الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٢
الجزء ١ الجزء ٢

ان مأخذ العهد القديم العبراني وخصوص التوراة لم يكن إلا نسخة وحيدة مغلوطة جدا قد اتبعوا غلطها فيما تداولوه عنها ، ولم يمدوا إليه يد التصحيح إلا في الحواشي وتركوا المتون على سقمها حرصا على حفظ الاسم والصورة التي ظفروا بها بعد التلاشي ، وذلك لما هو المعروف من اضطراب أحوالهم ، كما شرحناه في المقدمة الخامسة عن كتبهم ، وتشهد به احوالهم المشاهدة من انهم في امور ديانتهم بين تفريط فاحش ، وإفراط هو أفحش منه.

المورد العاشر : زيادة الفقرات واعتراضها بين الكلام الذي لا ربط له بها ولا مناسبة فيها لمقامه حتى شوهت وجه تاريخه المسوق له ، وذلك كالسادسة والسابعة من عاشر التثنية ، فإن عاشر التثنية بينما يذكر حديث موسى وكلامه في شأن صعوده الى جبل سينا بعد واقعة العجل وما امر الله به من تجديد اللوحين وافراز بني لاوي لخدمة المسكن ، وحمل التابوت إذ قالت بلا ربط ولا مناسبة : وبني يسرائل ناسعو مبارت بني ياعقان موساره شم وبني اسرائيل ارتحلوا من آبار بني ياعقان الى موساره هناك مت هارون ويقابر شم ويكهن العازار بنو تحتايو ، مشم ناسعو هكد كداه مات هارون وقبر هناك وكهن العازار ابنه بدله من هناك ارتحلوا الى الجد جداه ، ومن هكد كداه يا طباثاه ارض نحلي مايم.

ومن الجد جداه الى يا طباثاه ارض انهار ماء.

ومع ان هذه الفقرات في نفسها غلط صرف بملاحظة منازل بني اسرائيل ومراحلهم بمقتضى الثالث والثلاثين من العدد المستقصى لذكر مراحل بني اسرائيل ومنازلهم على التوالي والترتيب من مصر الى عربات مواب ، وسأذكر لك محل الغرض من المنازل على مقتضى المرسوم في الأصل العبراني ففيه ٣٠ : وارتحلوا من حشمناه ونزلوا بمسروت وارتحلوا من مسروت ونزلوا بني ياعقان وارتحلوا من بني ياعقان ونزلوا بحر الجدجاد وارتحلوا من حر الجدجاد ونزلوا بياطباثاه وارتحلوا من ياطباثاه ونزلوا بعبرناة وارتحلوا من عبرناه ونزلوا بعصين جابر وارتحلوا من عصين جابر ونزلوا ببرية صن هي قادش وارتحلوا من قادش ونزلوا بجبل الهور بطرف ارض ادوم وصعد هارون الكاهن إلى جبل الهور على قول الله ومات هناك ، وارتحلوا من جبل الهور ونزلوا بصلمنه الى آخر المنازل

٨١

«انظر عد ٣٣ ، ٣ ـ ٤٣».

فقول التثنية ان بني اسرائيل ارتحلوا من آبار بني ياعقان الى موساره مناقض لقول العدد انهم ارتحلوا من حشمناه الى مسروت ومنها الى بني ياعقان ومنهم الى هور الجدجاد.

وكذا قول التثنية ان هارون مات وقبر في موساره ، فانه مناقض لقول التوراة بأنه مات ودفن في جبل الهور «عد ٢٠ ، ٢٨ ، و ٣٣ ، ٣٨ و ٣٩ وتث ٣٢ ، ٥».

وكذا قول التثنية انهم ارتحلوا من موساره الى الجدجاد ومنه الى ياطباثاه فانه مناقض لقول العدد انهم ارتحلوا من بني ياعقان الى حر الجدجاد ومنه الى ياطباثاه ومنها الى عبرناه.

ومن الظرائف ان مترجم الترجمة المطبوعة سنة ١٨١١ أحسّ بأن ما ذكرناه عن التثنية إنما هو حشو زائد مخل لا ارتباط له بما قبله وما بعده ، فهان عليه ان يحرّف الكلام ويزيد فيه ما شاء هواه فلعله يوهم التئام الكلام فعمد الى الفقرتين اللتين ذكرناهما بأصلهما العبراني وترجمتهما فقال في الترجمة التي هي أشبه بالتشطير والتوشيح ما لفظه ، «ولما» شفعني في هارون اقام الى ان رحل بنو اسرائيل من بايروت بني ياعقان وموسيرا ، ومات هارون ثم ودفن وأم العازرا ابنه مكانه لما رحلوا من ثم الى جدجد ومنها الى ياطباثا أرض ذات اودية ماء.

فأنظر إليه وطابقه مع ما ذكرناه من الأصل العبراني لكي تعلم ان هذا المترجم كتب توراة جديدة ولم يتخلص من عدم الارتباط.

ثم نقول : لا يخفى على من راجع سفر التثنية انه قد اخذ في حديث اللوحين والعجل.

المورد الحادي عشر : قد ذكرنا في الجزء الأول صحيفة ٣٥ ان الترجمة السبعينية للعهد القديم قد ترجمت بعناية سبعين أو اثنين وسبعين من علماء اليهود المنتخبين من الملة.

٨٢

ونقول هاهنا بحسب القدر المتفق عليه من تاريخها ، والجامع المحصل من منقولاته انه لا بد أن يكون اجتماع هذا العدد المنتخب من أهل العصر الواحد حجة على أهل الكتاب في نقل كتابهم ، فانه راجع في الحقيقة إلى انتخاب جامعة الملة وعناية رئاستها الدينية من دون توسط اضطهاد او الجاء أو أدنى سبب للتغيير ، بل كان الحال يحث على الدقة والمحافظة على المطابقة كما يشهد لذلك اتفاق التاريخ على ان هذه الترجمة فازت في الملة اليهودية ورئاستها العلمية الدينية بالاحتفال والقبول والاعتماد.

وتتأكد الحجة بها على النصارى لأجل ما ذكروه من اعتماد المسيح عليها وانه كان يخاطب اليهود الذين اجتمعوا يوم الخمسين من الترجمة السبعينية وكذا استفانوس المملوء بزعمهم من الروح القدس كان يخاطب اليهود منها ، وكذا الذين تشتّتوا في البلاد ليكرزوا بالمسيح.

وكذا المعلمين من قدماء النصارى «انظر أقلا يه ٣ ج ص ١٧٥ و ٢١٢ و ٤ ج ص ٩٠ ـ ٩٢».

ويشهد لذلك أيضا اعتماد العهد الجديد عليها في ذكر الفقرات التي اختصت بها دون العبرانية كما سيأتي ذكره قريبا إن شاء الله.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان النسخة السبعينية هذه تشهد بوجود السقط والزيادة في النسخة العبرانية.

«أما شهادتها بوجود السقط والنقصان والغلط في العبرانية».

فقد ذكرت فقرات كثيرة غير موجودة في الأصل العبراني ، ولنذكر لك بعضا منها «وهذه هي» في سفر التكوين ٤ ، ٨ «تعال نخرج الى الحقل» ١٠ ، ٢٤ «وارفكشاد ولد قينان وقينان ولد شالح».

وفي سفر اللاويين ١ ، ١٠ «يوضع يده على رأسه» ، ٣ ، ١٣ «امام الرب» ٧ ، ٣ «وكل الشحم الذي على الأحشاء» ١٩ ، ٢٣ «الذي يعطيكم الرب إلهكم» ٢١ ، ٥ «لميت» ٢٤ ، ٧ «وملحا».

وفي سفر العدد ٤ ، ١٤ «ويأخذون ثوبا ارجوانيا ويغطّون به المرحضة

٨٣

وقاعدتها ويضعون عليها غطاء من جلد تخس ويجعلونها على العتلة» ، ١٠ ، ٦ «وإذا ضربتم هتافا ثالثة ترتحل المحلات النازلة الى الغرب ، وإذا ضربتم هتافا رابعة ترتحل المحلات النازلة الى الشمال» ، ١٤ ، ١٢ «وبيت أبيك» ، و ٤٥ «فرجعوا الى المحلة».

وفي سفر التثنية ٤ ، ٢ «اليوم» ٢٠ ، ١٧ «والجرجاشي».

وفي سفر يشوع ٢٤ ، ١٢ «اثني عشر ملكا للاموريين».

وفي سفر القضاة ١٦ ، ١٣ «أضعف وأصير كواحد من الناس» ١٩ ، ١٨ «لأنها كانت ميتة» ٢١ ، ١١ «واستبقوا العذارى ففعلوا هكذا».

وفي صموئيل الأول ١ ، ٥ «لأنه ليس لها ولد» ، و ١٨ «مع رجلها وشربت» ، ١٤ ، ٢٣ «وكل الشعب كان مع شاول نحو عشرة آلاف رجل وانتشر الحرب في كل مدينة من جبل افرايم» ١٩ ، ٢٢ فاشتعل غضب شاول. وفي صموئيل الثاني ١٣ ، ٢١ «ولم يحزن روح آمنون ابنه لأنه احبه لأنه بكره» و ٢٧ «وصنع ابشالوم وليمة كوليمة الملك» ١٤ ، ٢٧ «وصارت امرأة لرحبعام ابن سليمان فولدت له آبيا» و ٣٠ «وجاء عبيد يواب إليه وثيابهم ممزقة وقالوا قد أحرق عبيد ابشالوم الحقلة بالنار».

وفي الملوك الاول ١٨ ، ١٢ «وأنبياء السواري أربعمائة» و ٣٠ «كلم ايليا التشتي أنبياء البعل قائلا حيدوا الآن وأنا اقرب محرقتي فحادوا وذهبوا» ٢٢ ، ٣٥ «من الصباح الى المساء».

وفي الملوك الثاني ١ ، ٢ «وذهبوا لكي يسألوا منه» و ٩ «رئيس الخمسين» ٩ ، ٢٨ «وجاءوا به» ١٠ ، ١٥ «فقال يا هو إن كان فهات يدك».

وفي سفر «أيوب» ١ ، ٢١ كما حسن عند الرب هكذا فليكن ٢ ، ٩ «بعد زمان طويل».

وفي المزامير ١٤ ، ٤ «حناجرهم قبور مفتحة مكروا بألسنتهم سم الأفاعي في شفاههم وهؤلاء افواههم مملوءة لعنة ومرارة وأرجلهم الى سفك

٨٤

الدماء سريعة ٦ البؤس والتعبس في سبلهم وطريق السلامة ما عرفوها وليس خروف الله أمام عيونهم».

وصاحب الترجمة المطبوعة سنة ١٨١١ أدرج هذه الفقرات في الأصل وجعل مزمورها الثالث عشر في العدد ٧٣ ، ٢٨ «في أبواب ابنة صهيون» ، ١٤٥ ، ١٣ «الرب أمين في كل أقواله رحيم في كل أفعاله» و ٢١ «ونحن نبارك الرب من الآن وإلى الأبد».

وفي أمثال سليمان ١٦ ، ١١ «وإن كنت مجتهدا يأتي كينبوع حصادك» وفي اشعيا ٥٣ ، «للموت».

«وأما شهادة السبعينية بوجود الزيادة في الأصل العبراني».

فانها قد تركت كثيرا مما فيه فتركت من سفر اللاويين ٢٢ ، ٣١ «انا الرب» ، ومن سفر التثنية ٢٨ ، ٥ «الرض».

ومن كتاب يشوع ١ ، ٢ لبني اسرائيل ، ١٠ «الخامسة عشرة بتمامها» ٢٠ «الرابعة والخامسة والسادسة بتمامهن» ٢٢ ، ١٢ «لما سمع بنو اسرائيل» ، ومن صموئيل الاول ٢ «الثامنة بتمامها» ٤ ، ١٩ «خمسين ألف رجل» ١٣ «الاولى كلها» ١٧ «الحادية والأربعين وكذا الخمسين وكذا الخامسة والخمسين إلى الثامنة والخمسين» ١٨ «الاولى إلى لفظ الفلسطيني من السادسة وكذا الثانية عشرة» ٢٣ «الثانية عشرة بتمامها».

ومن صموئيل الثاني ٣ ، ٨ «ليهودا» ٦ «الرابعة بتمامها».

ومن الملوك الاول ٦ «الحادية عشرة والثانية عشرة والثالثة عشرة» ، ١٢ «الثانية والثالثة الى لفظ يربعام» ١٤ ، ٣١ «واسم أمه الى آخرها».

ومن كتاب عزرا ١ ، ٢٩ «عشر».

ومن كتاب نحميا ٤ ، ٢٣ «كل واحد ـ إلى آخرها» ، ومن كتاب أيوب ٢٧ ، ١٣ «لو لا» ، ومن كتاب حزقيال ٢٦ ، ١٧ «التي كانت قوية في البحر هي وسكانها.

٨٥

وأما شهادة السبعينية بالغلط في الأصل العبراني

فانها قد خالفته في امور ، ففي سفر اللاويين العبراني ١٩ ، ٢٦ «لا تأكلوا بالدم» ، وفي السبعينية «لا تأكلوا على الجبال».

وفي سفر العدد العبراني ٤ ، ٣ و ٢٣ و ٣٠ و ٣٥ و ٣٩ و ٤٣ و ٤٧ «ابن ثلاثين سنة» ، وفي السبعينية ابن خمس وعشرين سنة.

وفي المزامير العبرانية ٤٠ ، ٧ «اذنين حفرت لي» ، وقرء في السبعينية «جسدا هيأت لي».

المورد الثاني عشر

«شهادة العهد الجديد على الأصل العبراني بالنقصان والتحريف».

«اما شهادته بالنقصان» : فقد جاء فيه «لكي يتم ما قيل بالأنبياء انه سيدعى ناصريا» مت ٢ ، ٢٣.

وليس لهذا القول في كتب العهد الجديد عين ولا أثر ، وللمتكلف هاهنا كلام لم يأت لقومه إلا بالإسراف في الحبر والقرطاس وعمل الطبع ، «فانظر يه ٢ ج ص ٢٠٥ ـ ٢٠٧».

وخالف التوراة العبرانية فزاد في طبقات النسب «قينان» بين ارفكشاد وشالح «لو» ٣ ، ٣٥ و ٣٦. وللمتكلف هاهنا كلام سيأتي قريبا إن شاء الله بيان ما فيه.

«وأما شهادته بالتحريف» : فقد ذكرنا ان الموجود في السابع من المزمور الأربعين «اذنين حفرت لي» ، وفي الخامسة من عاشر العبرانيين «هيأت لي جسدا».

والمتكلف يقول : ان قول العبرانيين «هيأت لي جسدا» نقل بالمعنى لقول المزامير «اذنين حفرت لي» ، وتمحل لذلك بكلام طويل وتأويل بارد «فانظر يه ٣ ج ص ٢٢٦ و ٢٢٧» تعرف شططه.

٨٦

ويكفي في رده ان النقل بالمعنى يلزم فيه ان يكون المعنى محفوظا بحدوده وإنما يكون التبديل بصورة الألفاظ ، إذن فأين «اذنين حفرت لي» وأين «هيأت لي جسدا» ، ولو كان هذا التفاوت والتباين من النقل بالمعنى لما بقي في الكلام اختلاف بل انسد باب اللوم على أكثر الذين يخطئون أو يكذبون في نقلهم ، فيقال أنه نقل بالمعنى.

واعلم ان الترجمة المطبوعة سنة ١٨١١ قد جمعت في ترجمة المزامير بين الأمرين فذكرت هكذا «واعددت لي جسدا فتحت مسامعي» ، وفي ترجمة رسالة العبرانيين اقتصرت على قولها «واقتنيت لي جسما» فزادت على الأصل العبراني لكي تتجه دعوى النقل بالمعنى.

«تتمة» واعلم ان المترجمين من النصارى لم يجروا على نهج غير مضطرب فلم يتبعوا الأصل العبراني تماما على ما فيه ، ولم يتبعوا حواشيه تماما على ما فيها ، ولم يتبعوا النسخة السبعينية تماما على ما فيها ، ولم يرفضوا النسخة السامرية تماما ، بل استخرجوا بحسب افكارهم وأغراضهم كتابا ملفقا لا يطابق بتمامه مطابقة تامة لواحد من هذه الاربعة ، ولقد كنا نحب بيان ذلك بالاستقصاء ، لو لا انه يؤدي إلى الطول الذي تبعد به المسافة عن المقصود ، بل هو جدير بأن نفرده في رسالة مستقلة ، وفي الإشارة إليه هاهنا كفاية فانظر أقلا الى ما ذكرناه من الموارد ، وراجع النسخة التي ذكرناها أولا في صدر الكتاب.

وانظر الجزء الأول من إظهار الحق ، وإن شئت فطابق بين الأصل العبراني وحواشيه والترجمة السبعينية ، وبين تراجم النصارى للعهد القديم لكي تعرف ان العهد القديم ليس له عندهم أصل يعتمد عليه ، وإنما هو كتاب موهون للنظر في تصحيحه وتهذيبه مجال واسع ، لا يصد عن جماحه عنان التعصب والتستر ..

وبذلك تعرف شطط المتكلف على قومه وكتبه في قوله «يه ١ ج ص ١٢٧» «لا يعوّل على التراجم بل المعول عليه والمرجع إليه هو التوراة العبرية التي حافظ عليها اليهود».

٨٧

وقوله «يه ٣ ج ص ٢١٦» «التوراة العبرية هي المعول عليها» ويه ٣ ج ص ٢٢٨ «ان المعتمد عليه هي التوراة» ، «اي العهد القديم» العبرية وعبارتها هي الحق.

تتمة الصدر والتمهيد

لا يخفى على غير القاصر ان الحقيقة إذا تداولت عليها قرون القدم ، وتقلّب الأحوال كثر عليها اعتراك التاريخ ولغطه في الاختلاف والتعارض فلا يكاد المتعمّق في سبر كتب التواريخ أن يرى حقيقة سلمت من هرج الاختلاف ومرجه.

نعم : قد يفوز بالشهرة بعض كتب التاريخ لشهرة كاتبه ولو بنحو السلطنة والوزارة ، أو بموافقته لطباع العوام ، أو الأهواء ، أو العصبية القومية او تعس الوقت ، ولو ان المؤرخ كان معروفا بالضبط ، والتثبت لما ترجح تاريخه إلا بنحو من رجم الظنون التي تسكن إليها النفس إذا لم يطلع على ما يعارضه.

فلو ان بعض أقوال المؤرخين خالفت القرآن الكريم لما كان لذي عقل أن يعترض بها على القرآن ، فان التاريخ كيفما كان لا يمس الحجة القاطعة على كون القرآن الكريم كلام الله علّام الغيوب ، بل إذا تمت الحجة عاد التاريخ المعارض من خرافات الضلال ، ولو فرضنا ان الحجة لم تتم لما عدا الحال أن يكونا تاريخين متعارضين ، لا يحسن التحكم ببطلان أحدهما لأجل معارضة الآخر.

وبهذا تعرف شطط المتعرّب في اعتراضه على القرآن الكريم بالتاريخ الآحادي المجهول.

ألا ترى ان العهد القديم تضمّن التاريخ من خلق العالم إلى سبى بابل ، وان التاريخ من ذلك الحين الى ميلاد المسيح معلوم ليس فيه خلاف يعتدّ به ومع ذلك فقد حكى (١) عن كتاب «جادلس روجر» انه ذكر اختلاف

__________________

(١) حكاه إظهار الحق مفصلا في الجزء الثاني في الاختلاف الخامس من الفصل الثاني من الباب الخامس.

٨٨

المؤرخين في ذلك إلى خمسة وعشرين قولا من اليهود والنصارى وغيرهم ، وتزيد الأقوال بخلاف «اهيلز» (١) لهم أيضا ، وكل هذا الخلاف أو جله يرجع الى مخالفة تاريخ العهد القديم وخصوص التوراة.

وأيضا قد جاء في العهد القديم ان سليمان شرع ببناء بيت الرب في السنة الأربعمائة وثمانين من خروج بني اسرائيل من مصر «١ مل ٦ ، ١» وعن آدم كلارك (٢) مفسرهم انه نقل في ذلك اثني عشر تاريخا لأهل الكتاب كلها متخالفة ، وأقلها ٣٣٠ سنة وأكثرها ٦٨٠ سنة وكلها مخالفة لتاريخ العهد القديم في بناء الهيكل وإتمامه (٣).

ومع ذلك كله لا يحسن الاعتراض على العهد القديم بمخالفة هؤلاء المؤرخين وإن كانوا من متبعيه ، لأنه لو قامت الحجة على كونه من الوحي الإلهي لكشف عن ضلالة هذه التواريخ بأجمعها ، وإذا لم تتم الحجة فهو تاريخ كاحد التواريخ يعارضها ، كما تعارضه لو لم ينحط عنها بمجهولية كاتبه وعصره وكثرة وقوع الغلط في كتابته وعبث التصرف به وتعرض الأهواء في قلبه إلى حيث تميل.

وكيف كان فان المصيبة الفادحة على الكتب المنسوبة الى الوحي وعلى من ينسبها إليه ، إذا كان الكتاب الواحد متناقض التاريخ.

٢) او كانت نسخ الكتاب الواحد المشهود لها بالاعتبار متناقضة التاريخ.

٣) أو كان بعض الكتب المذكورة مناقضا لبعضها الآخر في التاريخ.

وقد ابتلى العهدان بالأقسام الثلاثة من التناقض في التاريخ.

__________________

(١) نقله إظهار الحق أيضا في المقام المذكور عن تفسيري هنري واسكات.

(٢) نقله إظهار الحق في العدد ٣٧ من القسم الثاني من الفصل الثالث من الباب الأول.

(٣) ففي العهد القديم ان سليمان أتم بناء الهيكل في السنة الحادية عشرة لملكه «١ مل ٦ ، ٣٨» ، فيكون إتمامه سنة ٤٨٧ ، ولا يوافق شيء من التواريخ المشار إليها لتاريخ ابتداء البناء ، ولا لتاريخ اتمامه ، ولا يقارب واحدا منهما.

٨٩

أما القسم الأول

فقد جاء في التوراة عن قول الله لإبراهيم : اعلم علما انه غريبا يكون نسلك في ارض ليست لهم ويستعبدونهم ويذلّونهم أربعمائة سنة ، وأيضا الامة يعبدونها ادينها أنا ، وبعد ذلك يخرجون بأملاك عظيمة.

وفي الجيل الرابع يرجعون الى هنا «أي أرض كنعان» ، «تك ١٥ ، ١٣ ـ ١٦» وانظر ١ ع ٧ ، ٥ ـ ٨».

وفي هذا الكلام دلالة واضحة على ان الاربعمائة سنة هي مدة الاستعباد والذلة في الغربة في الارض المذكورة التي يخرجون منها كما هو واضح الدلالة على ان الخروج بالأملاك العظيمة إنما هو من ارض الغربة التي يستعبدون فيها أربعمائة سنة ، ولا ينطبق ذلك إلا على أرض مصر وخروجهم منها ، ويزيد في وضوح ذلك انه جعل الغاية لتلك الغربة ان بني اسرائيل يرجعون الى ارض كنعان ، فلا يمكن ان تكون أرض كنعان داخلة في الغربة والارض المسوق لهما الكلام.

هذا ثم ذكرت التوراة نفسها ان إقامة بني اسرائيل في مصر كانت أربعمائة وثلاثين سنة «خر ١٢ ، ٤٠ و ٤١» فتناقض تاريخها في المقامين بثلاثين ، ولا تتوهم ان سقوط الثلاثين سنة في التاريخ الاول كان لأجل اعتزازهم بعزة يوسف مدة حياته ، وذلك لأن عزتهم بحياة يوسف في مصر كانت فوق الثمانين سنة ، فإن يوسف وقف بين يدي فرعون وهو ابن الثلاثين سنة ، ثم مضت سبع سنين للخصب ، وجاء بنو اسرائيل الى مصر في السنة الاولى او الثانية من سني الجوع «انظر تك ٤١ ، ٤٦ ـ ٥٥ ، و ٤٧ ، ١ ـ ١٨» ، ومات يوسف وهو ابن مائة وعشرين سنة «تك ٥٠ ، ٢٦».

«فإن قلت» : ان المتكلف قد وجه هذا الاختلاف «يه ١ ج ص ١١٦ و ١١٧ و ٤ ج ص ٣ ـ ٨» بما حاصله ان مبدأ التحديد بالأربعمائة وثلاثين سنة كان من حين الوعد المذكور «تك ١٥ ، ١٣ ـ ١٦» عند دعوة ابراهيم وأمره بالخروج من أهله وعشيرته ، وان مبدأ الاربعمائة سنة كان من ولادة إسحاق او فطامه.

«قلت» : ولما ذا سرى أليك داء المتكلف فلم تلتفت الى ما في كلامه ، أم

٩٠

انك من أعدائه فأردت ان تنبه على شططه .. أم تريد ان تدلنا على معرفة المرسلين الأمريكان الذين طبع كتابه بمعرفتهم.

إذن فاسمع ما فيه من الأغلاط.

قال المتكلف «يه ٢ ج ص ١١٦ س ٥» نعم ان المولى سبحانه وتعالى قال : ان نسله «أي ابراهيم» يستعبد ٤٣٠ سنة. ولكن كان هذا القول وقت دعوته ، ولا شك انه من وقت دعوته واختياره الى خروج بني اسرائيل من مصر ٤٣٠ سنة.

ولا ينبغي ان يخفى عليك ان في كلامه أغلاطا عديدة لا تخفى على صغار الناس (١) ان الكلام الذي فيه هذا العدد أعني ٤٣٠ سنة ليس فيه لفظ «نسله» ولا لفظ «يستعبد» وإنما لفظه في سفر الخروج ١٢ ، ٤٠ واقامة بني اسرائيل التي أقاموها في مصر أربعمائة وثلاثين سنة ، ونصها في الاصل العبراني : وموشب بني اسرائيل آشر يشبو بمصرايم شلشيم شنه وأربع مأوت شنة ، (٢) لم يجيء في التوراة الرائجة في دعوة ابراهيم وأمره بالخروج تعرض لشيء من هذا النحو أصلا ، وإنما كان وعدا بالعظمة والبركة ، وانه تتبارك به جميع قبائل الارض «انظر تك ١٢ ، ١ ـ ٤».

٣ ـ ان التحديد بهذه المدة كان في نص التوراة تحديدا لسكنى بني اسرائيل في مصر ، وبأي محاورة من محاورات العقلاء او غيرهم يؤخذ مبدأ التاريخ والعدد من دعوة ابراهيم ، فإذا قال شخص : ان فلانا عاش في الدنيا ثمانين سنة ، فاطلعت على غلطه ، وان فلانا ما عاش في الدنيا إلا أربعين سنة ، أفتقبل عذره لو قال ، اخذت مبدأ التاريخ من حين عزم جده على التزويج.

٤ ـ ان هذا القول لم يكن في وقت دعوة ابراهيم ، وإن كان له أصل فهو في عهد موسى بعد خروج بني اسرائيل من مصر.

٥ ـ ان دعوة ابراهيم واختياره كانا في اور الكلدانيين ، كما صرّح به المتكلف «يه ٤ ج ص ٣» في اوّل جدوله الأيمن ، واعتمد فيه على سابع الأعمال ، وهذه الدعوة لا يعرف تاريخها من العهدين أصلا ورأسا.

٩١

وكذا مدة مكث ابراهيم في حاران ، فمن أين يتيسّر للمتكلف هذا التطبيق الذي يدعيه حتى يقول بملء فمه «لا شك».

ثم قال المتكلف في هذا المقام «س ٧ ـ ١٠».

أما قوله : نسله يستعبد ٤٠٠ سنة ، فكان نزول هذا القول في وقت ولادة إسحاق ، أو في وقت فطامه عند حصول الخلاف بين سارة وبين هاجر «تك ٢١ ، ٨ ـ ١٢».

ولا شك ان من وقت فطام إسحاق الى خروج بني اسرائيل من أرض مصر هو ٤٠٠ سنة.

ولا ينبغي أن يخفى عليك ان في هذا الكلام أيضا أغلاطا عديدة :

١ ـ ان نزول هذا القول على ابراهيم كان بحسب نقل توراتهم حينما شكا العقم وعدم الولد ، وذلك قبل ولادة اسماعيل التي هي قبل ولادة اسحاق بأربع عشرة سنة «فانظر تك ١٥ و ١٦».

٢ ـ ان الترديد بين ولادة اسحاق وبين فطامه يوجب اشتباه التاريخ بمقدار مدة رضاعه ولا يكون ذلك بحسب العادة أقل من سنتين ، وهذا الترديد غلط منه ، فإن أصحابه يدعون اتقان التاريخ.

٣ ـ ان قوله أخيرا «ولا شك ان من وقت فطام اسحاق الى خروج بني اسرائيل من مصر هو ٤٠ سنة» هو مناقض لتردده في مبدأ المدة المذكورة بين ولادة اسحاق وفطامه. ٤ ـ ومناقض لقوله «يه ٤ ج ص ٣ س ١١» ، لا شك انه كان من مولد اسحاق الى خروج بني اسرائيل من مصر ٤٠٠ سنة ، ولعل المتكلف إذا نبّهته على هذا التناقض يقول لك : «لا يوجد في هذا أدنى تناقض فإن اسحاق فطموه في سنة ولادته أو شهرها» ، فلا تقبل مزاعمه التي يدعي تقدم الدنيا بها ، ولكن اعذره في عدم درايته بصراحة توراته إذ تقول وكبر الولد «اي اسحاق» وفطم وصنع ابراهيم وليمة كبيرة يوم فطام اسحاق ، وفي الأصل العبراني «ويكدل هيلد ويغامل» «تك ٢١ ، ٨».

٥ ـ ان تقويم التوراة يقتضي ان المدة من مولد اسحاق الى دخول بني

٩٢

اسرائيل الى مصر تكون مائة وتسعين سنة ، وذلك لأنها من مولد اسحاق الى مولد يعقوب ستون سنة «تك ٢٥ ، ٢٦» ، ومن ولادة يعقوب الى دخول بنيه الى مصر مائة وثلاثون سنة «تك ٤٧ ، ٩» فإذا كانت إقامة بني اسرائيل مائتين وخمس عشرة سنة كما جزم به المتكلف «يه ٢ ج ص ١١٦ س ١٥ وص ١١٧ س ٤ و ٤ ج ص ٨ س ٣» فيكون المجموع أربعمائة وخمس سنين ، فهل كتب في العهدين ان مدة رضاع اسحاق كانت خمس سنين ، وإذا كانت كذلك فكيف تتم الأربعمائة سنة على زعمه «يه ٤ ج ص ٣» في جدوله الذي على اليمين حيث جزم فيه بأن اقامتهم في مصر كانت مائتين وعشر سنين ، بل وكيف تتم على هذا إذا اخذ مبدأ الأربعمائة من ولادة اسحاق ، وتركنا لرضاعه حسب العادة سنتين ونحوهما ، فهذا مع ما تقدم عشر أغلاط.

١١ ـ زعم «يه ٢ ج ص ١١٦ س ١٦ ـ ١٨ و ٤ ج ص ٧ س ١٢ ـ ١٨» ان مبدأ الأربعمائة وثلاثين سنة كان من وقت الموعد الذي وعد الله به ابراهيم بالبركة عند خروجه من حاران وكان عمره حينئذ ٧٥ سنة «تك ١٢ ، ٣ و ٤ وهذا مناف لتصحيح «استفانوس» بأن ظهور الله لإبراهيم ودعوته التي وقع فيها هذا الموعد قد وقع حين كان ابراهيم فيما بين النهرين قبل ما سكن في حاران «فانظر ١ ع ٧ ، ٢ و ٣» ، ومناقض أيضا لأخذه مبدأ التاريخ بهذه المدة من دعوة ابراهيم من اور الكلدانيين فيما بين النهرين قبل خروجه من حاران بخمس سنين حسبما صرح به في جدوليه «يه ٤ ج ص ٣» معتمدا فيه على قول استفانوس «١ ع ٧ : ٢» ، كما اعتمد فيه أيضا «يه ٤ ج ص ٨ س ٤ و ٥» على تقويم مرشد الطالبيين.

١٣ ـ جزم المتكلف فيما أشرنا بأن إقامة بني اسرائيل في مصر كانت مائتين وخمس عشرة سنة ، وهذا مناقض لجزمه في جدوله الأيمن المذكور بأنها كانت مائتين وعشر سنين.

ولم يكن هذا التناقض والغلط في الحساب والاضطراب في مبادي التواريخ إلا لأمر يشير إليه المثل المشهور عند العوام (١٣) قد التجأ المتكلف في تكلفاته المتناقضة الى أن يزيد على عبارة سفر الخروج العبرانية ١٢ ، ٤٠ مثل

٩٣

الألفاظ التي زادتها السامرية واليونانية وهي لفظة «وآبائهم» ولفظة «وأرض كنعان» فتكون العبارة هكذا «واقامة بني اسرائيل وآبائهم التي أقاموها في مصر وأرض كنعان أربعمائة وثلاثين سنة» ، وهذا غلط بحسب جدوله المذكور واعتماده على تقويم مرشد الطالبيين ، حيث جعلا مبدأ المدة من دعوة ابراهيم في اور الكلدانيين.

بل يلزم على هذا ان يزيد على ذلك أيضا لفظ «وحاران» بل ان هذه الزيادة لازمة لهم على كل حال ، فإن يعقوب وبنيه قد سكنوا في حاران أكثر من ثلاثين سنة ، لأن يعقوب خدم «لابان» «بليئة ، وراحيل» أربع عشرة سنة قبل أن يرزق منهما الأولاد «انظر تك ٢٩ ، ٢٠ ـ ٣٠» ثم ولدت له ليئة أربعة أولاد ، ثم توقفت عن الولادة «تك ٢٩ ، ٣١ ـ ٣٥» ثم ولدت ولدين وبعدهما بنتا «تك ٣٠ ، ١٧ ـ ٢١» ، ثم ولدت راحيل يوسف «تك ٣٠ ، ٢٤» وحينما خرج يعقوب من حاران كانت بنته قابلة للتزويج «انظر تك ٢٤» وكان يوسف آخر أولاده يعرف الاستقبال وسجود التحية «تك ٣٠ ، ٧» ، وكان شمعون ولاوي ابناه قابلين للقتل والقتال «انظر تك ٣٤ ، ٢٥» فلا يمكن أن تنقص هذه المدة عن ثلاثين سنة.

فلما ذا اهمل ذكر حاران مع انها كانت ليعقوب أرض غربة وخدمة وعبودية وذلة «انظر تك ٢٩ ـ ٣٢» ، (١٤) لما التجأ المتكلف الى ان يقدر في الأصل العبراني لفظ «وآبائهم» و «أرض كنعان» بل ولفظ «وحاران» كما هو لازم له لم يكتف بذلك ، بل جعله «يه ٢ ج ص ١١٧ س ٦ و ٤ ج ص ٤» من باب الاكتفاء الوارد في كلام العرب والقرآن الكريم ، وهذا غلط لأن الشرط في الاكتفاء أن تكون دلالة اللفظ الموجود وسوقه كافية في بيان المحذوف المكتفى عنه والدلالة عليه ، كما يقتضيه لفظ الاكتفاء ، بل اعترف المتكلف بنفسه «يه ٤ ج ص ٤ س ٤ و ٥» بأن الاكتفاء هو أن يقتضي المقام ذكر شيئين بينهما تلازم وارتباط فيكتفي بأحدهما عن الآخر كنكته.

أقول : وليت شعري إذن فأي تلازم وارتباط يشعر به المقام ويقتضيه في عبارة سفر الخروج بين بني اسرائيل وبين آبائهم وبين أرض مصر وبين أرض

٩٤

كنعان بل وحاران.

أم تقول : كلما جاء لفظ بني اسرائيل يكون اكتفاء عن لفظ آبائهم ، وكلما جاء لفظ مصر يكون اكتفاء عن لفظ كنعان وحاران ، إذن فقرّت أعينهم بتاريخ توراتهم (١٥) ثم زاد المتكلف في الغلط حيث قاس دعواه في الاكتفاء والحذف بالحذف الذي تجلو مراده نورانية المقام في القرآن الكريم ، كما نبّهناك عليه في أوائل هذا الجزء ، مع ان ما نسلم فيه الحذف في القرآن الكريم إنما هو على وجه لو ذكر المحذوف لفاتت من الكلام نكتة شريفة ، أو أدى إلى تطويل مملّ في الكلام المتوسط فضلا عن الكلام السامي في البلاغة ، فانظر الأمثلة التي ذكرها في «يه ٤ ج ص ٥ و ٦».

«مثل» يحكى ان صبيا انحصر على سطح بلا درج فأعيا عليه النزول ، فجاء بعض المغفلين وألقى إليه طرف الحبل وقال له : شدّه في وسطك ، فلما شده جذبه المغفّل الى صحن الدار ، فلما وقع مات ، فقال المغفل متعجبا ومعتذرا : ان هذا الصبي قتله حضور أجله ، وإلا فقد اخرجت بهذا الحبل من البئر عشرين رجلا سالمين.

١٦ ـ ثم أفحش المتكلف في الغلط المضحك «يه ٤ ج ص ٦» حيث اعترض على الآيات التي ذكرها من القرآن الكريم ، ثم قال : ان كتاب الله منزّه عن مثل هذه التقديرات الفاحشة.

القسم الثاني في اختلاف نسخ التوراة في التاريخ

مع ان كلا منها إما مشهود لها بالصحة والاعتبار عند اليهود والنصارى معا وإما مشهود لها بالصحة والاعتبار عند النصارى.

أما النسخة العبرانية فلا تحتاج دعواهم لاعتبارها الى بيان.

وأما النسخة السبعينية فقد ذكرنا في الصحيفة الخامسة من الجزء الأول وجه اعتبارها ، وأشرنا إليه قريبا في صدر المورد الحادي عشر من التمهيد ، وكله موافق لملخص اعتراف المتكلف «يه ٣ ج ص ١٧٥ و ١٧٦ و ٤ ج ص ٩٠ ـ ٩٣».

٩٥

وأما النسخة السامرية فقد ادعى المتكلف انها ذات خمسة أسفار موسى التي نزلت باللغة العبرانية ، ولكنها مكتوبة بأحرف سامرية قديمة «انظر يه ٣ ج ص ١٧٥ س ٢٢ و ٢٣ وص ١٧٦ س ٤ و ٥» ، وهذه الدعوى وإن كانت ساقطة عند غير السامريين ولكنها اعتراف بصحة السامرية واعتبارها ، دع عنك المتكلف في دعاويه واعترافاته ، ولكنه نقل «يه ٤ ج ص ٦» عن آدم كلارك قوله «ذهب كثير من العلماء الى أن ترجمة خمسة أسفار موسى السامرية هي من أضبط التراجم وأقدمها.

ونقل إظهار الحق في شواهد المقصد الأول من الباب الثاني عن المجلد الثاني من تفسير

محققهم المشهور «هورن» ما ملخصه : ان المحقق «هيلز» أثبت بالأدلة القوية صحة السامرية ، وان «كني كات» أورد ملاحظات استنتج منها ان الحق ما عليه السامريون ، وان اليهود حرفوا التوراة قصدا ، ونقل أيضا عن المفسر المشهور «آدم كلارك» من الصفحة ٨١٧ من المجلد الأول من تفسيره ان المحقق «كني كات» يدعي صحة السامرية ، وان كثيرا من الناس يفهمون ان أدلة «كني كات» لا جواب لها ، ويجزمون بأن اليهود حرّفوا لأجل عداوة السامرية.

وعنه أيضا في المجلد الأول المذكور قوله يصرّ «هيوبي» إصرارا بليغا على صحة السامرية.

ونقل إظهار الحق أيضا في شواهد المقصد الثالث ان جامعي تفسير «هنري» و «اسكات» قالوا في عبارة في السامرية تخالف العبرانية «لا شك ان هذه العبارة صادقة».

والمتكلف لم يسعه إنكار هذه النقول عن محقّقيهم ومفسريهم ، والكثير منهم ، نعم التجأ الى شيء من أغاليط التاريخ ، ثم قال : فيتضح للمتأمل ان عبارة التوراة العبرية هي صحيحة «انظر يه ٣ ج ص ٢١٨ ـ ٢٢٤».

إذا عرفت هذا فاعلم ان النسخة العبرانية وهاتين النسختين قد وقع فيما بينهما الاختلاف التاريخي ، ولنذكر منه ثلاث موارد :

٩٦

الأول : قد سمعت المدة المذكورة في التوراة العبرانية لإقامة بني اسرائيل في مصر وهي ٤٣٠ سنة ، وعرفت أغلاط المتكلف في حساب التاريخ ، ودعوى الاكتفاء.

فاعلم بأنه قد خالفتها الترجمة السامرية ، بل واليونانية ، كما اعترف به المتكلف «يه ٤ ج ص ٤ س ١٧» ، أو السبعينية الاسكندرانية ، كما نقله عن آدم كلارك «يه ٤ ج ص ٦ س ٢٢» فقد جاء فيهما ما تعريبه «وإقامة بني اسرائيل وآبائهم في أرض مصر وكنعان أربعمائة وثلاثون سنة» فاختلفت النسخة العبرانية مع هاتين النسختين في المدة التي أقامها بنو إسرائيل في أرض مصر.

وقد ذكرنا لك ان تقويم هاتين النسختين لا يتجه مع كون المبدأ لتاريخه هو تغرّب ابراهيم من أرض الكلدانيين مع كون إقامة بني اسرائيل في مصر ٢١٥ سنة ، كما ذكره المتكلف مرارا ، وعليه تقاويمهم لأن العدد حينئذ يزيد على ٤٣٠ سنة بمقدار إقامة ابراهيم في حاران ، وقد زعم المتكلف في جدوليه وأصحابه في تقاويمهم انها كانت خمس سنين ، ومع ذلك يلزم انهما تركتا ذكر حاران باعتبار إقامة ابراهيم فيها واقامة يعقوب وبنيه أكثر من ثلاثين سنة ، وانهما اهملتا ذلك قصورا وتقصيرا ، فان حديث الاكتفاء في مثل هذا المقام عند من يعرف الاكتفاء مضحكة ومسخرة.

هذا ولو فرضوا ان إقامة بني اسرائيل في مصر ٢١٠ سنين كما زعمه المتكلف في جدوليه ، وبعض اليهود في كتاباتهم لما اتجه التقويم بكون المبدأ له تغرب ابراهيم في كنعان لأن العدد حينئذ ينقص خمس سنين ، فإن ادعى مدّع ان المبدأ له أول تغرب ابراهيم في حاران ، قلنا : من أين لهذا المدعي ان تغرب ابراهيم في حاران كان خمس سنين لكي يتم العدد؟ وهل البناء عليه إلا بالتشبث بالتخمين الوهمي ، وإصلاح الفاسد المضطرب ، وتطبيق الحساب الضائع ، وإلا فلما ذا تركتا ذكر حاران ، مع ذكرهما كنعان ومصر.

الثاني : من موارد اختلاف النسخ الثلاث : قد ذكرت النسخة العبرانية تاريخ الآباء من آدم الى ابراهيم فذكرت عمر الأب قبل ولادة الابن المذكور في السلسلة ، وذكرت باقي عمره بعد ولادة ذلك الابن «فانظر تك ٥ ، ٣٢٣ ،

٩٧

و ١١ ، ١٠ ـ ٢٧».

وقد خالفتها النسخة السامرية والسبعينية في ذلك اختلافا فاحشا ، كما تخالفتا بينهما كذلك ..

فلنذكر لك الجداول التي ذكرها المفسرون في تسجيل الاختلاف وذكرها المتكلف أيضا «يه ٣ ج ص ٢١٣ و ٢١٦».

وهذه صورتها بعد تصحيحنا للغلط المادي في عناوينها ، والغلط الرقومي في طبعها :

أسماء آباء

أعمارهم عند ولادة الابن

أعمارهم بعد ولادة

السلسلة

الواقع في السلسلة

ذلك الابن

قبل الطوفان

عبرية

سامرية

سبعينية

عبرية

سامرية

سبعينية

ادم

١٣٠

١٣٠

٢٣٠

٨٠٠

٨٠٠

٧٠٠

شيث

١٠٥

١٠٥

٢٠٥

٨٠٧

٨٠٧

٧٠٧

انوش

٩٠

٩٠

١٩٠

٨١٥

٨١٥

٧١٥

قينان

٧٠

٧٠

١٧٠

٨٤٠

٨٤٠

٧٤٠

مهلئيل

٦٥

٦٥

١٦٥

٨٣٠

٨٣٠

٧٣٠

يارد

١٦٢

٦٢

١٦٢

٨٠٠

٧٨٥

٨٠٠

اخنوخ

٦٥

٦٥

١٦٥

٣٠٠

٣٠٠

٢٠٠

متوشالح

١٨٧

٦٧

١٨٧

٧٨٢

٦٥٣

٧٨٢

لامك

١٨٢

٥٣

١٨٨

٥٩٥

٦٠٠

٥٩٥

عند الطوفان

بعد الطوفان

نوح

٦٠٠

٦٠٠

٦٠٠

٣٥٠

٣٥٠

٣٥٠

١٦٥٦

١٣٠٧

٢٢٦٢

فانظر إلى هذا الاختلاف في الأعمار ، وفي تاريخ الطوفان من خلقة آدم.

والمتكلف لم يسعه في هذا الاختلاف الباهظ إلا تأييد التقويم العبراني

٩٨

بتأييدات فارغة.

ويكفيك انه جعل من الأدلة القوية على صحة العبرانية ما توهمه «يه ٣ ج ص ٢١٥» حيث قال : ان السبعينية تقتضي تأخر ولادة البكر لآدم وشيث الى ان مضى من عمرهما ٢٣٠ سنة و ٢٠٥ سنين ، وهذا يخل بالنسبة بين وقت النمو وبين مجموع عمريهما.

فهل كان أمر الله الذي قال اكثروا واملئوا الأرض ليس بضروري في الجيل المتقدم ، وانه صار ضروريا في الأجيال التي بعده.

قلت : وكم ترى في هذا الدليل القوي من الغلط والجهل.

أما «أولا» فإن شيئا لم يكن بكر آدم ، بل ان توراتهم تصرح بأن آدم ولد قايين وهابيل قبل شيث ، بل مقتضاها ان قايين ولد أولادا كثيرين ثم صارت ولادة شيث فانظر رابع التكوين.

وأيضا لا يعرف من التوراة وغيرها من كتب وحيهم ان «انوش» كان بكر شيث ، بل ان جميع آباء السلسلة لا يعرف من كتب العهدين انهم كانوا ابكار آبائهم.

وقد سمعت ان شيئا لم يكن بكر آدم.

وأيضا بمقتضى التوراة ان ساما لم يكن بكر نوح ، فانها تقول : وكان نوح ابن خمسمائة سنة وولد ساما وحاما ويافث «تك ٥ ، ٣٢» ، ولما كان نوح ابن ستمائة سنة صار الطوفان «تك ٧ ، ٧» فلو كان سام بكر نوح لكان عمره عند الطوفان مائة سنة ، ولكن توراتهم تقول : لما كان سام ابن مائة سنة ولد ارفكشاد بعد الطوفان بسنتين «تك ١١ ، ١٠» ، وهذا يقتضي ان ساما تولد بعد ما مضى من عمر نوح خمسمائة وسنتان ، فالبكر إذن غير سام ، وأيضا يلزم النصارى ان لا يكون ابراهيم بكر أبيه ، فان توراتهم تقول: انّ تارح أباه عاش مائتين وخمس سنين ، ومات في حاران (تك ١١ ، ٣٢» وان ابراهيم حينما خرج من حاران كان عمره خمسا وسبعين سنة «تك ١٢ ، ٤» واستفانوسهم يقول: ان ابراهيم خرج من حاران بعد ما مات أبوه «ا ع ٧ ، ٤» فلا بد على هذا من أن تكون

٩٩

ولادته بعد ما مضى من عمر أبيه مائة وثلاثون سنة ، والتوراة تقول : ان تاريخ ولد ينبه لسبعين سنة من عمره «تك ١١ ، ٢٦».

فان قيل» هب ان شيثا وساما وابراهيم لم يكونوا ابكار آبائهم في هذه السلسلة ، ولكن باقي رجال السلسلة كانوا ابكار آبائهم ، ويدل على ذلك ان التوراة بعد أن تذكر ولادة الولد المذكور في السلسلة تقول في شأن أبيه «وولد بنين وبنات» ، فيدل ذلك على ان الولد المذكور هو البكر ، وأيضا ان البكورية لها أهمية وفضيلة ، فلا بد أن تكون سلسلة الآباء والعهد ومواليد الأنبياء فائزة بها.

«قلت» هذا واضح البطلان إذ لا دلالة فيما تتشبث به ، كيف وقد قيلت هذه العبارة في شأن آدم بعد ذكر ولادة شيث «تك ٥ ، ٣ ـ ٥» وأيضا قد دلّ العهد القديم على ان جماعة من الأنبياء وآباء سلسلة النبوات والعهد لم يكونوا ابكار آبائهم كما في شيث ، وسام ، وابراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ولاوي ، ويهوذا ، وفارص ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وأكثر هؤلاء عيون هذه السلسلة.

وأيضا ان الله العليم الحكيم قد تقتضى حكمته ان لا يربط سلسلة النبوة بالبكورية ، وان اجراء الحكمة أولى من اتباع عيسو في بيعة بكوريته ليعقوب بأكلة من خبز وطبيخ وعدس «تك ٢٥ ، ٢٩ ـ ٣٤».

وأما ثانيا : فلو تجاهلنا وسلّمنا ان آباء السلسلة هم ابكار آبائهم لقلنا ان الحكمة التي اقتضت تأخر ولادة شيث مائة وثلاثين سنة ، وولادة انوش مائة وخمس سنين حسب التقويم العبراني لا يمتنع أن تقتضي تأخر ولادتهما مائتين وثلاثين سنة ومائتين وخمس سنين حسب تقويم السبعينية ، وكلتا المدّتين لا تتفاوت كثيرا بالنسبة الى الوعد بالاثمار في المنافاة وعدمها ، وبما ذكرناه تعرف غلط المتكلف في قوله في عنوان تقويم الجداول «قبل ولادة البكر» و «بعد ولادة البكر» ، وغلطه في إهمال ذكر الطوفان لما قبل الستمائة وما بعدها في عمر نوح.

وهاك بقية الجداول في تقويم الأعمار بعد الطوفان وقبل ولادة الابن الواقع في السلسلة، وانظر إلى الاختلاف فيها :

١٠٠