الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

كلا بل هي أولى بأن تمد إليها يد الضلال من الهيكل الذي لا يقاومهم مثلها ببيانه.

وأيضا لما ذا لم توجد هذه النسخة عند ادخال الفضة الى بيت الرب وما هو السبب الذي اخر وجدانها الى حين اخراج الفضة.

وأيضا لما ذا لم يجدها حلقيا إلا بعد مضي ما يزيد على عشر سنين من ملك يوشيا مع أن يوشيا ملك مؤمن يطلب الله والشريعة من أول أمره. وان حلقيا الكاهن لا ينفك عن كثرة الدخول الى المحراب في الاسبوع مرة أقلا.

هذا وان قال المتكلف : ان هذه النسخة غير التي كانت في زمان موسى وأمر بوضعها الى جنب التابوت ، بل هي نسخة اخرى من سائر النسخ وضعت مع التابوت على رسم الشريعة.

قلنا : كيف يتركها الذين هم قبل يوشيا من المشركين الذين عبثوا ببيت الرب وأخربوه ونجسوه؟ وكيف لم يجدها حلقيا إلا بعد عشر سنين من ملك يوشيا مع انها نصب عيني الداخل الى المحراب.

وأيضا فليعمل المتكلف فكره بما عنده من الفطانة ، وليبين لنا ان هذه النسخة إذا لم تكن بخط موسى وتذكارا له ، بل كانت من سائر النسخ الكثيرة ، فما الوجه المقبول في احتفال يوشيا بها ذاك الاحتفال العظيم لو كان لها أمثال كثيرة.

ثم ملك من بعد يوشيا الى سبي بابل يهوآحاز ويهوياقيم ويهوياكين وصدقيا وعملوا الشر «٢ مل ٢٣ و ٢٤».

وأما يهوذا في أيامهم فقد تكرر كلام ارميا النبي في توبيخهم على سلوكهم وراء البعليم وسيرهم وراء آلهة اخرى حتى صارت آلهتهم بعدد مدنهم وبعدد شوارع اورشليم «ار ٧ و ٨ و ٩ و ١١ و ١٢ و ١٦».

ولما رجعوا من سبي بابل وتوجهوا الى عبادة الله والشريعة اجتمع كل الشعب وقالوا لعزرا الكاهن : أن يأتي بسفر شريعة موسى التي أمر بها الرب

٦١

فأتى عزرا بالشريعة امام الجماعة من الرجال والنساء وكل فاهم ما يسمع وقرأ فيه من الصباح الى نصف النهار وآذان الشعب نحو سفر الشريعة وجميع الشعب بكوا حين سمعوا كلام الشريعة ، وفي اليوم الثاني اجتمع رؤساء آباء جميع الشعب والكهنة واللاويون الى عزرا ليفهمهم كلام الشريعة فوجدوا مكتوبا فيها ان اسرائيل يسكنون في مظال في العيد في الشهر السابع فأخذوا في عمل المظال «نح ٨».

وقرأ أيضا في سفر موسى في آذان الشعب ووجدوا مكتوبا ان عمونيا وموابيا لا يدخل في جماعة الله الى الأبد ، ولما سمعوا الشريعة فرزوا كل اللفيف «نح ١٣».

قل فما هو السبب في أن ينفرد عزرا وحده بقراءة سفر الشريعة على ألوف من بني اسرائيل جميع رجالهم ونسائهم وكل فاهم ما يسمع حتى الكهنة الذين هم حملة الشريعة والتوراة بمقتضى الوظيفة الشرعية ، ولما ذا هرع إليه في اليوم الثاني رؤساء آباء الشعب والكهنة واللاويون ، ولما ذا تنبهوا بسبب قراءته الى امور لم تكن معهودة لهم ، وبادروا إليها مبادرة مغتنم ، أفيجوز مثل هذا؟ مع فرض الوجود لنسخة أو أكثر في بني اسرائيل غير التي بيد عزرا كلا.

وأيضا لو كان بعد سبي بابل عند اليهود نسخ من التوراة ، والشريعة لم يكن محل ووجه لنزول الوحي على حزقيال في شريعة الكهنة ، وقسمة الأرض بين بني اسرائيل وغير ذلك من الشرائع التي تكلفت التوراة ببيانها «انظر الى حز ٤٣ ـ ٤٨».

تجد من الواضح ان ذلك بيان لما ليس في أيدي بني اسرائيل من الشريعة.

ثم من بعد سبي بابل وان لم يصرح بارتدادهم عن التوحيد إلا أنهم كانوا يقولون من يفعل الشر فهو صالح في عيني الرب وبهم يسر «مل ٢ : ١٧» ويقولون : عبادة الله باطلة ، وما الفائدة من أننا حفظنا شعائره «مل ٣ : ١٤» وان كهنتهم احتقروا اسم الله «مل ١ : ٦» وخانوا في الذبائح «مل ١ : ٧ ـ

٦٢

١٤» وحادوا عن الطريق واعثروا كثيرين بالشريعة ، وأفسدوا عهد موسى «مل ٢ : ٨» ، وكانت منهم فرقة يسمون بالصدوقيين ، ينكرون القيامة وحياة الأموات بعد الموت ، وينكرون الملك والروح «اع ٢٣ ، ٨ ومت ٢٢ ومر ٢ ولو ٢٠».

وقد شحنت الأناجيل من الكلام المنسوب للمسيح بتوبيخهم على تمردهم على الله والشريعة ورياء كهنتهم وكتبتهم حتى تربصوا به من أجل ذلك الدوائر ومع هذا كله هل يمكن للإنسان أن يتلقى من هذه الفرقة المتقلبة في ارتداداتها هذا التقلب الذي طرق سمعك كتابا وشريعة عن الوحي والإلهام على حقيقته الأولية بطريق يفيد اليقين بذلك كلا.

وأما أهل الديانة النصرانية في زمان المسيح فإن الكثيرين الذين آمنوا به في عيد الفصح لما رأوا منه الآيات لم يأتمنهم على نفسه لأنه كان يعرف الجميع ولا يحتاج لشاهد على ما في ضمير الانسان «يو ٢ : ٢٣ ـ ٢٥» ورجع عنه كثيرون من تلاميذه ولم يعودوا وذلك بسبب وعظه وإرشاده وبيان رسالته «يو ١٦ : ٥٢ ـ ٦٦».

والتلاميذ الاثني عشر مالوا الى الرئاسة الدنيوية وتشاجروا في أنه من يكون الأكبر بعد المسيح لما أخبرهم بما يجري عليه ، وانه ماض عنهم فوعظهم لذلك ، ووعدهم ومناهم بما يرغبهم في الايتلاف وعدم التشاجر «لو ٢٢ : ٢٢ ـ ٣١».

واغتاظ عشرة منهم على المسيح من أجل ابني زبدى «مت ٢٠ : ٢٤» ووبخهم على قلة إيمانهم «مت ١٦ : ٨» وانهم لا إيمان لهم «مر ٤ : ٤٠» وليس لهم من الإيمان مثل حبة خردل «مت ١٧ : ٢٠» ، ووصفهم الإنجيل بغلظ القلوب «مر ٦ : ٥٢».

واخبر المسيح بأن كافتهم يشكون فيه ليلة هجوم اليهود عليه «مت ٢٦ : ٣١» ويتفرقون عنه كل واحد إلى خاصته ويتركونه وحده «يو ١٦ : ٣٢» وطلب منهم أن يسهروا معه تلك الليلة فلم يفعلوا ولم يواسوه مع ما هو فيه من

٦٣

الدهشة والاكتئاب حتى وبخهم على ذلك مرارا ، ولما أمسكه اليهود حسب الظاهر تركه التلاميذ كلهم وهربوا «مت ٢٦ : ٣٦ ـ ٥٧».

وان من التلاميذ الاثني عشر يهوذا الاصطخريوطي كان بيده صندوق أموال الفقراء «يو ١٢ : ٦ و ١٣ : ٢٩» ، وكان سارقا «يو ١٢ : ٦» وهو الذي اجترأ على تسليم المسيح إلى أعدائه ، وباع دمه الشريف بقليل فضة انظر إلى اخريات الأناجيل وأول الأعمال.

وان كبير التلاميذ بطرس صار ينتهر المسيح حتى قال له المسيح : اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس «مت ١٦ : ٢٢ و ٢٣» ، وقد أنكر المسيح ثلاث مرات وابتدأ يلعن ويحلف انه لا يعرفه «مت ٢٦ : ٦٩ ـ ٧٥» ، مع أن المسيح أنذره بذلك فوعد المسيح أن لا ينكره ولو اضطر إلى الموت معه «مت ٢٦ : ٣٥».

هذا وأما ما كان بعد حادثة الصليب فإن التلاميذ الأحد عشر لم يصدقوا اللواتي اخبرنهم بقيام المسيح من الأموات في اليوم الثالث بل عدوا كلامهن كالهذيان «لو ٢٤ : ١١» ، ، حتى وبخهم المسيح على عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام «مر ١٦ : ١٤» ، مع أن في الأناجيل ان المسيح كم وكم قدم لهم انه يتألم من اليهود وفي اليوم الثالث يقوم «انظر من جملة ذلك أقلا إلى مت ١٦ : ٢١ و ١٧ : ٢٣ و ٢٠ : ١٩ و ٢٦ : ٣٢» ، «وغير ذلك في الأناجيل الأربعة» ، حتى أن اليهود كانوا يعلمون بكلامه هذا ويخشون عاقبته «مت ٢٧ : ٦٣».

وتذكر اليونانيون من المسيحيين على العبرانيين منهم بسبب الغفلة عن طعام أراملهم «اع ٦ : ١».

ووقعت المشاجرة في الختان فتكلم بطرس ويعقوب في رفعه عن الامم بمجرد الاستحسان والتآلف للامم في مقابلة تأكيد حكمه في التوراة وتأييده وتعليم المعلمين المسيحيين من اليهودية فحصروا ما على الامم من أحكام الشريعة باجتناب المخنوق وما ذبح للأوثان والدم والزنا «اع ١٥ : ١ ـ ٣٠».

٦٤

وان برنابا وبولس اللذين اختارهما الروح القدس لعمله «اع ١٣ : ١٢» تشاجرا فيمن يأخذانه معهما للخدمة حتى فارق أحدهما الآخر «اع ١٣ : ٣٦ ـ ٤٠».

وقد اختلف المعلمون في النصرانية واختلفوا في التعليم حتى صار بعضهم يحذر الامة من بعض «انظر إلى رسائل بولس وبطرس ويهوذا ويوحنا» حتى قال بعضهم في البعض الآخر : انهم لا يخدمون المسيح بل بطونهم وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة ، يخدعون قلوب السماء «رو ١٦ : ١٨» ، وعن حسد وخصام يكرزون بالمسيح «في ١ : ١٥» وانهم ذئاب خاطفة «اع ٢٠ : ٢٩» ورسل كذبة فعلة ماكرون مغيرون شكلهم إلى شبه رسل المسيح كالشيطان يغير شكله إلى شبه ملاك نور «٢ كو ١١ : ١٣ و ١٤» حتى ان كثيرين خرجوا وصاروا أضداد للمسيح «١ يو ٢ : ١٨ و ١٩».

وجميع الذين في آسيا ارتدوا عن بولس وبعض زاغ عن الحق وادعى ان القيامة قد قامت «٢ تي ١ : ١٥ و ١٨».

وان من المعلمين اخوة كذبة ادخلوا خفية ودخلوا اختلاسا ، وان المعتبرين انهم شيء «كالتلاميذ الأحد عشر» مهما كانوا لا فرق بينهم وبين هؤلاء.

وان بطرس والنصارى العبرانيين في أنطاكية حتى برنابا استعملوا الرياء والمداهنة ، ولم يسلكوا باستقامة حسب حق الإنجيل «غل ٢ : ٣ ـ ١٥».

وان بولس قد استعمل الرياء ، وختن تيموثاوس اليوناني على خلاف تعليمه «اع ١٦ : ١ ـ ٤».

وان يعقوب وجميع المشايخ في اورشليم تواطئوا مع بولس على استعمال الرياء بإلزام بولس مع أربعة أشخاص بأحكام الناموس تمويها لإبطالهم لها ومداهنة للأنوف والربوات من المؤمنين بالمسيح من اليهود الذين ينكرون إبطال الناموس بمجيء المسيح «اع ٢١ : ٢ ـ ٢٧».

٦٥

وان بولس ليس له نظير مخلص بل الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو للمسيح «في ٢ : ٢٠ و ٢١».

ويتضح من الأعمال ورسائل بولس ان تعليمه الرائج بين النصارى في القرون المتأخرة كان ضدا لتعليم الرسل والمعلمين من العبرانيين الذين هم من أهل الختان ولذا كثر تعرضه لهم وقد فهم وانتفاضهم وافتخاره عليهم حتى ادعى العروج مرة الى السماء الثالثة واخرى الى الفردوس «انظر الى الحادي عشر والثاني عشر من كورنتوش الثانية».

ومن ذلك تعليمه بكفاية الإيمان وحده في الفائدة وتعليم يعقوب بعدم كفايته بدون الأعمال «انظر الى الحادي والعشرين من العبرانيين» ، وإلى رسالة يعقوب وخصوص ثانيها ، وقد اختلف تعليم بولس في أكل ما ذبح للأوثان الذي قرر الرسل حرمته واضطرب كلامه فيه ، فتارة جعله يذبح للشيطان لا لله ولا يريد أن يكون المؤمنون شركاء الشياطين لأنهم لا يقدرون أن يشربوا كأس الرب وكأس شيطان ولا يشتركوا في مائدة الرب ومائدة شياطين أم نغير الرب ألعلنا أقوى منه «١ كو : ١٠ ـ ١٨ ـ ٢٢».

وتارة رجع الامتناع منه من دون تحريم ، لأنه معثرة للضعفاء انظر «١ كو ٨» ، ومن أجل ضمير الآخر الضعيف «١ كو ١٠ : ٢٩» ، ثم ندم وقال : لما ذا يحكم في حريتي من ضمير آخر ، فاذا كنت أتناول بشكر فلما ذا يفترى علي لأجل ما أشكر عليه «١ كو ١٠ : ٢٩ و ٣٠».

وعلى كل حال فهذه الأقوال المضطربة خلاف ومقاومة لما قرره الرسل من التحريم المطلق كما مر ، وعن بولس في بعض تعاليمه كل شيء طاهر للطاهرين «تي ١ : ١٥» ، وكل خليقة الله جيدة ، ولا يرفض شيء منها إذا أخذ مع الشكر «١ تي ٤ : ٤» ، وهذه خلاف ومقاومة لما قرره الرسل من تحريم ما ذبح للأوثان والمخنوق والدم.

وعنه أيضا في تعاليمه في شأن الناموس والعهد القديم ما لفظه فإنه يصير ابطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها إذ الناموس لم يكمل شيئا

٦٦

«عب ٧ : ١٨ و ١٩».

وعنه في شأن العهد القديم أيضا لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان ـ فاذا قال جديدا فقد عتق الأول ، وأما ما عتق وشاخ فهو قريب من الاضمحلال «عب ٨ : ٧ ـ ١٣» ، وهذا الكلام إذا اغمضنا النظر عن منافاته لما في العهدين ، وخصوص الكلام المنسوب للمزامير وملاخي والمسيح فانه مناف ومناقض لخصوص ما عن بولس نفسه من قوله كل الكتاب موحي به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملا متأهبا لكل عمل «٣ تي ٣ : ١٦ و ١٧».

وقد طال الكلام في هذه المقدمة فاقتصرنا على ما ذكرنا لئلا يخرج الكتاب عن وضعه وان كان للمزيد مجال واسع.

٦٧

المقدمة السادسة

قد وجدنا العمدة لمباحثي المسلمين من النصارى هو الاحتجاج عليهم بما في كتب العهدين ، وكأن هؤلاء المباحثين لم يفطنوا إلى أنه لا حجة لهم بها على المسلمين لوجوه :

«الوجه الأول» انه من المتعذر ايصال السند في كل واحد من هذه الكتب الى الأنبياء معادن الوحي والإلهام على سبيل التواتر المفيد لليقين في كل طبقات النقل ، فاستوضح بعض ذلك من المقدمة السابقة ، وغاية ما عندهم هو الاعتماد على حكم المجامع المتقلب في تمييز الكتاب الإلهامي من المكذوب ، والاستشهاد بمطابقة كلام القدماء ، كما ستعرف ذلك من أشتات كلام المتكلف.

«الوجه الثاني» انه لا يتمكن معرفة رسالة الأنبياء السابقين وتعيين كتبهم الصادرة عن الوحي معرفة يقينية إلا بسبب اخبار رسول الله خاتم المرسلين ، والقرآن الذي هو كلام الله بواسطة دلالة العقل على صدق رسول الله بدعواه الرسالة ، وان القرآن الكريم هو كلام الله العظيم ، فلو شككنا والعياذ بالله بالرسول والقرآن كما يريدون لم تبق لنا معرفة بنبي مرسل ولا اسم كتاب إلهامي فان كتب العهدين بنفسها ووجوه مضامينها هي التي تصد عن الإذعان باتصال سندها وصحة تواترها وصدورها عن الوحي والالهام ، وتمنع عن التصديق بنبوة

٦٨

أنبيائها والوثوق بنقل دلائل نبوتهم لو صحت نسبتها إليهم ، كما ستعرفه إن شاء الله من متفرقات كتابنا ، وخصوص ما يأتي إن شاء الله في بيان انموذج النظر ، بل قلما يمر بك فصل إلا ويدلك ان شاء الله بأوضح دلالة على ما ذكرنا.

وأيضا ان القرآن الكريم والعقل السليم يدلان بأوضح دلالة على أن في هذه الكتب شيئا كثيرا ليس من الالهام والوحي أصلا لمخالفتها لهما في امور كثيرة مخالفة لا تقبل التأويل ، كما ستسمع تفصيل بعضه في محاله ان شاء الله ، وبذلك يسقط اعتبار مجموعها لو صحت نسبة المجموع الى الوحي في الجملة.

«الوجه الثالث» شهادة بعضها على بعض بالتحريف صريحا ، وان حامى بعض النصارى عن ذلك وكتبوا في كتبهم قولهم متى حرفت ولما ذا حرفت؟ ومن حرفها؟ ولأي غرض حرفها؟

فمن جملة الشهادات ما في الثالث والعشرين من ارميا في خطاب الشعب ٣٦ ، أما وحي الرب فلا تذكروه بعد لأن كلمة كل انسان تكون وحيه اذ قد حرفتم كلام الاله الحي رب الجنود الهنا ، هكذا ما اطلعنا عليه من التراجم العربية ونصه في النسخة العبرانية. ومساء يهوه. لا تذكروا. عودكي. همسا يهوه. لأيش. ووحى الله لا تذكروا بعد لان وحي الله لرجل ديبارو وهفخيتيم ايت.

كلامه وحرفتم.

دبرى ايلوهيم حييم يهوه صيباؤت ايلوهينو

كلام الاله الحي رب الجنود إلهنا.

وان في ملاحظة ما ذكرناه من الأصل العبراني هاهنا والتراجم العربية لشهادة أيضا على وقوع التحريف ، وفي ثامن ارميا أيضا (٨) كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا حقا انه الى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب ، ونصه في النسخة العبرانية.

ايخاه توميروا حاخاميم انحنو وتوراة يهوه اتانوا أكم هنيه لشيقير كيف

٦٩

تقولون حكماء نحن وشريعة الرب معنا لكن هوذا للكذب عاساه عيط شيقير سوفيريم.

صنعها قلم كذب الكتبة.

وفي التاسع والعشرين من اشعيا (١٦) يا لتحريفكم ، ونصه في الاصل العبراني هافخيخيم.

وفي الثالث من رسالة بطرس الثانية ١٦ كما في الرسائل كلها أيضا متكلما فيها عن هذه التي فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضا لهلاك أنفسهم ، وفيه شهادة بتحريف المعلمين للرسائل كما حرفوا سائر الكتب.

ولا تظن ان هؤلاء المحرفين من الوثنيين ، فإن الوثنيين لا اعتناء لهم بهذه الكتب ولا غرض لهم بتحريفها ، بل إنما هم المعلمون من اليهود ، والمتنصرين الذين يريدون بضلالهم أن يشوهوا تعليم الكتب فيحرفونها حسب أهوائهم.

وفي أول غلاطية (٦) اني أتعجب انكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى انجيل آخر (٧) ليس هو آخر ، غير انه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحولوا إنجيل المسيح.

وفي آخر رؤيا يوحنا ١٨ و ١٩ قد شدد في الدعاء على من يزيد في نبوة كتابه أو ينقص منها.

وفي فحوى كلامه شهادة بأن للتحريف حسب الهوى حينئذ طغيان مخوف.

«الوجه الرابع» شهادة بعض كتب العهدين على البعض الآخر بالتحريف ضمنا وإشارة ، وهو أن التوراة في ثامن عشر التثنية من العشرين إلى الثانية والعشرين قد أعطت علامة لما ليس من كلام الله وما هو كذب على الله والوحي وان في العهدين لكثير من هذا القبيل الذي يعرف بهذه العلامة انه ليس من كلام الله ولا من الوحي والإلهام في شيء ، كما ستسمع بعضه إن شاء الله

٧٠

في المقدمة الثامنة في الفصل الرابع.

«الوجه الخامس» هو أنه يوجد من نتائج الجميع بين مضامين العهدين موانع كثيرة من نبوة المسيح ورسالته وقداسته ، بل يلزم منهما شرك موسى وهارون وداود وأساف وسليمان والمسيح ، وكفر ارميا واستحقاق هؤلاء للقتل ، كما سيمر عليك في محاله إن شاء الله ، وانهم لمقدسون عن مثل ذلك وكل ما يشين.

«الوجه السادس» انا قد وجدنا التبديل الصريح والتصرف الواضح في العهدين في التراجم والمطابع وهو لا يعدوا القسيسين ورؤساء الدين ، فمن جملة ذلك ان في النسخة العبرانية في الثامنة من رابع التكوين ما تعريبه الحرفي وقال قايين لهابيل أخيه ولما صارا في الحقل قام قايين على هابيل أخيه فقتله. وكثير من المترجمين لما رأى ان جملة وقال قايين لهابيل أخيه : جملة فارغة عن المعنى ناقصة الفائدة لأجل احتياج القول إلى المقول ترجموها في مطابعهم هكذا. وكلم قايين هابيل أخاه فبدلوا القول بالتكلم لأجل ما يتراءى في التكليم من الفائدة وجروا على هذا التبديل في أكثر ما رأينا من التراجم الفارسية وغيرها مع ان الأصل العبراني هكذا :

ويامر فاين ال هيل احيو

وقال قايين لهابيل اخيه.

ولو كان الأصل وكلم لقيل «ويدبر». وبعضهم كصاحب الترجمة المطبوعة سنة ١٨١١ م لما رأى التباين الكلي في اللغة العبرانية بين لفظ ما تعريبه «وقال» : ولفظ ما تعريبه «وكلم» حاول أن يتستر في تصرفه فذكر هكذا وقاول قايين هابيل أخاه.

وبعضهم لما وجد النسخة السامرية واليونانية تامة الكلام والفائدة لا سقط فيها كما في العبرانية جعل ترجمة للعبرانية على طبقهما تصرفا وتقولا على العبرانية فذكر في الترجمة وقال قاين لهابيل أخيه تعال نخرج إلى الحقل. نقله في إظهار الحق عن التراجم القديمة والعربية المطبوعة سنة ١٨٣١ و ١٨٤٨ م وبعضهم زاد

٧١

في الترجمة من تلقاء نفسه تتميما للمعنى منهم توما رابنسن القسيس في ترجمته للعبرانية بالفارسية المطبوعة في لندن بمطبعة رجاردواطس سنة ١٨٢٩ م فقال (وقايين هابيل برادر خود را گفت كه بيا) فزاد من نفسه لفظ كه بيا ، ويلزم مما ذكرنا حدوث النقصان المخل في العبرانية واقدام مترجميها على التبديل أو الزيادة لأجل تصحيحها فزادوا في الطنبور نغمة ، وأيضا في الأصل العبراني في الثالثة عشرة من ثاني عاموس ما نصه عن قول الله :

هنيه انوخي ما عيق تحخيم كاشير تاعيق.

ها هو انا صار أواصر أو مضايق أو نحو ذلك تحتكم كما أو كالذي تصر أو نحو ذلك هاعغالاه حملا أه لاه عامير.

العجلة الملآنة حزما أو حشيشا.

وفي العربية المطبوعة سنة ١٨١١ لأجل هذا ها انا أتمرغ تحتكم كما تتمرغ العجلة المملوءة قصبا.

ونقل في إظهار الحق عن ترجمة عربية مطبوعة سنة ١٨٤٤ م موافقة العبرانية في مضمونها بما لفظها انا ذا أصر تحتكم كما تصر العجلة المحملة حشيشا. وعن نسخة فارسية أيضا مطبوعة سنة ١٨٣٨ م (اينك من در زير شما چسبيده شدم چنانچه أرابه برازاقد چسبيده ميشود).

ولما رأى كثير من المترجمين ان حقيقة مضمون هذا الكلام ومجازه بمكان من السخافة بدلوه في أكثر ما رأيناه من التراجم العربية الى ما لفظه ، ها انا ذا أضغط ما تحتكم كما تضغط العجلة الملآنة حزما ، ونحوها ما رأيناه من التراجم الفارسية.

وأيضا قد زادوا على ترجمة العبرانية واليونانية ألفاظا اعترفوا بأنها ليس لها وجود في الاصل العبراني واليوناني ، وزعموا أنهم زادوها في الترجمة لأجل الإيضاح ، ورسموها بحرف صغير في بعض النسخ العربية المبنية على التأنق في طبعها مع أن الكلمات الكثيرة من ذلك بحيث يعسر إحصاؤها في هذه المقدمة كثرة لتأبى أن تكون أيضا حابل هي إتمام لمعنى ناقص أو زيادة على معنى تام

٧٢

فراجع الكلمات المذكورة في اولى النسخ التي عددناها ، وراجع الأصل العبراني واليوناني.

ولنكتف في هذه المقدمة على هذا المقدار وإن كان قليلا من كثير ونحيل بالزيادة على ذلك إلى محالها إن شاء الله وسوف نورد فيما يأتي بابا واسعا إن شاء الله في هذا الشأن. وندلك على سقوط المتكلف وغيره في تشبثاتهم وتكلفاتهم ، فإن وضع المقدمات لا يحتمل أكثر مما ذكرنا هاهنا وإن كان فيه كفاية بتوفيق الله لذي الرشد.

٧٣

المقدمة السابعة

لا يخفى على كل ذي رشد ومعرفة بطريق البحث والمباحثة ، ان مباحثة أهل الدين والاعتراض على جامعتهم وأصل دينهم إنما يحسن ولا يعد خبطا ومراوغة عن الحق إذا كان البرهان عليهم بالمقدمات المنتهية إلى بداية العقل أو المسلمة عند عمومهم ، وإذا كان الجدل والإلزام لهم بما يعلم أنه من الدين الذي عكفوا عليه والقدر الجامع بينهم لا بما كان رأيا أو رواية يختص به واحد أو آحاد من أهل ذلك الدين لا يفيد علما ولا يذعن عموم أهل الدين بصحته ، أو انه من دينهم فإن تشبث خصمهم بمثل هذا في الاحتجاج على جامعتهم كان ذلك منه حيادا عن الحق لضعف الحجة وضيق الخناق ، ولأجل هذا لم أعتمد في هذا الكتاب في البرهان إلا على ما هو حقه من المقدمات البديهية لدى العقل والعقلاء ، ولم اجادل عموم النصارى والزمهم في جامعة دينهم والنصرانية التي عندهم إلا بما تسالموا على إلهاميته وصدوره عن الوحي وهي كتب العهدين التي ذكرنا انهم متفقون في هذه القرون على نسبتها الى الوحي والإلهام ، وشرحنا أسماءها في المقدمة الاولى. ولم أباحثهم خبطا بآراء آحاد مفسريهم وعلمائهم أو آحاد تقاليدهم التي لا توجب في دينهم علما أو يأبى صحتها أغلبهم.

ولكن هلم الخطب في جملة من المباحثين لدين الإسلام وخصوص الثلاثة الذين وعدناك بالتعرض لكلامهم في هذا الكتاب فانهم قد دارت مباحثتهم للإسلام على قطبين فاسدين في شرع البحث وأدب الكاتب.

٧٤

«أحدهما» اعتمادهم في البرهان لدعاويهم في قبال الإسلام على كتب العهدين التي يدعون إلهاميتها وصدورها عن الوحي.

وقد عرفت في المقدمة السادسة وتعرف إن شاء الله ما يبطل ذلك. وان تشبثهم بها في قبال الإسلام والمسلمين مما لا يليق بالمباحث وإن لم يقصد ببحثه تحقيق الحق.

«وثانيهما» انهم تشبثوا في مقام الجدل لدين الإسلام وإلزام عموم المسلمين في جامعة دينهم بآراء بعض مفسريهم وروايات آحادهم مما لا يقبله عمومهم ولا يذعنون بصحته ولا يعتمدون عليه في جامعتهم الإسلامية ، أو ترى هؤلاء المباحثين لم يفطنوا أو لم يسمعوا بأنه عرض لروايات آحاد المسلمين مثلما قد عرض للأناجيل وتعاليم النصرانية بعد المسيح من الاختلاف والتشويش والاضطراب حتى تعددت الأناجيل واختلفت اختلافا واضحا وحتى تتابع النداء من أعمال الرسل والرسائل المدرجة في العهد الجديد بأن بطرس ويهوذا ويوحنا وبولس يستغيثون ويحذرون الامة من التعاليم المتشعبة من المتنصرين ، كما ملأ سمعك في أواخر المقدمة السادسة ، وستسمع له زيادة إن شاء الله على انه لم ينحصر الاختلاف في أخبار آحاد المسلمين بتعمد الكذب من بعض الوسائط بل كان منه ما نشأ من عدم التثبت والتفهم في السماع ، ومنه ما نشأ من خلل التوهم والنسيان ، ومنه ما كان لأجل اختفاء القرائن المتصلة والنقل بالمعنى ، ولأجل هذا ترى المسلمين لم يأخذوا بها جميعا على سبيل التسليم ، ولم يطمسوا الحقائق بالاعراض عنها رأسا ، بل تصدوا من قديم الزمان إلى الوقت الحاضر وصنفوا الكتب الكثيرة لمحض البحث والتنقيب في أحوال الرواة وجرحهم وتعديلهم وضبطهم وحفظهم وحسن سماعهم وأمانتهم وسلامة عقيدتهم واتصال السند وانقطاعه ، كل ذلك ليميزوا منها المتواتر باللفظ أو بالمعنى فيكون لهم حجة في اصول الدين وفروعه ، والذي لا يبلغ التواتر بحثوا فيه عن سند الرواية وشهرتها وقبول أساطين العلم لها وعدم اضطرابها أو مخالفتها للعقل أو الكتاب أو السنة ليعتمدوا في فروع الدين وأحكامه على ما اطمأنوا بصحته وصدوره على وجهه منها وما وجدوه مضطربا أو مخالفا للعقل أو

٧٥

الكتاب أو السنة ضربوا به الجدار في مقام العمل ، نعم لأجل اختلاف آرائهم في جهات الاطمئنان والوثوق على طبق القانون المذكور اختلفت فتاوى أئمتهم إذ قد يثق أحدهم بما لا يثق به الآخر ، فقد جرى دأب كل منهم على ما ينبغي للباحث الطالب للحق بجده واجتهاده من عدم التقليد لغيره في بيان الصحيح المطمئن الموثوق به ولو فرض انه قررته عدة من المجامع بل كل منهم يبحث في هذا الشأن بحسب القواعد الممهدة له ليتميز بنظره واجتهاده ما هو الصحيح الموثوق به ولاجل مراعاتهم للقوانين المذكورة ترى المقبول المعمول عليه من أخبار الآحاد أقل قليل ، وأيضا قد جعلوا من الوجوه التي يعرف بها تخليط الراوي وفساد عقيدته ما يجدونه في روايته من مخالفة العقل أو الوجدان أو الامور المعلومة أو الكتاب أو السنة.

وأما اقوال المفسرين فمنها ما هو رأي لهم أو مؤدي أخذهم من السير والتواريخ التي لا تفيد علما ، وهذا لا حجة فيه على الجامعة الإسلامية ولا جدل أصلا كما بينا. ومنها ما كان رواية ، فالاحتجاج أو الجدل بها في أصول الدين وفروعه إنما يحسن ولا يعد خبطا ومراوغة إذ كان على القانون المتقدم ذكره في الرواية.

٧٦

المقدمة الثامنة

في محل البحث من الرسالة والنبوة ، وفيها بابان وفيهما فصول :

الباب الاول

الفصل الأول منه في بيان حقيقة الرسول

النبي المرسل هو إنسان كامل يرسله الله إلى البشر ليكلمهم ويهديهم إلى الصواب ويرشدهم إلى ما يحتاجون إليه في معرفة الله وطاعته والاحتراز عن معصيته ويحملهم على ما فيه حفظ كمالاتهم ومصالحهم الشخصية والنوعية في الدين والدنيا ويزجرهم عما يضرهم فيهما.

الفصل الثاني

في الغاية المطلوبة من إرساله

لا ينبغي أن يشك ذو رشد بأن ما ذكرناه هو الغاية المطلوبة من إرسال الله للنبي. وتقريره بالبيان الواضح هو أن إرسال الله للنبي في دعوته رحمة من الله ولطف من ألطافه بمن يدعوهم النبي ليقربهم إلى طاعة الله ويبعدهم عن معصيته وينبههم من رقدة الغفلة وينقذهم من سورة الهوى والضلال ويحملهم على جادة الهدى ودين الحق وقوانين العدل وحسن التمدن والاجتماع وآداب السياسة لينالوا سعادة الدارين.

٧٧

الفصل الثالث

في عصمته

وأول ما يلزم في تحصيل هذه الغاية الشريفة والغرض الحميد وحصول هذا اللطف والرحمة أمران :

«احدهما» كون الرسول معصوما في التبليغ غير متهم فيه ، مع فرض رسالته.

«وثانيهما» كونه معصوما عن الذنوب وارتكاب القبائح التي هي ضد لما يدعو إليه من شريعة الهدى والصلاح.

«اما الأمر الأول» فقد اتفق عليه أهل الملل القائلون بالنبوة والرسالة لوجه أوضحته لهم بداهة عقولهم ، وليس حقيقته إلا تحصيل الغرض من الرسالة وقبح نقضه بإرسال الكاذب والمخطئ في التبليغ.

«وأما الأمر الثاني» فحقيقة وجه وحجته عين الوجه الأول وحجته وان خالف فيه اليهود والنصارى فانه يقبح ويمتنع من الله القادر القدوس الغني العليم الحكيم أن يجعل رحمته ولطفه في طريق يمنع عن فائدتهما ويصد عن منفعتهما ، مع إمكان أن يجعلهما في طريق لا يمنع عن حصول الغرض والفائدة ولا مفسدة فيه ، بل هو الناجح في تحصيل الغرض ، ولبيان ذلك وجوه :

«الأول» ان إرسال النبي الذي يصدر منه الذنب والقبيح ، ومخالفة

٧٨

شريعة الحق ناقض للغرض المطلوب من إرساله ، ونقض الغرض قبيح ببداهة العقل ومنقصة فاضحة فهو ممتنع على الله ، فان الوجدان ليشهد بأن نفوس البشر المحتاجة إلى الاستصلاح والترويض والإرشاد والتقريب إلى الله وشريعة الحق لتنفر نفرة شديدة عن الانقياد إلى من يدعوها إلى الله والشريعة ويعظها ويوبخها ويزجرها عن شهواتها إذا كان ممن يخالف الله والشريعة ويتمرد على أحكامها وينقاد إلى شهواته وهواه مع ادعائه المعرفة والرئاسة الدينية ، فلا تصغى إلى إرشاده ولا تعتني به ، فانظر بوجدانك إلى المذنب العاصي إذ جاءك واعظا ومرشدا مؤدبا زاجرا لك عن اتباع هواك ، فهل ينتج من إرشاده ووعظه وزجره الا ان يستهزئ به ويقال له : كمل نفسك واصلحها وأرشدها ثم التفت الى تكميل غيرك وإرشاده ، وحينئذ ادع عليه الرئاسة وفضيلة الإرشاد وسيطرة الزجر والتوبيخ. بل نقول : ان صدور الذنب والقبيح من الرسول الذي هو الرأس والرئيس والقدوة في الدين ، مؤيد ومحرك لدواعي سائر البشر إلى الاقدام على الذنوب والتهاون بالشريعة لشهادة الوجدان بأن رئيس الدين إذا أذنب هان على الناس اتباعه في الاقتحام في الذنوب ، وتحركت شهواتهم وأهواؤهم إليها وقد لهج الناس بقولهم الموافق للحكمة والتجربة «إذا فسد العالم فسد العالم» ، وعلى ذلك يلزم من صدور الذنب والقبيح ومخالفة الشريعة من الرسول حصول الفساد من الجهة التي أراد الله برحمته ولطفه منها الصلاح ، وحقيقة هذا ومعناه أن يريد الله الصلاح لأجل رحمته ولطفه بعباده من الجهة التي هي أشد وادعى في انتشار الفساد ، وهل يرتاب عاقل في قبح ذلك وامتناعه على الله جل شأنه.

وانظر إلى الملوك فهل تراهم يرسلون إلى إصلاح رعاياهم المتمردة على شريعة المملكة إلا من يطمئنون بعدم مخالفته لتلك الشريعة وقوانين الإصلاح مهما أمكنهم لئلا تفسد الرعية بفساده ، ولو وجدوا إلى المعصوم سبيلا لما عدلوا عنه ، وذلك لعين ما ذكرنا من قبح نقض الغرض ، فهل ترى الملوك انظر لصلاح رعاياهم من الله لعباده.

«الوجه الثاني» ان إرسال الله للرسول المعصوم ممكن وحاجة الخلق في الاهتداء إلى الحق وظهور الصلاح والانقياد إلى الرسول وعدم التنفر عنه داعية

٧٩

إلى ذلك وهو مصلحة بلا مفسدة بل المفسدة بخلافه فيجب بمقتضى الحكمة والرحمة واللطف فيمتنع إرسال غير المعصوم ، أفيقال ان وجود المعصوم غير ممكن؟ أو أن الله لا يعلم به؟ أو أن لا مصلحة في إرسال المعصوم؟ وان في إرساله مفسدة؟ أو أنه يجوز على الله القدوس الغني العليم الحكيم الاخلال بالحكمة والعدول عبثا عما فيه الصلاح وحصول الغرض إلى ضده حاشا وكلا؟.

«الوجه الثالث» دلالة الكتب المنسوبة بين المليين إلى الوحي والإلهام بنحو يشير بمضمونه أو فحواه إلى ما ذكرنا من وجه دلالة العقل قال الله تعالى في سورة البقرة ١١٨ (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وفاعل القبيح ظالم إذ لا أقل من كونه ظالما لنفسه بإلقائها في تهلكة العقاب ورذيلة فعل القبيح ، قال الله تعالى في سورة فاطر ٢٩ : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ).

وفي سابع عشر التكوين (١) ظهر الله لابرام وقال له : أنا القدير سر أمامي وكن كاملا فاجعل عهدي بيني وبينك فان جعل الله للعهد بينه وبين ابراهيم متوقف على سير ابراهيم امام الله ، وكونه كاملا ، وفي المزمور الخامس والعشرين (١٤) سر الرب لخائفيه.

وفي الثالث من الأمثال (٣٢) لأن الملتوي رجس عند الرب ، أما سره فعند المستقيمين. وفي الحادي عشر (٢٠) كراهة الرب ملتووا القلب ورضاه مستقيمو الطريق. وفي الخامس عشر أيضا (٢٩) الرب بعيد عن الأشرار. وفي ثالث رسالة بطرس الاولى (٢٢) لأن عيني الرب على الأبرار واذنيه إلى طلبتهم ، ولكن وجه الرب ضد فاعلي الشر. وفي خامس متى عن قول المسيح لتلاميذه (١٣) أنتم ملح الأرض ولكن إن فسد الملح فبما ذا يملح لا يصلح بعد لشيء الا لأن يطرح خارجا ويداس من الناس. وفي رابع عشر لوقا (٣٤) ما يؤدي هذا المضمون ، وفي سادس متى (٢٤) لا يقدر أحد أن يخدم سيدين لأنه اما أن

٨٠