الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

قلت : قدمنا لك في الجزء الأول صحيفة ١١٧ ان قوله تعالى هم بها معلق على ما بعده أي ولو لا أن رأى برهان ربه لهم بها.

وأما قول المتكلف «لو لا رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لو لا أن برهان ربه لخالطها» فهو قول باطل مردود بلفظ الآية الشريفة ومعناها اما باللفظ فلأنه لو كان المراد كما يدعيه لجيء بالواو ، وقيل ولو لا ان رأى برهان ربه ، وأما بالمعنى فلأن العزم على الزنا بذات الزوج المحصن من أسوأ السوء وقد قال الله تعالى في الآية : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ).

وقال الله تعالى : (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) ـ أي اكثرن جروحها ـ فصارت بالجروح قطعا.

فقال المتكلف ص ٧٢ ولكن دعواه ـ أي القرآن ـ ان البعض قتلن أنفسهن ولم يشعرن ، وهو من الأقوال الوهمية والخرافات المستحيلة.

قلت : ولا أدري ان هذه الأمانة من المتكلف في النقل عن القرآن هل هي من طهارة ذاته وغسله بدم المسيح ، وامتلاءه بالنعمة ، أو من شربه دم المسيح ، وإلا فمتى قال القرآن ان بعض النسوة قتلن أنفسهن.

وقال الله تعالى في طرد القصة ٥٢ و ٥٣ : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) ، قيل : ان هاتين الآيتين حكاية عن امرأة العزيز وهما مرتبطتان بقوله تعالى ٥١ في الحكاية عنها : (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) ـ أي ليعلم يوسف انها وان اتهمته في حضرته ولكنها لا تخونه بالغيب فتبهته وتبرأ نفسها ، وقيل : انهما حكاية لقول يوسف وهما مرتبطان بقوله تعالى ٥٠ : (بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ذلك أي طلبه سؤال النسوة لكي يتضح الحق ، ويعلم العزيز اني لم اخنه بالغيب في امرأته.

ثم تواضع لله على سنة الأولياء العارفين بالله ومواقع نعمه عليهم ، فقال : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) ـ أي لا ازكيها ـ ، وأقول ، اني تجنبت الخيانة وتعففت عن السوء والفحشاء لذات نفسي وطبيعتي البشرية ، بل إنما كان ذلك برحمة الله

١٨١

وعصمته (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) باعثة بشهوتها على الفحشاء (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) وأيدها بالعناية والعصمة.

وقال المتكلف ص ٧٧ : وكتاب الله يعلمنا انه ـ أي يوسف ـ منزه عما عزاه إليه القرآن من انه «هم بها» ، وكيف يساعده الله على الارتقاء ، وقلبه فاسد.

قلت : وقد قدمنا لك ان القرآن الكريم لم ينسب إليه انه همّ بها جزما بل تعليقا ، بل التوراة جزمت بأنه جاء الى أبيه بنميمة اخوته القبيحة ـ أي نم عليهم بنميمة قبيحة ـ «تك ٣٧ ، ٢» ، وقرفهم بأنهم جاءوا الى مصر جواسيس ليروا عورة الارض ، مع انه عرفهم وعرف انهم جاءوا ليشتروا طعاما ، انظر «تك ٤٢ ، ٦ ـ ١٨».

والقرآن لم يقل ان قلبه فاسد بل قال : (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

وحكى عنه التحدث بنعمة الله بملكة التقوى ، والتواضع لله في نفسه وان عصمته وتقواه إنما هي برحمة الله ونعمته.

ويا ليت المتكلف وتوراته وانجيله الرائجين وكتبه يعرفون بأن الله لا يساعد فاسد القلب على الارتقاء في معارج السعادة والتوفيق ومراتب الرفعة الروحانية ، كيف وان توراته تذكر ان الله كلم موسى في جبل سيناء بكلام طويل وعناية تامة ، كل ذلك في تفصيل ثياب هارون والتأنق في صنعتها وترصيعها ليمجده ويقدسه ويرفعه الى مراقي الإمامة الكبرى والكهانة في الشريعة فانظر الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من سفر الخروج ، مع انها تذكر ان هارون في ذلك الوقت عمل عجل الذهب ليتخذه بنو اسرائيل إلها يعبدونه وبنى أمامه مذبحا لرسم العبادة ونادى لعبادته «خر ٣٢ ، ١ ـ ٧».

ولم يثن ذلك عزم الوحي وموسى عن تقديس هارون بأبهة الرفعة الى الرئاسة الدينية الكبرى.

وان الإنجيل ليقول : ان بطرس صار ينتهر المسيح حتى قال له المسيح :

١٨٢

اذهب عني يا شيطان ، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم لله بل بما للناس «مت ١٦ ، ٢٢ و ٢٣» مع انه يذكر قبل ذلك ان المسيح قال لبطرس أنت بطرس ، واعطيك مفاتيح ملكوت السموات ، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات «مت ١٦ ، ١٨ و ١٩» ، فهل تجد ارتقاء ورفعة أكثر من هذا إلا ان يكون اقنوما رابعا ، وهل تجد فساد قلب أكثر من أن يكون شيطانا لا يهتم بما لله ، بل بما للناس.

ودع عنك مشاركته للتلاميذ فيما وصمهم به الإنجيل ، وإنكاره للمسيح حتى صار يحلف ويلعن.

وأيضا ان الاناجيل قد وصفت التلاميذ بقلة الإيمان وغلظ القلوب وقساوتها والمشاحنة على الرئاسة بعد المسيح والغيظ عليه من اجل ابني زبدى وعدم مواساته بالحزن والصلاة وسهر بعض الليل حتى تفرقوا عنه وهربوا وتركوه وحده بيد الأعداء ، كما أشرنا إليه في الجزء الأول صحيفة «٦٠ و ٦١» ومع ذلك يذكر العهد الجديد انهم ارتقوا بروح القدس والمعجزات الى درجات الرسالة التي صانعوا بها الامم واستحسنوا فيها بمشورتهم أن يبطلوا شريعة موسى لأنه له من يكرز به في كل سبت «١ ع ١٥».

ودع عنك ما يذكره العهد الجديد من رياء أكابرهم «غل ٢ ، ٣ ـ ١٥ ، و ١ ع ١٦ ، ١ ـ ٤ و ٢١ ، ٢ ـ ٢٧».

ومع هذا وما هو أكثر منه في كتبهم ، والمتكلف يقول ص ٧٧ وكأن القرآن مستخف بخطيئة الفسق.

فكأن القرآن الكريم يقول : ما سمعته من كتبهم في شأن هارون وبطرس والتلاميذ.

أو كأن القرآن يقول : ان سليمان وحاشاه مال قلبه وراء آلهة اخرى ولم يكن قلبه كاملا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه ، فذهب وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين وعمل الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما فبنى مرتفعة لكموش رجس الموآبيّين ، ولمولك رجس بني عمون «١ مل

١٨٣

١١ ، ٤ ـ ٨».

ومع ذلك يقول عن كلام الله علام الغيوب في شأن سليمان هو يبني بيتا لاسمي وهو يكون لي ابنا وأنا له أبا انظر «١ أي ٢٢ ، ٩ ـ ١١ ، و ١٧ ، ١١ ـ ١٤ و ٢ صم ٧ ، ١٢ ـ ١٥» فكان آخر الأمر بنقل العهد القديم ان هذا الابن الباني البيت بنى المرتفعات للأوثان ، أو كأن القرآن ذكر ما ذكره العهد القديم في شأن داود وحاشاه مع اوريا وامرأته وحملها مما تقشعر منه الجلود ، كما هو مشروح في الحادي عشر من صموئيل الثاني ، ومع ذلك يذكر عن إلهام الروح القدس في كلامه ، لأني حفظت طرق الرب ولم اعص إلهي «٢ صم ٢٢ ، ٢ ، ومز ١٨ ، ٢١».

واقتص الله جل شأنه في هذه السورة ٧٠ ـ ٧٨ قصة جعل الصواع في رحل بنيامين واستخراجها منه ليستخلص يوسف أخاه بنيامين من اخوته ويبقيه عنده ، ولم يكن في ذلك بهتان وإيذاء لبنيامين ، بل لا بد أن يكون هذا العمل عن تواطؤ مع بنيامين ، لأن مقتضى القرآن الكريم ان ذلك وقع بعد ما عرف يوسف نفسه لأخيه بنيامين ، فلما تم القرار في مسألة الصواع وأعيت الحيل على اخوته حنقوا على بنيامين لتوهمهم انه سرق وأوجب ريب المصريين منهم ، وجعلهم عرضة للوم أبيهم وتنكيده لعيشهم بالجزع عليه فنبض عرق البغضاء له وليوسف ، فقالوا في محاورتهم فيما بينهما باللسان العبراني : إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل زعما منهم ان يوسف والحاضرين اناس مصريون لا يفهمون اللسان العبراني إذ تكلموا به على جاري العادة في القوم إذا صاروا في البلاد الأجنبية فانهم يتكلمون في مقاصدهم ومحاوراتهم بلسانهم الخاص ، فلم يقولوا ذلك ليشهدوا على سرقة بنيامين ، ولا ليوقعوه في التهلكة ، ولذا قال الله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ) أي الكلمة التي قالوها عليه (فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ) فكأنه لم يفهم ما قالوه بلغتهم ، وما قرفوه به من السرقة ، وقال : (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً) في أفعالكم التي اعرفها ، ولا بد من أن يكون قال ذلك في نفسه أو بكلام لا يفهمونه (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ) به بنيامين وإياي من السرقة.

فقد جاء في أوثق الروايات ان السرقة المنسوبة ليوسف كانت أيضا تدبيرا

١٨٤

من بعض أرحامه كالتدبير في السرقة المنسوبة لبنيامين ، وقد كان ينبغي لأخوة يوسف أن يظنوا أو يحتملوا براءة بنيامين ، وان الذي جعل بضاعتهم في رحالهم في المرة الاولى هو الذي وضع الصواع في رحل بنيامين.

وقد جاء في التوراة ان يوسف كان يكلم اخوته بواسطة الترجمان وهم يزعمون انه لا يفهم ما يقولونه باللسان العبراني ، ولذا لما طلب منهم أن يجيئوا بأخيهم الصغير جعلوا يتلاومون فيما بينهم بلسانهم الخاص فيما فرطوا بيوسف «تك ٤٢ ، ٢١ ـ ٢٥».

وإذا عرفت ما ذكرناه فاعلم ان المتكلف جرى على عادته في الفهم والأمانة ، فقال «ص ٨٠ س ١» يؤخذ من عبارة القرآن ان بنيامين سرق الصاع مثل أخيه يوسف.

قلت : لا يخفى على من تشرف بالنظر الى القرآن الكريم وهذه السورة انه صريح في واقعة الصواع بأن بنيامين لم يسرقه وإنما جعل في رحله تدبيرا من يوسف لكي يستخلص أخاه من اخوته بطريق لا يعد من الظلم وجور القدرة فانظر الآية ٦٩ ـ ٧٨.

ولعل الذي اقتضى هذا التدبير هو ان يوسف حنّ الى شقيقه وآواه وأكرمه فخاف عليه من اخوته أن يحسدوه على ذلك فيفعلون مع بنيامين مثل ما فعلوه مع يوسف أو أشد ، والتوراة أيضا تذكر ان يوسف أكرم بنيامين أكثر من اخوته كلهم بخمسة أضعاف «تك ٤٣ ، ٣٤» ، وبما ذكرنا تعرف شطط المتكلف في باقي كلامه في هذا المقام.

* * *

وقال الله جل شأنه في سورة «طه» في الحكاية لخطابه سبحانه وتعالى مع موسى (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً).

فأنكر المتكلف ذلك وادعى ان موسى عليه‌السلام كان في جبل حوريب حينما أمره الله بخلع حذائه ، ثم ادعى ان طوى اسم وهمي ، انظر «يه ٢ ج ص ٩٥».

١٨٥

وهذا أيضا من بوادر الغرور ، اما «أولا» فان العهد الجديد كتاب إلهام المتكلف يقول بصراحته : ظهر له ـ أي لموسى ـ ملاك الرب في برية جبل سينا في لهيب نار عليقة «ا ع ٧ ، ٣٠ ـ ٣٥» ، وطابقه مع «خر ٣ ، ٢ ـ ٨».

«وأما ثانيا» فإن التوراة على ما بها لم تقل ان موسى كان حينئذ في الجبل ، بل إنما قالت : وموسى كان يرعى غنم «يثرو» ، فساق الغنم وراء البرية وجاء الى جبل الله حوريب وظهر له ملاك الرب بلهبة نار الى آخره ، ومن المعلوم ان السائر من مكان بعيد يقال له : انه جاء الى الجبل إذا صار قريبا منه وعند سفحه وأودية سيله.

والقرآن يصرح في سورة القصص ٢٩ و ٣٠ بأن الواقعة كانت بجانب الطور من شاطئ الوادي الأيمن.

ولو ان توراة المتكلف تقول ان موسى إذ ذاك كان في الجبل لما صحت بلفظها المعارضة ، وذلك لأجل ما هو المعهود من توسعها الفاحش ، فقد ذكرت ان بني اسرائيل نزلوا في جبل هور «عد ٣٣ ، ٣٧» مع انها تقول في هذا المنزل ان الله أمر موسى ان يصعد بهارون والعازرا الى جبل هور فصعدوا الى جبل هور أمام عين كل الجماعة ، ثم انحدر موسى والعازرا من الجبل ، انظر «عد ٢٠ ، ٢٢ ـ ٢٩».

وهذا كالصريح في ان نزول بني اسرائيل هناك لم يكن في الجبل ، وتقول أيضا الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا : كفاكم قعود في هذا الجبل «تث ١ ، ٦» مع انها تذكر ان نزول بني اسرائيل كان في برية سينا مقابل الجبل ، وكان ارتحالهم من تلك البرية أيضا ، انظر «خر ١٩ ، ٢ وعد ١٠ ، ١٢ ، و ٣٣ ، ١٥ و ١٦» ، وتقول أيضا : عن حكاية خطاب موسى لبني اسرائيل في اليوم الذي وقفت فيه أمام الرب إلهك في حوريب ، مع انها تقول : فتقدمتم ووقفتم في أسفل الجبل «تث ٤ ، ١٠ ـ ١٢» ، وفيها من هذا النحو من التوسع شيء كثير.

ولو ان توراة المتكلف أيضا تصرح وتقول : ان موسى عليه‌السلام كان حينئذ على قنة الجبل لما كان ذلك ضائرا بأي تاريخ يعارضها فضلا عن القرآن

١٨٦

الكريم كلام الله ، وذلك لما بيناه في الجزء الأول في المقدمة الخامسة والسادسة ، وفي هذا الجزء في التصدير ، بل كل مورد تعرضنا فيه لحال التوراة من متفرقات هذا الكتاب.

وأما قول المتكلف : ان طوى اسم وهمي ، فهي دعوى تشوه وجه الأدب ، أفيقول : انه ليس في تلك الناحية واد أصلا ورأسا ، أم يقول انه قد بلغ من العمر آلافا من السنين التي قضاها في تلك النواحي فعلم بالعلم اليقين انه لم يسم بعض أراضيها «طوى» لا باللغة العبرانية ولا العربية ولا غيرهما ، فننقل ذلك بأمانته وتقواه ، أم يقول : ان هذه الدعوى من إلهام الروح الذي اخبر عنه ميخا «١ مل ٢٢ ، ٢٢».

استطراد ومناسبة في الذكر

وقال الله تعالى في سورة المؤمنين ٢٠ : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٩٨» الصواب ان شجرة الزيتون هي في فلسطين ولم يكن في طور سيناء شجر ولا غيره وإلا لما أرسل الله المن والسلوى الى بني اسرائيل.

قلنا : لم يحصر القرآن وجود الشجرة بطور سيناء ، بل يجوز ان الله جل شأنه خصها بالذكر امتنانا بقدرته على أن يخلق مثل هذه الشجرة النافعة بنوعها من الجبل الصخري.

ولا يسوغ انكار ذلك إلا بإقامة البرهان على امتناعه في العادة بحسب تلك الأرض ، وهو باطل فإن الوجدان شاهد على ان تلك الجبال يكثر فيها الشجر كالطرفاء والعوسج وغيرهما.

وقد كانت تلك الجبال قريبة من عمران الحاضرة مثل ايليم ، ومدين ، وعصيون جابر ، وايلة ، بل تكاد أن تعد من ضواحي ذلك العمران ، فلا يبعد انها كانت تستنبت فيها تلك الشجرة وإن كانت لا توجد فيها الآن ، فان الأحوال تتبدل والعمران يتنقل.

١٨٧

ولعلك تؤيد أوهام المتكلف بدعوى بعض الجغرافيين ان منابت الزيتون منحصرة فيما بين الدرجة الرابعة والثلاثين والرابعة والأربعين من العرض الشمالي ، فتقول إذا ان جبل سيناء لا يبلغ الدرجة التاسعة والعشرين ، ولكنا ننبهك الى أن «الجيزة» من أعمال مصر هي من منابت الزيتون الكثير وهي لا تبلغ الدرجة الثلاثين ، وكذا «الفيوم» من أعمال مصر أيضا وهو دون الجيزة بنحو ثلاثين دقيقة تقريبا ، وهو لا يزيد بالعرض على جبل سينا بأكثر من نيف وخمسين دقيقة ، مع انه ينجبر ذلك في طور سيناء بانكسار الحرارة فيه بسبب ارتفاعه عن انعكاس الأشعة الأرضية ، وبسبب قربه من البحر الملطف لهوائه.

وأما قول المتكلف انه لم يكن في طور سيناء شجر ولا غيره فهي دعوى باطلة مردودة عليه ، ولو كان كملكي صادوق بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداية أيام له ولا نهاية حياة «عب ٧ ، ٣».

وأما احتجاجه بقوله : وإلا لما أرسل الله المن والسلوى الى بني اسرائيل ، فهو من الشطط ، لأن القرآن لم يقل ان في طور سينا أشجارا وبساتين من الزيتون والفواكه ومزارع من الحنطة والشعير ومليونات من الغنم والبقر وكل قسم يقوم بحاجة بني اسرائيل فلا حاجة لهم الى المن والسلوى ، بل لو قال ان في طور سيناء ألف شجرة مما ذكره لما كان منافيا للحاجة لنزول المن والسلوى ، كيف لا وان التوراة تقول : ان الله اعطى المن والسلوى لبني اسرائيل في برية سين في الشهر الثاني لخروجهم من مصر «خر ١٦ ، ١ ـ ١٧» مع انهم خرجوا من مصر ومعهم لفيف كثير من غنم وبقر مواش وافرة جدا.

وفي أوائل مجيئهم الى برية سينا اصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب من الثيران ، وكذا بعد ذلك انظر «خر ١٢ ، ٣٨ ، و ٢٤ ، ٥ ولا ٨ و ٩ وعد ٧».

ولو انا نرضى لمجد معارفنا بالحجة المخدوشة بالاحتمال لقلنا : ان وجود زيت الزيتون الذي جاء به بنو اسرائيل في برية سينا للضوء ودهن المسحة هو دليل على وجود شجر الزيتون هناك فانظر «خر ٢٧ ، ٢٠ ، و ٢٩ ، ٤٠ ، و ٣٠ ، و ٢٤» ، ثم انظر أيضا «خر ٣٥ ، ٨ و ٢٨ ، و ٣٩ ، ٣٧» ، ولكن احتمال

١٨٨

استجلابه من الأماكن البعيدة ، ووهن توراة حلقيا أو غيره مانعان لنا عن التشبث بمثل ذلك.

ولنا أن نقول : ان رءوس الجبال التي في شبه جزيرة سينا إنما هي أجزاء من سلسلة ذات تعاريج منبثة في أرض فلسطين وشبه جزيرة سينا ، ولنا أن نعتبر مبدأ السلسلة من موازاة جبل لبنان ، والأحرى أن نعده جزءا منها وان تخلل بينهما ما هو بمنزلة العقبات في أثناء سلاسل الجبال ، فتمتد هذه السلسلة الى الجنوب على غربي الاردن وبحيرة لوط ووادي العربة وخليج العقبة ، ثم تنعطف عند ملتقى الخليجين الى الشمال الغربي ممتدة مع شرقي خليج السويس حتى تتعدى منتهاه بنحو ثلاثين ميلا ، ثم تنعطف الى الشمال الشرقي ممتدة الى نحو العريش وحدود فلسطين.

فيتفق لهذه السلسلة في امتدادها وتعاريجها وانعطافاتها عدة رءوس يسمى كل منها باسم ، نحو فوريا ، والصفصافي ، والصمغي ، وحوريب ، وكاترينا ، وفيران ، وغيرها ، وقد تتداخل الأسماء كما تداخل أسماء حوريب وسيناء في التوراة انظر «١٩ و ٢٠ و ٢٤ و ٣٤ و ١ ع ٧ ، ٣٠» ، ثم انظر «خر ٣ ، وتث ١ ، ٦ و ١٩ ، و ٤ ، ١٠ ، و ٥ ، ٢ ـ ٦ ، و ١٨ ، ١٦ و ١ مل ٨ ، ٩ ومل ٤ ، ٤ ـ».

فمن الممكن الشائع في اللغة والاستعمال أن يكون القرآن الكريم قد أراد بطور سيناء الجبل الذي هو مجموع السلسلة ، وسماه طور سينا باعتبار ان سينا هو الحد الجنوبي لمنابت الزيتون فيه ، أو لأنه أشرف رءوسه وأشهرها ، ولبعض هذه الوجوه جعل الجغرافيون «برية سينا» اسما لجميع القسم الواقع غربا من خط مفروض من طرف بحيرة لوط الجنوبي الى رأس خليج العقبة مع انه يشتمل على شطر من أرض يهوذا في فلسطين ، كما انهم يسمون سلسلة الجبال العربية «جبل الشرات» باعتبار قطعة منها ، مع ان لها قطعا ورءوسا ذوات أسماء وشهرة.

وقال الله تعالى في سورة يونس ٧٦ : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ) ٧٩ (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ).

١٨٩

فاعترض المتكلف على ذلك وقال «يه ٢ ج ص ٦١» ان الله لم يرسل موسى ليدعو فرعون وقومه الى ديانته ، بل ان المولى سبحانه وتعالى أرسله لإنقاذ الامة الإسرائيلية من الرق والعبودية وإخراجهم من مصر.

قلت : ان اللازم على أمانة المتكلف ان يذكر ما ذكرته توراته في عنوان ارسال الله موسى الى فرعون ، وما ذا أمره أن يقوله له ، وما ذا قاله له ، ثم إذا ذكر ذلك فليتّكئ على سرير تبشيره بمحضر العقلاء العارفين بالله ويقول : ان هذا هو الحقيقة المعقولة اللائقة بجلال الله في إرساله موسى الى فرعون ، دون ما يذكره القرآن.

ولئن طوى ذكر ما في توراته فانا نذكره ونقول ، يقول مضمون توراته ان الله جل شأنه قال لموسى في أول كلامه في حوريب ، أني رأيت مذلة شعبي الذي في مصر فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين وأصعدهم من تلك الارض الى أرض جيدة وواسعة ، الى أرض تفيض لبنا وعسلا الى مقام الكنعاني والحثي والاموري والفرزي والحوي واليبوسي «خر ٣ ، ٧ و ٨» ، وأمره أن يبشر قومه بذلك «١٦ و ١٧» «فاعرف المقصود من الرسالة واحفظه» ، ثم قالت عن قول الله لموسى فإذا سمعوا لقولك تدخل أنت وشيوخ اسرائيل الى ملك مصر وتقولون الرب إله العبرانيين التقانا ، فالآن نمضي طريق ثلاثة أيام في البرية ونذبح لله إلهنا «خر ٣ ، ١٨» فتكون فائدة هذا الوحي وحاشا لله أمرين «أحدهما» ان الله أمر موسى بأن يأمر شيوخ بني اسرائيل أن يكذبوا على فرعون بقولهم إله العبرانيين التقانا ، مع انه جل شأنه إنما تجلّى لموسى في حوريب ولم يتجل لهم ولا التقاهم.

«وثانيهما» ان الله جل شأنه أمر موسى وشيوخ اسرائيل أن يكذبوا أيضا على فرعون بقولهم نذهب طريق ثلاثة أيام في البرية ونذبح لله إلهنا مع ان المقصود هو الذهاب الى بلاد ذات مدن ومزارع وبساتين وهي أرض الكنعانيين ومن جرى ذكرهم من القبائل ، لا الى البرية ، ولا الى طريق ثلاثة أيام ، بل ان أقرب حدود هذه الارض الى محل بني اسرائيل في مصر يزيد بعده عنهم على مائة وسبعين ميلا بالخط المستقيم فضلا عن تعاريج الطريق وانحرافاته ، فلا يمكن

١٩٠

لثقل بني اسرائيل أن يبلغ أقرب حدودها إليهم بأقل من ستة أيام ، ولا يمكن أن يتوسطوها بأقل من ثمانية أيام أو تسعة ، ولا تقل ان المقصود من طريق الثلاثة أيام هو الطريق الى برية سينا ، وذلك لأن بعده عنهم يزيد على مائتي ميل بالخط المستقيم ، وقد قطعه بنو اسرائيل بمسير ثلاثة عشر يوما في أكثر من شهرين.

وزادت التوراة أيضا في الطنبور نغمة إذ ذكرت ان الله جل شأنه أمر موسى بأن يأمر نساء بني اسرائيل أن يطلبن من جاراتهن المصريات أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثيابا بعنوان الأمانة والاستعارة فيسلبونها من المصريين بعنوان الخيانة في الأمانة «خر ٣ ، ٢١ و ٢٢».

ويقول : مضمون التوراة انه لما جاءت النوبة الى تبليغ الرسالة لفرعون لم يفعل شيوخ اسرائيل ما امر به الله ، بل دخل موسى وهارون وقالا لفرعون : هكذا يقول الله إله اسرائيل اطلق شعبي ليعيدوا لي في البرية «خر ٥ ، ١» مع انه لم يسبق هذا الكلام فيما ذكرته سابقا عن كلام الله لموسى ، ثم قالا لفرعون إله العبرانيين التقانا فنذهب طريق ثلاثة أيام في البرية ، ونذبح لله إلهنا لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف «خر ٥ ، ٣» ، مع انه لم يتقدم في الوحي السابق وعيد بالوباء أو بالسيف.

فحاصل مضمون التوراة الرائجة التي اغتر بها المتكلف يظهر منه في إرسال الله لموسى وتبليغه للرسالة عدة امور :

١ ـ أمر شيوخ اسرائيل أن يكذبوا بدعوى ان الله التقاهم.

٢ ـ أمر موسى وشيوخ اسرائيل ان يكذبوا بدعوى الذهاب طريق ثلاثة أيام في البرية ليذبحوا لله ، مع ان المقصود هو الذهاب الى مدن فلسطين للسكنى والتملك.

٣ ـ أمر نساء بني اسرائيل أن يخدعن المصريات ويخنّ أمانتهن.

٤ ـ كذب موسى وهارون وحاشا قدسهما في مسألة العيد.

٥ ـ كذبهما وحاشاهما في دعوى الذهاب طريق ثلاثة أيام في البرية ليذبحوا

١٩١

لله وقد عرفت المقصود.

٦ ـ كذبهما وحاشاهما في قولهما لئلا يصيبنا بالوباء أو السيف.

فكأن المتكلف يقول واستغفر الله هذا هو الذي يليق بجلال الله ولطفه وقدسه في إرسال موسى الى فرعون ، وهو الذي يليق من الرسول في التبليغ ، فالتوراة التي تنقل هذه المضامين هي أحق بالإذعان من القرآن الذي يقول : ان الله القدوس اللطيف إله العدل والصلاح أرسل موسى ليدعو فرعون الى طهارة الإيمان ، والصلاح ، والإقلاع عن رجاسة الشرك والظلم والفساد.

أترى هل يصح من موسى ان يبلغ فرعون عن الله أمره بأن يطلق بني اسرائيل بدون ان يعلمه الإيمان بالله ويدعوه إليه لكي يسمع أمره ، ويعرض عن ضلالة الأوثان.

فهل ترى انه يمكن لرسول الملك ان يبلغ بعض الناس أوامر الملك ، ويأمرهم بالطاعة بدون ان يعرفهم بالملك وسطوته وقدرته ، ويدعوهم الى الإذعان بذلك ليطيعوه.

دع هذا وقل : ما معنى قول التوراة «وكلم الله موسى وهارون قائلا إذا كلمكما فرعون قائلا هاتيا عجيبة» ، فلما ذا يطلب العجيبة إذا لم تكن الدعوة الى الإيمان بالله ورسوله لكي تكون العجيبة برهانا لهذه الدعوة.

ومن الظرائف ان توراة المتكلف كأن لها عداوة مع الدعوة الى الإيمان بالله وتوحيده وشريعته والإقلاع عن الشرك وعوائد الضلال ، فلم تذكر ان موسى ومن بعده يوشع دعوا المصريين أو الكنعانيين أو غيرهم من امم الأرض الى التوحيد والهدى والصلاح ، ولم تذكر ان الله أمر موسى بهذه الدعوة أصلا ، بل ذكرت ان الله جل شأنه أمرهم بقتل الرجال والنساء والأطفال والبهائم ، وإحراق البلاد وما فيها.

نعم ذكرت ان الله أمر موسى إذا حارب مدينة ان يدعوها الى الصلح فإن أجابت كان شعبها للتسخير والجزية ، هذا إذا كانت من غير الشعوب السبعة وأما إذا كانت منها فلا يبقى نسمة منهم حتى البهائم ، وأما الدعوة الى الإيمان

١٩٢

بالله فهي نسي منسي ، وأنت ترى وكل عاقل يرى انه لا يأمر بذلك ولا يفعله واحد من البرابرة المتوحشين «تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا».

ولئن رضي المتكلف بهذا كله من توراته ، فان العقل والدين ليأبيان لنا ان نرضى ذلك لجلال الله وقدس رسله وهدى كتبه.

ولإيلام المتكلف مع ما ألفه من توراته من مثل هذه الطامات إذا اعترض على القرآن الكريم.

فكيف ترى ليلى بعين ترى بها

سواها وما طهرتها بالمدامع

وقد حداني الكلام ان ابصرك بالهدى ودين الحق ، وأشمك من أرج تاريخ الإسلام نفحة ، واشيمك من سنا أحكامه وأساسياته لمحة ، فنقول ان الله تقدست اسماؤه امر رسوله الصادق الأمين ان يصدع بما يؤمر ، ويشمر للدعوة الى التوحيد وشريعة العدل والصلاح وترك الأوثان وعوائد الجور والفساد ، ويدعو الى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة بشيرا ونذيرا ، فتجرد وشمر «ص» للدعوة مدرعا بالصبر معتدا باليقين ونصح العباد وحسن الخلق والمواظبة على الدعوة للشفيع والوضيع والكبير والصغير والحر والعبد والرجل والمرأة والحاضر والبادي والقرابة والبعيد لا يستصغر فيها حقيرا ولا يكبر فيها جبارا ولا يثنيه عنها اضطهاد ولا يتربص فيها فرصة ولا ييأسه من تأثيرها إصرار الغي.

وقد لباه في دعوته جماعة قد اقتضت حكمة الدعوة ان يأمرهم بالصبر على تحمل الأذى والفرار بدينهم.

واستمر على هذا الدأب سنين عديدة ، وقد بث دعوته ودعاته في البلاد ولما لبّاه أهل المدينة آثر بأمر الله ان يهاجر إليها ليحكم أمر الدعوة وينشر لوائها بدون ثورة شغب ، ولتكون مأوى المؤمنين فلا تنقدح بينهم وبين المشركين نار الفتنة ، ولكي تشيع منعته فلا يصد من يريد الإسلام خوف الاضطهاد وضعف الجانب ، ولا يستنكف من الانضمام الى حوزته ، ولما تمادى مشركوا مكة على الغي واضطهاد من عندهم من المسلمين والتعرض لإطفاء نور الإيمان ويأبى الله

١٩٣

إلا أن يتم نوره ، أمره الله جل شأنه أن يتعرض لإرهابهم ليخافوا جانبه فيكفّوا عن غيّهم وغرورهم فتعرّض لأموالهم وطريق تجارتهم لكي يضطروا في حفظ اقتصادهم وثروتهم الى الإقلاع عن عدوانهم على المسلمين ، فخرج المشركون لإنقاذ أموالهم بعدة تامة وقوة بزعمهم كافية ، فلما علموا بنجاتها حملهم طغيانهم وغرورهم بعدتهم وعديدهم فقصدوا حرب رسول الله «ص» اغترارا بقلة أصحابه ووهن استعدادهم ، وأصروا على حربه ولم ينجع بهم نصح شيوخهم (لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) ، إذ كان جلت آلائه قد وعد رسوله والمسلمين بإحدى الطائفتين من العير أو النفير. فقضى الله بالفتح على رسوله على نحو لم يكن متصورا في العادة.

ثم تتابعت بعد ذلك حروب رسول الله وتجريداته ، وكلها كانت من نحو الدفاع والانتصار للمسلمين ، وكسر عادية المشركين.

وكان «ص» في حروبه وتجريداته كلها يبتدأ بالدعوة الى الايمان والصلاح ويرغّب فيهما ، ويحث على السلم ، ويجيب الى الهندة ويقيل العثرة ويركن الى الصلح مع كونه المظفّر المنصور ، كل ذلك لحبه الصلاح ، وليكون الامهال وحسن السيرة ولين الجانب والوفاء بالعهد داعية للناس الى الايمان من دون تحريش بالحروب القاسية.

فإذا اعترف المشرك بالتوحيد وأناب الى الايمان ولو ظاهرا عصم ماله ودمه ، وصار أخا حبيبا للمسلمين ، وإن كان قد قتل في الشرك آبائهم وأبنائهم وجنى ما جنى عليهم.

وكان «ص» اهم وصاياه في تجريداته وحروبه هو النهي عن المثلة بالقتلى ، وسوء الولاية ، وقتل النساء والأطفال والمشايخ العاجزين والرهبان المعتزلين وإزعاجهم عن معابدهم.

وكان يحث على الرأفة بالأسرى والمماليك وحسن معاملتهم ويسلّي قلوبهم ويعدهم بنعمة الله عليهم ، ويشدد في الترغيب في عتقهم.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبل من أهل الكتاب الجزية على شروط

١٩٤

يؤول اجرائها بهم الى الاسلام ، وشريعة العدل ان ساعدهم التوفيق من دون نكاية بهم أو تساهل بأهوائهم.

فلم يسمع ولن يسمع بمثل رسول الله «ص» في دعوته وسيرته في حروبه حيث اعطى كل مقام صالح حقه من حيث سياسة الايمان وشريعة العدل ، وكسر شوكة الشرك والجور وعوائد الضلال بصدق النهضة والتشمير والصبر في الدعوة ، وحسن الدفاع عنها ، والشدة في ذات الله من غير قسوة ، واللين والرحمة من غير ضعف وخور ، قد بلغ في جميع ذلك أعلى مراتب حسن الخلق وكرم النقيبة وحسن الولاية.

وقد ساس العرب العتاة الأشداء الألداء أحلاس الخيل واخوان السيف وأبناء الحرب ، فقلبهم من الوثنية الى التوحيد ، ومن عوائد الضلال الى شريعة العدل ، ومن تفرق الأهواء والتوحش وتكالب العداوة الى حسن الاجتماع والاخوة والخضوع لنظام المدنية ، وهم الذين تمادوا على حرب البسوس عمرا من السنين فقطعوا بها علائق الأرحام ونياط القرابة من أجل ضرع ناقة ، واستمروا في حرب الغبراء وداحس فقتلوا الرجال والأطفال من أجل سباق فرس.

ولجّوا في حرب كسرى حتى أذاقوه الوبال مع سطوته ، وذلك من أجل حماية امرأة.

ويكفيك شاهدا ان هذا العنصر وهؤلاء القوم كلهم قد غلبهم على معبوداتهم وأهوائهم وعوائدهم وجبروتهم وعدوان وحشيتهم وطغيان رئاساتهم واستقلال قبائلهم ، فثنى اعناقهم وجمعهم على التوحيد ونواميس الحق ، ومدنية العدل وأدب الشريعة.

وان الكثير منهم قد انقادوا الى ذلك برغم انوفهم مع احتدام قلوبهم بنار الغيظ وضغائن الأوتار ، ولكنهم لما تشرفوا بنعمة الاسلام صار رسول الله أحب إليهم من اسماعهم وابصارهم وذلك لما وجدوه من صلاح دعوته وحسن سيرته في اجرائها فيما عاملهم به من التحمل والملاينة وجميل الدفاع وعاطفة الرحمة

١٩٥

وكرم المروءة وحسن الخلق وحسن الأثر وحسن الولاية ووجدوا ان حربه معهم وإن كانت لأجل أحسن الغايات وأشرفها ، وأنفعها للبشر في دينهم ودنياهم ، ولكنه «ص» لم يسلك فيها إلا سبيل الدفاع لعدوانهم وحماية حوزة التوحيد والحق بالتي هي أحسن ليرد عادية المعتدين ، فجلب قلوبهم ما وجدوه في أثناء ذلك من حسن المعاملة وجميل الصفح وعظيم المن وكرم الأخلاق وأيادي الرحمة مما لا يتصورونه هم ولا غيرهم في محارب مظفّر معتز بنصيحة أصحابه وطاعتهم له.

هذا كله ولم تنشب الحرب بمقدار حرب البسوس ولم تزد القتلى على قتلى ربيعة فيها بكثير يذكر ، بل يمكن لنا أن نقول : ان كل من قتل في سبيل الاسلام من العرب لا يبلغ ما يقتل في ضلالات العرب وعدوانهم بحروب سنة ، وسيأتي إن شاء الله بيان ما ذكرنا على وجهه.

وقال الله تعالى في سورة يونس ٨٨ : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

فاعترض المتكلف على ذلك بعد أن ذكر شيئا من أقوال المفسرين ، وقال «يه ٢ ج ص ٦١» وعلى كل حال لم يأمر الله موسى وأخاه أن يتبوءا بيوتا في مصر ، بل أمر موسى بإخراج بني اسرائيل من أرض العبودية ليرثوا أرض الموعد.

قلنا : أما أقوال المفسرين فهم أعرف بمأخذها ، ولا مانع منها إلا إصرار المتكلف في إنكار كل ما لا يوافق هواه ، أو اغفلت ذكره توراته التي عرفت حالها.

وأما قول المتكلف : ان الله لم يأمر موسى وأخاه ان يتبوءا بيوتا في مصر الى آخره فإنما هو من الشطط والتغافل عما يقتضيه الحال من لزوم ذلك وان توراته قد أغفلته مع انها دخلت في ذلك مدخل الاستيفاء في السيرة البسيطة والتاريخ الساذج ، بل جعلت دعوة موسى لبني اسرائيل وترويضهم على الإيمان به وعلى أن يطاوعوه على الخروج من مصر ، وعلى أن يدخلوا الى فرعون ليخلي

١٩٦

سبيلهم ودخولهم الى فرعون ، ودعوته وعمل الآيات جعلت هذا كله كأنه حادثة يوم وليلة بين عشرة أشخاص في بيت واحد ، ولكن المتدبر في عادات الامور يجزم بأنه لا بد لموسى وهارون من أن يقيما مدة مديدة بين بني اسرائيل يدعوانهم فيها الى حقيقة الإيمان بالله وحق عبادته والانقطاع إليه ويمرنانهم على الصلاة له والطاعة لرسله والانقياد إليهما والائتمار بأمرهما ، ويملآ آذانهم وقلوبهم بالبشارة بخلاصهم من عبودية فرعون والتنعم بأرض الموعد ويثبتانهم على الاطمئنان بذلك ويروّضانهم على الانقياد والمتابعة في الخروج معهما ، فإذا اطمأنا منهم بالانقياد أعلنا دعوتهما لفرعون ، ولو كان ذلك من أهل قرية لا يبلغون الألف وهم ثابتون في طباعهم لاحتاج الى تربص كثير ورياضة في السياسة.

فكيف ببني اسرائيل المتلونين المتقلبين وهم مئات من الالوف وقد عرفت حالهم من المقدمة الخامسة.

وان ذات التوراة الرائجة قد ذكرت عنهم انهم قالوا لموسى وهارون في مصر ينظر الرب إليكما ويقضي لأنكما قد أنتنتما رائحتنا في عيني فرعون وعيون عبيده حتى تعطيا سيفا في أيديهم ليقتلونا «خر ٥ ، ٢١» ، وانهم لم يسمعوا لموسى بشارته بوعد الله لهم بالخلاص وتوريثهم ارض الموعد «خر ٦ ، ١ ـ ٩» ، وقالوا : كف عنا فنخدم المصريين لأنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية «خر ١٤ ، ١٢».

وان حكمة التعليم التمرين وتجديد التأسيس وإجراء الأحكام الالهية في مثل رسالة موسى لتقتضي أن يكون الله جل شأنه قد أمر موسى وهارون أن يتبوءا في مصر بيوتا يجعلونها مختلفا لبني اسرائيل ومقصدا لهم يقبلون إليه ليروضهم التمرين على الانقياد فيما يراد منهم.

ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) ، أي بيوت موسى وهارون ومن يعضدهم من المؤمنين في نشر الدعوة والنهضة الى التعليم ، أو ان المراد واجعلوا بيوت بني اسرائيل قبلة يقبلون فيها على عبادة الله وطاعته ، ويقيمون الصلاة ، ولو ان بعض المؤرخين ذكر ذلك لحكم بصدقه الاعتبار بالعادة في بيان هذه الحقيقة اللازمة ، وان التوراة الرائجة قد قصّر بيانها عن

١٩٧

ذلك ، فكيف وقد بيّنها القرآن الكريم بوحي الله إلى رسوله الصادق الأمين.

أم يقول المتكلف ليس الأمر كذلك ، بل كانت دعوة موسى وهارون لقومهما ولفرعون كقبسة العجلان واستعجال الخائن المتكلف.

وقال الله تعالى شأنه في سورة الاسراء ١٠٣ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً).

والمثبور : هو المعذب الهالك ، والمراد من ذلك إنذار فرعون بالنكال ووبال العاقبة إذا تمادى على طغيانه وغيه ، فقد كان يظن من أمارات عتوه وطغيانه انه لا يقلع عن غيه.

ولكن المتكلف يقول ببواعثه «يه ٢ ج ص ٨٧» ، وقد افترى القرآن على موسى وعلى فرعون بأنهما تشاتما وموسى لم يشتم فرعون ، كما ان فرعون لم يلعن موسى ، فإن هذه المسألة ليست مسألة مطاولة وقباحة ، ولا يعقل ان موسى المشهور بالحلم والوداعة يتطاول على ملك مستبد.

قلت : ما غرّ المتكلف ومعرفة المرسلين الامريكان بهذا الكلام ، إلا أن ألفاظ القرآن لا توجد في توراتهم ، ولم يشعروا من توراتهم بأنها قد اهملت الكثير من مخاطبات موسى وهارون مع فرعون ، كما اهملت أجوبته لهما ، بدليل قولها عن قول الله لموسى ، أنت تتكلم كما أمرك ، وهارون أخوك يكلم فرعون ليطلق بني اسرائيل من أرضه ، فلم تبين بعد هذا كلام موسى وهارون ولا جواب فرعون لهما ، بل طوت الحال ولم تبين ما ذا أمرهما الله أن يتكلما به مع فرعون وما ذا قالاه له؟ وبما ذا أجابهما؟ بل قالت ففعل موسى وهارون كما أمرهما الرب ، انظر «خر ٧ ، ٢ ـ ٧».

وقولها أيضا : إذا كلمكما فرعون قائلا : هاتيا عجيبة تقول لهارون : خذ عصاك واطرحها أمام فرعون فتصير ثعبانا ، فدخل موسى وهارون وفعلا هكذا ، كما أمر الرب وطرح هارون عصاه أمام فرعون وعبيده فصارت ثعبانا

١٩٨

«خر ٧ ، ٩ و ١٠» ، فلم تذكر كلامهما في دعوتهما له بما ذا أجابها حتى انجر الكلام الى المطالبة بالعجيبة وكيف طالبهما بها.

ثم انظر في هذا الإصحاح تجد توراتهم قد اهملت فيما بين العدد ١٨ والعدد ١٩ واسقطت ما هو لازم الوقوع من جواب فرعون لموسى.

وكذا في الإصحاح الثامن فيما بين العدد ٤ والعدد ٥ والعدد ٦ وكذا فيما بين العدد ١٩ والعدد ٢٠.

وكذا في الاصحاح العاشر في أثناء العدد السادس بين قولها «اليوم» و «ثم» وانك لتعلم ان المقام بين موسى وفرعون مقتضى بالضرورة والعادة لوقوع المطارحات ومراجعات الكلام بينهما من تفنيد فرعون لموسى وتوهينه لرأيه إذ طلب منه أن يخرج بني اسرائيل عن سلطانه وطاعته ، ومن تكذيبه لموسى في دعوى الرسالة بذلك من الله ، فقد أرسل فرعون الى بني اسرائيل يردعهم من الاعتماد على كلام موسى قائلا : ولا يلتفتوا الى كلام الكذب «خر ٥ ، ٩» ومن موعظة موسى لفرعون وتوبيخه له على عتوه على الله وإصراره على الظلم والجور ، وتحذيره من عاقبة ظلمه ووبال بطش الله به.

هذا لو كانت دعوة موسى لفرعون كما يظهر من توراتهم هي محض طلبه ان يطلق بني اسرائيل.

وأما إذا كانت كما هو الحق ووظيفة الرسل وآثار رحمة الله ولطفه بعباده هي الدعوة الى الإيمان بالله وتوحيده وطاعة رسله واتباع هداهم والانقياد الى شريعتهم والاقلاع عن الظلم والعدوان.

فالحال والعادة يقتضيان أن يغلظ موسى عليه‌السلام في الانذار والموعظة والتوبيخ لفرعون على إصراره على كفره ، وغلظ قلبه ، وقبيح ظلمه ، وان يغلظ فرعون في تكذيب موسى وتوبيخه ، حيث تكررت المراجعة بينهما ..

والحال يقتضي ان فرعون بضلاله وطغيانه يرى ان موسى عليه‌السلام كافر بنعمتهم وبرهم عاق لحق تربيتهم له.

فقول فرعون لموسى انك مسحورا هو من أيسر ما يقتضي الحال أن يقوله

١٩٩

فرعون الطاغية لموسى في رد دعوته ، بل هو رد جميل من مثل فرعون قد نزه به موسى عن تعمد الافتراء على الله بدعوى الرسالة وليس لعنا ، وقول موسى لفرعون أظنك مثبورا هو أيضا من أيسر الانذار وليس شتما ، كما لا يخفى ذلك على أقل الناس فهما وأكثرهم غباوة ، ولا يقول بأنّه شتم ولعن إلا من داس شرف أدبه بنعل تعصبه.

وإذ قد نزه المتكلف فرعون عن أن يقول لموسى أظنك مسحورا ، فقد اعترف بأن فرعون على عتوّه وغلظ قلبه أطيب منه نفسا وأحسن أدبا وأعف لسانا وأقل تمردا على الله.

فان المتكلف قد نزه فرعون عن الجرأة على موسى بما هو واحد من ألوف الألوف من قبيح جرأته على قدس رسول الله الصادع بالحق ، مع ان رسول الله لم يبهظ المتكلف في دعوته بمثل ما بهظ به موسى فرعون ، فان دعوة موسى تبهظ فرعون بالتوحيد النافي لأوثان كثيرة من آلهة المصريين ، ودعوة رسول الله بتوحيده لا تبهظ المتكلف إلا بنفي اثنين من ثالوثه ، وان موسى عليه‌السلام في دعوته قد سمى آلهة المصريين رجسا ، ورسول الله قد مجد المسيح بعد أن نفى عنه الإلهية وسماه رسول الله وكلمته ، ونزّهه بالتمجيد عما قرفت قدسه به الأناجيل ، ومجد الروح القدس إذ جعله رسول التنزيل على الأنبياء.

وان دعوة موسى تستلب من فرعون سلطانه وتحطه عن سلطته وتشتت رعيته وتقهره في إجرائه.

وان دعوة رسول الله لا تمنع المتكلف إلا من خسيس عيش تباع به الأمانة وشرف الأدب والدين ، بل يبيح له التعيش والتنعم بما لا يضاد ذلك ، وان ما ذكرناه من اعتراف المتكلف ليكون شهادة أيضا على ان المرسلين الامريكان الذين طبع كتابه بمعرفتهم هم أيضا شركائه في المقايسة ، ويا عجباه ولا عجب من قوم ينزهون فرعون من أن يقول لموسى (لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) ويرضون من كتاب إلهامهم أن يقول عن خطاب ارميا النبي مع الله جل شأنه : يا سيد الرب حقا انك خداعا خادعت هذا الشعب واورشليم قائلا يكون سلام وقد بلغ السيف النفس «ار ٤ ، ١٠» ويقول ان هذا الكفر من وحي الله.

٢٠٠