٤

واعترض أيضا على تسمية القرآن الكريم لهذا الملك «طالوت» فقال وصوابه شاول.

قلت : سماه القرآن الكريم بوصفه الذي امتاز به عن جميع بني اسرائيل وهو طول القامة وبسطة الجسم.

والعهد القديم يقول : انه وقف بين الشعب ، فكان أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق ، وانه ليس مثله في جميع الشعب «١ صم ١٠ ، ٢٣ و ٢٤» ، فسماه القرآن طالوت تنويها بامتيازه ، كما يقال كهنوت وجبروت وملكوت.

واعترض أيضا على قول القرآن الكريم (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ).

قلت : ان الذي جاء الى صموئيل لينصب لهم ملكا لا بد أن يكونوا رؤساء بني اسرائيل وشيوخهم ، كما ذكر ١ «صم ٨ ، ٤ ـ ٦».

وبحكم العادة والاعتبار بأحوال البشر وخصوص بني اسرائيل في مثل هذه الواقعة أن يكون كل واحد من هؤلاء الرؤساء يرجو أن يكون هو الملك ويجد في نفسه انه هو الأولى بذلك لرئاسته وكبر سنه ، والعادة المطردة تقتضي ان الشيوخ والزعماء وأهل الثروة لا يذعنون إذا وقع الاختيار على من هو دونهم في السن والشرف والرئاسة والثروة ، بل لا بد أن يقولوا ان الاختيار الذي هو لصلاح المملكة ينبغي ان يقع على ذي شرف ورئاسة تنقاد له النفوس ، وذي ثروة تعينه على مهمات الملك ، وذي سن قد بصّرته التجارب وممارسة حوادث الأيام ، وذي قبيلة عظيمة تفي بمنعته.

فلا بد بحكم العادة للشيوخ الذين طلبوا الملك أن ينكروا تملك شاول دونهم مع انه شاب من أصغر العشائر في اسباط بنيامين ، وكتاب المتكلف يقول : ان قبيلة بنيامين قد قاربت ان تنقرض في أيام القضاة «فض ٢٠ و ٢١» ويقول : ان بني بلعيال (١) قالوا في حق شاول كيف يخلصنا هذا

__________________

(١) كلمة شتم شم بها الكهنة أولاد عالي الكاهن ١ صم ٢ ، ١٢ وداود ٢ صم ١٦ ، ٧.

٢٢٥

واحتقروه فلم يقدموا له هدية «١ صم ١٠ ، ٢٧» ، ومعنى قولهم هذا هو معنى ما حكاه القرآن من قولهم.

ومن المعلوم ان الذي يقدم هدية للملك إنما هم الأشراف والرؤساء الذين يدبرون أمر العامة في طلب الملك وتبريكه.

وأما هتاف الشعب بقولهم ليحيي الملك «١ صم ١٠ ، ٢٤» فيجوز أن يكون بعد اعتراض الملأ والرؤساء على تمليك طالوت ، وبعد أن غلبتهم آراء الجمهور انقيادا لصموئيل فتم القرار على تمليكه ، ويجوز أن يكون من عامة الشعب ما عدا الرؤساء ..

فالعهد القديم على ما به من الخلل لا يعارض القرآن الكريم في هذا المقام ، كما توهمه المتكلف ، بل هو مع انحلال نظامه يحاول المعنى الذي ذكره القرآن الكريم ولكنه لم يحسن بيانه.

وقال تعالى في سورة البقرة في تتمة المقام المتقدم ٢٤٩ : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٢٨» على قول القرآن : ان التابوت تحمله الملائكة ، فقال : لم يرد في كتاب الله ان الملائكة حملت التابوت وأدخلته الى بيت شاول علامة على الملك.

قلت : وقد ذكرنا لك في التصدير حال العهد القديم على وجه لا يبقى لذي اللب أدنى ركون إليه ، فكيف بالاعتراض به على القرآن الكريم ، ولما ذا لا يقال ان كلمة (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قد سقطت منه كالكلمات التي تذكر الحواشي انها تقرأ وهي غير مكتوبة في المتن وجرت التراجم على تنبيه الحواشي .. وأيضا ان العهد القديم يذكر ان الفلسطينيين لما ردوا التابوت من عندهم الى بني اسرائيل «فعلوا فعلا لا يمضي معه التابوت الى بني اسرائيل إلا بنحو خارق العادة يذعنون بأنه من آيات الله ، كما أشار عليهم بذلك كهنتهم وعرافوهم «١ صم ٦ ، ٦ ـ ١٠» ، وذلك انهم وضعوه على عجلة ربطوا بها بقرتين مرضعتين

٢٢٦

لم يعلهما نير وارجعوا عنهما ولديهما ، فاستقامت البقرتان في الطريق الى طريق بيتشمس ، وكانتا تسيران في سكة واحدة وتجأران ولم تميلا يمينا ولا شمالا وأقطاب الفلسطينيين يسيرون ورائهما الى تخم بيتشمس حتى أتت العجلة تسير بها البقرتان على هذا الحال الى حقل يهوشع البيتشمسي ووقفت هناك فأنزل اللاويون تابوت الرب «١ صم ٦ ، ٧ ـ ١٦» ومن المعلوم في العادة ان مثل هاتين البقرتين لا ينبغي أن يتحركا خطوة واحدة ولو كان لهما عدة من السائقين والقائدين لأجل انهما لم تعلما على وضع نير على أعناقهما وعلى جر الثقيل خلفهما ، بل يلزمهما في العادة في كل آن ان تشمصا وترجعا الى ولديهما الذين ارجعا عنهما.

فكيف تسيران عدة أميال على الاستقامة في الطريق الى حقل يهوشع بلا قائد ولا دليل.

وهل هذا التسخير إلا من الآيات وخوارق العادة وتصرف الملائكة ، فهو راجع في الحقيقة الى قول القرآن الكريم تحمله الملائكة ، ولم يقل القرآن ان الملائكة حملت التابوت وأدخلته بيت شاول ، بل إنما قال ذلك المتكلف من تحريك ذلك الروح الذي اخبر عنه ميخا «١ مل ٢٢ ، ٢٢» ، وإنما قال القرآن لبني اسرائيل (يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) فيكون صدق النبي بمجيء التابوت من حيث لا يحتسبون على نحو معجز هواية ودليلا على صدقه بقوله ان الله جعل طالوت ملكا ، والعهد القديم يخبر بمجيء التابوت على هذا الوجه بنحو لا يكون إلا من تصرف الأرواح السماوية وهم الملائكة.

واعترض المتكلف أيضا على قوله تعالى في وصف (التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ) فقال : وصوابه شخينا وهي كلمة عبرية معناها الروح ، أو مأخوذ من شاخونة ومعنى سكن ، وقد سبقه المتعرب الى هذا الاعتراض «ذ» ص ٨٦.

قلت : السكينة مأخوذة من السكون بمعنى الطمأنينة ـ أي روح تقتضي سكون بني اسرائيل وطمأنينتهم بها ـ ، وكنى عنها في الأحاديث بالريح باعتبار سريان روحها وبركتها الى بني اسرائيل ، كما تروح الريح الطيبة ، وتنعش بسريانها ، ووصفت مجازا بأن لها وجها كوجه إنسان باعتبار ان روحانيتها

٢٢٧

وبركتها لها وجهة واحدة تراعى بها بني اسرائيل دون غيرهم من محاربيهم الذين يقذفهم ادبارها عنهم بالرعب والوبال.

وأما دعوى المتكلف والمتعرب بأن السكينة في القرآن مأخوذة من شخينا وشاخونة فمنشؤها أمور :

١ ـ تحاملهما على القرآن كلام الله.

٢ ـ جهلهما أو تغافلهما عن وجود مادة سكن ويسكن وسكون في اللغة العربية.

٣ ـ بخلهما على اللفظة العربية ان توافق العبرية بالنون التي في سكينة وشيخنا.

٤ ـ بخلهما بأن يعرب القرآن لفظ شخينا بلفظ سكينة.

٥ ـ بخلهما بأن يذكر القرآن أمور بني اسرائيل بألفاظ عربية أو معربة.

٦ ـ عدم مبالاتهما بما يقولون فوا أسفاه على الأدب وحرية الضمير.

واعترض المتكلف أيضا على القرآن الكريم في قوله في التابوت انه : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) ، فقال : والحقيقة انه لم يكن فيه سوى لوحي العهد.

قلت : ان توراة حلقيا أو غيره ، والتي عرفت حالها من التصدير وغيره وإن لم تنص على ما وضع في التابوت الاعلى لوحي العهد ، ولكن العهد الجديد كتاب المتكلف مما ينبه على خللها في هذا المقام ، وانها أهملت ما هو لازم الذكر ، فانه يقول وتابوت العهد مصفحا من كل جهة بالذهب الذي فيه قسط «أي كوز ، أو حقة» من ذهب فيه المن وعصا هارون التي افرخت ولوحا العهد «عب ٩ ، ٤».

فالعهد الجديد يقول أيضا : ان التابوت فيه بقية مما ترك ال موسى وآل هارون ، بل ان التوراة الرائجة ربما يظهر منها هذا وإن لم تنص على وضع المن والعصا في التابوت ، بل ذكرت ان موسى أمر هارون بأن يجعلهما أمام الشهادة

٢٢٨

للحفظ في أجيال بني اسرائيل «خر ١٦ ، ٣٢ ـ ٣٥ وعد ١٧ ، ١٠» ، ولكن المتكلف تبعثه بواعثه على الاعتراض على القرآن كلام الله وهو لا يدري بما في كتبه أو يستره بذيل أمانته.

واعترض المتكلف أيضا على قول القرآن الكريم (إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ ..) ، فقال : ان هذا لعدم معرفته باسم النبي الذي مسح شاول ولا يخفى انه صموئيل.

قلت : لم يكن المقام لبيان دعوة ذلك النبي واجتهاده في إعلان الحق ليمجده القرآن بذكر اسمه ، بل ان وصفه بالنبوة أحسن دخلا في توبيخ بني اسرائيل على فارطهم إذ طلبوا مع وجوده ملكا وردوا عليه في تعيين الملك عن أمر الله ..

ولكن العهدين الذين ينصان على الأسماء بلا داع خصوصا في الفضائح فانهما قد اهملا ذكر كثير من أسماء الأنبياء وغيرهم مع اقتضاء وضع الكتاب أو المقام لذكرها ففيه : وكان لما صرخ بنو اسرائيل الى الرب بسبب المديانيين ان الرب أرسل رجلا نبيا الى بني اسرائيل وقال لهم الى آخر موعظته وتوبيخه لهم ودعوتهم الى الإيمان «قض ٦ ، ٧ ـ ١١» ، وجاء رجل الله الى عالي «١ صم ٢ ، ٢٧» وإذا بنبي تقدم الى اخاب ، فتقدم النبي ، فتقدم رجل الله ، وان رجلا من بني الأنبياء قال لصاحبه عن أمر الرب ، فذهب النبي فعرفه ملك اسرائيل انه من الأنبياء «١ مل ٢٠ ، ١٣ ـ ٤٢».

ودعا اليشع النبي واحدا من بني الأنبياء فانطلق الغلام الغلام النبي «٢ مل ٩ ، ١ و ٤» وإذا واحد من الذين مع يسوع مد يده واستل سيفه وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع اذنه «مت ٧٦ ، ٥١ ومر ١٤ ، ٤٧ ولو ٢٢ ، ٥٠» ، وانجيل يوحنا يذكر ان الضارب هو سمعان بطرس ، واسم العبد المضروب ملحس «يو ١٨ ، ١٠» وهذا قليل من كثير.

وقال الله تعالى في سورة البقرة في تتمة قصة طالوت ٢٥٠ : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ

٢٢٩

يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ).

والعهد القديم لم يذكر هذه القصة في تاريخ طالوت «شاول» وذكر ما هو قريب منها في تاريخ جدعون «قض ٧ ، ٤ ـ ٧» ، فخيل للمتكلف وهمه ان يعترض على القرآن الكريم «يه ٢ ج ص ٢٩» بأنه نسب قصة جدعون الى شاول ولم يجر على ما هو المذكور في قصة جدعون ، وجرى المتكلف على هذا الوهم أيضا «يه ١ ج ص ١١٠ و ١١١».

قلت أولا : ما المانع من أن يكون لطالوت قصة تشابه قصة جدعون ولم يذكرها العهد القديم في أحوال طالوت ـ أي شاول ـ كما ان التوراة الرائجة ذكرت حنوك ـ أي اخنوخ ـ وهو السابع من ولد آدم ، واهملت اولى أحواله بالذكر وهي نبوته التي ذكرها العهد الجديد «يه ١٤ ـ ١٧» وذكرت ابراهيم واهملت اولى أحواله بالذكر وهو بدء دعوته وظهور الله له وهو فيما بين النهرين من أرض الكلدانيين حينما أمره بالهجرة منها ، كما ذكره العهد الجديد «١٠ ع ٧ ، ٢ و ٣».

واهملت كتب العهدين أمرا مهما في البيان والموعظة ، وهو مخاصمة ميخائيل رئيس الملائكة مع ابليس محاجا عن جسد موسى وما دار بينهما من القول والاحتجاج ، كما أشار إليه العهد الجديد بالإيجاز المخل «يه ٩» ، وأغفل الحادي والعشرون من سفر يشوع ذكر أربع مدن مما يرجع الى اللاويين وهي باصر ، ويهصه ، وميفعه ، وقد يموت ، ومسارحها ، فذكرتها الحواشي والتراجم بين العدد ٣٥ والعدد ٣٦ من الأصل العبراني اخذا من سفر الأيام الاول ص ٦ ، ٦٣ و ٦٤ من الأصل العبراني.

وأهملت ثلاثة من الأناجيل ما ذكره لوقا «٧ ، ١١ ـ ١٦» من احياء المسيح لابن الأرملة في نايين ، كما أهملت ثلاثة منها أيضا ما ذكره حادي عشر يوحنا من احياء لعازر.

ودع عنك أمثال ذلك مما هو كثير ...

وثانيا : يجوز أن يكون كاتب سفر القضاة في أحد أدواره قد خبط فحرف

٢٣٠

قصة طالوت ونسبها الى جدعون ، كما خبط انجيل متى فحرف كلاما في كتاب زكريا «١١ ، ١٢ و ١٣» ونسبه الى كتاب أرميا مع انه لا يوجد لذلك فيه عين ولا أثر ، وقد ذكرنا ذلك في التصدير ، وذكرنا أوهام المتكلف فيه.

سفر القضاة

وثالثا : ان سفر القضاة الذي نسب الواقعة الى جدعون قد اختلفوا فيمن ينسبونه له ، كما نقله إظهار الحق في الفصل الثاني من الباب الأول ، ونقله المتكلف «يه ١ ج ص ١٠٩» عن هورن حيث قال : ذهب البعض الى ان هذا السفر نزل على فينحاس ، وذهب البعض الآخر الى انه نزل على حزقيا أو أرميا أو حزقيال أو عزرا ، انتهى.

ومثل هذا الكتاب لو لم تعبث به صروف الأيام لما كان له اعتبار واحد من كتب التواريخ مع هذا الاختلاف في مصنفه.

وقولهم نزل على فينحاس ونزل على حزقيا إنما هو غلط وخيانة في الكلام فان فينحاس وحزقيا لم يقل أحد يعرف قدره بأنهما كانا نبيين ، وان بين فينحاس وعزرا نحو ثمانمائة سنة.

فما ظنك بكتاب يتردد أمره بين كونه تصنيف نبي أو غير نبي وبين اناس تكون المدة بين طرفيهم نحو ثمانمائة سنة.

ودع عنك الكلام في ان هذا الموجود هو المولود بهذه الولادة المبحوث عنها ، أو انه تعددت فيه المواليد وتعاقبت على اسم الأول ، وهل يجديه نفعا دعوى هورن بأنه أجمع علماء اليهود والمسيحيين بعد التحقيق على انه نزل على صموئيل وهو آخر قضاة بني اسرائيل.

أفلا تدري ان أمر الكتب ومعلومية نسبتها الى مصنفها هو شيء لا ربط له بدعوى إجماع العلماء بعد التحقيق ، وإنما يؤخذ العلم به من النقل المتواتر بين العلماء والعوام من الملة بدون شبهة تحتاج الى التحقيق ، بل متى احوج الوقت الى القيل والقال عاد أمر الكتاب الى الوهن الدائم .. وأيضا فانك تعلم قد مضت عليهم دهور في ديانتهم وجلائهم كانوا فيها بحكم العدم ، ثم

٢٣١

انتعشت جمعيتهم بعد سبي بابل كالطفل المولود جديدا ، وليس لهم من يذكر لهم شيئا من كتب أسلافهم إلا عزرا ، فصارت جمعيتهم بعد ذلك تتطلب آثار أسلافها فتحتفل بما يخادعها به الوقت احتفالها بالحقائق حيث تموّه عليها الأماني والحرص على آثار السلف انه هو ضالتها المطلوبة ، «وانى وقد عصفت عليها عواصف البلا» فتداركوا التفريط بالإفراط ، فلا عذر لأحد عند الله في الاعتماد على اتفاقهم مع ما لله علينا من الحجج وأيسرها ما نشاهده من تعبد اليهود في جميع نسخ العالم لكتاب العهد القديم العبراني بالوضع المملوء بالغلط الفاحش بجميع أنواع الغلط ، كما يعرف ذلك من متنه والتراجم والحواشي والقرائن القطعية فتعلم من ذلك بالعلم اليقين انهم أخذوا جميع ما عندهم من نسخة واحدة مشوهة بما يملأها من الغلط فاحتفلوا بها بالتعبد بصورتها ، كما ذكرنا ، «فان قلت» ان تعبدهم بأجمعهم بصورة النسخة المغلوطة التي تذكرها لا ينافي وجود نسخ صحيحة كثيرة في وقتها ، «قلت» إذا جوزت عليهم هذا الفرض كان البلاء أعظم ، فان كل سبب تفرضه لصرفهم عن النسخ الصحيحة الى التعبد بهذه النسخة المغلوطة بهذا الغلط الفاحش هو كاف في سخافة الاعتماد على نقلهم واتفاقهم ، فتحر رشدك وافتكر في هذا الشأن.

وأما المسيحيون فلا تغتر بحرية أفكارهم وانتشار كتبهم في هذه الأدوار ولا تتوهم ان قديمهم كحديثهم في حرية الفكر وانتشار الكتب وتتداول البحث بين عموم جامعتهم لكي تتوهم من اتفاقهم شيئا ، بل ان أفكارهم في أمر الديانة والكتب في القديم كانت مستعبدة لأحكام المجامع المؤلفة من بعض الأساقفة بحكم الامراء والسلاطين لقطع النزاع ، وسد باب البحث في مبادي الديانة واعتبار الكتب.

ولا يلزم أن نقول ان هؤلاء كانت تلجؤهم الدواعي الى التواطؤ على تسليم أمر مشكوك أو ممنوع ، بل يكفي ان نقول ان الشواهد وكلمات كتابهم تكشف لنا عن ان مبادئ آرائهم المتفقة في أمر الكتب هي أمور اعتبارية ، أقواها اتفاق اليهود على الكتاب الفلاني من العهد القديم ، «وقد عرفت حال كتبهم وحال اتفاقهم فيها» ، أو مشابهة بعض ألفاظ الكتاب لكلمات الاسقف

٢٣٢

الكبير الفلاني والعالم الكبير الفلاني في القرن الثاني أو الثالث أو الرابع ، أو استشهاد الاسقف الفلاني ببعض فقرات الكتاب ، أو اشتمال التاريخ على مضامين الكتاب.

كما ان هذه الامور غاية ما أمكن المتكلف أن يأتي به لتصحيح كتبه ، كما تعرفه من كتابه في الجزء الأول ص ٧٩ ـ ١٥٧ والجزء الثالث والجزء الرابع ص ٢ ـ ١٥٥.

وهب انا وثقنا وعلمنا بصحة نقل الاستشهاد عن الأساقفة القدماء ، واعتمدنا على استشهادهم ولكن ذلك بعد اللتيا واللتي لا يفيد إلا الظن التقليدي بصحة خصوص ما استشهدوا به من الفقرات ، وأما سائر الكتاب فهو في رهن الشك والريب إن لم يمنع من صدقه مانع داخلي أو خارجي ، بل وكذا لو أشار ذلك الاسقف الى اسم الكتاب فمن أين يحصل الاطمئنان بأنه هو هو وقد مضت قرون كثيرة وأمر الكتب والنظر فيها ممنوع على عموم الملة مختص بأناس مخصوصين.

وقد وجدنا التحريف البديهي في التراجم والمطابع حينما تحررت الأفكار وانتشرت الكتب بيد العامة وصارت منظورة للعموم تتراصد عليها فرق الروم والكاثوليك والبروتستنت ، فوا غوثاه لها إذ كان أمرها مختصا بأناس معدودين ممنوعا عن نظر العموم ...

وقد توفق المتكلف والمتعرب لأن يكون من فعليهما في كتابيهما شاهد صدق على وباء التحريف.

وكذا الكلام في التاريخ فانا لو فرضنا ان التاريخ القطعي قد وافق السفر الفلاني في طرف من منقولاته فكيف تتم الشهادة على ان ذلك السفر كله صحيح لا ريب فيه.

ومن ذا يرضى لنا أن نقول بأن عيد الثعالب في شهر ابريل عند سكان روما هو مأخوذ من قصة شمشون في سفر القضاة «١٥ ، ٣ ـ ٦».

فكل سفر القضاة إذا حق لا ريب فيه ، كلا لا يرضى أحد منا بذلك ،

٢٣٣

بل يقال لنا : ان هذا التقدم في المعرفة قد اخذ امتيازه المتكلف «يه ١ ج ص ١١١».

وأيضا لو كان سفر القضاة تصنيف صموئيل لكان ينبغي أن يتم فيه تاريخ بني اسرائيل الى زمان التصنيف ، ولا يقطعه في أثناء المدة الفاصلة بينه وبين تاريخ سفر يوشع فيقطعه على حرب بني اسرائيل لقبيلة بنيامين مع ان بين هذا الحرب وبين موت صموئيل بمقتضى تقويم أهل الكتاب نحو ثلاثمائة وست وأربعين سنة ، ولا أقل من أن يكمل التاريخ الى حين تمليك شاول ، ولا يقطعه قبل ذلك بنحو ثلاثمائة وعشرين سنة ، وهذا كاف في نفي نسبته الى صموئيل فضلا عما ذكرناه.

سفرا صموئيل

«ورابعا» لو أعرضنا عن جميع ما ذكرناه في أسفار العهد القديم لقلنا يكفي كون المصنف لكتاب صموئيل الأول مجهولا ، فيجوز أن يكون ممن يجوز عليه أن يكون جاهلا بقصة طالوت وجيشه في ابتلائهم بالنهر ، ولا تغتر بتسمية الكتاب باسم صموئيل فتقول انه تصنيف صموئيل النبي كما زعم المتكلف جازما به «يه ٤ ج ص ١١٧» قائلا ان سفري صموئيل النبي نزلا عليه وهما معنونان باسمه ، فان هذا من الغلط الفاحش وذلك لأن اوّل الاصحاح الخامس والعشرين من صموئيل الأول يذكر موت صموئيل النبي ، واستمر بعد ذلك في سبعة اصحاحات يذكر الحوادث التي وقعت بعد موته الى حين موت شاول فكيف يكون الكتاب تصنيف صموئيل النبي.

وزد على ذلك ان سفر صموئيل الثاني كله في تاريخ ما وقع بعد وفاة صموئيل النبي بعدة سنين.

فاعتبر بهذا وتفطن الى ان بعض الناس لا يتحاشون عن الجزم بنسبة الكتاب الى النبي وإن خالف المعقول ، ولله عليك بهذا حجة.

وقال الله جل اسمه في سورة الأنبياء ٧٨ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ ٧٩ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ

٢٣٤

وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ).

فذكر المتكلف رواية بأن داود قضى بقضاء وخالفه سليمان فعدل داود الى قضاء سليمان ، فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ٩١» ، وقال لا يعقل ولا يتصور ان سليمان كان يتعقب أحكام والده ، وكيف يرضى داود بتغيير الحكم أمام رعيته.

قلت : جاء في تفسير علي بن ابراهيم بسند صحيح معتمد عن أبي عبد الله الصادق وهو الإمام السادس من أهل البيت أحد الثقلين اللذين لن يفترقا : ان المتحاكمين في هذه الواقعة جاءا الى داود فقال : اذهبا الى سليمان ليحكم بينكما ، وأراد بذلك أن يعرف بنو اسرائيل ان سليمان وصيه من بعده فذهبا الى سليمان فحكم بينهما ، فكان حكم داود كذلك ، ولم يختلفا ولو اختلفا لقال الله تعالى وكنا لحكميهما شاهدين بتثنية الحكمين ، فدل توحيد الحكم على ان ذلك الحكم الواحد هو حكمهما معا.

وأما قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ، فليس المراد منه تخصيص فهم الحكومة بسليمان دون داود ، بل المراد بيان النعمة على سليمان بتفهيمه تلك الحكومة حين لم يكن قد جاءته كأبيه داود نوبة النبوة والسفارة الإلهية وتسديد الإلهام في لوازم الرئاسة الدينية ، وفصل القضاء ، بل كانت هذه النوبة لداود ، وكل منهما قد حباه الله بهذه النوبة في وقته ، وآتاه حكما وعلما مؤيدا له في نوبته.

ثم نقول للمتكلف الذي يقول ان كتب العهدين كلام الله السميع العليم كيف يقول لا يعقل ولا يتصور ان سليمان كان يتعقب أحكام والده ، أيقول ذلك لأجل ورع سليمان وديانته ، نعم وهو الورع الذي علم الله أهليته للنبوة ولكن كتاب وحي المتكلف يقول : ان سليمان كان له سبعمائة زوجة وثلاثمائة سرية «١ مل ١١ : ٣» وهذا محرم في التوراة على الملك في اسرائيل «تث ١٧ ، ١٤ ـ ١٨».

ويقول : انه «وحاشاه» ذهب وراء الأصنام وبنى لها المرتفعات وآثار العبادة «١ مل ١١ ، ٤ ـ ١١».

٢٣٥

فمن كان يصدر منه هذا فكيف لا يعقل ولا يتصور ان يتعقب أحكام والده ، أم يقول المتكلف ان هيبة داود وسطوته كانت تمنع من ذلك بحيث يكون مما لا يعقل ولا يتصور.

قلنا : فإن كتاب إلهامك يقول : ان ابشالوم بن داود أيضا فعل ما هو من هذا النحو وأعظم وأشنع ، «انظر ٢ صم ١٥ ـ ١٨» ، وانظر من ذلك «١٦ ، ٢٠ ـ ٢٣».

وأما قول المتكلف «وكيف يرضى داود بتغيير الحكم أمام رعيته» ، فليس له ان يفصل القضية فيه بالإنكار ويقول «كيف يرضى» ، بل عليه ان يردد في كلامه ويقول : يبعد من داود عليه‌السلام ان يخطأ نفسه ويعدل الى حكم العدل ان صح ما يذكره العهد القديم من فعله مع اوريا وامرأته «٢ صم ١١» واغضائه عن ابنه آمنون وما فعله بأخته «٢ صم ١٣» واغضائه عن ابشالوم ابنه وبكائه وجزعه عليه «٢ صم ٨ ، ٢٩ ـ ٣٣» ، مع ما أشرنا إليه من فعل ابشالوم.

وينبغي لداود أن يعدل الى حكم العدل ، ولا يبالي بتخطئة نفسه ، إذا صح عنه ما ذكره العهد القديم عن قوله الإلهامي ، لأني حفظت طرق الرب ولم اعص إلهي «٢ صم ٢٢ ، ٢٢ ومز ١٨ ، ٢١».

تسبيح الجبال والطير مع داود

واعترض المتكلف أيضا على قوله تعالى في الآية المتقدمة (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ).

فقال : ان الذي خص بالعقل والبيان ، والإعراب عما في الجنان هو الانسان فقط لا الجماد ولا الحيوان ، وقال أيضا «يه ٢ ج ص ١٠٥» ان الجبال والطير لم تسبح ولن تسبح ، وإنما لسان حالها ناطق بحكمة الله وقدرته وجودته.

قلت : قد جاء في الزبور الرائج : تسبحه السموات والأرض والبحار وكل ما يدب فيها «مز ٦٩ : ٣٤» يمجدني حيوان الصحراء الذائب وبنات النعام «١ ش ٤٣ ، ٢٠».

٢٣٦

وفي المزمور المائة والثامن والأربعين (١٤١) ما ملخصه : سبحيه أيتها الشمس ، والقمر ، والكواكب ، وسماء السموات ، والمياه التي فوق السموات والتنانين ، وكل اللجج ، والنار ، والبرد ، والثلج والضباب ، والجبال والآكام والوحوش ، وكل البهائم والطيور ، وملوك الأرض ، وكل الشعوب والاحداث والعذارى والفتيان.

وفي تاسع عشر لوقا ٣٨ ـ ٤١ لما كان التلاميذ يسبحون الله قائلين : مبارك الملك الآتي باسم الرب ، فقال بعض الفريسيين للمسيح انتهر تلاميذك ، فقال لهم : أقول لكم إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ.

وان مثل هذه الامور ليست بجميع أنحائها مما كانت المقدمات البديهية تستلزم الحكم بامتناعها ، ولا سبيل في ذلك حتى للطبيعي فانها يمكن أن تكون لها حقائق غيبية لا يمس الجحود الأعمى شرف امكانها وحقيقتها ، فإن من أودع في الأشياء قوة ينشأ منها مثل التلغراف والفونغراف وسائر الآثار العجيبة. وأودع في الحيوان والانسان ما نجده من القوى لا يمتنع عليه «سواء كان إله حق قادرا أو طبيعة عمياء» ان يودع في الأشياء قوة ينشأ عنها التسبيح وشبهه على نحو ممكن ، ولكنه لا يمكن اكتشاف غيبه بقوى البشر العادية إلا برصد النبوة وإعلان الوحي ، كما لا تنكشف القوى الكهربائية والكيماوية إلا بالخوض في حكمتها بالبحث ومزاولة التجربة.

وقد اخبرت كتب الوحي بهذه الحقيقة الغيبية ، فليس لمن يقبل تلك الكتب أن يجحدها ، بل ان الطبيعي الجاحد لكتب الوحي لا يصح في أصوله فيما يشبه هذه الامور إلا أن يقول لم تثبت ولم يدل عليها دليل ، أو لا سبيل الى إثباتها وإن أمكن ثبوتها.

وقال الله تعالى في سورة سبأ ١٠ : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠٥» لم يسمع ان داود كان حدادا وان الله الآن له الحديد.

٢٣٧

قلت : لم يكن داود بهذه الكرامة حدادا ، بل كان ملكا نبيا حباه الله بهذه الكرامة ، وان بعض السلاطين العظام في هذا القرن من جملة كمالاته انه ممتاز في عمل النجارة ، وربما يشرف امرأته من عناياته بصناديق صغار بديعة الصنعة للمحابر ونحوها حيث تشرفت بعنايته ، فلا يقال لهذا الشخص الكبير انه نجار ، فكذا لا يقول أحد ان داود كان حدادا ... واما «ان الله الآن له الحديد» ، فلا يسمع به سماعا شافيا من أوقر التعصب على القرآن اذنيه.

فمن أين يسمع المتكلف ويذعن بذلك ، والحال ان القرآن كلام الله عدوه في تثليثه وطريقة تبشيره ، وان منقولات اليهود طالما يقول انها خرافة ، وأما منقولات العرب فهو يتصامم عنها ، فلم يبق إلا العهد القديم ، وتاريخ الوثنيين القدماء من الغربيين.

أما العهد القديم فقد ذكرنا لك قريبا ان سفري صموئيل الأول والثاني لا يمكن أن يكونا من كتابة صموئيل النبي ، لأن اكثر ما ذكر في تاريخ شاول وداود في السفر الأول وجميع تاريخ داود في السفر الثاني إنما كان بعد موت صموئيل النبي ، فهما إذا كتابان نكرتان من أصلهما فضلا عن تلاعب الأيام بهما وتعدد مواليدهما ، فمن هو كاتبهما حتى يقال كتب أو لم يكتب ، ومع ذلك فهو مشغول بحكاية آمنون مع اخته ثار ، وداود مع اوريا وامرأته وابشالوم مع سراري أبيه ، فالأنسب بحال هذين أن لا يذكرا مثل هذه الكرامة لداود .. وأما الغربيون فزيادة على وحشيتهم العامة في ذلك الزمان لم تكن لهم علاقة مع الشرق ولا تردد يذكر.

وإنما حدث التردد والارتباط بعد ذلك لليونان والرومانيين بعد قرون متطاولة تزيد على الستمائة سنة.

وزيادة على ذلك ان هذه الكرامة مما تنفر منه اصول الوثنية ، فلا يمكن أن تدخل في تاريخ الوثنيين ، ولا تناسبه ، بل لو وقفوا عليها لتصامموا عنها ...

فهل تجد ذكرا في تاريخ الوثنيين من المصريين والغربيين لمعجزات موسى الظاهرة بين ألوف من الناس.

٢٣٨

فهل تجد ذكرا لشق البحر وعبور بني اسرائيل من وسطه والماء عن يمينهم ويسارهم ، كما ذكرته التوراة ، أم هل تجد ذكر الحديث تعيشهم من المن أربعين سنة في البر ، ولم تبل في هذه المدة ثيابهم ونعالهم «تث ٢٩ ، ٥» وهل تجد ذكر الحديث انفجار الماء من الصخرة معجزة لموسى بسبب ضربة لها بالعصا عن أمر الله حتى شرب بنو اسرائيل وسقوا إبلهم وأنعامهم ، وهم مئات من الألوف.

أم هل تجد في تاريخ الوثنيين ذكرا لأعمال المسيح كما تذكره الاناجيل من احياء الموتى وشفاء العمى والخرس والمرضى؟ كلا لا تجد شيئا من ذلك ، فان الناس لا يكتبون شيئا يناقض اصولهم ، بل ان كثيرا ممن يقول بنبوة موسى ووحي التوراة قد خالف التوراة وأخرج حادثة شق البحر عن موضوعها الأصلي ، وكونها آية لموسى ، بل جعلها من حادثة المد والجزر ، والمتكلف أيضا اعترض على القرآن في قوله : ان موسى ضرب الحجر فانفجرت منه المياه ، وقال «يه ٢ ج ص ١٦» : والصواب ان الصخرة انفجرت ماء.

* * *

وقال الله جل اسمه في سورة سبأ ١١ : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ١٢ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠٥» لم يسمع أحد أن سليمان كان يطير على الرياح ، وانه كان ينتقل من مكان الى آخر في طرفة عين ، ولم يسمع تليين النحاس له أو انه كان بأرض اليمن ، فان سليمان كان في اورشليم وان الذين بنوا الهيكل هم العملة لا الجن ، فان الجن اسم بلا مسمى.

قلت : ان غرض القرآن الكريم هو بيان النعمة على سليمان والتكريم له بتسخير الريح لأمره بحيث يكون غدوها شهر ورواحها شهر ، ومع عظيم هذه النعمة والكرامة فلا مداخلة في هذا الغرض لبيان كيفية تسخير الريح ، وكيف يتصرف بها ومن أين تغدو وإلى أين تروح ، وبأي شيء تجيء وبأي شيء

٢٣٩

تذهب ، فانه لا مداخلة لذكر هذه الخصوصيات إلا في التاريخ المحض الذي ليس من وظيفة القرآن الكريم.

وأما الأحاديث الآحادية المختلفة فلا تكون حجة قاطعة في تعيين مراد القرآن حتى يقال فيه كيف ، ولما ذا.

ولا يلزم أن يكون تسخير الريح لسليمان من الحوادث التي يلزم أن يعلم بها كل أحد وتسطر في كل تاريخ ، بل يجوز أن تكون تجري في مقاصد سليمان حسب أمره على نحو يحسب عامة الناس انها تجري بهبوبها الطبيعي.

«فإن قلت» لو كان لذلك أصل أو أثر لذكرته كتب الوحي المتعرضة لأحوال سليمان وتاريخه من كتب العهد القديم كسفر الملوك الاول وسفر الأيام الثاني ، فان مثل ذلك بجميع أنحائه لا يخفى على الأنبياء ، ولا ينبغي أن يهملوا ذكره.

«قلت» : انا نجاريك في أول الكلام على غرتك فنقول لك : ان سفر الملوك الاول صريح في انه لم يستوف تاريخ سليمان ، لأنه يقول في آخر تاريخه ما نصه : «وبقية أمور سليمان وكل الذي صنعه وحكمته أما هي مكتوبة في سفر أمور سليمان «١ مل ١١ ، ٤١» ، ولا تقل ان سفر امور سليمان المشار إليه هو سفر الأيام الثاني ، وذلك لأن سفر الأيام الثاني غير مختص بأمور سليمان حتى يسمى بها ، بل يذكر ملوك يهوذا من سليمان الى سبي بابل.

وأيضا فانه لم يستوف ما ذكره سفر الملوك الاول في أمور سليمان ، ولم يزد عليه بشيء ، فانظر «١ مل ٢ ، ١٢ ـ ١١ ، ٤١ ، و ٢ ، اي ١ ـ ٩».

نعم قد يختلفان في شيء غلطا على أحدهما أو كليهما في النقل ، كما تخالفا في نقلهما لصلاة سليمان ، «انظر ١ مل ٨ : ٥٠ ـ ٥٤ ، و ٢ اي ٦ ، ٣٩ ـ ٤٢».

والذي يزعم ان سفر الملوك الاول من كتب الوحي فانه يتجه عليه الاحتجاج من نفس السفر المذكور على أمور ، وهي ان النبي وكتاب الوحي قد لا يستوفي التاريخ ، وان سفر الملوك الاول لم يستوف تاريخ سليمان وان هناك

٢٤٠