الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

توراته في هذا المقام وغيره ، فانها تقول ان الله خلق الإنسان في اليوم السادس «تك ١ ، ٢٦ ـ ٣١» ، وان الله تعالى فرغ في اليوم السابع واستراح من عمله «تك ٢ ، ٢ و ٣» وتقول في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحار وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع «خر ٢٠ ، ١١ و ٢٣ ، ١٧».

«وثالثا» ان أردت أن تعرف تنافي التوراة واضطرابها في المقام الذي يعترض به فاعرف ذلك أقلا من أربعة موارد :

١ ـ قد تقدم ان توراته تدل على ان الأرض كانت خربة وخالية قبل خلق النور الذي حدث منه اليوم الاول وانها في اليوم الثالث ظهرت من تحت الماء بسبب اجتماع المياه الى مكان واحد ، وهذا مناف لقولها فأكملت السموات والأرض وكل جندها وفرغ الله في اليوم السابع.

وقولها هذه تولدات السموات والأرض عند خلقها «تك ٢ ، ١ و ٤» فانها لم تؤرخ خلق الارض ، بل مقتضاها ان خلق الأرض قبل الستة أيام ، وقبل خلق النور الذي تميزت به الأيام.

٢ ـ وإذا كان خلق الأرض هكذا وظهورها من الماء في اليوم الثالث وذكرت خلق السماء في اليوم الثاني ، فهذا معا مناف لقولها هذه تواليد السماوات والارض عند خلقها بيوم عمل الرب الاله الارض والسموات ، فكيف تجمع خلقهما بيوم واحد مع انها تذكره في أيام متفرقة.

٣ ـ ذكرت ان الله جلت قدرته في اليوم الأول خلق النور وفصل بين النور والظلمة ودعا النور نهارا ، والظلام ليلا وكان مساء وكان صباح ، وهذا مناف لقولها ان الله في اليوم الرابع خلق الأنوار لتفصل بين الليل والنهار ولتحكم على الليل والنهار وتفصل بين النور والظلمة «تك ١ ، ٤ ـ ١٩».

٤ ـ ذكرت ان الله أنبت العشب والبقل والشجر المثمر في اليوم الذي عمل فيه الارض بأن أظهرها من تحت الماء وهو اليوم الثالث «تك ١ ، ٩ ـ ١٣» وهذا مناف لقولها كل شجر البرية لم يكن بعد في الارض وكل عشب البرية لم ينبت بعد في الارض ، لأن الرب الإله لم يكن قد أمطر على الأرض ، ولا كان

١٢١

إنسان ليعمل الأرض.

فإن هذا الكلام يدل على ان نبات الشجر كان موقوفا على وجود الإنسان الذي يعمل الارض ، وهي تذكر ان الإنسان لم يخلق إلا في اليوم السادس ، فأين قولها ان الشجر نبت في اليوم الثالث.

هذا مضافا الى كونها تذكر ان السموات تفصل بين مياه ومياه من فوقها وتحتها «تك ١ ، ٦ ـ ٨» مع ان المتكلف وقومه المعتمدين على الهيئة الجديدة يعدون هذا من الخرافات.

وأيضا صريح هذا المقام ان الله خلق النور والسموات والشمس والقمر والكواكب والعالم الأرضي من نبات وشجر وحيوان هذا كله وفيما بين خلقه وبين خلق آدم خمسة أيام ، وقبل ذلك لم يكن ، وغالب قوم المتكلف يعدّون هذا أيضا من الخرافات.

أفبهذا الكتاب وهذه المعرفة وهذا المقام المتناقض المرفوض في مضامينه يعترض المتكلف على القرآن الكريم ، نعم ولعله بسبب هذه المعارف يتوقع من قومه مرتبة الأسقفية الكبرى.

* * *

وقال الله تعالى في سورة الحجر ٢٧ : (وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) ، وفي سورة الرحمن ١٤ (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ).

فقال المتكلف فيما قال «يه ٢ ج ص ٨٢» والحق هو ما ورد في كتاب الله من انه لا يوجد سوى الملائكة الاخيار والملائكة الأشرار او أرواح طاهرة وأرواح شريرة ، ولا وجود لشيء يقال له جن ، فالاعتقاد بوجود جن هو من الاعتقادات الوثنية.

قلنا : فاستمع لما في العهدين مما هو من هذا الذي نفى المتكلف وجوده وجعله من الاعتقادات الوثنية.

ففي التوراة : لا تلتفتوا الى الجان ولا تطلبوا التوابع فتتنجسوا بهم «لا ١٩ ،

١٢٢

٣١» والنفس التي تلتفت الى الجان والتوابع لتزني ورائهم اجعل وجهي ضد تلك النفس.

وإذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة فانه يقتل «لا ٢٠ ، ٦ و ٢٧» لا يوجد فيك ، ولا من يسأل جانا أو تابعة ، ولا من يستشير الموتى «تث ١٨ ، ١٠ و ١١».

وفي تاريخ منسى ملك يهوذا انه استخدم جانا وتوابع «٢ مل ٢١ ، ٦ و ٢ اي ٣٣ ، ٦».

وانظر الى حديث صاحبة الجان مع شاول «١ صم ٢٨ ، ٣ ـ ١٩ و ١ اي ١٠ ، ١٣» ، واسم الجان في الأصل العبراني «اوب» و «اوبت» واسم التابعة «يدعني» والتوابع «يدعنيم».

وأما العهد الجديد فقد ذكر ان الأرواح النجسة حينما نظرت المسيح خرّت له وصرخت قائلة : أنت ابن الله «مر ٣ ، ١١» ، وصرخ الروح النجس قائلا : آه ما لنا ولك يا يسوع الناصري أتيت لتهلكنا أنا أعرف انك قدوس الله فانتهره يسوع قائلا : اخرس واخرج «مر ١ ، ٢٣ ـ ٢٥» واخرج شياطين كثيرة ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنهم عرفوه أو لم يدعهم يقولون انهم عرفوه «مر ١ ، ٣٤ ولو ٤ ، ٤١» وان الروح النجس والشياطين لما رأى المسيح قال : ما لنا ولك يا يسوع ابن الله أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا ، وطلبوا منه أن لا يأمرهم بالذهاب الى الهاوية وان يأذن لهم بالذهاب الى قطيع الخنازير فأذن لهم وذهبوا إليه «انظر مت ٨ ، ٢٨ ـ ٣٣ ومر ٥ ، ٦ ـ ١٤ ولو ٨ ، ٢٨ ، ٣٤».

فانظر الى الصفات التي أثبتها العهد الجديد للأرواح النجسة ، واعلم انه كلما جاء في العهد الجديد المعرب في حديث الأرواح النجسة للفظ شيطان وشياطين فقد ترجموه بالعبرانية بلفظ «شد ، وشديم» فظهر لك من العهدين ان الجان المذكور في العهد القديم هو نوع الجان ، والروح النجس وشيطان وشد وشديم الواردة في العهد الجديد هم أشرار الجان ، وبذلك تعرف انه قد أخطأ سايل «ق» ص ١٤٤ في قوله لا يختلف مذهب المسلمين في الجن عما يذهب إليه اليهود في نوع من الأرواح الخبيثة يطلقون عليه اسم «شديم» ، وأما الشيطان

١٢٣

الذي هو ابليس فقد ترجموه في العهد الجديد بالعبرانية بلفظ «شطن» كما جاء بهذا اللفظ في العهد القديم العبراني «٢ صم ٢٤ ، ١ واي ١ ، ٦ و ٧ و ٨ و ١٩ و ١٢ ، و ٢ ، ١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٦ و ٧ ومز ١٠٩ ، ٦ وز ك ٣ ، ١ و ٢».

وأما خلق الجان من نار فهو أمر ممكن ولا طريق لاثباته ونفيه إلا من جهة الوحي الالهي وقد اخبر الوحي بحقيقته فلا مساغ لانكاره خصوصا للنصراني ، فقد جاء في العهدين ما يخرس لسانه عن الاعتراض في ذلك ففيهما الصانع ملائكته رياحا ، وخدامه نارا ملتهبة او لهيب نار «مز ١٠٤ ، ٤ وعب ١ ، ٧».

فالقرآن الكريم ميز الجان من الملائكة ، وعين ان الجان هم المخلوقون من نار ، فبين بذلك ما اختلط في العهدين في اسم الملائكة فجعلا منهم من خلق من نار ، ومنهم أشرار «مز ٧٨ ، ٤٩» ، ومنهم من طرحوا في جهنم (٢ بط ٢ ، ٤» مقيدين الى يوم القضاء «يه ٦».

فالذين سماهم المتكلف تبعا لعهديه بالملائكة الأشرار والأرواح الشريرة هم قسم من الجان الذي يذكره القرآن الكريم.

بيلي والمتكلف والأرواح النجسة

ذكر إظهار الحق في الوجه الرابع عشر من الفصل الرابع من الباب الأول نقلا عن ص ٣٢٣ من الكتاب المطبوع سنة ١٨٥٠ م تصنيف «بيلي» من محققي البروتستنت ما لفظه ، ولا نقول في الأشياء التي هي أجنبية من الدين صراحة لكن يقال في الاشياء التي اختلطت بالمقصود اتفاقا قولا ما ، ومن هذه الأشياء تسلطن الجن ، والذين يفهمون ان هذا الرأي الغلط كان عاما ، في ذلك الزمان فوقع فيه مؤلفوا الاناجيل واليهود الذين كانوا في ذلك الزمان ، فلا بد أن يقبل هذا الامر ولا خوف منه في صدق الملة المسيحية لأن هذه المسألة ليست من المسائل التي جاء بها عيسى بل اختلطت بالأقوال المسيحية اتفاقا بسبب كونها رأيا عاما في تلك المملكة وذلك الزمان ، وإصلاح رأي الناس في تأثير الأرواح جزءا من الرسالة ولا علاقة لا بالشهادة بوجه ما انتهى.

والمتكلف لم يرتض ترجمة إظهار الحق لقول بيلي فترجمه هو يه ٢ ج ص

١٢٤

١١٧ بقوله يلزم التمييز بينما كان غرض الدعوة الرسولية وبين ما كان أجنبيا خارجا عنها أو ما اتصل بها عرضا واتفاقا ، أما القضايا الخارجة عن الدين فلا لزوم الى الكلام عليها ، غير ان القضايا التي اتصلت بها عرضا فيلزم الاشارة إليها فأقول من هذه القضايا تسلطن الأرواح النجسة ، أما من جهة حقيقتها فلا يمكنني الفصل في هذه القضية فانه فوق طاقتي وضيق المقام يمنعني عن إيراد أدلة كل فريق في هذه المسألة ، والأمر الذي اريد التنبيه عليه هو انه لو سلمنا بقول من ذهب الى ان هذا الرأي كان شائعا في تلك الأزمنة وكان خطأ ، وان كتبة العهد الجديد جاروا مؤلفي اليهود في ذلك العصر وتكلموا على هذه القضية حسب اصطلاحهم وعاداتهم وطرق مخاطباتهم وأفكارهم فلا يخشى من ذلك على صدق وصحة الديانة المسيحية ، فإن المسيح لم يأت بهذا التعليم في الدنيا بل انه ظهر في النصوص المسيحية عرضا واتفاقا بصفة انه كان رأيا موجودا في ذلك العصر وفي تلك البلاد التي كان يهدي الناس فيها ولم يكن من اختصاصات الوحي تنظيم وترتيب آراء الناس بخصوص تأثير الجواهر الروحية في الأجسام الحيوانية ، وعلى كل حال فلا ارتباط بينه وبين الشهادات الإلهية ، فانه إذا اعيد للأخرس الأبكم قوة النطق والبيان فلا يهمنا معرفة سبب هذا الخرس ، فالمرض كان حقيقيا والشفاء كان واقعيا ، ولا يهم إذا كان توضيح الناس لهذا السبب حقيقيا أم لا ، وإنما الأمر الحقيقي الواقعي هو التغير الذي حصل للمريض على كل حال لأنه كان مشاهدا بالعيان لا يحتاج الى برهان ، انتهى بلفظه.

قلت : ولم يحصل لي الأصل من كتاب بيلي لأعرف أي الترجمتين أصح ولكن القدر المتيقن منهما ان فريقا من النصارى ينكرون صحة ما في الاناجيل فيما شحنت به من أحاديث الأرواح النجسة وشئونها مع المسيح ، ولهم على ذلك أدلة ، وان كتبة العهد الجديد قد جاروا بها مؤلفي اليهود وتكلموا حسب عاداتهم وأفكارهم ، وان «بيلي» لا يمكنه الفصل في حقيقة ذلك ، فانه فوق طاقته ...

وليت شعري إذا كان بيلي نصرانيا يقول : بأن الأناجيل كتبها الرسل بوحي الروح القدس فلما ذا لم يمكنه الفصل في هذه القضية ، وفي أي شيء

١٢٥

تنفع كتب الوحي إذا لم تنفع صراحتها التي ملئت أطرافها في هذا الموضوع ، كيف لا وقد ذكرت الاناجيل بتكرارها ان الأرواح النجسة ترى وتخر للمسيح وتعرفه ، وتصرخ ، وتخاطبه ، وتخاف من اهلاكه لها ، وتتكلم ، وتسكت بأمره ، ويأمرها بأن لا تظهر انها عرفته ، وتخاف من الذهاب الى الهاوية ، وتستأذن منه لذهابها الى قطيع الخنازير وتخبره انها لجيون أي جماعة كثيرة فأذن لها ، وخرجت الى الخنازير كما ذكرنا لك طرفا من ذلك ، وقد جعل كتبة الاناجيل هذه التفاصيل الضافية حجة وبرهانا لدعوة المسيح ، فقل لبيلي : واولئك المنكرين إذا كان رسلكم الملهمون قد ملئوا أناجيلهم بهذه الحكايات المفصلة وهي أكاذيب لا حقيقة لها ، فما ذا تكون العلامة على ما يصدقون فيه؟.

وكيف لنا إذا بتصديقهم في حكايات شفاء المسيح للأمراض؟ ومن أين نعلم ان المرض كان حقيقيا والشفاء كان واقعيا؟ وهم قد عنونوا حكايات المرض والشفاء بهذه الحكايات التي تقولون انها أكاذيب ، وأي شيء يخشى منه على صدق الديانة المسيحية وصحتها أكثر من ان تكون كتب وحيها وقانونها الأساسي في حجتها وبرهانها وتعليمها قد ملئت بهذه الاكاذيب ، وإذ كانوا قد جاروا بها أفكار اليهود ، فبالحري ان يكونوا في باقي الاناجيل وكتب العهد الجديد قد جاروا أهوائهم وأهواء الامم الذين حاولوا الترأس عليهم بوسيلة الرئاسة الدينية كما يشهد لذلك العاشر والحادي عشر والخامس عشر من الأعمال ، وكثير من كلمات الرسائل المنسوبة لبولس.

ومن أوهن الوهن اعتذار «بيلي» عن هذه الحكايات بقوله ، ولم يكن من اختصاصات الوحي تنظيم وترتيب آراء الناس بخصوص تأثير الجواهر الروحية في الاجسام الحيوانية ، فان هذا الاعتذار إنما يخرج عن الغش والغلط لو لم تذكر الأناجيل من هذه الحكايات شيئا ، واعترض المعترض على كونها لم تصلح بتعليمها آراء الناس في وهم القول بتأثير الجواهر الروحية ، واما على ما أطنبت بتكراره في هذه الحكايات فعلى زعمهم تكون قد أكدت فساد آراء الناس ولفقت من أوهامهم الفاسدة أكاذيب كثيرة جعلتها البرهان على صحة الديانة المسيحية وأساس تعليمها.

١٢٦

فيا أيها الأخ المسلم لا يؤلمنك اعتراض المتكلف وأمثاله بأوهامهم على القرآن الكريم ، فان نكاية اوهامهم على كتب وحيهم وأساس دينهم أشد وأشد «شنشنة أعرفها من اخزم» ، ولا تنشدني قول الشاعر :

«لا تقل دارها بشرقي نجد

كل نجد للعامرية دار»

وإذ قد سمعت ما ذكرناه أولا عن العهدين فانك تعرف ما في قول المتكلف ، «فالاعتقاد بوجود جن هو من الاعتقادات الوثنية» ولو لا التحرج من سوء القالة لذكرنا شطرا مما قد اخذ من الاعتقادات الوثنية ، ولكنا قد كفينا مئونة ذلك بالكتب التي أشار إليها في صدر كتاب الوثنية والنصرانية.

* * *

وقال الله جل اسمه في سورة البقرة ٢٨ : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ٢٩ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٣٠ قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ٣١ قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

فاعترض المتعرب «ذ» ٨٨ ـ ٩٠ على هذه الآيات باعتراضات متعددة ، وكذا المتكلف «يه ٢ ج ص ١٠ و ١١» ، وربما اشتركا في الاعتراض فاكتفى بنسبته الى أحدهما وردّه ، وإن شئت فانظر الى كلاميهما في كتابيهما.

قال المتعرب انه عنى بالخليفة آدم لكنه لم يقل لمن أراد أن يجعله خليفة وأنت تعلم انه لم يكن على الارض مخلوق قبله حتى يخلفه فيها ويلزم من هذا ان الله أراد أن يستخلفه عن نفسه.

قلت : كان المتعرب افترى عليك بدعوى العلم بأنه لم يكن على الأرض مخلوق قبل آدم لأجل غروره بخرافة مذهب «داروين» أو بمضمون توراته الذي لا يقبله حتى الكثير من قومه وهي ان السموات والارض وما فيهن خلقت كلها فيما

١٢٧

بين خمسة أيام قبل خلق آدم.

ولكن لنا أن نجادله بكتبه ونقول له : ان توراتك لم تذكر ان خلق الملائكة كان بعد خلق آدم ، بل اما أن يكون في اليوم الثالث أو الرابع أو قبل ذلك ، فلما ذا لا يكون آدم خليفة في الأرض بدلا عن الملائكة الأشرار ، والذين لم يحفظوا رياستهم وأخطئوا فلم يشفق الله عليهم ، بل طرحهم في جهنم بقيود أبدية الى يوم الدينونة ، كما سيأتي عن كتبه ، وهذا كاف في دحض باطله ، وستسمع إن شاء الله اعلام الحق.

وقال أيضا على النسق غير انه تعالى لما عزم على خلقه نوى ان يجعله في الجنة يأكل منها رغدا ولو لم يعصمه لم يحبطه الى الارض ليكون خليفة فيها ، فقوله : انه جاعله في الارض خليفة وهو ينوي أن يجعله في الجنة فيه نظر ، وحاصل كلامه الاعتراض على جعله خليفة في الارض مع إسكانه في الجنة ونهيه عما يسبب خروجه منها.

قلنا «أولا» لنا أن نقول ان الله قال ذلك باعتبار سابق علمه بما يصير إليه أمر آدم في سكناه في الأرض.

وقد أوضحنا لك في الجزء الأول «صحيفة ٩٠ ـ ٩١» ان آدم لم تصدر منه المعصية القبيحة المانعة لوظيفة الخلافة ، ان اريد بالخلافة معنى النبوة والرئاسة الدينية ، وان الله بكل شيء عليم لا يغيب عن سابق علمه شيء ، و «ثانيا» لنا أيضا أن نقول : ان الجنة المذكورة كانت من جنان الدنيا ، كما جاء عن أهل بيت النبوة ، وذهب إليه جمع من المفسرين ، ولا حجة بقول بعض المفسرين على القرآن إذ قالوا انها جنة السماء ولا دلالة في قوله تعالى : «(اهْبِطُوا) ، و (اهْبِطا مِنْها)» لجريان هذا الاستعمال في الانتقال من مكان الى مكان فقد قال تعالى في سورة البقرة ٥٨ : (اهْبِطُوا مِصْراً) بل هو استعمال متعارف حتى في التوراة إذ تقول : فانحدر ابرام الى مصر «تك ١٢ ، ١٠» انزلوا الى هناك «يعنى مصر» فنزل عشرة «يعني الى مصر» ، «تك ٢٤ ، ٢ و ٣».

وقال المتكلف في الاعتراض على الآية الاولى ، وهذه العبارة ناطقة بأن

١٢٨

المولى سبحانه وتعالى استشار الملائكة في خلق آدم فاعترضوا عليه وهو خطأ فان كتاب الله يعلمنا ان المولى سبحانه وتعالى غني عن ذلك ، ثم قال : فأقوال الوحي ناطقة بأنه لم يستشر ولن يستشير.

قلنا : ليس هذا من الاستشارة في شيء ، فإن كل من يفهم الكلام يعلم ان الاستشارة لا تكون بمثل الاخبار المؤكد بهذا التأكيد ، وإنما هو تفضل منه تعالى باعلام ملائكته بآثار حكمته وقدرته.

وقد جاء في العهد القديم ان السيد الرب لا يصنع أمرا إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء «عا ٣ ، ٧» ، بل هو أبعد من الاستشارة ونحوها من قول التوراة ، فقال الرب : هل أخفي عن ابراهيم ما أنا فاعله «تك ١٨ ، ١٧» ، وحاشا للقرآن الكريم كلام الله أن يجيء فيه مثل قول التوراة ، ان صرخة سدوم وعمورة قد كثرت ، وخطيئتهم قد عظمت جدا ، انزل وارى هل كصرختهم الآتية إلي عملوا كلها وإلا فاعلم «تك ١٨ و ٢١».

وإن أراد المتكلف أن يعرف الكلام الدال على نسبة الاستشارة والحيرة والضعف الى الله جل شأنه فلينظر الى العهد القديم الذي يقول : فاسمع إذن كلام الرب قد رأيت السيد الرب جالسا على كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه ويساره فقال الرب : من يغوي اخاب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد فقال هذا هكذا وقال ذاك هكذا فخرج الروح ووقف أمام الرب وقال : أنا اغويه فقال له بما ذا؟ فقال اخرج وأكون روح كذب في أفواه جميع أنبيائه فقال : انك تغويه وتقتدر فاخرج وافعل هكذا «١ مل ٢٢ ، ١٩ ـ ٢٣ ، و ٢ أي ١٨ ، ١٨ ـ ٢٢».

والمتكلف يعظم العهد القديم المشتمل على أمثال هذه الخرافة الكفرية ويسميه كلام الله السميع العليم ، ثم يتقول على القرآن ببواعث هواه ، ويعترض عليه بجهله.

ويقول : ان كتاب الله يعلمنا ان الملائكة هم خدامه المعصومون عن الخطأ والزلل ، أما عبارة القرآن فتفيد انهم اقترفوا أربعة معاص ، كما قال علماء المسلمين.

١٢٩

قلت : يا عجبا ولا عجب من مثل المتكلف والمتعرب فان الذي يسميانه كتاب الله وكلام الله السميع العليم هو الذي يقول : ان الله ينسب الى ملائكته حماقة «اي ١٤ ، ١٨».

ويقول أيضا جيش ملائكة أشرار «مز ٧٨ ، ٤٩» وان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطئوا بل في سلاسل الظلام طرحهم في جهنم وسلمهم محروسين للقضاء «٢ بط ٢ ، ٤» ، والملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم بل تركوا مسكنهم حفظهم الى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام «يه ٦» فأين تكون من كتابهم عصمة الملائكة ، وان عبارة القرآن لا تفيد ان الملائكة اقترفوا أربعة معاص ، ولا قال بذلك علماء المسلمين ، فاستمع إلى ذلك:

فانه قال ان فيما حكاه القرآن من قول الملائكة إنكار على الله فيما يفعله وهو من أعظم المعاصي.

قلت : ليس في هذا الكلام شيء من الانكار على الله وإنما هو سؤال عن وجه الحكمة في خلقه للإنسان مع انه قد ينبعث من بعض أفراده الفساد وسفك الدماء ، ولهذا أجابهم الله بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) من وجوه الحكمة والصلاح في خلق هذا النوع وما سيظهر منه من قداسة الأنبياء والأولياء وحسن عبادتهم وإخلاصهم بالرغبة والاختيار المرغم لدواعي الهوى ووساوس الشيطان وبواعث الطبيعة البشرية ، ولو كان كلامهم اعتراضا على الله لقال لهم الله عالم الغيب والشهادة : ما أنتم والاعتراض على خالقكم القادر القاهر ، وإن شئت فقابل كلام الملائكة ، هذا مع ما تذكره التوراة عن قول ابراهيم لله جل شأنه : أفتهلك الصديق مع الأثيم عسى أن يكون خمسون صديقا في المدينة؟ أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين صديقا الذين فيه حاشا لك ان تفعل مثل هذا الأمر لتميت الصديق مع الأثيم فيكون الصديق كالأثيم ادّيان كل الارض لا يصنع عدلا «تك ١٨ ، ٢٣ ـ ٢٦» ، وقس أيضا كلام الملائكة مع ما تذكره التوراة في قولها فرجع موسى الى الرب وقال : يا سيد لما ذا أسأت الى هذا الشعب؟ لما ذا أرسلتني «خر ٥ ، ٢٢» فقال موسى للرب لما ذا أسأت الى عبدك؟ ولما ذا لم أجد نعمة في عينك حتى انك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي ، العليّ

١٣٠

حبلت بجميع هذا الشعب او لعلي ولدته «عد ١١ ، ١١ و ١٢» ونادى «اي ايليا» الى الرب وقال : أيها الرب إلهي أيضا الى الأرملة التي أنا نازل معها أسأت باماتتك ابنها «١ مل ١٧ ، ٢٠» ، ودع عنك ما ينسبه سفر أيوب الى أيوب وحاشاه من عظائم الكفر في الاعتراض على الله ككونه جل شأنه نزع حقه ولفق فوق إثمه حتى طلب المحاكمة معه ، فراجع الأقوال المنسوبة الى أيوب وحاشاه.

وقال المتكلف : ان الملائكة في كلامهم هذا قد اقترفوا الغيبة في حق من يجعله الله خليفة بأن ذكروا مثالبه.

قلت : المراد من قول الله جل شأنه : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) هو اخبار الملائكة بخلق جنس البشر ، اما لأنهم يخلفون من كان قبلهم في الارض من خلق الله ، أو لأن اصلهم وداعيهم الى الله وهو آدم خليفة عليهم ومؤدب لهم على الطاعة ، فاقتضى الحال ان الملائكة يسألون عن وجه الحكمة في خلق هذا النوع مع انه يكون فيه من يفسد ويسفك الدماء. فلم يقصدوا بذلك جميع النوع البشري ولا خصوص اصلهم وداعيهم الى الله ، فليس في قولهم هذا شيئا من الغيبة المحرّمة بالعقل او الشرائع ، فانهم لم يعنوا بما قالوه شخصا معينا أو أشخاصا معينين ، بل قالوا ذلك لما علموه من الله بأن الجنس البشري تقتضي طبيعته أن يكون فيه من يفسد ويسفك الدماء ، فهم لم يقصدوا بما قالوه الا العنوان الكلي المبهم المجمل بمقتضى الإبهام في تأثير اقتضاء الطبيعة البشرية الذي يجوز على كل واحد من البشر مع فرض عدم المانع ويمتنع عن كل واحد مع وجود المانع ، وهذا ليس من الغيبة في شيء فانه إذا قال شخص ان في جنس البشر من يكون فاسقا لم يقل عاقل أو متشرع بأن هذا الشخص قد اغتاب ، بل لا يتأثر من كلامه أحد من البشر حتى الفساق في نفس الأمر وذلك لأنه لم يوجه باللفظ قصده حتى بمعونة القرائن الى ذات معينة ، أو جماعة معينين أو محصورين.

فكذا قول الملائكة فانهم قصدوا أمرا طبيعيا ، هذا مضافا الى ان الملائكة لو قصدوا اناسا معيّنين من المتهتّكين بالفسق والفجور الهاتكين بفسادهم

١٣١

لأستارهم لم يكن مثل ذلك من الغيبة المحرمة القبيحة أصلا ، مضافا الى ان شريعة تحريم الغيبة من العقل والشرع إنما هي شريعة إصلاحية اجتماعية تمد الستر فيما بين البشر وتمنع ما يضر بالاجتماع البشري ، فلا يجري حكمها مع الملائكة خصوصا إذا ذكروا شيئا من فسق الفساق تنفّرا منه واستقباحا له ، فهل يقول عاقل أو متشرّع بأنك اغتبت وفعلت حراما إذا شكوت الى الله ظالمك وذكرت له ظلمه ، وإذا ذكرت لله فسق الفاسق ليغفر له أو ليهديه أو لينتقم منه.

وليت شعري اذا كان المتكلف يجعل قول الملائكة من الغيبة المحرّمة ، فما ذا يصنع بكتابه العهد الجديد ، فإنك تقدر أن تؤلف منه من الكلام المنسوب للمسيح والتلاميذ كتابا بقدر الإنجيل أو أكثر كله في غيبة الكتبة والفريسيين وبني اسرائيل والمسيح والتلاميذ ومريم المجدلية وجماعة من المؤمنين بالمسيح.

وقال المتكلف في كلامهم «اي الملائكة» : العجب وتزكية النفس بذكر مناقبها.

قلنا : لم يكن الغرض من بيان تسبيحهم وتقديسهم هو الافتخار به ، ولكن ضرورة السؤال عن وجه الحكمة في خلق البشر اقتضت ذكره ، وليس هذا من العجب وتزكية النفس خصوصا حال كونهم أزكياء معصومين لا يعصون الله ولا يفرطون في وظائفهم من العبادة ، ولئن كان هذا من العجب وتزكية النفس الممقوتة ، فما ذا يقال في القول المنسوب للمسيح بعد الذم للرعاة أنا باب الخراف أنا الراعي الصالح ، اما أنا فاني الراعي الصالح «يو ١٠ ، ٧ ـ ١٥» مع انه أنكر على من سماه صالحا وقال له : لما ذا تدعونني صالحا ليس أحد صالحا إلا واحد هو الله «انظر مت ٩ ومر ١٠ ولو ١٨» ، وما ذا يقال في القول المنسوب لداود يكافئني الرب حسب بري حسب طهارة يدي يرد علي لأني حفظت طرق الرب ولم أعص إلهي لأن جميع أحكامه امامي وفرائضه لا احيد عنها «٢ صم ٢٢ ، ٢١ ـ ٢٤».

والأقوال المنسوبة الى بولس في الافتخار بالأعمال والمراتب العالية وان

١٣٢

امتزجت في الأثناء بالتصوف البارد والتواضع السخيف «فانظر الى الاصحاح السادس والحادي عشر والثاني عشر من كورنتوش الثانية».

وقال المتكلف : وفيه أيضا «أي في كلام الملائكة» انهم قالوا ما قالوه من نسبة الافساد والسفك رجما بالظن وإلا شاركوا المولى سبحانه وتعالى في علم الغيب.

قلنا : لا هذا ولا هذا بل قالوه بعلم موهوب لهم من الله جل شأنه.

وقال المتكلف «يه ٢ ج ص ١٢» ان القرآن نسب الى المولى تعجيز الملائكة بطريق الاحتيال.

قلت : لا يدل سوق القرآن على إرادة تعجيز الملائكة ، بل انما يدل على ان الله بيّن لهم الحكمة في خلقه لنوع البشر على لسان آدم ببيان من يخلق من ذريته من الأنبياء والأولياء.

وحاصل ذلك ان الله جل اسمه تفضّل على ملائكته بإعلامهم بأنه جاعل في الارض خليفة ، فاستفسروا عن وجه الحكمة في ذلك وان كانوا يعلمون اجمالا ان الله هو العليم الحكيم.

فأبان جل شأنه لهم وجه الحكمة على لسان آدم وخصّه بذلك تكريما له تنويها بارتفاعه هو وكثير من بنيه عن النقائص العارضة للطبيعة البشرية من آثار الشهوة والغضب (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) أسماء ذريته من الأنبياء والأصفياء بما يكونون عليه من القدس والطهارة والطاعة لله والجهاد في سبيله وتحمل الأذى والمتاعب الشديدة في ارشاد عباده واعلاء دعوة الحق وحسن صبرهم ورضاهم فيما يلقونه من الاضطهاد في الدعوة الى الحق والصلاح كل ، ذلك بالطوع والرغبة على رغم الشهوة والغضب المودعين في الطبيعة البشرية (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) اي هؤلاء الصفوة وهم أشباح نورانية (عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) وما هم عليه من صفات القدس والكمال الاختياري (إِنْ) ادعيتم العلم و (كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواه (قالُوا سُبْحانَكَ) تقدست عن الشريك والشبيه ، لك العلم وحدك لا شريك لك و (لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ) بالغائبات (الْحَكِيمُ)

١٣٣

فيما تفعل ، (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) وما هم عليه من الكمالات القدسية الباهرة الباهظة لشهوات الطبيعة البشرية الكاسرة لثورات غضبها (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) واتضح للملائكة وجه الحكمة في خلق النوع الإنساني (قالَ) جل شأنه : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) واعلمكم (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) ومن كان له هذا العلم لا يفوت حكمته شيء من الغائبات عنكم.

هذا ملخص ما جاء عن أهل بيت النبوة في تفسير الآيات ، وهل تراه ناظرا الى تعجيز الملائكة ، وإذا احطت خبرا بما قلناه تعرف شطط المتعرب فيما قاله في هذا المقام فانه شريك المتكلف في اعتراضاته.

وقال الله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ١٢» بأن القرآن نسب الى الله جل اسمه انه أمر الملائكة ان يسجدوا لآدم وحاشا لله القدوس أن يأمر بالسجود لغير ذاته العليّة ، قال في سفر الخروج «٣٤ ، ١٤» لا تسجد لإله آخر ، وكتاب الوحي الإلهي يحرّم السجود لغير المولى من المخلوقات مهما كانت درجتهم.

قلنا : لنا أن نقول ان المحرم إنما هو سجود العبادة لا سجود التحية والإكرام ، وسجود الملائكة لآدم كان من القسم الثاني ، وتوراة المتكلف إنما نهت عن القسم الأول لقولها لا تسجد لإله آخر ومعناه لا تسجد لشيء غير الله بعنوان السجود للإله والعبادة له ، ولا حجة من كتب المتكلف على تحريم السجود لغير الله إذا كان بعنوان التحية والإكرام ، بل في كتب المتكلف حجة على جوازه كما يستنتج ذلك منها من مقدمتين : «الاولى» سجود الأنبياء لغير الله ، و «الثانية» ان عمل الأنبياء حجة على جواز ما يفعلونه. أما المقدمة الاولى : فقد ذكرت ان ابراهيم خليل الله سجد لشعب الأرض بني حث مرتين «تك ٢٣ ، ٧ و ١٢» وقد كان هؤلاء غير مؤمنين.

وسجد يعقوب النبي لعيسو سبع مرات الى الأرض ، وسجد أيضا نسائه وأولاده «تك ٣٣ ، ٣ ـ ٧».

١٣٤

وموسى كليم الله خرج لاستقبال حميه فسجد وقبل له ، وفي الأصل العبراني «ويشتحوا ويشق ـ لو» «خر ١٨ ، ٧».

وسجد داود النبي ثلاث مرات لما ودع ناثان ابن شاول «١ صم ٢٠ ، ٢١» وسجد لشاول «١ صم ٢٤ ، ٨ وسجد ناثان النبي لداود النبي «١ مل ١ ، ٢٣» ، وسجد سليمان النبي لامه «١ مل ٢ ، ١٩».

وزيادة على ذلك ان يوسف سجد أمام وجه يعقوب «تك ٤٨ ، ١٢» وسجدت ابيجايل لداود «١ صم ٥ ، ٢٣» ، وكذا بثشبع «١ مل ١ ، ١٦» ولم يذكر ان هذين النبيين منعا عن السجود لهما.

وأما المقدمة الثانية فان الاناجيل تذكر ان اليهود اعترضوا على المسيح بأكل تلاميذه من الزرع في يوم السبت وهو محرم فاحتج على جواز ذلك بأكل داود من خبز التقدمة الذي لا يحل إلا للكهنة «مت ١٢ ، ١ ـ ٩ ومر ٢ ولو ٦».

أم تقول : دعنا من احتجاج المسيح ، فان هؤلاء الأنبياء كلهم قد عصوا وأخطئوا في هذا السجود لغير الله وإن كان بعنوان التحية والإكرام لا بعنوان العبادة.

إذا فلما ذا لم تتعرض كتب وحيكم لتوبيخهم على ذلك لا تصريحا ولا تلويحا ولا إشارة؟.

ولنا أن نقول : ان سجود الملائكة كان شكرا لله وتمجيدا له على خلقه لآدم أبي الأنبياء والأصفياء والأولياء لأجل ما لهم من عظيم الشأن وشرف المنزلة ، فيعود السجود الذي هو لله بالتكريم والتبجيل لآدم ، ولأجل ذلك نسب السجود لآدم باعتبار غايته المطلوبة ، وليس كذلك ما يذكره العهد القديم في سجود ابراهيم ومن ذكرناهم من الأنبياء.

فتدبر ما قلناه ، وراجع كلام المتكلف ، وقل ما شئت في تمجيده على معرفته وأمانته.

* * *

١٣٥

وقال الله تعالى في سورة الاعراف فيما اقتص من حديث آدم وحواء وأكلهما من الشجرة ٢١ (وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ٢٢ قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

فاعترض المتكلف «يه ٢ ج ص ٤٦» على ذلك بمخالفته لما في توراته «تك ٣ ، ٨ ـ ٢٠».

وعلى قوله تعالى : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) وعلى حكايته جل اسمه لقول آدم وحواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، ثم ذكر المتكلف كلام توراته في ذلك الشأن ، ولكن شذّ به وهذّبه ، وأنى له.

فلننقله بنصه وهو قولها في آدم وحوا فسمعا صوت الإله متمشيا «عب متهلخ» في الجنة عند ريح النهار فاختبأ آدم من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة فنادى الرب الإله آدم وقال : أين أنت؟ فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت فقال : من أعلمك انك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها.

ولعل المتكلف أنكر على مضمون القرآن دلالته على ان الله العليم علم بأكل آدم وحوا من الشجرة بعلمه الذي لا يغيب عنه شيء بدون استعلام واستخبار ، والمتكلف لا يرضى بذلك ، لأن توراته تدل على ان الله جل اسمه «واستغفره» يحتاج الى الاستعلام من آدم بقوله جل شأنه أين أنت من أعلمك هل أكلت؟ ولا يرضى المتكلف من القرآن إلا أن يقول «متمشيا في الجنة عند ريح النهار» لكي يفهم القارئ ان ذلك المشي لأجل الاستراحة والتنفس في طيب الوقت وصفاء الجنة ، وان آدم وحوا «سمعا صوت الإله متمشيا» لكي يفهم القارئ انهما سمعا وطئ الاقدام أو ترنّم الطرب في التمشّي ، وان آدم اختبأ لكي يتأكد مضمون هذه التجسيمات بأن آدم كان يعرف ان الاختباء بشجر الجنة يستره عن الله جل شأنه ، ولأجل هذا سأله أين أنت ، من أعلمك؟ هل أكلت.

١٣٦

ولكن ليعلم المتكلف فيسخط أو يرضى ان القرآن يعد حقائق هذه الكلمات كفرا وإلحادا وجحودا لله إله الحق ، ويعد مجازاتها جهلا وضلالا ، ويسعد بذلك التوراة الحقيقة في استغاثتها من ذلك.

وأما عدم ذكر التوراة الرائجة لتوبة آدم فذلك لعادة ربّاها عليها آباؤها وكاتبوها في انهم يذكرون خطايا الأنبياء ولا يذكرون توبتهم ، فهل يراها المتكلف ذكرت توبة نوح كما يزعم مما ذكرته «تك ٩ ، ٢١» ، أو توبة اسحاق مما ذكرته «تك ٢٦ ، ٧» ، أو توبة يعقوب مما ذكرته «تك ٢٧ ، ١٨ ـ ٣٥» أو توبة موسى مما ذكرته «خر ٤ ، ١٠ ـ ١٤ ، و ٥ ، ٢٢ ، و ٣٢ ، وعد ١١ ، ١١ ـ ١٥» ، أو توبة هارون مما ذكرته «خر ٣٢ ، ١ ـ ٧» ، أم يقول المتكلف : ان هؤلاء ما تابوا ولكن تساهل الله معهم فأبقاهم على وظيفة النبوة ولوازم القداسة ، حاشا لله القدوس الحكيم العليم من ذلك سبحانه وتعالى شأنه.

* * *

وقال الله تعالى في سورة الاعراف ١٨٩ و ١٩٠ : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) «الآيات» ، وقد ذكرناهما في الجزء الاول وذكرنا في شأنهما ما يبطل تشبثات المتكلف لأوهامه «يه ١ ج ١١ و ٢ ج ص ٩٣ و ٩٤» فانظر الى الصحيفة ٩٣ ـ ٩٤.

* * *

وقال الله تعالى في سورة المائدة ٣٠ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ٣٣ (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ٣٤ فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).

فقال المتكلف «يه ٢ ج ص ٤٣» وقول القرآن : ان الغراب علّم قايين كيفية دفن أخيه مأخوذ من خرافات اليهود القديمة ، وهل يتصور ان قايين كان يجهل هذا الأمر ، وكان يرى مدة حياته الذبائح تقدم لله ، وهل يعقل انه لم ير

١٣٧

في مدة حياته الطويلة ان دفن الطير أو الحيوان ومواراته في التراب يكون واقيا في الارض وقد آتى الله الانسان عقلا به يعقل.

قلت : لما ذا لا يتصور ان قابيل كان يجهل دفن الموتى وقد كان لم ير ميتا ولا دفنا ، ومن قال : ان الذبائح التي كانت تقدم لله كانت تدفن ، ومن يقول ان قابيل رأى في مدة حياته الى حين قتله لهابيل من يدفن الطير ، وما الغاية في دفن لطير أو الحيوان ، ومن فعل ذلك وبمقتضى التوراة ان قابيل كان إذ ذاك رابعا لثلاثة من البشر آدم ، وحوا ، وهابيل ، وان هذه الواقعة حدثت قبل أن يولد شيث ، وقبل أن يمضي من العمر لآدم مائة وثلاثون سنة فانظر «تك ٤ و ٥ ، ٣» فهل يكون عمر قابيل حينئذ ثلاثمائة او أربعمائة سنة بين ألوف من البشر المتمدنين ، وقد دربته الدنيا بحوادثها وتربى في المكاتب ليكرس نفسه مبشرا لأهل نحلته ولو كان كذلك وكان معتضدا بجماعة من المرسلين الامريكان لجوزنا في عقله عدم الوصول الى ما لم يره ولم يحدث في الدنيا ، فانا نرى من الناس من شذت عقولهم وأبصارهم عما هو نصب أعينهم في كتبهم التي يدرسونها ويعتمدون عليها ويدعون إليها ، ولا نزيدك غير ذلك.

وقال المتكلف في هذا المقام «ص ٤٢» ثم ان مراعاة القرآن السجع مقدمة على الحقائق فقال قابيل لأنه على وزن هابيل.

قلت : ليس في القرآن الكريم ذكر للفظ قابيل أو هابيل ، والمتكلف في اغراضه وشئونه معذور في ذلك ، ولا تبخل بالعذر أيضا على المرسلين الاميركان الذين طبع كتابه بمعرفتهم.

* * *

وذكر الله جل جلاله في سورة هود ٢٧ ـ ٣٩ نحوا من شأن نوح وقومه في دعوته ونصحه لهم وتمردهم وطغيانهم على دعوة الحق.

فاعترض المتكلف على ذلك «يه ٢ ج ص ٦٥» بقوله : لم يرد في كتاب الوحي الإلهي خبر عن هذه المجادلة ، ولم يرد في التوراة ان أراذل الناس اتبعوا نوحا.

١٣٨

قلت : ان من منحه الله شيئا من الفهم والشعور ليعلم من العادة وفلسفة الحقائق ان النبي الذي يقيم في دعوة الحق والوعظ والنصيحة مئات من السين بين قوم كفرة متجبرين ، ويجزم يقينا ان شأن هذا النبي لا ينقضي مع قومه بالصمت والسكوت بل لا بد فيه من المكالمات الكثيرة ، والرد والبدل ، والدعوة والجحود ، والوعظ والهزء ، والنصيحة والسخرية. والاحتجاج والجدال ، والبرهان والمكابرة ، والحجة والعناد ، وليس هذا المقام مما قال فيه الشاعر :

حواجبنا تقضي الحوائج بيننا

فنحن سكوت والهوى يتكلم

أفلا ترى ان مدير القرية إذا أراد أن يبدل فيها قانونا واحدا عموميا ، أو يؤسس هذا القانون الواحد كم يحدث فيها من الانقلاب والمجادلات والمكالمات ، فما ظنك بدعوة النبي الى التوحيد والصلاح ، وما ذا ينبغي أن يصدر من العتاة في رد الدعوة الدائمة والنصح المستمر من النبي الأمين في الدعوة ، المجاهد في سبيل الله ، وما يبدر منهم ليحافظوا على وثنيتهم وعوائد ضلالهم ، فأعرني رشدك لحظة وانظر في التوراة الرائجة التي سلكت في قصصها مسلك التاريخ الساذج ، فهل تراها ذكرت في شأن نوح وقومه ما يليق بحوادث يوم واحد في الدعوة والوعظ وجوابهما ، وهل ذكرت في هذا الشأن إلا ان أبناء الله رأوا بنات الناس حسنات فاتخذوا لأنفسهم نساء ، فقال الرب : لا يدين روحي في الانسان الى الأبد تكون أيامه مائة وعشرين سنة.

كان في الأرض طغاة في تلك الأيام وبنات الناس ولدن الجبابرة ، ورأى الرب ان شر الانسان قد كثر ، فحزن الرب ان عمل الانسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال : امحو عن وجه الارض الانسان الذي خلقته مع البهائم والدبابات وطيور السماء لأني حزنت اني عملتهم ، وأما نوح فوجد نعمة في عيني الرب وفسدت الارض وامتلأت ظلما ، فقال الله لنوح اصنع فلكا الى آخره ، هذا ما في التوراة في شأن نوح وقومه مع حذف التكرار والفضول فانظر «تك ٦ ، ١ ـ ١٤».

ومع هذا فهل يحسن من أقل العقلاء أن يقول : ان هذه هي تمام

١٣٩

الحوادث في أيام نوح وشئون دعوته ووعظه ونصحه لقومه ، ولم يصدر كلام لا من نوح ولا من قومه لا في الدعوة ولا في الجحود ، ولا في الوعظ ولا في الاصرار ، ولا في النصح ولا في العناد ، فلم يوبخهم نوح ولم يضجروا منه ولم يجادلوه ولم يستهزءوا به.

حتى ان من نقل من ذلك شيئا يقول له المتكلف اسكت فإن التوراة لم تذكر من ذلك شيئا مع انها أطنبت في بيان حزن الله وتأسفه في قلبه ... أين العقول؟ أين الرشد؟ أين الأدب؟.

فهل ترى ذا أدب يقدر أن يرد بالتوراة تاريخا من التواريخ إذا ذكر سيرة طويلة في تاريخ نوح من قومه في دعوته ، نعم له في قانون الأدب أن يطالب المؤرخ بمستند ما يذكره

وأما رده بأن التوراة الرائجة لم تذكر ذلك فان الأدب والأديب والفهم والفاهم لينكرونه ، أي انكار ، ويهتفون مع المؤرخ في قوله وما على الحقائق إذا كان توراتكم الرائجة ، وحاشا الحقيقة خرساء في هذا الشأن إلا عن ذكر حزن الله وتأسفه في قلبه.

والمتكلف يعترض على القرآن كلام الله بإهمال توراته للحقائق اللازمة إذا ذكر بعضها حسب مقتضى الحال في مقام الوعظ والتذكير والحجة كما هو شأنه لا سفاسف السيرة وخرافات الاعتقاد وفضائح الأنبياء والأولياء.

نعم للمتكلف أن يطالب بالحجة على كون القرآن كلام الله لكي يتيقن بحقيقة ما يذكره ولكنه هوى به عاصف الهوى عن ذلك في مكان سحيق.

وبما ذكرنا تعرف شططه أيضا في قوله ولم يرد في التوراة ان اراذل الناس اتبعوا نوحا ، كما تعرف ان حجته على انكار ذلك بقول التوراة ان الله أغرقهم بالطوفان إنما هي حجة واهية.

فانا لو خطر في خيالنا الاعتماد على التوراة الرائجة لقلنا : يجوز أن يكون هؤلاء الصفوة الأفاضل الذين سماهم الطغاة بالأراذل لم يدركوا زمان الطوفان بل ماتوا بآجالهم أو أماتهم اضطهاد الكفر ، فان الدعوة والإيمان والطوفان لم

١٤٠