الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

تكن حادثة يوم وليلة ، بل استمرت الدعوة مئات من السنين حتى جاء أمر الله بالطوفان.

غرق ابن نوح في الطوفان

وقال الله تعالى في سورة هود ٤٤ : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ٤٥ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) ٤٧ (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ٤٨ قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

والمتكلف «يه ٢ ج ص ٦٦» ينكر هذا كله تشبثا بغمغمة توراته الرائجة في تاريخها المدمج وسيرتها البتراء.

وقد اعترض «ص ٦٥» على بعض المفسرين في تسميتهم لابن نوح المشار إليه بكنعان وقال هذا غلط مبين ، وأظن ذلك لكون توراته تذكر ان ابن حام ابن نوح اسمه كنعان ، فكان المتكلف يقول : ان كنعان ابن حام اخذ امتيازا بهذا الاسم من أول الدنيا ، فلم يقدر نوح أن يتعدى قانون الأسماء ليسمي ابنه كنعان ، فيا لهفاه على الأدب على ان ذلك لا يمس القرآن في شيء.

واعترض أيضا على قول نوح (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ) وافترى على القرآن بنسبة التأوة لنوح.

ثم صار يتبجح بما يذكر كتابه عن عالي لما اخبره صموئيل بما يحل بولديه لأجل شرهما

وما يحل ببيته من البوار حيث قال : هو الرب ما يحسن في عينيه يعمل ، وصار يطالب نوحا بما يزعمه من تسليم عالي لأمر الله حسب عادة الأتقياء.

قلت : قد قدمنا لك في الجزء الأول صحيفة ٩٥ ـ ٩٦ انه ليس في قول نوح اعتراض على الله ، ولا منافاة للتسليم لإرادته وإنما استفهم عن حقيقة

١٤١

الوعد السابق بنجاة أهله فقال : ان ابني من أهلي وان وعدك الحق ، وعقب سؤاله بالاذعان بالحكمة والرضا والتسليم.

ولو ان المتكلف يشعر بما قرفت به كتبه كبار الأنبياء لما تعرض للافتخار بتسليم «عالي» الذي ليس بنبي ، ولكنه كأنه لا يدري لكي يتحذر من أن يقول له نقاد الأدب وزعماء البحث إذن فكيف تقول كتبكم ان موسى كليم الله يقول لله : لما ذا أسأت الى هذا الشعب؟ لما ذا أسأت الى عبدك؟ وان ايليا يقول أإلى الأرملة التي أنا عندها أسأت أيضا بإماتتك ابنها ، وان ارميا النبي يقول يا أيها السيد الرب حقا انك خداع خادعت هذا الشعب واورشليم قائلا يكون سلام وقد بلغ السيف النفس ، وان المسيح يقول وهو على الصليب إلهي إلهي لما ذا شبقتني «أي تركتني»؟ ولما ذا شحن كتاب أيوب بنسبته لأيوب كلمات الجزع والاعتراض على قضاء الله الى حد الكفر.

وقال الله جل اسمه في سورة العنكبوت ١٣ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ).

فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ١٠٢» بأن التوراة تقول ان عمر نوح هو ٩٥٠ سنة من دون زيادة ما قبل الرسالة وما بعد الطوفان كما يقتضيه القرآن.

قلت : قد ذكرنا لك في تتمة الصدر مبلغ اعتبار التوراة السبعينية في الامّة اليهودية وعلو شأنها في الملة النصرانية ، بل كانت هي الشاهد لها في الدعوة وبشارة الرسالة ، كما ان النسخة العبرانية عندهم هي الأصل المعتمد والسند والمستند ، وبذلك تكون النسختان متكافئتين في الاعتبار متزاملتين عندهم في محمل الصحة على اسم التوراة الواحد ومعناها المتحد ، فنقول : إذن ان التوراة بهاتين النسختين وذاتها بهذين الزيين أو الزينتين قد اضطربت وتلونت في مقادير العدد وألفاظه في التاريخ والشريعة أفحش اختلاف ، كما ذكرنا لك في أعمار الآباء وعمر اللاوي في خدمة المسكن ، وزد على ذلك مخالفة النسخة السامرية التي قال جمع من محققي النصارى ومفسريهم بصحتها واعتبارها ، دع عنك هذا كله ولكن النسخة العبرانية قد ذكرنا لك اضطرابها في التاريخ ومقادير السنين

١٤٢

على وجه بينا لك في تتمة الصدر أنه كلما رام المتكلف أن يصلحه بمعونة معرفة المرسلين الاميركان فلم يستطع إلا مواساة توراته في الاضطراب والاختلاف.

فقل للمتكلف : أبهذه التوراة ذات النشء المجهول والكاتب المغلاط تريد أن تعارض القرآن الكريم؟ لا ، ولا واحدا من كتب التاريخ ، أيها المتكلف ألم يسمح أدبك أو انصافك أن تجعل القرآن بمخالفته للتوراة الرائجة في صف النسخة السبعينية إذ كان يرتّلها المسيح عليه‌السلام ، كما تقولون في خطابه ويدرسها الرسل والقدماء كما تقولون لاحتجاجهم لا ، ولا منّة ولا إحسان فإنما هو هو ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وذكرى للمؤمنين ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

* * *

شأن ابراهيم والكواكب

وقد كرر المتكلف «يه ٢ ج ص ٤٥» اعتراضه على الآيات التي ذكرت ذلك في سورة الانعام ٧٥ ـ ٧٨ : وقد قدمنا لك الكلام في ذلك مستوفى في الجزء الأول «صحيفة ١٠٦ ـ ١٠٨».

* * *

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٢٦٠ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٣٠ و ٣١» ما ملخصه : أجمع علماء الاسلام على ان الذي حاجّ ابراهيم هو نمرود ابن كنعان الجبار ، ولا شك ان محمدا «ص» اتخذ هذه القصة من الخرافات اليهودية التي كانت متداولة في عصره ، والتوراة منزّهة عن مثل هذه الخرافات ، على ان نمرود لم يكن معاصرا لابراهيم بل يعلم من سفر التكوين انه كان بين نمرود وابراهيم نحو ثلاثمائة سنة ، فأقوال

١٤٣

القرآن هي من الخرافات الملفّقة.

قلت «أولا» : ان التوراة الرائجة لا يحتمل شأنها أن تذكر مثل هذه الحجة الباهرة وتمجد الله ورسوله بذكر واقعتها ، وإنما توفقت لأن تقتصر على واقعتين في تاريخ ما بين الطوفان وهجرة ابراهيم «الواقعة الاولى» ان نوحا شرب الخمر وسكر وتعرّى في خبائه فأبصر حام عورته وأخبر ساما ويافث فلما استيقظ نوح من خمره لعن كنعان «تك ٩ ، ٢١ ـ ٢٥» ، «الواقعة الثانية» ان بني آدم عزموا على أن يبنوا مدينة وبرجا فنزل الرب لينظر المدينة والبرج وقال : هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتدائهم بالعمل والآن لا يمتنع عليهم كلما ينوون أن يعملوه ، هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض «تك ١١ ، ٥ ـ ٨».

وثانيا : ان الذي سمّاه المسلمون هو نمرود ابن كنعان ، وقالوا هم وغيرهم من المؤرخين ان «نمرود» اسم يسمى به ملوك تلك البلاد كما يسمى كل واحد من ملوك الفرس «كسرى» وكل واحد من ملوك الروم «قيصر» كما سمى به العهد الجديد اوغسطس «لو ٢ ، ١ وطيباروس لو ٣ ، ١ وكلوديسوس ١ ع ١١ ، ٢٨» ، وكما سمى العهد القديم ملوك مصر «فرعون» فسمى بذلك صاحب ابراهيم «تك ١٢ ، ١٥ ـ ٢٠» ، وصاحب يوسف «تك ٤١ ، ١ ـ ٥٥» وصاحب موسى «خر ١ ـ ١٥ ، ٢٠» ، وصهر سليمان «١ اي ٣ ، ١» ، ومعاصر ارميا «ار ٤٤ ، ٣٠» ، وان نمرود ابن كنعان لا يلزم أن يكون هو المذكور في توراة المتكلف.

وثالثا : سلمنا ذلك ولكن التوراة ذكرت ان الذين نجوا بالفلك من الطوفان هم ثمانية من البشر : نوح وامرأته وبنوه الثلاثة ونسائهم «تك ٨ ، ١٨».

وذكرت في أولاد حام «كوشا» وذكرت ان بني كوش سبا ، وحويلة وسبته ، ورعمة ، وسبتكا ، وان بني رعمة شبا وددان ، وبعدا كله ذكرت ان كوشا ولد نمرود الذي ابتدأ يكون جبارا في الأرض ، وكان ابتداء مملكته بابل ، وارك ،

١٤٤

وأكد ، وكلنه في أرض شنعار فانظر «تك ١٠ ، ٦ ـ ١١» وتصحيح عبارة التوراة يقتضي أن يكون نمرود من أولاد كوش بالواسطة ، وهبه كان ولده بلا واسطة ، ولكن كم ينبغي أن يكون من السنين بين الطوفان وبين موت نمرود بحسب أعمار تلك الأدوار ومواليدها ، أفلم تذكر التوراة ان أعمار تلك الطبقات كانت خمسمائة وما يقاربها «تك ١١ ، ١٢ ـ ١٨» ، فمن أقرب الممكنات العادية أن يعيش ولد «كوش» الى ما بعد الطوفان بأربعمائة سنة أو أكثر.

وإذا أخذنا مولد ابراهيم بحسب التوراة العبرانية «تك ١١ ، ١٠ ـ ٣٢ و ١٢ ، ٤ واع ٧ ، ٤» وجدناه أبعد ما يكون فيه عن الطوفان نحو ثلاثمائة واثنتين وخمسين سنة او ثلاثمائة وستين سنة.

وحاصل ذلك ان تقاويم التوراة العبرانية في ذلك الوقت تقتضي أن يكون نمرود المذكور في التوراة قد أدرك في عمره المعتاد مدة طويلة وسنين عديدة من عمر ابراهيم ، كما اتفق بحسب تقويمها ان ابراهيم أدركه جميع آبائه الذين هم بعد الطوفان مدة طويلة ما عدا نوحا وفالج ، إذا عرفت هذا فقل للمتكلف : ان نمرود الذي ذكره المسلمون هو النمرود ابن كنعان أحد النماردة الكثيرين لا خصوص من ذكرته توراتك.

وهبه هو فإن أبعد مدة تقولها توراتك العبرانية بين الطوفان ومولد ابراهيم هي ٣٥٢ أو ٣٦٠ سنة فإذا جعلنا بين ابراهيم وبين نمرود المذكور في التوراة ثلاث مائة سنة كما تزعم ، فقل : متى كانت ولادة كوش من حام ومتى كانت ولادة نمرود؟ ومتى كان تملكه على بابل وأرك وأكد وكلنه في أرض شنعار؟ ومتى تمصّرت البلاد بعد الطوفان؟ أفتقول بإلهامك ومعرفة المرسلين الامريكان أن ولادة كوش كانت بعد الطوفان بسنة ، وولادة نمرود كانت بعد الطوفان بسبعة عشرة سنة ثم ملك البلاد الممصرة ومات بعد الطوفان بنحو ٥٢ أو ٦٠ سنة ، فكان بينه وبين ابراهيم ٣٠٠ سنة ، ولكن المتكلف لا يبالي من أن يقول مثل ذلك فيخالف كتبه.

أو ليس هو الذي قال «يه ٣ ج ص ٢١٧» اقتضت عناية الله الإلهية أن يبقى نوح حتى رأى ابراهيم فأخبره عن الطوفان وعن أعمال الله معه وغير ذلك

١٤٥

فنقل ابراهيم هذه القصص الإلهية وأعلمهم إرادة الله.

فلم يبال في ذلك بمخالفة كتبه التي يعول عليها فإن توراته تقول ان نوحا عاش بعد الطوفان ثلاث مائة وخمسين سنة «تك ٩ ، ٢٨» ، وتقويم العبرانية يقول بحسابه : ان ولادة تارح أبي ابراهيم لمائتين واثنتين وعشرين سنة من الطوفان ، وكانت أيام تارح مائتين وخمس سنين ومات في حاران «تك ١١ ١٠ ـ ٣٢» ، وان ابراهيم لما خرج من حاران كان ابن خمس وسبعين سنة «تك ١٢ ، ٤».

والعهد الجديد يقول : ان ابراهيم خرج من حاران بعد ما مات أبوه «١ ع ٧ ، ٤» فان فرضنا انه خرج من حاران في سنة موت أبيه فلا بد أن يكون مولده لمائة وثلاثين سنة من مولد أبيه تارح ، فيكون مولد ابراهيم لسنة ثلاث مائة واثنتين وخمسين سنة من الطوفان ، فيكون مولده بعد موت نوح بسنتين ، فأين تكون رؤية نوح لإبراهيم واخباره عن الطوفان وأعمال الله معه.

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٢٦٢ : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً).

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٣٣ و ٣٤» على هذه الآية بأن عبارة القرآن ناطقة بوقوع الشك من ابراهيم في قدرة الله تعالى ، وتشبث لذلك برواية من الآحاد.

قلنا : وقد ذكرنا لك في الجزء الأول صحيفة ١٠٩ ـ ١١٠ ان قول ابراهيم (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) لصريح على رغم أنف الغباوة والعناد بأن إبراهيم مؤمن بهذه الحقيقة لا شك له فيها ولكنه طلب تأييد العقل بالحس ليحصل له الاطمئنان باليقين الكامل ، إذ لا شك ان العقل إذا تأيد بالحس كان المعلوم أوقع في النفس وأثبت في اليقين من المعقول الصرف.

وذكرنا لك أيضا ان الرواية يكفي في ردها مخالفتها لصراحة القرآن الكريم وطلبنا منك المقايسة في الدلالة على الإيمان والشك بين قول ابراهيم :

١٤٦

(بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) ، وبين حكاية التوراة لقول ابراهيم أيضا ففيها وقال : أنا الرب الذي اخرجك من اور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها ، فقال : أيها السيد الرب بما ذا أعلم اني أرثها «تك ١٥ ، ٧ و ٨» أفترى هذا الكلام يعطي رائحة من الإيمان والتصديق بوعد الله في أمر جرت عليه سنّة الله في عباده وبلاده من توريثه أرض قوم لآخرين ، أم يعطي انه لا يحصل العلم بمجرد قول الله ووعده وإنما يحصل العلم بشيء آخر ، كما قيل: بما ذا أعلم اني أرثها.

هب ان المتكلف لا يفهم القرآن ولا اللغة العربية ، أو انه يتحامل لتعصبه على القرآن بالافتراء توهما لرواج ذلك عند بعض الأوباش ، ولكنه ألم يكن يدري بأن في توراته مثل هذا الذي يفضحه عند المقايسة ، ولعمر الأدب لو أراد أن يدل على ما في توراته من الخلل لما أحسن التنبيه بمثل هذا التعريض.

وأظرف شيء مع ذلك انه يقول : ان كتاب الله يعلمنا بأن ابراهيم لم يشك في قدرة الله مطلقا ، إذن فالتوراة التي ذكرت هذا الكلام كتاب من؟ وهل ترى المتكلف يقول : ان قول ابراهيم «بما ذا أعلم» ليس شكا في قدرة الله وإنما هو شك في صدقه جل شأنه في وعده ، نعم يقول ولا يبالي ، ولا تقل ان المتكلف لا يعلم بهذا الكلام من توراته ، فإنه نقل منها هذا المقام برمّته ، ولكنه ستر بذيل أمانته قولها «بما ذا أعلم اني أرثها».

وحاصل هذا المقام هو ان الله تبارك اسمه قال لابراهيم أعطيك هذه الأرض لترثها فقال ابراهيم : بما ذا أعلم اني أرثها؟ فقال له : خذ لي عجلا ثلثية وعنزا ثلثية وكبشا ثلثيا ويمامة وحمامة فأخذها وشقّها من الوسط وجعل شق كل واحد مقابل صاحبه ، وأما الطير فلم يشقّه ، ثم غابت الشمس فصارت العتمة وإذا تنور دخان ومصباح نار يجوز بين تلك القطع ، في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا : لنسلك اعطي هذه الأرض «تك ١٥ ، ١ ـ ١٩» ، فانظر وقل إذا كان وعد الله لا يوجب العلم بصدقه حتى يقول ابراهيم : «بما ذا أعلم اني أرثها» ، فما وجه الدلالة في قطع الحيوانات وظهور الدخان والنار بين قطعها ، فإن كان ابراهيم يخاف خلف الوعد والندم والحزن والتأسف في القلب على صدور الوعد ، فإن هذا العمل لا يوجب له العلم بعدم الندامة ولا فائدة فيه.

١٤٧

أو تقول مثل ما قال المتكلف في هذا المقام ، فهذه الذبيحة هي لتأييد العهد الذي عقده الله مع ابراهيم فكانت عادة اليهود بل الامم أيضا عند ابرام عهد يذبحون الذبيحة إشارة الى ان من ينكث العهد يحل به سيف العدل الإلهي ، فالمولى سبحانه وتعالى تفضل وأعطاه هذه العلامة لتأييد العهد وتثبيت إيمانه وان الله سينجز ما وعده به.

إذن فهل حصل العلم بعقد الميثاق وتثبيت العهد بهذه العادة الاممية بسبب اشارتها التى جعلها سيف العدل الإلهي حوالة على الناكث؟ أم لم يحصل؟ ولما ذا يحصل فإن من لا يصدق بوعده لا يؤتمن على الوفاء بعهده.

والتوراة لم تذكر حصول العلم بواسطة هذا العهد ، ولعلها تقول أن قانون الفداء لم يترك وثوقا بمراقبة سيف العدل الإلهي ، إذ لعل العدل والقداسة وبغض الخطيئة والنكث للعهد تكون سببا لأن يكون ابراهيم فاديا وإن استعفى فيحمل عليه قصاص الناكث للعهد غفرانك اللهم جل شأنك وتعاليت عما يقولون.

ثم اعترض المتكلف على حديث الطيور في الآية الكريمة ودلالتها على حياتها واجتماع أوصالها بعد التفرق ، فقال : هذه الأقوال ليست من الأغلاط الفاحشة بل من الخرافات الخارجة عن حد المعقول.

قلت : إن كان لك إلمام بمعرفة أحوال المتكلف فأبن لي عن منشأ هذا الكلام هل هو هذيان مبرسم ، أو نفثة باح بها كامن الإلحاد وإنكار المعاد وقدرة الله ، وانطواء الاعتقاد على ان عود الأجسام والتئامها بعد تفرق أجزائها خارج عن حد المعقول ، وكيف يكون ذلك والمتكلف والمرسلون الامريكان يدّعون انهم أتباع المسيح الذي هو والعهد الجديد أيضا يحتجان على وقوع القيامة وعود الأجسام بعد تفرقها ، وينوهان بقدرة الله ، وهم يدعون انهم رسل الدين المسيحي لا رسل «داروين».

وقال الله جل اسمه في سورة الانعام ٧٤ : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

١٤٨

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٤٤» على تسمية القرآن أبا ابراهيم «آزر» مع ان التوراة سمّته «تارح» «تك ١١ ، ٢٦» ، وبأن تارح ما كان يعبد الاصنام بدليل انه هاجر مع ابراهيم الى حاران ، فلو لم يكن تقيا لما ترك وطنه وهو عزيز عنده.

قلنا : ان آزر معرّب اليعازر ، ومنه قول المتنبي : «أو كان صادف رأس آزر سيفه» حيث أراد منه اليعازر الذي يذكر انجيل يوحنا ان المسيح أحياه من الموت ، فيجوز أن يكون لفظ اليعازر لقبا لتارح فإن معناه «الله عون» فسمى القرآن تارح بلقبه.

ودعوى ان تارح لم يكن يعبد الأصنام إنما هي من المتكلف دعوى لا شاهد عليها إلا التخمين المعارض بأقوى منه ، فان «لابان» ابن بتوئيل ابن ناحور أخي ابراهيم كان في حاران يعبد الأصنام انظر «تك ٣١ ، ١٩ و ٣٠» وهذا يعطى أن بيت ابراهيم لم يكونوا في حاران أبرياء من عبادة الاصنام ، ويؤيد ذلك ان ابراهيم هاجر عن أهله من حاران ولم يتبعه إلا لوط وسارة ويجوز أن يكون تارح هاجر من وطنه حبّا لإبراهيم وفرارا بولده من كيد عبدة الاوثان ، وهذا مما يقدم عليه الأب الشفيق وإن لم يكن على دين ولده ولنا أن نقول ان آزر المذكور في القرآن لم يكن أبا ابراهيم حقيقة ، وانما هو حسب قول التوراة اليعازر الدمشقي ملك بيت ابراهيم أو ابنه المتأهّل لوراثة ابراهيم «تك ١٥ ، ٢ ـ ٤» فسماه القرآن أبا لإبراهيم حسب الاصطلاح الجاري في القديم من تسمية القيّم بالأمور «أبا» وان كان عبدا أو رعية ، فعن قول يوسف : الله جعلني أبا لفرعون «تك ٤٥ ، ٨».

وعن قول ميخا للغلام اللاوي : كن لي أبا : «قض ١٧ ، ١٠» ، وعن قول الدانيين لذلك الغلام أيضا : كن لنا أبا : «قض ١٨ ، ١٩» ، وربما يشير تصريح القرآن باسم آزر الا انه احتراز عن الأب الحقيقي.

وقال الله تعالى في سورة التوبة ١١٥ : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ).

١٤٩

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٦٠» بأنه حاشا لابراهيم أن يستغفر له ، فإنه يعرف انه لا تنفع الشفاعة بعد الموت ، وبأن أبا ابراهيم ما كان مشركا ولا عدوا لله.

قلنا : ان قوله تعالى : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) كاف في بيان بطلان الاعتراض وكاشف عن ان الاستغفار كان لرجاء الايمان فيكون المراد من الاستغفار هو طلب التوفيق للإيمان الذي هو سبب المغفرة ، ولكن جل اسمه لا يلجئ المعاند ، ولا يوفق الا من هو أهل ، فلما تبين لابراهيم عناد أبيه ، ويأس من إيمانه تبرأ منه ، كما هو وظيفة الأنبياء والأولياء بل وسائر المؤمنين ، فلم يقل لله ولا يقول لإبراهيم ولا غيره من الأنبياء في شأن من يعبد الوثن ، والآن ان غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت «خر ٣٢ ، ٣٢» ، هذا وقد تقدم الكلام بأن أبا ابراهيم المذكور ما كان مشركا.

وقال الله تعالى في سورة هود ٧٢ : (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ٧٣ فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ ٧٤ وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ).

واعترض عليه المتكلّف «يه ٢ ج ص ٦٦» بمخالفته لما ذكر في توراته التي عرفت حالها «تك ١٨ ، ١ ـ ١٦» ، وأنموذج اعتراضاته في ذلك هو اعتراضه على نقله ان الملائكة لم يأكلوا حيث ان توراتهم تقول انهم أكلوا.

قلت : ويظهر وجه اعتراضه بقول توراته ، وظهر له الرب وإذا ثلاثة رجال ، الى أن قالت : فجاء الملاكان الى سدوم ، فصنع لهما لوط ضيافة وخبزا فطيرا فأكلا «تك ١٨ ، ١ ـ ١٩ ، ٤» وهي وإن اضطربت في العدد لكنها لا تخفي دلالتها على ان الملاكين الذين جاءا الى سدوم هما الذين جاءوا الى ابراهيم وأكلوا تحت الشجرة من ضيافته وذهبوا نحو سدوم.

ويتضح وجه اعتراضه بقول عهده الجديد في الملائكة ، أليس جميعهم أرواحا «عب ١ ، ١٤».

١٥٠

وباحتجاج أنا جيله على ان أبناء القيامة لا يتزوجون بكونهم مثل الملائكة «مت ٢٢ ، ٣٠ ومر ١٢ ، ٢٥ ولو ٢٠ ، ٣٦».

واعترض المتكلف أيضا على القرآن وقال «يه ٢ ج ص ٦٧ س ٢٢» عدم تعيين عدد الرجال يدل على الجهل ، يعني بذلك عدد الرسل الذين أرسلهم الله الى ابراهيم.

قلت : وقد قدمنا لك ان القرآن الكريم لم يدخل شئونه مدخل التاريخ بل لا يتعرض في نصه وبيانه إلا لما كان مهما في الغرض المقصود ولا مداخلة هاهنا في الغرض للنص على كون الرسل ثلاثة أو عشرة ، فاكتفى بالاشارة الى الحقيقة بصيغة الجمع وضميره الدّالين على انهم لا ينقصون عن ثلاثة.

ولا تعجب من سخافة كلام المتكلف في اعتراضه هذا ، ولكن تبصر فيما جناه بهذا الاعتراض على نفسه وعلى كتابه وعلى قومه ، إذ حمل المتتبع على أن ينظر في توراته فيرى خبطها في هذا المقام ، فانها بينما تقول ان هؤلاء الرسل ثلاثة رجال وقاموا وتطّلعوا نحو سدوم ، وانصرفوا من هناك وذهبوا نحو سدوم «تك ١٨ ، ٢ و ١٦ و ٢٢» أذابها قد قالت وجاء الملاكان الاثنان الى سدوم «تك ١٩ ، ١» فانقلب الثلاثة اثنين.

ثم قالت أيضا في مخاطبة لوط لهؤلاء الاثنين وجوابهما له ، فقال لهما لوط : لا يا سيد هو ذا عبدك ، وجد نعمة في عينك عظمت لطفك ، فقال له : قد رفعت وجهك ، أنا لا اقلب المدينة ، أنا لا أستطيع ان أفعل شيئا حتى تجيء الى هناك «تك ١٩ ، ١٨ ـ ٢٣» فانقلب الاثنان واحدا ، وحق للمتكلف أن يفتخر بتوراته ويقول ان الناس من هذا المقام أخذوا علم الحساب ووضعوا اصوله واستخرجوا قواعد الجبر والمقابلة.

ولعل المتكلف يقول : ان هذا المقام من مجاهرة التوراة بالثالوث ، فنقول له : ان توراتك ثلّثت وثنّت ووحدت موضوعا واحدا من الملائكة ، وان المعروف منكم وممن تقدمكم بعقيدة الثالوث كالبراهمة والبوذيين وغيرهم من الامم القديمة (١) إنما هو التثليث في الذات الإلهية تعالى الله عن ذلك ، فتجعلونه

__________________

(١) انظر كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية ص ١٧ ـ ٣٣.

١٥١

واحدا ذا أقانيم ثلاثة ، وعليه جرت مزاعمك «يه ٤ ج ص ٢٤٥ ـ ٣٠١» ، ولا نسمع عنكم ولا عمن قبلكم دعوى الجمع بين التثليث والتثنية والتوحيد حتى في الملائكة.

فإن زعم المتكلف كمزاعم الرسالة المنسوبة لعبد المسيح ان التوراة أرادت بذلك الثالوث الإلهي وذكرت أقانيمه الثلاثة.

قلنا له : إذن فقل ان البرهان لك من توراتك على ذلك هو ان ابراهيم عرف انهم اقانيم الإله الثلاثة ، ولذلك دعاهم لأن يسندوا قلوبهم بكسرة خبز فأكلوا تحت الشجرة ، وبعد ما انقلب هؤلاء الثلاثة اثنين أكلا عند لوط من ضيافته والخبز الفطير ، وبعد ما انقلب الاثنان الى واحد صار لا يقدر على أن يفعل شيئا حتى يجيء لوط الى صوغر.

ومن أين يجد أهل علم اللاهوت في الاحتجاج على الالوهية أحسن من مجد هذه الصفات فانظر «تك ١٨ و ١٩».

وقال الله جل اسمه في سورة الصافّات في شأن ابراهيم وابنه ١٠٠ «فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك».

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠٦» بأن هذا لم يكن في الرؤيا بل ان الله أمره بذلك كما في التوراة.

قلت : غاية ما في التوراة على ما فيها ، انها قالت ان الله امتحن ابراهيم فقال له : يا ابراهيم فقال : ها أنا ، فقال : خذ ابنك وحيدك الى آخره «تك ٢٢ ، ١ و ٢» ولم تصرح بأن هذه كان في يقظة أو رؤيا ، وان جملة من نبوات ابراهيم وكلام الله وخطابه معه قد كانت في الرؤيا والمنام انظر «تك ١٥ ، ١ ـ ١٠ و ١٢ ـ ١٧».

فالقرآن أوضح الحقيقة على خلاف إبهام التوراة لها.

وقال الله تبارك اسمه في سورة البقرة ١١٩ : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ

١٥٢

طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ١٢١ (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ).

والمتكلف ينكر ذلك ويقول «يه ٢ ج ص ٢٣» ، وكتاب الوحي الإلهي يعلمنا ان ابراهيم لم يتوجه مطلقا الى الكعبة ، ولا الى بلاد العرب ، ثم ذكر ما ذكرته توراته في سيرة ابراهيم المجملة ، ثم قال : والحقيقة هي ان الكعبة بيت زحل.

قلت : ليس في التوراة الرائجة ما يدل على ان ابراهيم لم يتوجه مطلقا الى الكعبة ولا الى بلاد العرب ، وغاية ما فيها انها لم تذكر بصراحتها سفر ابراهيم الى مكة ، وغاية ما تعرضت له من أحوال ابراهيم إنما هو رحلاته التي هاجر فيها بعائلته وثقله وبيته ، وإنما كان ذهابه الى مكة من سفرياته الخصوصية ، ولم تتعرض التوراة الرائجة لهذا النوع من السفريّات ، كما اهملت ذكر شئونه وأحواله ونشوؤه وتربيته فيما بين النهرين وقد قضى من ذلك شطرا وافيا من عمره وهو مؤمن بل نبي بين وثنيين لا بد أن تجري لهم معه شئون مهمة ، وكما اهملت ذكر شئونه في حاران أيضا.

أفترى إذا قال بعض المؤرخين ان ابراهيم سافر وهو فيما بين النهرين الى اليمن أو عمان أو سافر وهو في حاران الى ناحية الشمال فهل يحسن من ذي أدب ان يرده بخلو التوراة من ذلك؟ كلا.

فان قلت : ان الذي يدعي من سفر ابراهيم الى مكة وبناء البيت أمر مهم لا ينبغي للتوراة أن تهمله إذا كان له أصل ، «قلت» :

أما أولا : فان توراة حلقيا أو غيره مشغولة بما هو أهم من ذلك عندها وهو التسجيل على رحلة ابراهيم الى «مصر ، وجرار» لكي تجري وظيفتها في ذكر قصة فرعون وأبي مالك مع ابراهيم ، فتمجد ابراهيم بذلك انظر «تك ١٢ ، ١١ ـ ٢٠ ، و ٢٠ ، ١ ـ ١٨».

وأما ثانيا : فإن هذه التوراة إنما هي كآبائها بني اسرائيل إذ حرصوا على أن يجعلوا نصيبا لغيرهم في توحيد الله وعبادته وشريعته ونبوته ، فكيف تسمح

١٥٣

ان تذكر بناء ابراهيم واسماعيل للبيت مع ما فيه من الفضل والرفعة للإسماعيليين ، وان كاتب الأيام الأول لم يدعه الحنق على الإسماعيليين أن ينسبهم الى أبيهم بل سمّاهم الهاجريين «١ أي ٥ ، ١٠ و ١٩ و ٢٠» وسرى هذا الوباء حتى الى كاتب رسالة غلاطية فصار يضرب مثله في الرفعة والضّعة بابن سارة وابن هاجر «غل ٤ ، ٢٢ ـ ٣١».

ويدلّك على ذلك ان هذه التوراة ذكرت أولاد اسماعيل فقامت ووقعت في الخبط ، فانها لما تعرضت لذكر الذين اشتروا يوسف من اخوته وباعوه في مصر ذكرت ما ملخصه ، وإذا قافلة اسماعيليين ذاهب الى مصر فقال يهوذا : تعالوا نبيعه للإسماعيليين واجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف من البئر وباعوه للإسماعيليين فأتوا بيوسف الى مصر ، والمديانيون باعوه في مصر لفوطيفار «تك ٣٧ ، ٢٥ ـ ٣٦».

ثم قالت : ويوسف انزل الى مصر واشتراه فوطيفار من يد الاسماعيليين فانظر الى هذا الخبط والجهل بأنساب أولاد ابراهيم ، فإن هؤلاء الجماعة نسبتهم هذه التوراة مرة الى اسماعيل بن ابراهيم من هاجر ، ونسبتهم مرة الى مديان ، وإن كان المراد به ابن ابراهيم فهو مديان ابن ابراهيم من قطورة ونسبتهم مرة ثالثة الى مدان ، وإن كان ابن ابراهيم فهو مدان ابن ابراهيم من قطورة أيضا شقيق مديان.

وأما ثالثا : فإن أمّة العرب بأسرها متسالمين في أجيالهم على نقلهم ان الكعبة الشريفة هي بناء ابراهيم واسماعيل ، وقل ما يتفق الحقيقة أن يتواتر نقلها بمثل هذا التواتر فهو حجة مرغمة للخصم ، ولا يمنع من ذلك ان العرب اخيرا وضعوا فيه الأصنام لما تلاشت من بينهم حقيقة الحنيفية ملّة ابراهيم فانقلبوا الى الوثنية والشرك ، كما هو الوباء العام الذي لم تسلم منه امة إلا امتنا المرحومة ثبتها الله على توحيده وطاعته ، فإن بني اسرائيل شعب الله وابنه البكر بقول توراتهم قد جعلوا الأصنام في بيت المقدس مرارا عديدة لما تقلبوا في وثنيتهم بل اخربوا بيت المقدس وانتهبوه.

وأما رابعا : فإن رسول الله «ص» طالما هتف بين العرب بأن الكعبة بناء

١٥٤

ابراهيم ، وتلا عليهم الآيات المصرّحة بذلك ، فلو كان في ذلك خدشة لصالوا على دعوته بذلك وجعلوه برهانا على تكذيبه في دعوته الثقيلة على أهوائهم ، ولم يلتجئوا الى المكابرة بنسبة الجنون الى قدسه مع انهم كانوا يعاملونه من حيث الكمالات معاملتهم لأكمل البشر وأعقلهم «فإن قلت» : انهم عرب خالون من المعارف ، فتروج فيهم مثل هذه الدعوى «قلت» : ان كل من له إلمام بفلسفة القبائل ومعرفة أحوال العرب يعلم ان لهم المعرفة التامة في تاريخ قديمهم وآثار آبائهم وأسباب شرفهم ، بل كان ذلك من أهم معارفهم عندهم الرائجة بينهم.

ولا تقل : ان رواج ذلك سهل بين الاسماعيليين لأنه يتعلق بمجدهم ، وذلك لأن القحطانيين لو وجدوا أدنى سبيل لمنعه لمنعوه ولم يتركوا الاسماعيليين يفخرون عليهم بذلك ، فانهم من قديم الدهر وحديثه لا يزالون يفاخرون الاسماعيليين وينافرونهم.

ومن ذلك تعلم ان تسليم القحطانيين لهذه الحقيقة برهان كاف على انها لا تختلج فيها الأوهام إلا إذا اقحمتها العصبية وقلة المبالاة.

ولئن علقت نفسك بإهمال التوراة الرائجة لهذه الحقيقة ، ولم يزح ما قدمناه شكوك شبهاتك ، فلا تحتفل بإهمال التوراة ، فإن العهد الجديد يشهد بأنها قد اهملت أهم تاريخ ابراهيم وألزم شئونه بالذكر فيما هي بصدده ، وهو بدء الدعوة وظهور الله له في أرض الكلدانيين فيما بين النهرين ، وأمره له بالهجرة من وطنه.

فقد جاء في أعمال الرسل كتاب إلهام المسيحيين عن استفانوس المذكور انه مملوء من الإيمان والروح القدس والقوة بحيث يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب «١٠ ع ٦ ، ٥ ـ ٩» انه قال : ظهر إله المجد لأبينا ابراهيم وهو فيما بين النهرين قبل ما سكن في حاران وقال له : اخرج من ارضك ومن عشيرتك وهلم الى الأرض التي أريك ، فحينئذ خرج من ارض الكلدانيين وسكن في حاران «١ ع ٧ ، ٢ ـ ٥».

١٥٥

ومع ذلك فإن التوراة لم تذكر ان الله دعى ابراهيم فيما بين النهرين للمهاجرة ، وإنما ذكرت ان تارح اخذ ابرام ابنه ولوطا وساراى كنّته فخرجوا من اور الكلدانيين ليذهبوا الى أرض كنعان فأتوا الى حاران وأقاموا هناك ومات فيها تارح «تك ١١ ، ٣١ و ٣٢».

ثم قالت بعد ذلك : وقال الرب لإبراهيم : اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك الى الارض التي أريك ، فذهب ابرام كما قال له الرب وذهب معه لوط ، وكان ابرام ابن خمس وسبعين سنة لما خرج من حاران فأخذ ابرام ساراى امرأته ولوطا ابن أخيه وكلّ مقتنياتهما التي اقتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران «تك ١٢ ، ١ ـ ٦» ، وهي صريحة في ان ما تذكره من دعوة الله لابراهيم كان في حاران.

وحينئذ فمقتضى العهد الجديد ان التوراة الرائجة لا تخلو من أحد أمرين أما انها حرفت الواقعة الواحدة. والدعوة التي كانت في أرض الكلدانيين فجعلتها واقعة في حاران وأمّا انّها أهملت ذكر الدعوة التي وقعت أوّلا في ارض الكلدانيين مع انها ألزم بالذكر ، وزادت على ذلك بأن مسخت الحقيقة ونسبت الهجرة الى تصرف تارح ، ومع هذا لا يصح للنصراني ان يتشبث بهذه التوراة على إنكار حقيقة اذا لم تفز بذكرها حتى لو فرضنا سلامتها من الخلل من غير هذه الجهة.

والمتعرّب أيضا لجّ في انكار مجيء اسماعيل الى مكة وأنكر على سائل قوله في أول مقالته في بلاد العرب وتهامة ان اسماعيل بن ابراهيم توطّنها فقال «قذ» ص ٧ ليس هذا بثبت لأن في فلسطين موضعا يسمى عربة أيضا ، وبعد ، فإن التوراة قد عينت موضع سكنى اسماعيل وهو في غير بلاد العرب «تك ٢١ ، ١٤ ، و ٢٥ ، ١٢ ـ ١٨».

ثم قال أيضا «ذ» ص ١٠ و ١١ ما حاصله ان قول العرب ان اسماعيل سكن مكة مردود بأن التوراة التي لا نعلم بوجود هذا الشخص إلا منها تقول : انه لما طرد من بيت أبيه سكن في برية فاران وهي ببرية سينا بين مصر وبلاد ثمود ، وتقول في موضع آخر : انه نزل امام اخوته ، وهؤلاء كانوا بأرض كنعان من الشام ، ولم يكن امامهم مما يلي جزيرة العرب سوى بلاد ثمود ، وتقول في

١٥٦

موضع ثالث : انه لما مات أبوه أتى ودفنه في مغارة المكفلية بقرية أربع من كنعان ، وبينها وبين مكة مسافة لا يقطعها الراكب المجد في أقل من عشرة أيام.

قلت : إذا كانت توراته قد عينت موضع سكنى اسماعيل فيما أشار إليه حيث ذكرت انه بريّة فاران ، وهو يقول : انها ببرية سينا بين مصر وبلاد ثمود.

إذا فما وجه قوله : ان في فلسطين موضعا يسمى عربه ، ومن المعلوم ان برية سينا أجنبية عن فلسطين ، وهل تشبّثه باسم هذه العربة إلا غلط في غلط.

وأما قوله : «لا نعلم بوجود اسماعيل إلا من التوراة» فهو من أفحش الأغلاط ، فلو ان حلقيا لم يأت شافان بكتاب وحيد سماه التوراة لما انحط اسماعيل عن شهرته أقل قليل ، كيف وها بنوه الذين يفخرون به في أجيالهم قد ملئوا جزيرة العرب وأذعن لهم بذلك صاحبهم وخصمهم في المفاخرات ولم يك اسماعيل كملكي صاروق بلا أب بلا أم بلا نسب لا بداية أيام له ولا نهاية حياة حتى لا يعرف إلا من إلهام رسالة العبرانيين ٧ ، ٣.

وأما قوله : ان التوراة تصرح بأن اسماعيل سكن في برية فاران فهو مردود بأن اختلاف التوراة في التاريخ واغلاطها فيه ، وعلى الخصوص فيما يتعلق بابراهيم ودعوته وبنية لا يدع لها اعتبارا تساوي فيه واحدا من كتب التاريخ ، ولو سلمنا ذلك فقد ذكر اللغويون ان فاران من جبال مكة ، وأما قوله : ان فاران هي ببرية سينا بين مصر وبلاد ثمود فهو خبط بلا حجة ، فان أصحابه قد اضطربوا في ذلك فجعلوا فاران تارة اسما لجبل فيران وهو الرأس الواقع بين خليجي العقبة والسويس جنوبي سينا وكاترينا ، بل هو آخر الجبال الواقعة في الزاوية بين الخليجين.

وجعلوه تارة اخرى اسما لجبل «فوريا» وهو الجبل المقوس الذي يقارب وسط محدّبه للدرجة التاسعة والعشرين من العرض الشمالي والرابعة والثلاثين من شرقي لندن فجعلوا برية فاران ما كان في شمال هذا الجبل ، وسموا به

١٥٧

أيضا واديا ذا أربع شعب متقاطعة على زوايا مختلفة ، وهو في قرب ما سمي أيضا وادي فيران ، فلا سبيل لهم إذا في تعيين ما ذكرته توراتهم منزلا لإسماعيل بمجرد الاسم فإنهم قد سمّوا بذلك أماكن متباينة في الوضع والبعد.

وان سامحنا المتعرب ورجعنا الى اكتشاف برية فاران من علامات التوراة ومضامينها ، فلا بد أن نقول : ان برية فاران واقعة في شرقي جبل الشرات وهو السلسلة الممتدة في شرقي الاردن فبحيرة لوط فوادي العربة فخليج العقبة فالبحر الأحمر الى الحجاز ومن رءوسها جبال مكة.

والبرية التي في شرقي جبل الشرات لا ربط لها ببرية سينا ولا فلسطين فإنها مفصولة عنهما بسلسلة جبل الشرات ثم الاردن وبحيرة لوط ووادي العربة وخليج العقبة ثم السلسلة الغربية المتوجهة من حدود لبنان الى جبل سينا ، وان مقتضى التوراة ان برية فاران تسمى بها برية صين وقادش برنيع كما يعرف من «عد ١٣ ، ٣ و ٢١ و ٢٦ ، و ٣٢ ، ٨ وتث ١ ، ١٩ ـ ٢٦».

وانك لتعرف منها أيضا ان برية فاران واقعة في شرقي جبل الشرات ، فقد ذكرت مراحل بني اسرائيل ومنازلهم على التفصيل والترتيب والتتابع من مصر الى عربات مواب حيث توفى موسى عليه‌السلام ، فذكرت لهم من برية سينا الى عصيون جابر عشرين مرحلة ومنزلا «عد ٣٣ ، ١٦ ـ ٣٦» ، وان عصيون جابر واقع اما في وادي العربة شرقي سلسلة جبال سينا ، واما في شرقي سلسلة جبل الشرات.

ثم قالت : وارتحلوا من عصيون جابر ونزلوا في برية صين وهي قادش وارتحلوا من قادش ونزلوا في جبل هور في طرف أرض ادوم «عد ٣٣ ، ٢٦ و ٢٧» وقد عرفت من التوراة ان برية صين وقادش هي برية فاران وعرفت موقع عصيون جابر ، وأما جبل هور فهو جزء من جبل الشرات مائلا الى الشرق منه.

وتقول التوراة أيضا : وعبرنا عن اخوتنا بني عيسو الساكنين في سعير من طريق العربة من ايلة ومن عصيون جابر «تث ٢ ، ٨» والعبور عنهم بهذا النحو

١٥٨

إنما يكون بالتوجه الى شرقي جبل الشرات ، فإذا عرفت ذلك عرفت انه لا منافاة بين قول التوراة ان اسماعيل سكن في برية فاران ، وبين القول بأنه سكن مكة.

فإن التوراة كثيرا ما تحدد الأماكن بحدود واسعة خصوصا إذا لم تكن مدينة معروفة ، فإن مكة لم تكن عند سكنى اسماعيل فيها مدينة ممصرة وإنما كانت برية بيداء.

وقد جرت عادة التوراة بتحديد مثلها بالحدود الواسعة كأرض الجنوب «تك ٢٤ ، ٦٢ وعد ١٣ ، ٢٩» ، وأرض المشرق «تك ٢٥ ، ٦» ، وأرض بني المشرق «تك ٢٩ ، ١» ، وعند الجبل وعند البحر «عد ١٣ ، ٣٩» ، فالمراد من برية فاران هي البرية الواقعة في شرقي سلسلة جبل الشرات ، فانه لا برية له في غربه ، لأن غربه مضايق بالاردن وبحيرة لوط ووادي العربة والبحر الأحمر ، وهذه البرية هي الشاملة للحجاز ومكة.

فالتوراة ذكرت منزل اسماعيل في مكة والحجاز لا بالتعيين ، بل بالجهة الشاملة.

قال في الجلد السابع من دائرة المعارف ص ٦٩١ : الحجاز قيل وأحسن ما قيل في تحديده ما قاله ابن الكلبي «وهو العلامة النسابة في أواخر القرن الأول من الهجرة» : ان الحجاز عبارة عن جبل الشرات وما اتصل به.

«فإن قال المتعرب» : ان اسلوب الاصحاح الأول والثاني من التثنية يقتضي ان عبور بني اسرائيل من ايلة ومن عصيون جابر الى شرقي جبل الشرات إنما كان بعد ارتحالهم من قادش التي هي برية فاران ، وذلك يقتضي أن تكون قادش وبرية فاران في وادي العربة أو في غربيه ، فهي إذا اما من فلسطين واما من برية سينا.

«قلت» : لعل المتعرب قد غرته التراجم حيث جعلت أدوات العطف بلفظ «ثم» و «الفاء» اللتين هما للترتيب ، وإنما هو محض تشهّي وتحكم من المترجمين ، فإن الأصل العبراني لم يقع فيه العطف إلا بالواو ، وهي لمطلق

١٥٩

الجمع لا تدل على الترتيب ، فإن التوراة طالما عطفت بالواو ما هو متقدم على ما هو متأخر ، فلا تشبث بمحض العطف بالواو.

وكيف نعدل بوهمه عن صراحة الترتيب والتفصيل المذكور في الثالث والثلاثين من العدد حيث استقصى منازلهم ومراحلهم من رعمسيس في مصر الى عربات مواب حيث توفى موسى عليه‌السلام ، حيث ذكر ان بني اسرائيل ارتحلوا من رعمسيس ونزلوا في سكوت ، وارتحلوا من سكوت ونزلوا في ايثام وجرت على هذا النسق والترتيب الى أن قالت : وارتحلوا من ياطباثاه ونزلوا في عبرونه ، وارتحلوا من عبرونه ونزلوا في عصيون جابر ، وارتحلوا من عصيون جابر ونزلوا في برية صين وهي قادش ، وارتحلوا من قادش ونزلوا في جبل هور في طرف ادوم.

ثم ذكر لهم على هذا النسق والترتيب سبع مراحل ومنازل الى عربات مواب.

وإذ حاول المتعرب أن يتشبث في وهمه بسفر التثنية ، فإن لنا من صراحته حجة واضحة على ان قادش وبرية فاران إنما هي في شرقي جبل الشرات وذلك لصراحته بأن بني اسرائيل وهم في قادش صعدوا الى الجبل فخرج الاموريون الساكنون في ذلك الجبل للقائهم ، وكسروهم في سعير الى حرمة «انظر تث ١ ، ١٩ ـ ٤٠ ثم من ٤٠ ـ ٤٦».

وان جبل سعير قطعة من جبل الشرات في شرقي وادي العربة وجبل الاموريين قطعة منها أيضا في شمال سعير.

فإن ذات التوراة تقول : ان ملك الاموريين كان ساكنا في حشبون «تث ٢ ، ٢٦ و ٣٠ ، و ٢٣» ، وحشبون وأرض الاموريين في شمال مواب شرقي الطرف الشمالي من بحيرة لوط وانظر «يش ١٣ ، ٢٧».

«فان قال المتعرب» : ان سفر التثنية العبراني قد غلط في هذه الواقعة وارتباطها مع الاموريين والصحيح هو ما في النسخة السامرية وهو قولها بدل الاموريين «العمالقي والكنعاني» بدليل ما في سفر العدد في قوله في هذه

١٦٠