الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

الواقعة ، لكن تجبروا وصعدوا الى رأس الجبل ، فنزل العمالقة والكنعانيون الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم الى حرمة «عد ١٤ ، ٤٤ و ٤٥» «قلت» له : إذا فإن الحياء زينة الرجل ، افتريد أن تعارض الحقائق المعروفة في الأجيال المتعددة عند ملايين لا تحصى من أهل المعارف والدقة ، وتغالط فيها بكلمة لا تفهم معناها من كتاب يلجئك سقمه واضطرابه إلى الاعتراف بغلطه.

وأما قول المتعرب : ان التوراة تقول : ان اسماعيل نزل أمام اخوته وهؤلاء كانوا بأرض كنعان من الشام ، ولم يكن أمامهم مما يلي جزيرة العرب سوى بلاد ثمود.

قلت : ان كان مراد التوراة اسماعيل نفسه وانه نزل أمام اخوته أولاد ابراهيم ، فقد كذب المتعرب أو وهم بقول ، «وهؤلاء كانوا بأرض كنعان» لأن اسماعيل لم يكن له في أرض كنعان إلا أخ واحد وهو اسحاق ، واما اخوته الستة بنو قطورة ، فإنما كانت منازلهم في أرض المشرق «تك ٢٥ ، ١ ـ ٧» ، وهي في شرقي جبل الشرات ، ومنهم مدان ومديان ، وهكذا ان كان المراد من اخوته هم عشيرته وبنو نسبه فإن أكثرهم لم يكونوا في كنعان لأن اخوته الستة أولاد قطورة والموآبيّين والعمونيين بني لوط كانوا كلهم في شرقي جبل الشرات وعلى كل حال لا يتعين من نزول اسماعيل مقابل هؤلاء كونه سكن في برية سينا بل يجوز أن يراد بذلك سكناه في مكة ، فإن التوراة كثيرا ما تذكر الجهات بالسمت البعيد جدا ، فقد سمت حاران بأرض بني المشرق «تك ٢٩ ، ١» مع ان سمتها يميل الى الشمال عن مشرق مساكن اسحاق في كنعان بما يزيد على أربعمائة ميل جغرافي.

وسمت «سفار» بجبل المشرق «تك ١٠ ، ٣٠» مع ان سمته يميل إلى الجنوب عن مشرق الأماكن التي نزلت فيها التوراة بما يزيد على الثمانمائة ميل ووصفت عبر الاردن الذي نزل فيه سفر التثنية بأنه قبالة «سوف» مع انه ليس له مسامته ومقابلة حقيقية أو عرفية مع سوف إلا مع البعد الشاسع ، ووصفته أيضا بأنه بين فاران وحضيروت «تث ١ ، ١» مع ، ان بينه وبين حضيروت مسيرة سبعة أيام تقريبا انظر «تث ١ ، ٢ وعد ٣٣ ، ١٦ و ١٧».

١٦١

هذا وإن كان مراد التوراة من الساكن أمام جميع اخوته هم بنو اسماعيل وذريته كما يدل عليه كلام التوراة الذي سنذكره.

فمن الواضح ان مساكنهم لا ربط لها ببرية سينا ولا فلسطين ، بل هي في شرقي جبل الشرات على بعد متفاوت.

فقد قالت التوراة : وهذه أسماء بني اسماعيل حسب مواليدهم : نيابت بكر اسماعيل ، وقيدار ، وادبيئل ، ومبسام ، ومشماع ، ودومة ، ومسّا ، وحدد ، وتيما ، ويطور ، ونافيش ، وقدمه. هؤلاء هم بنو اسماعيل وهذه أسمائهم بديارهم وحصونهم اثني عشر رئيسا حسب قبائلهم ، وهذه سنو حياة اسماعيل مائة وسبع وثلاثون سنة ، وأسلم روحه ومات وانضم الى قومه ، وسكنوا من حويلة الى شور التي أمام مصر لمجيئك نحو آشور امام جميع اخوته نزل «تك ٢٥ ، ١٣ ـ ١٩».

وهذا الكلام بمقتضى المحاورة العقلائية ظاهر كالصريح في ان المراد من الذي نزل أمام جميع اخوته إنما هم أولاد اسماعيل ، وصريح في ان الأسماء الاثني عشر المذكورة هي أسماء لأولاد اسماعيل وأسماء لقبائلهم وأسماء لديارهم وحصونهم على النهج المألوف في القديم ، كما في أولاد يقطان ، حضرموت ، وأوزال ، واوفير ، وحويلة ، إذ سمّيت قبائلهم وأراضيهم وبلدانهم بأسمائهم ، وكما في أولاد ابراهيم : مديان ، وادوم «عيسو» ابن يعقوب ، وعلى هذا فلا يخفى على من له ادنى معرفة بتوقيع البلدان ان «تيما» و «دومة» لا ربط لهما ببرية سينا ، ولا بأرض كنعان ، ولا بأرض اسرائيل في شرقي الاردن ، بل هما مائلتان عن ذلك وعن الحجر بلاد ثمود الى المشرق في بلاد العرب بمسافة بعيدة ومحلهما معروف ، وهذا كاف في إبطال مزاعم المتكلف.

وزد على ذلك ان التوراة في تحديدها لمنازل بني يقطان ذكرت «مسا» حيث قالت : وكان مسكنهم من «مسا» لمجيئك سفار جبل المشرق «تك ١٠ ، ٣٠».

وقال المتعرب «قذ» ص ١١ ان لفظها في النسخة المطبوعة في رومية

١٦٢

«ماسا» ، قلت : وفي الترجمة الفارسية المطبوعة في لندن سنة ١٨٣٩ «مسا» ومشا ، أو مسا عند العرب من أسماء مكة ، وعلى ذلك جرى ظن كثير من النصارى حتى رسموا «مشا» في الخارتة في موقع مكة ، وهو ما فوق الدرجة الحادية والعشرين من العرض الشمالي وفوق الدرجة الأربعين من الطول الشرقي ، قال سايل «ق ص ١١ س ٢» : «ويظن انه ـ أي مشا أو مسا أو ماسا ـ مأخوذ من اسم واحد من أولاد اسماعيل» وهو مسا المذكور قريبا ، وقد سمعت ان التوراة جعلت أسماء بني اسماعيل أسماء لقبائلهم وحصونهم وديارهم فيكون لفظ مسا اسما لابن اسماعيل وموطنه وحصنه ، قلت : ويجوز أن يكون اسم ابن اسماعيل مأخوذا من اسم مكة ، أو كما ظن باعتبار ان مسا هو الذي مصرها وبنى فيها الحصون.

«تنبيه» اعلم ان ما يقرأ ميشا ومشا ومشاء ومسا وماسا ومسا إنما هو بصورة واحدة بلا فرق أصلا في نسخ التوراة التي يكتبها اليهود على الرق ، ويقدسونها للتلاوة في معابدهم من القديم الى الآن حيث التزموا فيها باتباع أصلها المكتوب بالوضع القديم حتى على الغلط البيّن ، فلم يرسموا في هذه الألفاظ «تك ١٠ ، ٣٠ ، و ٢٥ ، ١٤» إلا ميما وألفا بينهما حرف مردد بين السين والشين ، وإنما جاء الفرق والاضطراب حسب التشهّي من بعض النسخ المرسومة على الوضع الحادث للخط العبراني في طبرية فيما بين القرن الثاني والثالث للمسيح ، وإنما كتبنا في المتن على مقتضاها لئلا يقرفنا الغافل بالخيانة في النقل ، وإلا فاللفظان في صورة واحدة.

وزد على ذلك أيضا ان التوراة ذكرت ان أولاد اسماعيل سكنوا من حويلة الى شور التي أمام مصر لمجيئك الى آشور ، وحويلة من بلاد اليمن مسماة باسم واحد من أولاد يقطان فهي في جنوب مكة ، انظر «تك ٢ ، ١١ ، و ١٠ ، ٢٩».

«فإن قلت» : قد جاء في صموئيل الأول ١٥ ، ٧ ان شاول ضرب عماليق من حويلة لمجيئك شور التي مقابل مصر ، وليس لعماليق محل في أرض اليمن ، ولم تصل حروب شاول الى أرض اليمن بل ان هذا التحديد لا بد أن يكون واقعا في أرض اسرائيل في شرقي الاردن أو غربيّه.

١٦٣

«قلت» : ان منازل أولاد اسماعيل الواقعة من حويلة الى شور لا يمكن أن تكون واقعة في أرض بني اسرائيل لا في شرق الاردن ولا في غربيه ، وذلك لوجهين :

أحدهما : ان من منازل أولاد اسماعيل تيما ودومة وهما بعيدتان الى الشرق عن أراضي اسرائيل بعدا شاسعا.

وثانيهما : ان التوراة تقول : ان الله وعد ابراهيم وهاجر بأن يبارك اسماعيل ويثمره ويكثره كثيرا جدا ويلد اثني عشر رئيسا ، ويجعله أمّة عظيمة «تك ١٧ ، ٢٠ ، و ٢١ ، ١٨» فلا بد أن يكونوا في زمان موسى أكثر من المديانيين أولاد مديان بن ابراهيم.

ومن الموآبيّين والعمونيين اولاد لوط ، ومن الادوميين أولاد عيسو فإن هؤلاء لم يسبق لهم الوعد بالبركة والكثرة كأولاد اسماعيل مع انهم كانوا في زمان موسى ألوفا عديدة ، بل لا بد بمقتضى وعد الله في اسماعيل ان يكون أولاده في زمان موسى بقدر بني اسرائيل أو أكثر.

وعلى هذا لو كانت منازلهم في الأرض التي استطرقها أو افتتحها بنو اسرائيل مع موسى أو يوشع لجرى لهم حال وشأن كبير مع بني اسرائيل في حرب أو معارضة أو مصالحة أو مساعدة أو مهادنة أو معاهدة كما جرى لبني اسرائيل مع غيرهم ، مع ان التوراة ، وسفر يوشع لم يذكرا من ذلك شيئا لا تصريحا ولا تلويحا ، وهذا السكوت في مثل تاريخ التوراة ، وسفر يشوع يعد من نحو صراحتهما بأن بني اسماعيل لم يكن لهم منزل فيما استطرقه أو تملكه بنو اسرائيل.

وحينئذ لو سلمنا ان حويلة في سفر صموئيل هي في بلاد بني اسرائيل أو ما يتاخمها لقلنا : انها لا بد أن تكون غير حويلة المذكورة في التوراة ، فإن البلدان قد تتشابه في الأسماء نحو قادش «عد ٢٠ ، ١ و ٢٢ وقادش ، يش ٢٠ ، ٧ ، و ٢١ ، ٣٢».

وهذا التطويل كله مماشاة وجدل لمن يتشبث بالتوراة لأوهامه بأن مسكن

١٦٤

اسماعيل وأولاده كان في برية سينا أو أرض كنعان أو ما يقاربها وإلا فإن أوضح الحجج التاريخية دالة على ان مسكن اسماعيل هي مكة ، وهو تسالم الأجيال المتسلسلة المتصلة المشتمل كل جيل منها على ألوف عديدة من الناس المختلفين في النسب المتشاجرين في المفاخرات.

ولعل ما تأتي إن شاء الله تتمة لهذا المقام عند ذكرنا لنسب رسول الله «ص».

وأما قول المتعرب ان التوراة تقول في موضع ثالث انه ـ أي اسماعيل ـ لما مات أبوه أتى فدفنه في مغارة المكفلية.

فيكفي في قمع أباطيله بيان ما فيه من التحريف القبيح ، الذي هو العمدة في زبرج الباطل ، وذلك ان لفظ «اتى» التي يموه بها أمره إنما هي زيادة على التوراة ، فانّ لفظها في شأن ابراهيم. وانضم الى قومه ، ودفنه اسحاق واسماعيل ابناه في مغارة المكفلية «تك ٢٥ ، ٨ و ٩».

رسالة هود الى عاد ، وصالح الى ثمود ، وشعيب

«الى مدين. وشئون هؤلاء»

وقد اقتص الله جل شأنه في القرآن الكريم شيئا من أنباء هؤلاء حسبما تقتضيه الموعظة والتذكير (١).

ولكن المتكلف والمتعرب لأجل ان توراتهما التي عرفت حالهما لم تذكر من ذلك شيئا تحاملا ببواعثهما على قدس القرآن الكريم فيما ذكره في شأن هؤلاء.

وحاصل ما عند المتكلف في معرفته «يه ٢ ج ص ٤٨ و ٤٩» هو انه لم يرد في كتبه ان هودا كان نبيا ، وانه ارسل الى قومه وكذلك لم يرد ان قومه هم عاد ، وان الحق الذي لا مرية فيه انه لم يرسل الله بين عصر نوح وبين عصر ابراهيم ، ولم يرد في التوراة ولا في الإنجيل ان الله أرسل نبيا اسمه صالح إلى ثمود من قبائل العرب ، فإن جميع الأنبياء والمرسلين كانوا من الامة الإسرائيلية في أرض اليهود.

__________________

(١) سورة الاعراف ٦٣ ـ ٩٢ ، وهود ٥٢ ـ ٩٩ ، والشعراء ١٢٣ ـ ١٩٠ ، والحاقة ٤ ـ ٩ وغير ذلك.

١٦٥

وغاية ما عند المتعرب «ذ» ص ١ ـ ١٠ هو محض الهوسات في التكذيب للمؤرخين ، واستغراب بعض التفاصيل المنقولة عن بعض الناس مما لا يعود شيء منه على جلالة القرآن الكريم.

ومرجع كلام المتكلف وأعوذ بالله من وبال بيانه ، هو ان خزانة رحمة الله ولطفه وعدله وهداه وإرادة الصلاح بعباده ، ودعوتهم الى التوحيد والهدى والكمال ، قد كانت محجورا عليها ، ممنوعة بالقهر من أن يرشح من نداها شيء على العباد ، أو ان الحرص ضرب عليها اقفالا ختمها بخواتيم المحاباة لبني اسرائيل ورصدها بحراسة الشح ، فبقيت عباد الله هملا فوضى بلا معارف نبوّة ، ولا دعوة توحيد ، ولا نور هدى ، ولا تكميل تعليم ولا لطف تهذيب ، ولا فيض رحمة ، ولا بركة نعمة ، ولا مدنية أحكام إلهية ، ولا سياسة شريعة ، يعاقبون بلا حجة ، ويوبّخون بلا بيان ويوصفون بالظلم بلا شريعة تميّز الحقوق وتحفظها بالسياسة ، إلى أن ارتفع ذلك الحجر من نحو خاص وتفصّمت تلك الأقفال ، وانصرفت الحراس من جهة واحدة فانهطل وابل النبوة على اسرائيل وبنيه سحا بلا ميزان ، ولا رعاية أثر ، ولا مراعاة حكمة ، ولا دعوة عامة ، ولا بركة شاملة ، ولا هدى فائض ، فلذلك اتفق لها بمقتضى نقل التوراة الرائجة أمر عجيب قد فاتته الموفقية وجانبته الحكمة ، فلم تذكر التوراة في نبوة ابراهيم إلا الوعد بالبركة وكثرة النسل ، وإعطاء قطعة من الأرض لهم ، وعهد الختان الذي أبطله العهد الجديد ، وتنفيذ أوامر سارة ، ولم تذكر في نبوة اسحاق إلا الوعد بتكثير نسله وإعطائه قطعة من الأرض ، ولكنها لم تذكر ان أمره لولده عيسو أن يصنع له طعاما كما يحب ليأكل ويبارك عيسو قبل ان يموت.

وان اشتباهه بمخادعة يعقوب إذ باركه بعد ما أكل وشرب خمرا ، هل كان هذا كله بوحي ونبوة أم لا؟ نعم ذكرت ان يعقوب اختلس بركة النبوّة وعهدها بالمخادعة والتزوير ، واحكم أمرها بالمضارعة والجهاد مع الله تعالى شأنه.

والحاصل لم تذكر التوراة في نبوة هؤلاء الأنبياء ولا الذين من قبلهم كتاب هدى ورحمة ، أو نبوة بالدعوة الى التوحيد والكمال ، أو بتمهيد شريعة أدبية ، أو تأسيس قوانين مدنية وإصلاح للاجتماع.

١٦٦

نعم ذكرت ان في أيام شيث ابتدأ ان يدعى باسم الرب ، ولكنها لم تذكر من الداعي؟ ولمن ادعى؟ وبما ذا دعى؟ وكيف دعى؟.

ثم بعد ذلك اندفقت النبوة بأبّهة رسالتها ورئاستها الكبرى على موسى فلم تعد التوراة ان ذكرت انه رد هذه الرسالة بلسان غير لين ولا مؤدب ولم يلتفت الى حجة الله ووعده بالتأييد ، بل كرر الرد بلسان خشن حتى حمي عليه غضب الله.

ثم تحكم على الله بالغفران لعبدة العجل ، أو يمحوه من كتابه ، ووصف الله بالإساءة الى الشعب وإلى عبده ، وشك في قدرة الله على إشباع بني اسرائيل من اللحم كالمستهزئ بوعد الله ، وذكرت المزامير انه فرط بشفتيه.

هذا كله ولم تسمح هذه الرسالة أن ترشح من بركتها قطرة واحدة على فرعون وقومه بالدعوة الى الإيمان بالله وتوحيده ، فلم تذكر التوراة ان موسى دعاهم الى الإيمان والتوحيد ولا بكلمة واحدة ، حتى كأن سكوته عن ذلك كان إمضاء لما عليه فرعون وقومه.

وغاية فائدة تلك الرسالة وبركة عاقبتها هو أن يطلق فرعون بني اسرائيل الذين كانت عاقبتهم بعد ما رأوا الآيات ان عبدوا العجل وزنوا ببنات مواب الى آخر ما ذكرناه في المقدمة الخامسة من ارتداداتهم.

ومن أجل هذا قال المتكلف «يه ٢ ج ص ٦١» ما حاصله ان الله لم يرسل موسى ليدعو فرعون وقومه الى ديانته ولا ليلفتهم عن شركهم.

ولسان الحال من عقيدة البروتستنت المذكورة في كتاب صلاتهم يقول : ما الحاجة الى إزعاج فرعون وقومه عن شركهم وظلمهم وفسادهم ، وعما قليل «واستغفر الله» سينزل المسيح الى الجحيم وينجي أرواحهم منها.

ومقتضى التوراة الرائجة ان موسى جاء بكتاب اشتمل على سيرة لم تعنون بالموعظة ولم تتزين بسياق التذكير ، بل اشتملت في تاريخها على الفضائح لعائلات الأنبياء والأولياء.

ولم يعلن ذلك الكتاب بعموم الدعوة ، وسعة الرحمة ، وفيض الهدى

١٦٧

وشمول الشريعة والإصلاح ، بل خص بني اسرائيل بدعوة التوحيد والشريعة وأحكام أراضيهم ، وسلطهم على قتل الامم حتى النساء والأطفال بلا علة سوى استلاب أراضيهم وإزعاجهم عن أوطانهم من دون أن يربط ذلك بالدعوة الى الهدى والتوحيد وعدل الشريعة وآدابها ، فلم يذكر وقوع شيء من ذلك لا وحيا ولا عملا ، ولم يتعرض له ولم يتوعد على مخالفة الشريعة والتوحيد إلا بنحو المرض والفقر ، ولم يجعل الثواب إلا بنحو كثرة الحنطة والخمر ، وغادر أمر الثواب والعقاب في الآخرة نسيا منسيا ، بل لم يتعرض لذكر المعاد والقيامة أصلا ورأسا لا تصريحا ولا تلويحا ، وجعل سيطرة الشريعة وإمامتها الى هارون ، وذكر ان الله كلمه مع موسى ومنفردا.

ثم ذكر ان هارون صنع العجل إلها يعبده بنو اسرائيل ، وبنى مذبحا أمامه ونادى لعبادته.

ثم سالت النبوة على النساء والرجال ، وإلى آخرها لم تذكر كتب العهد القديم عن الأنبياء والنبيات دعوة عامة ، أو إشارة الى هدى لعموم الناس بل ذكر في النبوة انها تقوم بضرب الدف والعود والناي والرباب ، وبالتعرّي والاضطجاع ، ويكون تبليغها بأنواع الخلاعات والتجانن ، والفحش في الانذار والوعيد بألفاظ الزنا ، وكشف العورة والهتك مما لا نسمعه إلا من تهديد المتهتكين.

هذا كله وسلعة النبوة المبذولة بائرة في سوق بني اسرائيل ، وإن زاد عدد الأنبياء في الزمان الواحد على المائة ، بل كان النفوذ والاثر الرائج لضلال الوثنية وطغيان الفساد الذين يتقلب بهما ابن لله البكر بنو اسرائيل حتى جرى ذلك النفوذ بنقل كتبهم على اعيان الأنبياء ، كما قرفت به قدس هارون وداود وسليمان عليهم‌السلام.

ثم أفضت نوبة النبوة الى المسيح فقرفت الاناجيل قدسه بما نحتشم تكراره ، وذكرت انه لم يسعده الامهال إلا ثلاث سنين على تستر وخوف في تعليمه اليسير.

ولكن بعد ذلك انحل وكاء النبوة والرسالة فهطلت على التلاميذ الذين

١٦٨

عرفت حالهم في أواخر المقدمة الخامسة ، وعلى اتباعهم بحيث يتنبأ بنوهم وبناتهم ، وذكر كتابهم ان أربع عذارى في بيت واحد كن نبيات ، «١٠ ع ٢١ ، ٩».

هذا وقد فوض للتلاميذ أن يمحوا رسوم الشريعة ، ونادت كتبهم بالفداء والخلاص ، ولم تنفتح باب الرسالة العامة ، ولم يرتفع عنها الحجر حتى للمسيح إلا للتلاميذ ، ولكنها تقول : انها كانت بالدعوة الى التثليث لا إلى التوحيد ، ثم عادت النبوة والرسالة الى حجرها الأول ، وسد بابها واحكام رتاجها.

فلسان حال المتكلف والمتعرب وفحوى مقالهما يقولان : إذا فكيف يسوّغ الله أن يرسل رسولا الى غير بني اسرائيل من غير بني اسرائيل بغير الشريعة المعروفة في العهد القديم ، وغير الوعد والوعيد المذكورين فيه ، أو بغير الفداء المذكور في العهد الجديد ، وكلما يذكر في خلاف ذلك فهو من الخرافات ، فكيف يبعث الله رسلا الى عاد وثمود وأهل مدين ليأمروهم بعبادة الله وتوحيده وتقواه وطاعة أمر الرسول ، واطراح عبادة الأوثان والفساد في الأرض؟ أم كيف تصدر من موسى دعوة فرعون وقومه الى الإيمان والهدى والصلاح؟ أم كيف يكون من آل فرعون مؤمن ينصح قومه وينذرهم بيوم القيامة ويعظهم بهلاك من قبلهم ويقول : (يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) (١).

وكيف يكون ذلك والتوراة لم تذكر يوم القيامة ولم تتوعد به ، وإن ذكرت القيامة في العهد الجديد ، فباحتجاج واهن فاسد أو وعد مكذوب (٢) فكل ما يذكر من النبوات في غير الكذب على فرعون ومخادعته بإطلاق بني اسرائيل ليذهبوا سفر ثلاثة ايام ، مع ان الغرض والوعد هو التوجه الى أرض كنعان ، وغير استلاب الأرض من الكنعانيين وقتلهم وقتل أطفالهم ونسائهم وبهائمهم ، وغير الشريعة لخصوص بني اسرائيل ، وغير وعيدهم بالمرض والفقر وتسلط

__________________

(١) سورة المؤمن ٣١ ـ ٣٦.

(٢) انظر الجزء الأول صحيفة ٢٣٥ و ٢٣٦.

١٦٩

الأجنبي على وطئ زوجة الرجل ، وغير وعدهم بالحنطة والخمر ، وغير محو الشريعة بالفداء فهو من الخرافات العجائزية ، بل ان تاريخ العالم كله محصور في العهدين ، وإن استولى على كتبهما التطويل الممل بالفضول الفارغة ، وتسجيل الفضائح ... وما عدا ذلك فتاريخ أهل الهند والصين خرافة ، وتاريخ العرب خرافة ، وتاريخ اليهود خرافة ، وتاريخ قدماء المسيحيين خرافة.

وخلاصة الأمر ان كل ما وافق القرآن فهو خرافة.

نعم رؤيا يوحنا حقيقة نورانية الثالث والرابع من رسالة يوحنا الاولى حقيقة وتعليم هدى ومعرفة وتوحيد ، الرسائل المنسوبة الى بولس لا يوجد فيها غير الصدق والتوحيد والتكميل بالشريعة ، خامس عشر الأعمال وحي وتقوى وورع وحفظ للشريعة وتمجيد لشريعة موسى وشدة في حفظ أوامر الله ونواهيه ، عاشر الأعمال وحي صادق لا يكذب الشريعة السابعة «يو ١٣ ، ٢٢ ـ ٢٦» عفة ووقار وبيان لمراتب المحبة ورأفة بالتلميذ الشاب «يو ١٠ ، ٣٣ ـ ٣٧» توحيد وإيمان وفهم للكتب «لو ٧ ، ٣٦ ـ ٥٠» هو روح للعفة ورفع لحشمة التائبات وتثبيت لعلاقة التوبة بينهن وبين القديسين بطهارة القلب وعفة الضمير.

الاحتجاج بالقيامة وعدم الزواج فيها «لو ٢٠ ، ٣٤ ـ ٣٨» والاحتجاج للمنع من الطلاق «مت ١٩ ، ٣ ـ ١٠» من حجج الوحي القاطعة الباهرة (١) هو «١ ـ ٣ وخر ١٦ و ٢٣ واش ٣ ، ١٦ ـ ٢٥ وار ١٣ ، ٢٢ ـ ٢٧ ونا ٣ ، ٤ ـ ٦» كله وحي لائق بجلال الله وشرف الأنبياء والتعليم بالوقار والحشمة وصون اللسان عن الخنا والفحش «٢ صم ١١» تمجيد للنبي وتنويه بعفته وأمانته وحكمة الله وعلمه في إعطائه النبوة وحكمة الله وعدله في كيفية عقابه ، أقوال أيوب تقوى وتسليم لأمر الله وتمجيد له بعدله ومعرفة للإنسان بقدر نفسه «١ مل ٢٢ ، ١٩ ـ ٢٤ و ٢ أي ١٨ ، ١٦ ـ ٢٣ وار ٤ ، ١٠» كله معرفة الله بجلال الله وعظمته وتقديس وتسبيح له جل شأنه «قض ١١ ـ ١٧» نور وهدى وحكم واحكام «لا ١٣ و ١٤» حكمة بالغة وآيات باهرة وشفاء ناجح تشهد به التجربة

__________________

(١) انظر الجزء الأول من هذا الكتاب ص ٢٣١ ـ ٢٣٣

١٧٠

وتتأكد به الحجة «خر ٤ ، ٢٤ ـ ٢٧ وتك ٦ ، ٦ و ١١ ، ٥ ـ ٨» كله علم من الله وقدرة وحكمة ووفاء بالعهد «٢ صم ١٣ وتك ١٩ و ٣٨» تمجيد للمؤمنين بعفتهم وطهارة نفوسهم ونجابة عوائلهم ومواليدهم «تك ٢٧» من الحقائق الموضحة لحكمة الله وعلمه في اختياره والمبينة لمقدار علم الأنبياء وأهليتهم للايتمان على أعمال الله.

وقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٤٨» لم يصرح القرآن بالرجس الذي انزل على قوم هود ولو كان شيئا حقيقيا له وجود لصرح به.

قلت : لا ألوم المتكلف على جهله بالقرآن بعد ما وجدناه من جهله الفاحش بكتبه ، فلا غرو إذا لم يعلم من القرآن الكريم بيانه المكرر في ان ذلك الرجس هو الريح المهلكة ، ويكفي منه قول الله تعالى شأنه في سورة الحاقة المكية ٦ : (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ ٧ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

ثم اعلم ان المتعرب حاول ان يكذب ما ذكره المؤرخون في شأن شداد ابن عاد بتمويه لا يمس بتزويره قدس القرآن الكريم ، وانا وإن كنا لا يعنينا ما يقوله في التاريخ واخبار الآحاد ، ولكن لا بأس ببيان جهالات المتعرب في اعتراضه ، فقد اعترض على المؤرخين إذ قالوا : ان عادا من ذرية ارم بن سام ، وانه متقدم على اسماعيل.

وان ابنه شدادا عزم على بناء إرم وهو ابن تسعمائة سنة وأقام في بنائها ثلاثمائة سنة ، فيكون شداد عمّر ألفا ومائتي سنة.

وحاصل اعتراضه على ذلك بأنه يلزم أن يكون شداد مات بعد الطوفان بنحو ألف وثلاثمائة سنة.

والتوراة العبرانية يعلم منها ان اسماعيل مات بعد الطوفان بخمسمائة وعشرين سنة ، وبحسب النسخة السبعينية يكون بين الطوفان وموت اسماعيل ألف ومائتان وخمسون سنة ، فلا بد أن يكون موت شداد بعد موت اسماعيل.

قلت : اما «أولا» فإن المؤرخين لا يلتزمون بأن موت شداد وهلاك قومه

١٧١

متقدمان على موت اسماعيل ، بل مقتضى ذكرهم ان «قيل» ابن عثر و «مرثد» ابن سعد توجها الى البيت الحرام في مكة ليطلبوا من الله الفرج ، هو ان هلاك شداد وعاد كان بعد ما بنى ابراهيم واسماعيل البيت بمدة ، فإن من مسلمات معلوماتهم هو ان البيت الحرام إنما بناه اسماعيل وأبوه ابراهيم فيكون هلاك عاد في المدة التي بين بناء البيت في أيام اسماعيل وبين دعوة موسى لفرعون ، ولا مانع من أن يكون هلاك شداد وقومه بعد موت اسماعيل ، ولئن قال المؤرخون : ان شداد متقدم على اسماعيل في الولادة فلا مانع منه ، بل ان طبقات المواليد تقتضيه.

وأما «ثانيا» فإن الاعتراض على تقويم المؤرخين بتقويم التوراة الرائجة إنما هو من ورطات الغرور ، فإن المؤرخين أتقن من أن يعتمدوا على كتاب تلاعبت به الأيام ما شاءت ، وهتكت الحواشي من ستر أغلاطه ما هتكت ، وسجل عليه بالافتضاح تنازع نسخه المتعادلة في الاعتبار الادعائي وعدمه الحقيقي ، ويا حبّذا لو سلم من ذلك من زمان حلقيا فما بعد ، فكيف إذا لا يقبح الاعتراض به ، سيما إذا كان الاعتراض بنسخة من نسخه.

وأما «ثالثا» فإن المتعرب لم يكتف بسخافة كتبه حتى صار يتقوّل عليها ولا يفهم ما فيها ولا يدري به ، فلم يشعر ان تقويم التوراة العبرانية وتاريخ العهد الجديد يقتضيان ان يكون بين الطوفان وبين موت اسماعيل خمسمائة وخمس وسبعون سنة لا خمسمائة وعشر سنين ، وذلك لأن من الطوفان الى مولد تارح أبي ابراهيم بحسب النسخة العبرانية مائتان واثنتان وعشرون سنة ، وعاش تارح مائتين وخمس سنين ، ومات في حاران «تك ١١ ، ١٠ ـ ٣٢» ، وباعتبار ان ابراهيم خرج من حاران وهو ابن خمس وسبعين سنة «تك ١٢ ، ٤» وانه خرج بعد ما مات أبوه «١٠ ع ٧ ، ٤» فلا تكون ولادة ابراهيم قبل أن يمضي من عمر أبيه تارح مائة وثلاثون سنة ، فيكون من الطوفان إلى مولد ابراهيم على الأقل ثلاثمائة واثنتان وخمسون سنة ، فإذا اضيف إليها من مولد ابراهيم الى مولد اسماعيل ست وثمانون سنة ، وعمر اسماعيل وهو مائة وسبع وثلاثون سنة «تك ١٦ ، ٦ و ٢٥ ، ١٧» كان المجموع خمسمائة وخمسا وسبعين سنة ، هذا مع ان

١٧٢

المتعرب لا يساعده على دعواه تاريخ من التواريخ حتى تاريخ يوسيفوس المتعبد بتقويم التوراة.

وأيضا مقتضى النسخة السبعينية ان المدة من الطوفان الى مولد تارح تسعمائة وسنتان ، فبمقتضى التقويم الذي ذكرناه من مولد تارح الى وفاة اسماعيل تكون المدة من الطوفان الى وفاة اسماعيل ألفا ومائتين وخمسا وخمسين ، فالمتعرب غلط في التقويم الأول بخمس وستين سنة ، وفي التقويم الثاني بخمس سنين ، فزاد على نسخ كتبه في الغلط نسختين أيضا ، وهو بكتبه المتقلبة وجهله بها وغلطه في الحساب يحاول أن يعترض على المؤرخين ، فتعسا للغرور.

وقال الله تعالى في سورة الفجر ٥ : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ ٦ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ ٧ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ).

ولا يمكن لعاقل أن يستبعد ذلك ، فانه لا بد في كل زمان من أن تكون فيه بلدة هي خير بلاده ، فلا بد أن تكون من جميع البلاد بلدة هي خير بلاد الدنيا في جميع الأزمان.

فما ظنك ببلدة تصدى للتأنق ببنائها ملك عات مقتدر ساعده على ذلك طول العمر وكثرة المعادن وبكارتها ، فلا غرو إذا جاءت خير بلاد الدنيا الى وقتها أو مطلقا.

وأما ما جاء عن بعض الناس في وصفها فليس على عهدة القرآن منه شيء ، ولا يقول المسلمون : ان شدادا نفسه تنبأ في وصف الجنة كما تنبأ «قيافا» في أمره بقتل المسيح «يو ١١ ، ٤٩ ـ ٥٢» بل يقولون : ان شدادا سمع من أنبياء عصره الذين يدعون الى التوحيد والخير والصلاح بوعد الله بنعيم الجنة وكبير شأنها لا بالحنطة والخمر ، ويحذرون بوعيد الله بعذاب الدنيا والآخرة لا بمحض الفقر والمرض ووطأ الأجانب لزوجة العاصي.

وان المسلمين لا يشطون على الله ويحصرون النبوة بقبيلة بني اسرائيل ومريم ، ودبورة ، وخلدة ، وحنة ، وأربع بنات فيلبس ، وبنيهم وبناتهم.

١٧٣

وبهذا تعرف غلط المتعرب «ذ» ص ٤ ـ ٦ ، وزاد المتعرب في الغلط حيث أنكر قصة ثمود وهلاكهم متشبثا بأن «بترا» هي منازل ثمود وقد كانت عامرة في القرن الثاني بعد الميلاد.

فقبحا لغرور الجهل ، أفلا يعلم كل عاقل انا ان سلمنا ان منازل ثمود الذين ذكرهم القرآن هي بترا لقلنا : ان القرآن يبين انهم هلكوا قبل دعوة موسى لفرعون (١) فأقل ما يكون بينهم وبين الميلاد ما يزيد على ألف وخمسمائة سنة ، وكل ذي شعور يعلم انه يمكن للبلاد أن تخرب ويهلك جل أهليها ، ثم تعمر بعد ألف وخمسمائة سنة.

ولو سلمنا ان الذين كانوا في بترا بعد الميلاد يدعون ثمود لجوزنا أن يكونوا بقية ثمود الاولى من نسل الذين نجوا مع صالح (٢) ، أو ان الناس نحلوهم اسم ثمود كما جاء في التوراة (٣) الايميون يحسبون رفائيين لكن الموآبيّين يدعونهم ايميين.

وأما انكار المتكلف والمتعرب على وصف اخبار المسلمين الاحادية لناقة صالح فهو من الشطط ، لأن الله قادر على أن يخلق ناقة هي أعظم من النوق المعتادة لكي تكون آية لاقتراح العرب الذين ألفوا حقيقة الإبل وأحوالها ، ولذا خصّوها بالاقتراح لكون أمرها في نظرهم أبعد عن السحر ، فخلقها الله بقدرته ، كما هو قادر على أن يخلق عنقود عنب يحمل بالدقرانة بين رجلين «عد ١٣ ، ٢٣» ، وعلى ان يعطي شمشون قوة يقتل بها ألف رجل بلحى حمار ، ويقلع بيتا على سطحه ثلاثة آلاف رجل بجذب العمودين من تحته «قض ١٥ ، ١٥ و ١٦ ، ٢٧ ـ ٣١» وعلى أن يفتح القبور عند حادثة الصليب ويقيم كثيرا من أجساد القديسين الراقدين فخرجوا من القبور ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين «مت ٢٧ ، ٥١ ـ ٥٤» ، وعلى أن يعطي بطرس قوة الشفاء للمرضى

__________________

(١) سورة المؤمن ٣١ و ٣٢.

(٢) سورة هود ٢٩ ، والنمل ٥٤.

(٣) تث ٢ ، ١٠ و ١١.

١٧٤

والمعذبين من الأرواح النجسة ، ولو بأن يخيم ولو ظله على واحد منهم «١ ع ٥ ، ١٥ و ١٦» ، وعلى أن يصنع على يدي بولس قوات غير المعتادة حتى كان يؤتي عن جسده بمناديل أو مآزر فتزول بها الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة «١٠ ع ١٩ ، ١١ و ١٢».

* * *

«وأما سورة يوسف في القرآن الكريم وقصته فيها من الآية ٤ ـ ١٠٣».

فقد اعترض المتكلف «يه ٢ ج ٦٨ ـ ٨١» على مضامينها «تارة» بعدم وجود بعضها في توراته ، «وتارة» بمخالفة بعضها لتوراته ، «وتارة» بمخالفة بعضها للاعتبار أو المعقول بزعمه ، «وتارة» يفتري على بعضها فيعترض عليه بأحد الوجوه الثلاثة ، فانظر كتابه في هذا المقام.

فنقول : «اما أولا» فانا لو كابرنا الوجدان والشواهد القطعية وفرضنا صحة التوراة الرائجة لقلنا ان ممارستها والنظر في شئون الحقائق يشهدان بأنها تعرض في تاريخها عن ذكر كثير من الحقائق اللازمة الوقوع ، وتطوي في قصصها أشياء كثيرة لا ينبغي أن تطويها بمقتضى وضعها ، كما يظهر ذلك من سيرة ما بين الطوفان وزمان ابراهيم وإهمالها كثيرا من شئون ذلك وتاريخ انقلاب التوحيد الذي صفاه الطوفان الى الوثنية ، وعناء الموحدين في الردع عنها ، واعتبر حالها أيضا في تكرارها في سفر العدد «١٢ ـ ٣٤» وسفر التثنية «١ ـ ١٢» لذكر مراحل بني اسرائيل ومنازلهم وشئونهم فيها ، فإنها في كل مقام يظهر عليها انها طوت في المقام الآخر ذكر شيء أو أشياء ، وانتظر ما سنذكره مما طوت ذكره في شأن موسى مع فرعون.

واعتبر أيضا بأنها قد طوت في خصوص المقام مكالمات يوسف مع اخوته واسترحامهم لما عزموا على قتله وإلقائه في البئر وهو أمر لا بد من وقوعه ، كما أشرنا إليه في هذا الجزء صحيفة ١٢

وأهملت أيضا تعيين الزمان الذي بقي فيه يوسف في السجن ، بل اهملت الإشارة إليه ، مع انها نصت في هذه القصة على تعيين كثير من الأزمنة.

١٧٥

فلا غرو إذا ذكر القرآن الكريم شيئا قد أهملت التوراة ذكره لكي تكمل الفائدة من كلا الوحيين مثلا.

ولكن أين وأين غرض المتكلف ومعرفته وأمانته من التدبر في هذه الامور ، أفتأمل منه لأجل هذا أن يتورع ويقف عن مثل قوله «غلط» متشبثا بأن التوراة لم تذكر ذلك «كلا».

«وأما ثانيا» : فإن مخالفة القرآن الكريم للتوراة الرائجة إن لم تكن من أمارات الحق فلا تورد على الحقيقة شكا ، وذلك لأن العقل إذا نظر بعين الاعتبار والاستقصاء الى ما أشرنا إليه في التصدير وغيره من قلق التوراة في أدوارها وتقلبها في شئونها ، ومكافحة متبعيها لها بالتغليط والرد ، فانه يقرب الى الظن فضلا عن العلم ان كل مضمون من مضامينها لا بد من أن يكون قد طرأ عليه المسخ والتبديل الكلي أو الجزئي مرارا عديدة خصوصا إذا كان المضمون قصة طويلة الذيل ، فلا يعتبرها العقل كتاب تاريخ يساوي سائر التواريخ حتى بالنسبة الى «حلقيا» أو غيره ، فانظر أقلا الى الجزء الأول صحيفة ٥٢ ـ ٦٠ ، و ٣٥ ـ ٣٩ ، و ٣٤٦! ٣٤٧» ، وانظر الى التصدير في هذا الجزء ، فلا يسمح لها العقل بأن تقف في صف كتب التواريخ التي لم يعلم بوقوع التقلب والمسخ في مكتوبها وجهالة نسبتها.

ودع عنك أمر الاعتماد على الكاتب ، وانه هل هو من أهل الخبرة بالتاريخ والأمانة في النقل والضبط في الحفظ ، هذا إذا اغضى العقل عما فيها من الخرافات التي تؤول الى الكفر ، وما قرفت به يعقوب وموسى وهارون كما تقدم مرارا ، وإلا فانه يقول ويقول.

وليس في قوله تعالى في هذه السورة (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) دلالة على ان القرآن الكريم في هذه القصة ترجمة لما في التوراة الرائجة ، كيف وهو جل شأنه يقول : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، فإن هذا صريح في ان قصة يوسف إنما هي بوحي ابتدائي.

دع هذا وإن كان لا يمكن أن تدعه ، ولكن لو كان القرآن الكريم ترجمة

١٧٦

لما ذكرته التوراة الرائجة لكانت مخالفته لها استدراكا عليها فيما غلط به كتّابها وآبائها المتعددون أو سقط منهم ، كما استدركت الترجمة السبعينية والعهد الجديد والحواشي والتراجم عليها أشياء كثيرة من نحو الغلط والسقط ، أو ليست التوراة الرائجة وصلت بالطريق الذي وصل به العهد القديم ، ومع انه أقرب منها عهدا وأقل منها إباء وابتلاء بالحوادث والكوارث ، فانه قد استدركت عليه الحواشي كثيرا من الكلمات المكتوبة فقالت : انها لا تقرأ واوجبت قراءة كثير من الكلمات التي لم تكتب ، فراجع التصدير ، هذا مضافا الى خلل التوراة الرائجة فيما يتعلق بقصة يوسف في الذين اشتروه وباعوه في مصر لفوطيفار ، فتارة جعلتهم اسماعيليين ، وتارة جعلتهم مديانيين وتارة جعلتهم مدانيين.

«وأما ثالثا» فقد اعترض على مضمون القرآن الكريم في ان زوج المرأة التي راودت يوسف اطمأن ببراءته وأمر المرأة بالاستغفار وأبقاها في بيته وأبقى يوسف الى ان بدا لهم أن يسجنوه.

فقال ص ٧١ من الغرائب تبرئة فوطيفار ليوسف وتوبيخ امرأته فانه لا يتصور ان الرجل يثبت على امرأته الفسق والخيانة ومع ذلك يقتنيها في بيته أو يستمر على اقتناء العبد ليكون احبولة لامرأته الشريرة ، ولا يتصور انه يسجنه بعد ظهور براءته.

أقول : أما إبقاء المرأة في بيته مع ظنه أو علمه بخيانتها ، فلا غرابة فيه ، فإن أحوال الوقت والمكان والعوائد والاشخاص وبعض العوارض قد تقتضي ذلك ...

ولا أقول أكثر من هذا ، وأما إبقاء يوسف في بيته فهو أقرب الى الاعتبار حيث اطمأن بصيانته وعفته وأمانته لقيام الآيات والشهادة على ذلك فإن مثل هذه المرأة لا ينبغي أن يكون في بيتها غير هذا الصديق الأمين.

وأما سجن يوسف فإنما كان من استبداد من لم يطمئن ببراءة يوسف ، أو اطمئن ، ولكنه أراد أن يحابي المرأة المصرية الشريفة فيموّه الأمر ، ويزوّر الخيانة على يوسف الغريب ، ويسجلها بالسجن لكي تشيع بين الناس براءة المرأة.

١٧٧

وهذا قريب من كيد الحكومات الوثنية الجورية القديمة في معاملتها مع أعيان الوطن وضعفاء الغرباء ، ولم يقل القرآن ان الذي سجنه هو زوج المرأة ، بل قال : (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) ، ولو نسبه الى زوج المرأة لكان من الجائز أن يقصد به محاباة المرأة بالستر عليها ، كما قدمنا.

واعترض أيضا على مضمون القرآن الكريم في انها دعت لائماتها من نسوة في المدينة وآتت كل واحدة منهن سكينا فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن فقالت : هذا الذي لمتنني فيه ، واعترفت بأنها راودته فاستعصم.

فقال «ص ٧٢» : هذا لا يتصور عقلا ، فلا يتصور أن تفضح نفسها ، ولا يتصور عاقل ، ولا جاهل ان النساء يقطعن أيديهن ولا يشعرون لدهشتهن من جمال يوسف.

وأقول : ان سورة العشق وخلاعة الغرام تبعث على أكثر من هذا ولم يقل القرآن ان تلك النسوة من أشراف المدينة ، بل قال نسوة في المدينة ولعلهن صويحباتها في طاعة الصبابة والشهوة ، وكان لومهن لها إنما هو لأنها لم تكشف سترها وتفشي سرها لأبناء جنسها من الأعيان الذين يغازلونها إذا تغازلهم ، بل تعرضت لغلام وضيع لا يؤاتيها على مرامها ، وأصرت على ذلك حتى فضحها بقوله : هي التي راودتني عن نفسي ، فإن الناس لا يمتنع عليهم ان يصدقوا يوسف فضلا عن شهادة الآيات ، ولعل ما يشير الى ذلك قوله تعالى «فلما سمعت بمكرهن» إذ سمى لومهن على الفحشاء مكرا ، أي ليس يلوم على الفحشاء في الحقيقة وأنّما هو لوم على عدم سلوكها في الفحشاء بالنحو المألوف ، فأبدت لأرباب الهوى عذرها المقبول عندهم في الغرام ويشهد لذلك ما داخلهن عند رؤية يوسف إذ تنبهت صبابتهن المألوفة ، وحركتهن ممارسة المغازلة ، وان عملها معهن ليدل على معرفتها بحالهن ، وانهن ممن يلبي دعوة العشق ويستخفه الغرام.

ومن ذلك يظهر انهن لا يمتنع عليهن في دين الغرام وناموس الشغف أن يقطعن أيديهن ، وسيما إذا كانت سقتهن من نتاج الكرمة ، ولا سيما إذا حسبن اعراضه دلالا ، وعفته تغنجا ، وخيل لهن ان اغضاءه من فتنة ألحاظه واسراعه

١٧٨

من ترنيح الشباب لاعطافه ، فشبت بجوانحهن نيران الوجد ، إذ لم يقبل توبتهن على يده فيقبلن قدميه ، ويبللنهما بمدامعهن ، ويمسحنهما بشعور رءوسهن ...

وأما اعترافها ببراءة يوسف بعد ذلك فقد تقتضيه التوبة وتبرئة البريء وتخليصه من الظلم ، بل قد تقتضيه رأفة العاشق بالمعشوق بعد ان خمدت نار الغضب فشبت نار الغرام وأقلق الشوق الوساد ونبضت أعلاق المحبة «ان الغرام لأهله فضاح».

فلا يتوجه استبعاد المتكلف لذلك ص ٩٦ ، فانا نرى كثيرا من الناس قد جعلوا عرضهم وشرفهم فداء لغرضهم الصحيح أو الفاسد ، ومن ذلك اعتراف الخاطئات أمام القديسين ، ومن هذا النحو اعتراض المتكلف على قوله تعالى في اخوة يوسف : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

فجعل ص ٦٩ هذا النقل عنهم افتراء عليهم.

مع ان التوراة تصرح بأنهم لما رأوا أباه يحبه أكثر من جميع اخوته أبغضوه ، ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام «تك ٣٧ ، ٤» ، أفتقول انهم مع ذلك لا ينقدح في أنفسهم شيء على أبيهم ولا يتفوهون به ، أم يقول المتكلف انهم أورع من ذلك؟.

إذا فلما ذا أقدم أكثرهم على قتل أخيهم وحبيب أبيهم ، وباعوه بيع العبيد وأقرحوا قلب أبيه وكذبوا عليه «تك ٣٧ ، ٢٧ ، ٣٦» ، أم يقول ان روابين ويهوذا قد تورعا عن قتل أخيهم ، فهما أورع من أن يتكلما على أبيهم لكي تشهد له التوراة على ورعهما «تك ٣٥ ، ٢٢ ، و ٣٨ ، ١٣ ـ ١٩».

ومن هذا النحو اعتراضه على مضمون القرآن بأن يعقوب انفتحت عيناه إذ ألقوا على وجهه قميص يوسف.

حيث قال ص ٨١ فمسألة القميص المذكورة في القرآن هي خرافية.

١٧٩

قلت : وكيف إذا يعد المتكلف من كلام الله السميع العليم قول كتابه ان بولس كان يؤتى عن بدنه بمناديل ومآزر الى المرضى فتزول عنهم الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة «١ ع ١٩ ، ١٢».

فلما ذا يكون هذا ممكنا معقولا وتكون كرامة الله ليعقوب ويوسف في أمر القميص خرافية ، وهل التفرقة بينهما إلا من الظلم الفاحش ، فهل كان الاقنوم المتجسد فاديا ومتحملا حتى لقصاص هذه الخطيئة ، أم يقول المتكلف ان كرامة القميص وأمثالها لم تكن ممكنة قبل التجسد.

وأما بعد فضيلة التجسد ومجد الاضطهاد والصلب ، فقد انبثقت القدرة على إعطاء بولس ما تقدم ذكره ، وإعطاء بطرس شفاء المرضى ، ولو بأن يخيم ظله على أحد منهم «اع ٥ ، ١٥» ، وشفاء المفلوج ، واحياء الميت «ا ع ٩ ، ٣٢ ـ ٤٢».

«وأما رابعا» فان المتكلف من رسوخ إيمانه وامتلاءه من روح القدس صار يفتري على القرآن ثم يعترض عليه.

فقال ص ٦٩ ان القرآن يقول : ان الذي اشترى يوسف من مصر اتخذه ولدا ، والحقيقة هي انه كان عبدا غريب الجنس.

قلت يعني بذلك قول الله تعالى ٢١ : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ، فهل ترى في ذلك اخبارا بأنه اتخذه ولدا وتبناه ، أم بأنه يترجى في المستقبل أحد أمرين اما أن ينفعه نفع العبيد في العمل أو يصافيهم صفاء الأولاد فيتخذونه ولدا.

وقال الله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

فقال المتكلف ص ٧٠ وهم بها أي قصد مخالطتها ، لو لا ان رأى برهان ربه جوابه محذوف تقديره لو لا أن رأى برهان ربه لخالطها ، ثم اعترض على القرآن في آخر الصفحة.

١٨٠