الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

وأما ان موسى عليه‌السلام مشهور بالحلم والوداعة ، فهو لعمر الله رسول الله وكليمه وصفيه ، معلم الكمال ومهذب البشر ومؤدبهم ، العارف بمواقع الحلم ومواقع الحزم والشدة في ذات الله ووظيفة الرسالة وحكمة التبليغ والإنذار ، وهو أجل شأنا وأعلى قدرا من أن يعتمد في كماله على مجرد الشهرة.

ولكن لا يتيسر الإذعان بذلك مع الإذعان بصحة ما في العهد القديم ، فانه قد قرف قدس موسى عليه‌السلام بما لا يصدر إلا من فظ غليظ القلب سيئ الخلق سيئ الأدب سيئ المعرفة بالله ، فنسب الى موسى وحاشاه انه لما أرسله الله الى فرعون رد الرسالة بلسان خشن وكرر الرد مع احتجاج الله عليه ووعده له بالتأييد حتى حمي غضب الله عليه «خر ٤ ، ١٠ ـ ١٥» وانه قال الله : لما ذا أسأت الى هذا الشعب «خر ٥٥ ، ٢٢» لما ذا أسأت الى عبدك «عد ١١ ، ١١» وتحكم على الله بالغفران لعابدي العجل ، وقال لله : الآن ان غفرت لهم وإلا فامحني من كتابك «خر ٣٢ ، ٣٢».

ولما وعده الله بإشباع بني اسرائيل من اللحم رد على الله كالمستهزئ بوعده المنكر لقدرته ، فقال : ستمائة ألف ماش هو الشعب الذي أنا في وسطه ، وأنت قد قلت أعطيهم لحما ليأكلوا شهرا من الزمان ، أيذبح لهم بقر وغنم ليكفيهم؟ أم يجمع لهم سمك البحر ليكفيهم؟ فقال الرب : هل تقصر يد الرب «عد ١١ ، ٢١ ـ ٢٣».

وقالت المزامير : ان موسى وحاشاه فرط بشفتيه «مز ١٠٦ ، ٣٣» ، وانظر الجزء الأول صحيفة «١٢٥ ـ ١٣٢» ، أفيقول المتكلف : ان الحلم والوداعة والأدب لا تليق من موسى مع الله ، كما تليق منه مع فرعون في مقام الدعوة والانذار.

ولعلك تسأل وتقول : لما ذا لم تذكر التوراة شيئا من مكالمات موسى لفرعون في الوعظ والانذار الذي لا بد منه في هذا المقام ، ولما ذا اهملت ذكر المكالمات فيما أشرت إليه في أول الجواب؟ فنقول لك : ان التوراة الرائجة قد أبدلتها صروف الأيام عن مثل هذا بأشياء قد حكّمنا فيها وجدانك فإن شئت جعلتها من حقائق العرفان وإن شئت جعلتها من خرافات الهذيان ، وذلك انها ذكرت كلام الله مع موسى في حوريب ومدين وإرساله الى فرعون ووعده بالتأييد

٢٠١

ليخلص بني اسرائيل من العبودية ، وان موسى رجع الى مصر حسب أمر الله ووعده له.

ثم قالت : وحدث في الطريق في المنزل ان الله التقاه ـ أي التقى موسى ـ وطلب أن يقتله ، فأخذت صفورة صوانة ، وقطعت غرلة ابنها ومست رجليه وقالت : لأنك عريس دم أنت لي فانفك عنه حينئذ «خر ٤ ، ٢٤ ـ ٢٦».

وقد اقتص الله في سورة الاعراف من الآية «١١٠ ـ ١٢٧» قصة موسى مع فرعون ومع السحرة وحسن عاقبتهم ووعيد فرعون لهم ، ووعيده أيضا لبني اسرائيل ، وتسلية موسى لهم وأمرهم بالصبر وبشارتهم بالفرج ، وذكر في سورة طه ٧٠ ـ ان موسى لما جاء السحرة بسحرهم أوجس في نفسه خيفة ، فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٥٢ و ٥٣» على مضامين القرآن الكريم في ذلك باعتراضات منشأها ان توراته الرائجة لم تذكر ما ذكره القرآن الكريم في قصتها البتراء.

وقد عرّفناك حال توراته في قصصها ، وسنزيدك إن شاء الله معرفة في انها تهمل المهم في الذكر وتطيل في الفضول الفارغة ، ونسبة المثالب الشنيعة الى الأولياء وعائلاتهم ، وفي الخرافات الكفرية ..

فاعترض على قوله تعالى حكاية عن قول السحرة لفرعون ١١٠ : (إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ).

فقال المتكلف : ان هذا لا يتصور حصوله لأن فرعون كان ملكا مستبدا يفعل بقومه ما يشاء ، والذوق والأدب يقضيان بعدم إبرام شرط مع الملك.

قلت : لم يقل القرآن ان السحرة اشترطوا على الملك وقالوا : ان لم تعطنا أجرا فانا لا نفعل ولا كرامة لك ، بل طلبوا منه الجائزة وأرادوا بذلك ان يثبتوا قلوب فرعون ورعيته على الاطمئنان بغلبتهم لموسى ، ولعل هذا من بعض مقدماتهم في سحرهم وشعبذتهم.

والتوراة الرائجة ادمجت هذه القصة ادماجا سمجا لا يليق بالكتاب المتصدي لبسيط التاريخ حيث اقتصرت على قولها : فدعا أيضا فرعون

٢٠٢

الحكماء والسحرة ففعل أيضا عرفوا مصر بسحرهم كذلك «خر ٧ ، ١١» فلم تذكر ما يلزم في العادة أن يجري من الكلام بين فرعون وبينهم ولا أقل من أمر فرعون لهم بمقابلة موسى بسحرهم ، وحثهم على اتقان السحر لكي تتم له المقابلة ، فإن مثل الساحر في هذا المقام يحتاج الى الحث والترغيب في اتقان عمله ، لكي ينصح فيه ، فانه من الأعمال الخفية التي يجوز أن يقصر فيها ، ويقول هذا حد مقدوري ..

واعترض المتكلف أيضا على قوله تعالى في سورة طه ٧ : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) ..

فقال : لم يرد في كتاب الله ان موسى جزع وخاف من شعوذة السحر وهو يعرف كذبها ، هذا فضلا عن بسالته.

قلنا : «أولا» ان توراته لم تذكر في قصصها البتراء ان موسى ارتعد أو ارتعب عند ما كلمه الله في حوريب في عليقة النار «خر ٣ ، ١ ـ ٦» وفي جبل سينا «خر ١٩» ، مع ان العهد الجديد يذكر ان موسى ارتعد في الكلام الأول «ا ع ٧ ، ٣٢».

وقال في الكلام الثاني : أنا مرتعب ومرتعد «عب ١٢ ، ٢١» ، وان ارتعاد موسى وارتعابه في هذين المقامين أهم الامور بالذكر في مثل التوراة ، فما ذا تقول بكتاب يهمل مثل هذا ويشتغل بالسفاسف؟.

«وثانيا» ان القرآن لم يقل ان موسى جزع وخاف واضطرب وإنما قال : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً) بتنكير خيفة ـ أي أحس بشيء من الخيفة ـ وهو كناية عن قلة الخيفة وزوالها.

ولم يقل القرآن ان موسى ارتاع وخاف من هول السحر ، بل ان موسى الرسول الأمين الحريص على هدى الناس ، وإجراء أحكام الله اختلج في نفسه شيء من خوف أن يفتتن الناس بتمويه السحر فيستحكم الضلال وتقف معجزته عن تأثيرها المطلوب.

ويدل على ذلك ان الله جل شأنه آمنه بقوله جل اسمه ٧١ : (لا تَخَفْ

٢٠٣

إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) في برهانك ومعجزتك الحقيقية ، فلا تخف الفتنة على الناس فإن الله مسدد أمرك.

ولم تقتض الحكمة امتحان الناس ٧٢ (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) مما لا حقيقة له فينجلي الريب ويحق الله الحق ويمحق الباطل وتزول ظلمة الشك ويسفر صبح اليقين ويعلى الله برهانك (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) ، يعرف الناس انه زبرج وتمويه إذا أزال الله معثرته وأبطل صورته وأيد اعجاز آيته جل اسمه : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) ، بل يرد الله كيده ويخذله في باطله.

واعترض المتكلف أيضا على نقل القرآن لإيمان السحرة لما تحققوا معجزة موسى.

فقال : لا يتصوران عبيد فرعون يؤمنون برب موسى ، ويخالفون فرعون الملك المطاع صاحب الدولة والشوكة الآمر الناهي ، وموسى كان بلا جاه ولا قوة.

قلت «أولا» : ان توراة المتكلف مع تفريطها في بيان الحقائق قد أشارت الى إيمان السحرة ، إذ ذكرت انهم قالوا لفرعون في معجزة البعوض : «هذا اصبع الله» «خر ٨ ، ١٩» ، وهذا إيمان منهم بالله وتصديق بمعجز رسوله.

«وثانيا» ان الايمان المنبعث عن هدى وبصيرة لينهض بالمؤمن الى نصرة الحق بإظهاره فلا يصده خوف من ظالم ولا محاذرة من الشدائد والعطب ولا طمع في أكل أموال الناس بالباطل .. فإن الذين أسلموا مع رسول الله عليه‌السلام وآمنوا بدعوته لم يصدهم عن المجاهرة بإيمانهم خوف بلاء أو شدة أو عطب أو حب مال أو ولد أو وطن أو عزة عشيرة ، بل استقبلوا البلاء والشدائد وجبال الحديد ونيران الحروب بمهجهم وأرخصوا في سبيل الله كل عزيز ، كما هو معلوم بشهادة الاثر المتواتر.

فلا تقس أيها المتكلف كل الناس على تلاميذ المسيح فيما تذكره عنهم أناجيلكم من انهم لم يواسوا المسيح في الشدة ولم يدافعوا عنه ، بل هربوا وتركوه

٢٠٤

وحده ، وأنكره بطرس وصار يحلف ويلعن ، مع ان المسيح حذرهم من ذلك إذ أخبرهم به وبأنهم كلهم يشكون أو يعثرون به ، انظر الجزء الأول صحيفة ٦٢ و ٦٣.

إذا انبجست دموع من عيون

تبين من بكى ممن تباكى

والناس ألف منهم كواحد

وواحد كالالف ان خطب عرى

واعترض المتكلف على حكاية القرآن الكريم ١٢١ لتهديد فرعون للسحرة الذين آمنوا.

وهذا الاعتراض من الظرائف ، فان المتكلف يعترف بأن فرعون ملك مستبد يفعل بقومه ما يشاء وهو صاحب السطوة والشوكة ، إذا فما يمنعه من تهديد الذين فتوا بايمانهم في عضده وابطلوا تدبيره وضعفوا سلطانه ، أيقول المتكلف ان فرعون أقوى ايمانا وأرأف قلبا أو أقل قدرة من «قيافا» رئيس الكهنة النبي يقول انجيلهم «يو ١١ ، ٤٩ ـ ٥٢» ، فلا يفعل فرعون بالسحرة مع نكايتهم في سياسته ومملكته ، كما فعله قيافا والكهنة بالمسيح على ما تزعمه الاناجيل ، أم يقول المتكلف : ان فرعون أبر من ذلك حتى انه لا يصح على بره ان يتوعد السحرة المؤمنين ولا يروعهم بالتهديد.

واعترض المتكلف على حكاية الله لقول فرعون بعد دعوة موسى وظهور معجزاته وايمان السحرة في تهديده لبني اسرائيل الذين قاسى من أجلهم هذا الاغتشاش في مملكته ، ولامه الملأ من قومه على الإبقاء عليهم وخوّفوه عاقبة أمرهم ، فقال في سورة الاعراف ١٢٤ : (سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ).

فقال المتكلف : ان قتل الذكور واستحياء النساء كان قبل ولادة موسى.

قلت : لم يقل القرآن ان فرعون في هذه الواقعة قتل أبناءهم واستحيى نسائهم ، وإنما ذكر ان فرعون توعّدهم بأنه سيفعل ذلك في المستقبل اغترارا بقوته وسطوته ، ولكن موسى هون على قومه وعيد فرعون ووعدهم بالنجاة والعافية والرفاهية والفوز بعاقبة الصبر.

٢٠٥

فقد ذكر القرآن الكريم انه ١٢٥ (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ) على فرعون وغيره ممن يبغيكم بالسوء (وَاصْبِرُوا) ولا يستخفكم الهلع أو يهولكم الوعيد أو تحسبوا انكم لا مأوى لكم من الأرض تستريحون به من ذلة العبودية وتأمنون به من سلطان الجور (إِنَّ الْأَرْضَ) كلها (بِاللهِ) وبيده أمرها (يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهو قادر على أن يجعل لكم منها ميراثا تتبوءونه بالأمن والعزة ، وان ذلك بلغة الحياة الدنيا ونعيم زائل من ورائه الحساب ويوم الدين (وَالْعاقِبَةُ) المرضية إنما هي (لِلْمُتَّقِينَ) لا لكل من ورث الارض ١٢٦ (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا) قال موسى ما معناه : لا تيأسوا من رحمة الله وفرجه ونصره (عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ) أي كل من ينصب لهم العداوة ويبتغي بهم السوء.

فلم يسمّ القرآن خصوص فرعون وقومه ، بل العموم أنسب بالامتنان وأحسن في البشارة خصوصا إذا كانوا موعودين بالخروج من مصر ، (وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ) بعد معاديكم ، ولم يسمّ القرآن أرض مصر ولا غيرها ، ولكن ينبغي أن يكون مراد موسى غير أرض مصر ، فان ذلك هو المناسب لأمر الله ، وهارون أن يرسل معهما بني اسرائيل ، كما في سورة طه ٤٩.

وأمر موسى لفرعون بذلك كما في سورة الأعراف ١٠٣ ، وقد حقق الله رجاءهم وأنجز وعده وقال جل شأنه ١٣٣ : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ) وهي التي في شرقي الاردن (وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا).

وبما ذكرناه تعرف شطط المتكلف في اعتراضه ، «يه ٢ ج ص ٥٣ س ١١ ـ ١٦».

وقال الله تعالى في ذكر البلايا التي عذب بها المصريين ١٠٠ : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ) ، والمراد به زيادة النيل وطغيانه فوق عادته بحيث أضر بزرعهم وغرسهم ومساكنهم وعمارتهم.

ولم يقل القرآن انه ارسل عليهم مثل طوفان نوح الذي أهلك جميع الناس

٢٠٦

بالغرق إلا من نجي بالسفينة ، ولكن المتكلف كأنه توهم هذا وحاول أن يموه به اعتراضه حيث قال جازما.

ان الله لم يرسل على المصريين طوفانا فأغرقهم.

حتى كأنه لم يدر بما هو معلوم ان النيل إذا زاد ارتفاع مائه عن المعتاد بكثير تسبب عنه الغرق.

وان المقاييس التي في بلاد السودان تأتي منها الأنباء البرقية عند طغيان النيل لكي تؤخذ الاحتياطات اللازمة في وقاية البلاد من غوائله ، وأنه لم يسمع من مشاهير المهندسين ان المخزن الذي أوجده الفراعنة في وادي الريان من اقليم الفيوم إنما كان ليأخذ من ماء النيل عند الطغيان ، ليخفف عاديته عن البلاد.

وقال الله تعالى في سورة القصص ٥ : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ) أي من بني اسرائيل (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) ٧ (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ).

فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ١٠٢» وقال والحقيقة هي ان هامان كان وزيرا للملك احشويروش.

قلت : وينبغي له في تكملة شططه في اعتراضه أن يقول : وان وزير احشويروش هذا وإن كان في الزمان الذي بعد سبي بابل ، ولكنه قد اخذ امتيازا من الله بهذا الاسم فلا يمكن أن يسمى غيره «هامان» من أول الدنيا الى آخرها.

وبمثل هذا الشطط اعترض على القرآن الكريم في تسميته «مريم» أم المسيح بابنة عمران واخت هارون ، فزعم بتوقد فهمه أو بحرية ضميره ان القرآن الكريم أراد بذلك هارون أخا موسى وعمران أباهما ، وكان ذلك لأجل اخذهما الامتياز الذي ذكرناه ، فوا اسفاه على التقوى والأدب ... نعم من لا يتحاشى من الاحتجاج بالانجيل على ان أبا مريم اسمه «هالى» فانه لا يرى عليه حرجا فيما يقوله «انظر يه ٢ ج ص ٣٥».

وقال الله تعالى في سورة يونس ٩٠ (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ

٢٠٧

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ، ٩١ (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) ، ٩٢ (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً).

وقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٦٣» ما حاصله ان التوراة تعلمه ان فرعون لم يؤمن برب موسى حتى في الساعة الأخيرة ، ولا يتصور ايمان فرعون الذي صرف حياته في الاستبداد والظلم ، وان الله لا يقبل مثل هذه التوبة الوقتية الناشئة من الخوف.

ولم يرد خبر في التوراة عن غرق فرعون ، وأيدت التواريخ ان فرعون موسى لم يغرق لأنه لم يخرج مع جيشه.

قلنا : ان توراة المتكلف لما جاءت الى سعي فرعون وراء بني اسرائيل غمغمت أمر غرقه وادمجت الحال ادماجا يخل بالمقام ، فلم تحسن الموعظة ولا بيان القصة ، كما اهملت ذكر مكالماته مع موسى ، كما قدمناه ، وغاية ما صرحت به من فعل فرعون انه سعى وراء بني اسرائيل واقترب منهم بحيث يرونه وهم عند فم الحيروث في المنزل الثالث من منازلهم ، ومنه ارتحلوا وعبروا البحر.

وغاية الأمر انها لم تتعرض لذكر توبة فرعون عند ما أدركه الغرق ، كما لم تذكر عدمها ، انظر رابع عشر الخروج فانك ترى ان دعوى المتكلف في كلامه للعلم إنما هي شهادة على العناد أو الجهل.

وهب ان توراته صرحت بعدم ايمان فرعون ساعة الغرق فقد عرّفناك وستزداد معرفة إن شاء الله ان التوراة الرائجة لم تبق لها الأيام بتلاعبها مجدا تعارض به واحدا من التواريخ.

«وأما قول المتكلف لا يتصور ايمان فرعون ، الى آخره» ، فانا نعذر فيه المتكلف في تصوره ان جد في انكاره ، ولكنا نسأل عن ذلك من لم تمنعه الموانع عن تصور الممكن والممتنع ، وما المانع العقلي أو العادي من ايمان فرعون وقد

٢٠٨

تكررت عليه الحجج وصرحت له الآيات ، وان انشقاق البحر ليكشف الغطاء ويبصر المرتاب ، حتى لو قال له بعض الموسوسين الذين تقدمت الدنيا أو بأفكارهم وقال له : ان شق البحر من حادثة المد والجزر ، وان التوراة الرائجة لتقول : ان فرعون كان عند ما يمسه العذاب يطلب من موسى وهارون أن يصليا الى الرب إلههما ليرفع عنه العذاب ويطلب منهما البركة حينما يعبدا إلههما ، ويعترف بأنه أخطأ الى الله إلههما ، وان الله هو البار وهو «أي فرعون» وشعبه هم الأشرار ، انظر «خر ٨ ، ٨ و ٢٨ ، و ٩ ، ٢٧ و ٢٨ ، و ١٠ ، ١٦ ، و ١٢ ، ٣١ و ٣٢».

وهذا كله يعطي ان فرعون كان في الباطن مؤمنا بالله عارفا به ، ولكن الذي يمنعه عن إظهار ذلك بين العموم والانقياد لرسالة موسى إنما هو حب الملك وكبرياء السلطنة وسلطة الاستبداد.

ويقول التوراة أيضا : ان الله جل اسمه شدد قلب فرعون وغلّظه فلم يطلق بني اسرائيل لكي يتمجد الله به.

والقرآن الكريم لا يعارض هذه المضامين فانه لم يصرح بأن فرعون كان كافرا مشركا في الظاهر والباطن في جميع أيامه الى ساعة الغرق ، بل يمكن أن يكون نقل القرآن الكريم لقول فرعون : (لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) إنما هو نقل لمجاهرة فرعون بما كان يكتمه من الإيمان والتوحيد بعد أن كان يحافظ على سطوته ومملكته بالمكابرة والمجاهرة بالشرك ، ولكنه لما رأى العذاب والغرق أعلن وجاهر بالإيمان والتوحيد ، اما ندما وتوبة ، واما رجاء للنجاة من العذاب ، والعود ولو إلى بعض ثروته ، بل ولو إلى مجرد الحياة ...

وهب انه كان كافرا في الظاهر والباطن ولكنه لا يبعد إيمانه بعد ما رأى الآيات وحاق به العذاب فبصّرته الشدة ورفعت عن بصيرته غشاوة غرور الملك وابهة السطوة وترف العيش ، وإن كان المتكلف يستبعد أو لا يتصور من نحو ذلك شيئا فليستبعد أو لا يتصور ايمان «بولس» رسوله فانه يعترف بأنه كان مضطهدا للمؤمنين بالمسيح ومجدفا ـ أي متكلما بكلام الكفر ـ ومفتريا «١ تي ١ ، ١٣» ، ويعاقب القديسين ويضطرهم الى التجديف ـ أي كلام الكفر ـ «١ ع ٢٦ ، ١١».

٢٠٩

ويقول كتابهم : انه لم يزل ينفث تهددا وقتلا على تلاميذ المسيح والمؤمنين به ، ويأخذ الرسائل ليسوق الرجال والنساء من المؤمنين من الطريق موثقين «١ ع ٩ ، ١ و ٢».

فكيف إذا يتصور المتكلف ان بولس آمن وبعث رسولا واعطى سلطانا على ملاشاة الشريعة والعيب لها؟.

«وأما قول المتكلف : ان الله لا يقبل هذه التوبة الوقتية الناشئة من الخوف» فهو غفلة فاحشة.

فإن القرآن لم يقل ان الله تاب على فرعون وجعله رسولا وأعطاه سلطانا على عمل الآيات ومحو الشريعة ، بل قال الله تقريعا له وتوبيخا وتسفيها لرأيه (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).

أفيرى ذو الرشد ان هذا قبول للتوبة ، ولعل مفاد الآيات والله أعلم ، فان كنت آمنت طمعا في النجاة فلا نجاة بل (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ) لا بنفسك ، بل (بِبَدَنِكَ) المشوه بالموت المرعب ولا كرامة لك ولكن (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) وعبرة وموعظة تقوم بها الحجة.

وأما قول المتكلف لم يرد خبر في التوراة عن غرق فرعون ، فهو من الجهل بتوراته فانها تقول عن قول الله جل اسمه واشدد قلب فرعون حتى يسعى ورائهم فأتمجد بفرعون وبكل جيشه ، فشد مركبته ـ أي فرعون ـ وأخذ قومه معه ، وشدد الله قلب فرعون ملك مصر حتى سعى وراء بني اسرائيل ، فلما اقترب فرعون رفع بنو اسرائيل عيونهم وإذا المصريون راحلون ورائهم ، وها أنا اشدد قلوب المصريين حتى يدخلوا ورائهم ـ أي وراء بني اسرائيل في البحر ـ فأتمجد بفرعون وكل جيشه بمركباته وفرسانه فيعرف المصريون اني أنا الرب حين أتمجد بفرعون ومركباته وفرسانه ، انظر «خر ١٤ ، ٤ ، ١٩» ، فإذا كانت التوراة تخبر ان فرعون شد مركبته ، واخذ قومه وسعى وراء بني اسرائيل واقترب منهم بعد ثلاث مراحل ، وتخبر ان الله اخبر بأن فرعون يسعى ورائهم.

ووعد جل شأنه بالوعد المكرر المؤكد بأنه يتمجد بفرعون ، وكل جيشه

٢١٠

بمركباته وفرسانه.

وكتابهم يقول ان نصيح اسرائيل لا يكذب ولا يندم لأنه ليس إنسانا ليندم «١ صم ١٥ ، ٢٩» ، فلا بد أن يكون الله جل جلاله تمجد بفرعون كما وعد وأكد.

ولم تقل التوراة هاهنا ان الله تعالى شأنه حزن وندم على فعل الشر بفرعون كما قالته «تك ٦ ، ٦ و ٧» ولم تقل ان فرعون رجع الى مصر.

«وأما قول المتكلف : وأيدت التواريخ ان فرعون موسى لم يغرق لأنه لم يخرج مع جيشه» ، فما عسى أن أقول فيه؟ أقول انه لم يطلع مدة عمره على صراحة ما ذكرناه من نقل التوراة ان فرعون شد مركبته وأخذ قومه معه وسعى وراء بني اسرائيل واقترب منهم حتى أبصروه وهم في فم الحيروث في المنزل الذي عبروا منه في البحر ، أم أقول اطّلع عليه ولكنه يتخيل ان المسلمين لا يدرون بما ذكرناه عن توراته ، وان قومه يعذرونه في ذلك. أم أقول : انه يشير بغمز خفي الى ان التاريخ هو المعتبر دون صراحة توراته ، وان عهدة الجزم بأحد هذه الوجوه الثلاثة عائدة على معرفة المرسلين الامريكان الذين طبع الكتاب بمعرفتهم.

ثم ان المتكلف «يه ٢ ج ص ٦٣» والمتعرب «ذ» ٤١ و ٤٢ قد اعترضا على قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ).

وقالا ما حاصله ان هذا الكلام يقتضي ان الله نجى فرعون من الغرق وهو مناقض لقوله في سورة الاسراء ١٠٥ (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) ، وهنا قول المفسرين بأن معنى ننجيك ببدنك ننقذك من قعر البحر.

قلنا : لا مساغ لمن يعرف مفردات الكلام ويفهم تراكيبه أن يفسر الآية الكريمة بغير ما قاله المفسرون ، فانه مع تعليق النجاة بالبدن لا يحسن في الكلام ان يراد منها نجاة النفس ، ولو أراد ذلك واحد من الناس لعده أهل اللسان من الغالطين.

ألا ترى انه لو قال شخص أنجيت بدن فلان من البحر أو انحيته ببدنه

٢١١

من البحر لما فهمت منه ان كنت أهل اللسان انه أنجاه حيا وأنجى نفسه من الهلكة ، بل إنما تفهم بواسطة التقييد بالبدن انه أنجى ذات بدنه المجرد عن النفس من صدمات البحر وحيواناته.

وكذا قولك : أنجيت بدن زيد أو جثته من المعركة ، أو أنجيته ببدنه أو بجثته من المعركة.

وقال الله تعالى في سورة الاعراف في شأن بني اسرائيل ١٧٠ : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

وقال جل شأنه في سورة النساء ١٥٣ (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) ، فنقل المتكلف عن تفسير الخازن ان اصحاب الأخبار قالوا : ان بني اسرائيل لما أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لما فيها من التكاليف الشاقة أمر الله عزوجل جبرائيل فرفع جبلا عظيما حتى صار على رءوسهم كالظلة ، فلما نظروا الى الجبل فوق رءوسهم خرّوا ساجدين ، فسجد كل واحد منهم على خده وحاجبه الأيسر وجعل ينظر بعينه اليمنى الى الجبل خوفا ان يسقط عليه ولذلك لا تسجد اليهود إلا على شق وجوههم الأيسر ، فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٦» فهذه الأقوال ليست فقط من الأغلاط ، بل هي من الخرافات القديمة اليهودية ، أما كتاب الله فيعلمنا انه لما أنزل الله الشريعة على موسى بمرأى من بني اسرائيل رأوا الرعود والبروق وصوت البوق والجبل يدخن ففزعوا وارتعدوا ووقعت هيبة الله وموسى في قلوبهم «خر ٢٠ ، ١٨» فانظر بين الكلام المعقول المقبول وبين الخرافات اليهودية.

قلت : ان كان اعتراض المتكلف لأجل ان ما ذكره الخازن غير موجود في توراته فهو شطط ، لأن توراة حلقيا أو غيره كما عرفت حالها وتزداد فيه معرفة إن شاء الله لا تنهض بثقل خرافاتها في الإلهيات ، والنبوات حتى تكون ميزانا للحقائق.

وقد قدمنا لك انها اهملت ذكر ارتعاد موسى وارتعابه ، كما نص عليه

٢١٢

العهد الجديد «١ ع ٧ ، ٣٢ وعب ١٢ ، ٢١».

واهملت كثيرا من مكالمات موسى وفرعون ، واهملت ذكر يوم القيامة وثوابه وعقابه فلا تجد فيها من ذلك اثرا مما يذكره العهد الجديد والقرآن الكريم ، وأبدلته بالوعد بكثرة الحنطة والخمر والوعيد بالمرض والفقر وتسلط الأجانب على الزوجة ، لئن اهملت التوراة ما ذكره الخازن ، فلقد أشارت المزامير إليه وزيادة بإشارة واضحة حيث قالت : في تمجيد الله ما لفظه عند خروج بني اسرائيل من مصر وبيت يعقوب من شعب أعجم كان يهوذا مقدسه واسرائيل محل سلطانه ، البحر رآه فهرب ، الاردن رجع الى خلف ، الجبال قفزت مثل الكباش والاكام مثل حملان الغنم ، ما لك أيها البحر قد هربت وما لك أيها الاردن قد رجعت الى خلف ، وما لكنّ أيتها الجبال قد قفزتن مثل الكباش وأيتها التلال مثل حملان الغنم «مز ١١٤ ، ١ ـ ٧».

وإن كان المتكلف يزعم ان هذا غير معقول وغير ممكن فهو كفر منه بما في العهدين من بيان قدرة الله جل جلاله ، وما أظهره بقدرته من العجائب الخارقة لعادة الطبيعة.

وذلك كتوقّد العليقة بالنار وهي لا تحترق ، وكمعجزة عصا موسى ويده والضربات على ارض مصر وشق البحر الأحمر والاردن وظهور الماء من الصخرة ونزول النار على جبل سينا وصعود دخانه وارتجافه بأجمعه جدا «خر ١٩ ، ١٨ ومز ٦٨ ، ٨».

ومثل ان عصا هارون في يوم واحد اخضرّت وأفرخت فروخا وأزهرت زهرا وأنضجت لوزا «عد ١٧ ، ٧ و ٨».

ومثل ما ذكرته الاناجيل من معجزات المسيح كشفائه المرضى والعمى والمقعدين والمجانين وأحياء الموتى والمشي على الماء وإشباع الألوف من قليل الخبز ، وقد بقي اضعافه ، وما ذكرته من تفتح القبور ، وخروج كثير من الموتى فيها ، ودخولهم المدينة المقدسة ، وظهورهم لكثيرين ، «مت ٢٧ ، ٥٢ و ٥٣» ، ومثل ما نسبه العهد الجديد من المعجزات الى التلاميذ وبولس.

٢١٣

وانه ليقبح على الرجل أن يكون مثله كمثل النعامة إذا قيل لها طيري قالت أنا بعير ، وإذا قيل لها احملي قالت أنا طير.

فليس للرجل ان يظهر نفسه لبعض الأمور نصرانيا ، ويكون في طواياه بالنسبة الى الإلهيات طبيعيا دارونيا ، فيسر حسوا بارتعاء ، بل اما أن يذعن بقدرة الإله وحقيقة المعجزات ، كما جاهرت به كتب العهدين ، وأما أن يقف في صف شبلي شميل تحت راية دارون.

ومن هذا الوباء ان جملة من أهل الكتاب ذهبوا الى ان معجزة شق البحر الأحمر لبني اسرائيل إنما هي من حادثة المد والجزر ، وذلك لئلا تكون خارقة لعادة الطبيعة ، حتى انهم رسموا في الخارطة خط عبور بني اسرائيل من البحر على طرف خليج السويس بحيث يكون على طرف شواطئه التي ينحسر عنها الماء عند الجزر عادة ، حتى كأنهم لم يسمعوا من العهد القديم انه انشق الماء ودخل بنو اسرائيل في وسط البحر على اليابسة والماء سور لهم عن يمينهم وعن يسارهم «خر ١٤ ، ٢١ و ٢٢» ، وتراكمت المياه وانتصبت المجاري كرابية وتجمدت اللجج في قلب البحر «خر ١٥ ، ٨» ، وفلق اليم أمامهم ، وعبروا في وسط البحر «نح ٩ ، ١١» والله شق البحر بقوته «مز ٧٤ ، ١٣» وشق المياه قدامهم ليصنع لنفسه اسما أبديا «اش ٦٣ ، ١٢» ، ولو كانت واقعة البحر من حادثة الجزر لكانت هذه الكلمات غلطا وافتراء.

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٥٧ : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) وفي سورة الأعراف ١٦٠ (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) ، وقد ذكرت التوراة الرائجة لذلك واقعتين ضرب فيهما موسى الحجر عن أمر الله فانفجرت منه المياه.

«الواقعة الاولى» في رفيديم «خر ١٧ ، ٥ و ٦».

«والواقعة الثانية» في برية صين «عد ٢٠ ، ٧ ـ ١٢».

٢١٤

والقرآن الكريم لا يتعارض في أمثال هذا إلا لما كان له دخل في الامتنان والموعظة أو الحجة ، فلأجل ذلك لم يتعرض لمحل هذه الواقعة ، إذ لا دخل له إلا في بسيط التاريخ وهو بمعزل عن شريف اسلوب القرآن الكريم.

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ١٦ س ١٧ و ١٨» على نقل القرآن ان موسى «ضرب الحجر فانفجرت منه المياه» ، وقال : والصواب ان الصخرة انفجرت ماء.

قلت في توراة المتكلف : ان الله أمر موسى أن يأخذ عصاه التي ضرب بها النهر فيضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ففعل موسى هكذا «خر ١٧ ، ٥ و ٦» وأيضا ، ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرارا فخرجت مياه كثيرة «عد ٢٠ ، ٦ ـ ١٢».

قل فما ذا ترى في اعتراض المتكلف؟ أتقول انه لم ير توراته مدة عمره؟ أم تقول ان معنى اعتراضه وإن خبط باللفظ هو ان القرآن الكريم ذكر الحجر والتوراة العربية قد سمته صخرة فهذا مبلغ اعتراض المتكلف ، فنقول : ان اسم الحجر المذكور في القرآن الكريم يشمل الصخر كما هو المعروف في اللغة العربية وهو في الأصل العبراني «صور وسلع» وقد أعاد على «صور» ضمير المذكر حيث قال «ممنو» ـ أي منه ـ ، وأشار الى «سلع» باسم الإشارة الذكر فقال «هزه» ـ أي هذا ـ ، ثم نقول : ما ذا على القرآن الكريم إذا خالف توراة حلقيا ، أو غيره ، أم تقول : ان المتكلف يغمز في اعتراضه الى إنكار معجزة موسى بإخراجه الماء من الحجر بواسطة ضربه له عن أمر الله ، بل يقول : ان الصخرة انفجرت ماء لمقتض طبيعي ، فكلما ينقل من المعجزات المخالفة لاقتضاء الطبيعة فهو خرافة ، ولكنه تحاشا من قومه ان يوجه انكاره الى صراحة التوراة فكنى عن ذلك بإنكاره على القرآن الكريم ، أم تقول انه كثيرا ما تكلم بمثل هذا وهو لا يدري ما يقول.

واعترض المتكلف أيضا على قول القرآن الكريم «ان الحجر انفجرت منه اثنتي عشرة عينا» ، ومنشأ اعتراضه هو ان توراته التي عرفت حالها لم تذكر هذا العدد.

٢١٥

قلت : لئن أساءت التراجم للعهد القديم ترجمتها في هذا المقام ، فان الأصل العبراني يشير الى ما يذكره القرآن الكريم من تعدد الينابيع ، وإن لم ينص العهد القديم على عددها كعادته في إهمال ذكر المهمات واطنابه بالفضول وهاك نص كلماته :

ويصاو ممنو ميم ، فتخرج «بضمير الجمع» منه مياه «خر ١٧ ، ٦» ، ودبريتم ال هسلع لعينيهم وناتن ميما يو وهو صائيتا لهم ميم ، وكلما الحجر لعيونهم ويعطي مياهه فتخرج لهم مياها ، ويصّأو ميم ربيّم ، فخرجت «بضمير الجمع» مياه كثيرة «عد ٢٠ ، ٨ و ١١».

وفي المزامير في ذكر النعم والمعجزات التي صنعها الله مع بني اسرائيل بعد خروجهم من مصر يبقع صوريم بمدء بار ويشقى كتهموت ربّاه ، يشق أحجارا في البرية ويسقى كلجج كثيرة ، ويوصانو زليم مسلع ويورد كنهروت ميم ، اخرج مجار من حجر واجرى كأنهار مياها ، هن هكاه صور وياز وبو ميم ونحليم ، هو ذا ضرب الحجر ، وفاضت المياه والأودية «مز ٧٨ ، ١٥ ـ ٢١».

وهذه الكلمات متعاضدة على الصراحة بتعدد المنابع والعيون من الحجر ، ولكن التوراة والعهد القديم يهملان النص على العدد حيث يلزم في الامتنان وبيان القدرة وعظيم النعمة ، وينصان على العدد حيث لا يلزم النص بل يقعان فيه بعثرات الغلط التي لا تقال ، كما ذكرناه قريبا في عدد الملائكة الذين جاءوا الى ابراهيم ثم توجهوا الى سدوم وجاءوا الى لوط ، وكما ذكره اظهار الحق في شواهد المقصد الأول والثاني من الباب الثاني فوقع المتكلف به في حيص وبيص ولعل ما يجري له ذكر إن شاء الله.

ومن أوهام المتكلف أو تنبيهاته على مواقع الاعتراض على التوراة الرائجة هو انه افتخر هاهنا بضبطها وإتقانها لمنازل بني اسرائيل في خروجهم من مصر ، فلا أدري انه هل يجهل خبطها في هذا الشأن ، أو يدري ويريد أن ينبه عليه ، وهل ذلك لأجل تعلق قلبه بغير النصرانية ، أو لكي يجعل لها اسوة بإنجيله في الخبط بالأمكنة ، كما ذكرناه في الجزء الأول صحيفة «٢٥٣ ـ ٢٥٧».

٢١٦

واسمع إذا خبط التوراة الرائجة في مراحل بني اسرائيل ومنازلهم فانها تقول : ان بني اسرائيل ارتحلوا من ابت ونزلوا في عي العباريم ، من هناك ارتحلوا ونزلوا في وادي زارد من هناك ارتحلوا ونزلوا في عبرارنون ، ومن هناك الى بارة ـ أو بئر ـ ، ومن البرية الى متاناه ، ومن متاناه الى نحليئل ومن نحليئل الى باموت ومن باموت الى الجواء.

وأرسل اسرائيل رسلا الى سيحون ملك الاموريين «عد ٢١ ، ١١ ـ ٢٢» ، ثم قالت : انهم ارتحلوا من ابت ونزلوا في عي العباريم «أي خربات العباريم» وارتحلوا من الخربات ونزلوا في ديبن جاد ومنها في علمون دبلاتايمه ومنها في جبال عباريم ومنها في عربات مواب على اردن اريحا «عد ٣٣ ، ٤٤ ـ ٥٠» ، فانظر هذا الاختلاف وضمه الى ما ذكرناه في الصدر والتمهيد عن عاشر التثنية «٦ و ٧» وليفتخر المتكلف باتقان توراته.

وقال الله تعالى في سورة الاعراف ١٤٦ (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) ، وفي سورة طه ٩٠ (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ ٩١ أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ٩٦ (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها).

فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ٥٥» بأن كون العجل له خوار هو من خرافات اليهود القديمة ، وان الله جل اسمه لا يساعد على الاشراك به وانه لم يكن في عصر موسى شيء يقال له سامره ولا سامري فهو من التخيلات البعيدة المستحيلة ، كما يدل عليه تاريخ بني اسرائيل بل تواريخ العالم قاطبة ، وانه ليس لجبرائيل فرس حتى يقول : ان السامري ألقى في فم العجل من تراب اثر فرس جبرائيل.

قلت أولا : لم يقل القرآن الكريم ان العجل كان يخور هو بخوار حيواني غير منبعث عن وضع صناعي أو روح كهربائي ، بل قال «له خوار» ـ أي يسمع منه صوت كصوت البقر ـ ، والفرق بين العبارتين لا يخفى على من له

٢١٧

معرفة باللسان ، وهذا من الممكنات الواقعة في الصناعة كثيرا حيث يقدر نفوذ الهواء وضغطه وتقطيعه على وضع خاص فينشأ منه صوت ذو كيفية خاصة مع ترجيع أو اشتمال على ما يشبه الحروف.

ومن المشاهد الشائع ان صنفا من الساعات المجلسية يحدث منها عند تحرك آلاتها صوت كصوت الفاختة أو العصفور أو الديك أو ما يشبه لفظة «يا كريم» ، فيجوز أن تكون صنعة العجل الذهبي كانت على وضع يقتضي نفوذ الريح في منافذه أن يحدث منه صوت كالخوار ، بل يجوز أن يكون ذلك من روح كهربائي يؤثر بالهواء النافذ الى جوف عجل الذهب هذا الأثر فيجوز أن تكون القبضة التي قبضها السامري من أثر الرسول هو شيء بصر به دون بني اسرائيل في قعر البحر إذ عبروا فيه فوجده يؤثر بكهربائيته أثرا غريبا فاعمله في واقعة العجل.

وان من المعروف ان في البحر سمكة إذا مس الانسان ولو خيط الشبكة التي تقع فيها حدثت فيه بكهربائيتها رعدة مزعجة جدا ، فهذا أمر لا بعد فيه أصلا ، وعلى كل حال لم يكن الخوار في العجل الذهبي إنشاء خلق من الله فيه بنحو خرق العادة لا من أمر طبيعي صناعي أو كيماوي أو كهربائي ، فليس هو كأحوال عصا موسى حتى يتشبث به المتكلف لقوله «ان الله لا يساعد على الاشراك به» ، نعم ان ابتلاء الله لبني اسرائيل في واقعة العجل والخوار إنما كان من نحو الخذلان لهم لأجل عتوهم بأن لم يصرف بقدرته المضل عن كيده ، ولا الطبيعيات الصناعية والكهربائية عن اقتضائها الذي أودعه بقدرته في نوعها كما لم يصرف عملة الأوثان عن صنعهم لها وتركيب صورتها بالصناعة وحصول صورتها بالتركيب.

وليت شعري إذا كان المتكلف يعترض في مثل هذا فما يقول في خلق الله لابليس رأس الضلال والمشمر في الدعوة الى الاشراك.

وانجيلهم يقول : انه اعطى من القوة ما يقدر به على ان يتصرف بالمسيح ، الذي يزعمون انه الاله المتجسد ، واقنوم الابن الذي حل عليه اقنوم الروح القدس حتى صار ينقله من مكان الى مكان ويدعوه الى السجود له.

٢١٨

وان كان للمتكلف اعتراض فليعترض على توراته في قولها ان عصى السحرة والعرافين لمّا ألقوها في مقابلة موسى صارت ثعابين «خر ٧ ، ١٢» وهذا لا يكون من السحر الذي هو تمويه باطل ، فلا تكون ثعابين إلا بقدرة الله تعالى ومشيئته وخلقه ..

وفي قولها أيضا عن كلام الله جل شأنه في فرعون ، ولكني اشدد قلبه حتى لا يطاق الشعب «خر ٤ ، ٢١» ، فاني أغلظت قلبه وقلوب عبيده لكي اصنع آياتي بينهم «خر ١٠ ، ٢».

وأيضا فان مقتضى التوراة الرائجة انه حينما كان هارون يصنع العجل ليكون إلها يعبده بنو اسرائيل ، وبنى مذبحا أمامه ونادى لعبادته ، في ذلك الوقت كان الله جل جلاله يكلم موسى في تقديس هارون للكهنوت وتمجيده بامتيازات الرئاسة الكبرى ، واستعداد تتويجه لتنفذ طاعته بكلام طويل «خر ٢٨ و ٢٩» ، فهل ترى مساعدة على الاشراك أكثر من هذا.

وفي رابع عشر حزقيال عن قول الله جل جلاله ٧ لأن كل إنسان من بيت اسرائيل أو من الغرباء المتغربين في اسرائيل إذا ارتد عني واصعد اصنامه الى قلبه ووضع معثرة اثمه تلقاء وجهه ، ثم جاء الى النبي ليسأله عني فأنا الرب اجيبه بنفسي ٨ واجعل وجهي ضد ذلك الانسان ٩ ، وإذا ضل النبي وتكلم بكلام فأنا الرب قد اضللت ذلك النبي وأمد يدي عليه وأبيده من وسط شعبي اسرائيل ١٠ ويحملون اثمهم كإثم السائل يكون إثم النبي ١١ لكي لا يعود يضل عني بيت اسرائيل.

أفلا ترى صراحة هذا الكلام بأن الله جل شأنه هو الذي أضل ذلك النبي الذي ضل وواتى بكلامه في عبادة الأصنام والارتداد عن الله ، إذا فكيف تكون المساعدة على الاشراك ، تعالى الله عما يقولون.

وثانيا : انا قد قدمنا في الجزء الأول صحيفة ١٣٥ ـ ١٣٦ ان التسمية بالسامري في العربية والشموني في العبرانية غير منحصرة في النسبة الى سمرون أو شمرون ، وهي البلدة التي بناها عمري ملك اسرائيل فتسمّت بها تلك

٢١٩

المملكة ، بل يسمى بذلك أيضا من ينسب الى سمرون أو شمرون بن يساكر بن يعقوب فراجع تعرف مبلغ جهل المتكلف والمتعرب.

وثالثا : إنما قال القرآن الكريم (مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) ان الذي قال من أثر حافر فرس الرسول إنما هي الروايات.

فينبغي للمتكلف في ناموس الأمانة أن يوجه اعتراضه إليها أو يقيم الحجة على انها تفيد العلم بأن مضمونها هو مراد القرآن الكريم ، على انا نقول ان من المعلوم من قوانين الملة اليهودية والملة النصرانية هو ان الملائكة وإن كانوا أرواحا إلا انهم يتشكلون بأشكال الجسمانيات ، ولا يضر في اتفاقهم خروج الصدوقين من اليهود ومن علق به وباء القول بالطبيعة من الفريقين.

وان هذا الاعتراض سواء كان على الروايات أو على القرآن الكريم ليقبح كل القبح من النصراني الذي يدّعي ان كتب العهدين كتب سماوية ، فان توراته وانجيله ناطقان بوقوع أمثال ذلك من الملائكة بل والروح القدس الذي هو بزعمهم أحد أقانيم الاله ، تعالى الله عن ذلك ، وان كتبه لتقول في نقلها عن المشاهدة في اليقظة والعيان لا عن الرؤيا في المنام ان موسى وهارون وناداب وابيهو وسبعين من شيوخ اسرائيل صعدوا الى الجبل ورأوا إله بني اسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف ، وكذات السماء في النقاوة وأكلوا وشربوا «خر ٢٤ ، ١٠ و ١١».

وان الروح القدس أحد الأقانيم الثلاثة بزعمهم نزل على المسيح بهيئة جسمية مثل حمامة «لو ٣ ، ٢٢».

وان الملائكة جاءوا الى ابراهيم ولوط بشكل رجال وأكلوا من ضيافتهما فانظر «تك ١٨ ، ١ ـ ٩ ، و ١٩ ، ١ ـ ١١».

وان ملاك الرب قد مد طرف العكازة التي بيده «قض ٦ ، ٢١» ، وان للجند السماوي خيلا من نار ومركبات من نار «٢ مل ٢ ، ١١ و ٦ ، ١١» ،.

فإذا كان هذا كله فإذ يمنع من أن تكون لجبرائيل فرس تناسب عالمه ،

٢٢٠