الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

المقدمة الثانية

فيما يستخرج من العهدين من المدة التي تراخى فيها وحي كتبها ، أما التوراة فإن ابتداء وحيها لموسى كان في جبل حوريب ، اذ كان موسى يرعى غنم كاهن مدين «خر ٣ : ٤» ثم في مدين «خر ٤ : ١٩» ثم في مصر في دفعات متراخية بحسب الزمان إلى عبور بني إسرائيل البحر «خر ٥ ـ ١٤» ثم في ماره «خر ١٥ : ٢٥» ثم في برية سين حيث انزل المن بعد الخامس عشر من الشهر الثاني لخروجهم من مصر «خر ١٦» ثم رفيديم «خر ١٧» ثم في برية سينا بعد الشهر الثالث لخروجهم من مصر «خر ١٩» وتتابع الوحي في دفعات متراخية في جبل سينا وبريته ، الى أن ارتحلوا منها في العشرين من الشهر الثاني من السنة الثانية لخروجهم من مصر «عد ١٠ : ١٢» ثم في فبروت هتاوه «عد ١١» ثم في حضروت «عد ١٢» ثم في برية فاران «عد ١٣» ، وتتابع الوحي هناك في سنين عديدة الى أن مات هارون في جبل هور «عد ٢٠ : ٢٣ ـ ٢٩» وكان موت هارون في أول الشهر الخامس من السنة الأربعين لخروجهم من مصر «٣٣ : ٣٨» ثم في عربات مواب ووضع لهم هناك شرائع وأحكام «٢٨ ـ ٣٦» ثم في عبر الاردن في أول الشهر الحادي عشر من السنة الأربعين لخروجهم من مصر «تث ١ : ١ ـ ٤» فكانت مدة نزول الوحي والشريعة على موسى بالتدريج والتعاقب من المدة التي كان فيها يرعى غنم كاهن مدين في حوريب الى أن توفي في أرض مواب ما يزيد على إحدى وأربعين سنة على انه لم

٤١

يعرف من التوراة الوقت الذي أوحى فيه سفر التكوين الى موسى ومقتضى صراحة التوراة ، ان كتابة موسى لها في كتاب وجمعها كان في آخر عمره الشريف عند إتمام الشريعة كتب هذه التوراة وسلمها للكهنة وشيوخ بني اسرائيل وأمرهم بوضعها بجانب تابوت عهد الرب «انظر تث ٣١ : ٩ و ٢٤».

وأما وحي اشعيا فقد كان متراخيا في أيام عزيا ويوثام واحاز وحزقيا ملوك يهوذا «اش ١ : ١» وكانت مدة ملك هؤلاء الأربعة مائة وثلاثة عشر سنة «٢ اي ٢٦ و ٢٧ و ٢٨ و ٢٩».

وكذا وحي كتاب هوشع «هوا : ١» ، وكان وحي كتاب ارميا متدرجا متراخيا من السنة الثالثة عشر لملك بوشيا ، وأيام ملك يهواحاز ويهوياقيم ويهوياكين الى السنة الحادية عشر لملك صدقيا «١ ر : ١ ـ ٤» وكانت هذه المدة إحدى وأربعين سنة «٢ اي ٣٤ و ٦٣» ، وكان وحي كتاب حزقيال من السنة الخامسة لسبي يهوياكين «حز ١ : ٢» متدرجا الى السنة السابعة والعشرين «حز ٢٩ : ١٧».

وكان وحي كتاب دانيال متدرجا من أيام بخت نصر «دا ٢» الى السنة الثالثة لكورش «دا ١٠ : ١» وهذه المدة تزيد بحسب التاريخ على الستين سنة وكان وحي كتاب ميخا المورشتي متدرجا في أيام يوثام واحاز وحزقيا ملوك يهوذا «مي ١ : ١» وكان ملك هؤلاء إحدى وستين سنة «٢ اي ٢٧ و ٢٨ و ٢٩» وكان وحي كتاب حجى على قلته متدرجا من أول الشهر السادس من السنة الثانية لملك داريوس «حج ١ : ١» الى الرابع والعشرين من الشهر التاسع «حج ٥ : ١٠».

وكان وحي كتاب زكريا متدرجا من الشهر الثامن من السنة الثانية لداريوس الملك «زك ١ : ١» الى الشهر التاسع من السنة الرابعة «زك ٧ : ١» ثم لم يؤرخ وحيه بعد هذا في كتابه ولم يذكر في العهد القديم ان باقي كتبه كان وحيها دفعة واحدة.

وكان عمر المسيح حينما اعتمد من يوحنا ونزل عليه الروح القدس نحو

٤٢

ثلاثين سنة «لو ٣ : ٢١ ـ ٢٤» ، ، ومن المعلوم ان عمره الشريف حينما رفع الى السماء كان نحو ثلاثة وثلاثين سنة فتكون تعاليمه النبوية الإلهامية الى ليلة الجمعة التي هجم فيها عليه اليهود متدرجة حسبما ذكر في الأناجيل في مدة ثلاث سنين.

واذا عرفت هذه المقدمة فما ذا تقول في قول المكلف في شأن القرآن الكريم «يه ا ج ص ٥٥ س ٢٠» وهو مخالف لكتب الوحي لأنها نزلت جملة ، والقرآن مقطع.

ثم انظر إلى تهور سايل «ق» ص ١٢٦ س ٦ ـ ١٢» فهل تراهما لم يطلعا على ما في العهدين ، أم حاولا الإغفال ليروجا اغراضهما ، أفأمنا من رقيب الحق ، ومن الظرائف قول المتعرب «قذ ص ١٢٩ س ١٨» اليهود يقولون ان الناموس اعطى لموسى نجوما ، وليت شعري ان التوراة في اعصار هؤلاء لم تنحصر بنسخة حلقيا أو عزرا ليجهلوا ما فيها.

٤٣

المقدمة الثالثة

فيما اتفق من صراحة بعض كتب العهدين بما يدل على مخالفة وضعها وترتيبها لترتيب إلهامها ووحيها ، فان المزمور الثامن عشر كان إلهامه عند ما أنقذ الله داود من أيدي كل أعدائه ومن يد شاول ، وان المزمور الرابع والثلاثين كان إلهامه عند ما غير داود عقله قدام أبي مالك وهو قبل ذلك ، وان إلهام المزمور الحادي والخمسين كان بعد ما تزوج داود بامرأة اوريا ، وإلهام الثاني والخمسين عند ما اخبر دواغ الادومي شاول بدخول داود الى بيت أخي مالك وهو قبل ما تقدم ذكره ، وكذا إلهام المزمور السادس والخمسين ، وكان إلهام المزمور السابع والخمسين بعد إلهام المزمور التاسع والخمسين ، وان إلهام التاسع والخمسين كان عند ما أرسل شاول من يراقب داود في البيت وهو قبل كل ما ذكر ، وكان إلهام المزمور المائة والثاني والأربعين عند ما كان داود في المغارة وهو قبل أغلب ما ذكرنا ومقارن لإلهام المزمور السابع والخمسين.

ويعرف ما ذكرنا من التقدم والتأخر ومخالفة الترتيب من ملاحظة عناوين المزامير ومراجعة تاريخ أحوال داود من تاسع عشر صموئيل الاول الى ثاني عشر صموئيل الثاني.

وان إلهام الإصحاح الحادي والعشرين من ارميا كان في أيام صدقيا آخر ملوك يهوذا ، وإلهام أوائل الثاني والعشرين في أيام يهوياقيم ، وإلهام أواخره في

٤٤

أيام ابنه كنياهو وهما قبل صدقيا ، وإلهام الخامس والعشرين كان في السنة الرابعة ليهوياقيم وهي قبل ملك كنياهو وصدقيا ، وإلهام السادس والعشرين كان في ابتداء ملك يهوياقيم ، وهو قبل كل ما ذكرنا ، ومثله إلهام السابع والعشرين بحسب أوائله الا أن فيه غلط واضح كما يشهد به الثامن والعشرون ، وان إلهام الثاني والثلاثين كان في السنة العاشرة لصدقيا ، وإلهام السادس والثلاثين كان في السنة الرابعة ليهوياقيم ، وان إلهام الثالث والأربعين كان في تحفنحيس في مصر بعد سبي بابل وانقراض مملكة يهوذا بمدة ، وكذا إلهام الرابع والأربعين ، مع ان إلهام الخامس والأربعين يتعلق بالسنة الرابعة ليهوياقيم ، فراجع نص الإصحاحات المذكورة من ارميا مع تاريخ ملك يهوياقيم ويكنيا وصدقيا ملوك يهوذا ، في الثالث والأربعين الى الخامس والأربعين من الملوك الاول ، والسادس والثلاثين من الأيام الثاني ، وان إلهام السادس والعشرين من كتاب حزقيال كان في السنة الحادية عشر لسبيهم ، مع ان إلهام أوائل التاسع والعشرين كان في السنة العاشرة ، وإلهام أواخره كان في السنة السابعة والعشرين ، مع ان إلهام الحادي والثلاثين كان في السنة الحادية عشر وكان إلهام الاصحاح العاشر من كتاب دانيال في السنة الثالثة لكورش ملك فارس ، وإلهام الحادي عشر في السنة الاولى لداريوس المادي وهو قبل كورش ، وبناء على ما في النسخة السبعينية من ذكر كورش بدل داريوس يكون إلهام العاشر في السنة الثالثة لكورش ، وإلهام الحادي عشر في السنة الاولى له ، ولعل التتبع في العهدين يدلك على أكثر مما ذكرنا من مخالفة ترتيب الكتاب لترتيب الهامة بل لعل التنقير في خصوص توراة موسى يشهد بكثير من ذلك ، بل لعل ما لا شاهد عليه أكثر وأكثر ، فلنكتف في هذه المقدمة على هذا المقدار.

٤٥

المقدمة الرابعة

فيما ذكر في العهدين من الحالات الغريبة التي تعرض للأنبياء عند الوحي إليهم ، وتجلى الله وظهور جلاله لهم.

ففي التوراة ان ابراهيم لما اوحى إليه في شأن نسله وغربتهم وقع عليه عند مغيب الشمس سبات ورعبة مظلمة «تك ١٥ : ١٢ ـ ١٥».

وان يعقوب لما رأى في الحلم السلم والملائكة ، وخاطبه الرب واستيقظ خاف وقال : ما أرهب هذا المكان «تك ٢٨ : ١٢ ـ ١٨».

وأما موسى فانه وان لم تذكر التوراة في شأنه شيئا عند ظهور الله له في حوريب في عليقة النار في أول تكليمه الا كونه غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر الى الله «خر ٣ : ١ ـ ٦» ، وكذا في جبل سيناء «خر ١٩».

لكن استفانوس الذي وصف بأنه مملوء من الايمان والروح القدس والقوة بحيث كان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب «١ ع ٦ : ٥ ـ ٨».

قد ذكر ان موسى ارتعد ولم يجسر أن يتطلع عند ما ظهر له ملاك الرب في نار العليقة «١ ع ٧ : ٣٠ ـ ٣٣».

وبولس الرسول العظيم عند النصارى ذكر في شأن ظهور جلال الله على جبل سيناء حين ارتجف الجبل ، ان المنظر كان مخيفا حتى قال موسى : أنا

٤٦

مرتعب ومرتعد «عب ١٢ : ٢١».

ويلزم من ذلك ان التوراة أهملت ذكر حال موسى في هذا الشأن ، نعم ذكرت في مقام آخر ان موسى قال لله : أرني مجدك ، فقال : اجيز كل جودتي قدامك ولا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني فيعيش وهو ذا عندي مكان فتقف على الصخرة ويكون متى اجتاز مجدي اني أضعك في نقرة من الصخرة واسترك بيدي حتى اجتاز ، ثم ارفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يرى «خر ٣٣ : ١٨ ـ ٢٣».

والمعقول من هذا الكلام هو أن الطبيعة البشرية حتى من مثل موسى لا نقوى على مشاهدة جلال الله ومجده من الوجهة الحقيقية المكنى عنها بأوجه وإنما نقوى بمساعدة العناية الربانية على بعض المشاهدة من الوجهة المكنى عنها بالوراء.

وذكرت التوراة أيضا ان السحابة غطت خيمة الاجتماع وملأ بهاء الرب المسكن فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع لأن السحابة حلت وبهاء الرب ملأ المسكن «خر ٤٠ : ٣٤ و ٣٥».

ومقتضاه ان موسى مع مقامه النبوي وكونه كليم الله قد ضعف واحجم عن الإقدام على مشاهدة بهاء الله.

وقد اتفق للعهدين التعرض لبعض أحوال الأنبياء عند الوحي والمكاشفة من تصرف الروح بهم على غير اختيارهم وسقوطهم لوجوههم ومقاساتهم الجهد والشدة كوقوع الغيبة والاغماء عليهم واضطرابهم وغير ذلك عند مشاهدة آثار الجلال والكبرياء.

فعن قول حزقيال لما رأى منظر شبه مجد الرب وخر على وجهه «حز ١ ٢٨» فدخل في روح وأقامني على قدمي «حز ٢ : ٢» ، وعن قوله أيضا فحملني الروح وأخذني وذهبت برا في حرارة روحي ويد الرب كانت شديدة على «حز ٣ : ١٤».

وأيضا وإذا بمجد الرب واقف هناك كالمجد الذي رأيته على نهر خابور

٤٧

فخررت على وجهي فدخل في روحي وأقامني على قدمي «حز ٣ : ٢٣ و ٢٤» وأيضا ، ومد شبه يد وأخذني بناصية رأسي ورفعني روح بين الأرض والسماء «حز ٨ : ٣».

وأيضا ثم دفعني روح وأتى بي إلى باب البيت «حز ١١ : ١».

وأيضا كانت على يد الرب فأخرجني بروح الرب وأنزلني في وسط البقعة «حز ٣٧ : ١».

وعن قول دانيال في بعض رؤياه ومكاشفاته بالوحي ، وسمعت صوت إنسان بين أولاي فنادى وقال : يا جبرائيل فهم هذا الرجل فجاء إلي حيث وقفت ولما جاء خفت وخررت على وجهي وإذ كان يتكلم معي كنت مسبخا على وجهي الى الأرض فلمسني وأوقفني على مقامي «دا ٨ : ١٦ ـ ١٩».

وأيضا ورأيت هذه الرؤيا العظيمة ولم تبق في قوة ونضارتي تحولت إلى فساد ولم أضبط قوة ، ولما سمعت صوت كلامه كنت مسبخا على وجهي ووجهي الى الأرض وإذا بيد لمستني وأقامتني مرتجفا على ركبتي وعلى كفي يدي وهو ذا كشبه بني آدم لمس شفتي ففتحت فمي وتكلمت وقلت للواقف أمامي : يا سيدي بالرؤيا ، انقلبت على أوجاعي فكيف يستطيع عبد سيدي أن يتكلم مع سيدي ، وأنا فحالا لم تبق في قوة ، ولم تبق في نسمة «دا ١٠ : ٧ ـ ١٨».

ومن الواضح ان سقوط حزقيال على وجهه ومرارته وحرارة روحه وشدة يد الرب عليه ، وتصرف الروح به لا باختياره ، وكذا حالات دانيال المذكورة انما هي من انفعال الطبيعة البشرية واندهاشها وسقوط قواها لسطوة التجلي وهيبة الجلال وعظمة الكبرياء.

وفي العهدين أيضا ، ان ايليا لما سمع صوت الرب الخفيف المنخفض لف وجهه بردائه «امل ١٩ : ١٢ و ١٣».

وان زكريا لما رأى ملاك الرب عن يمين مذبح البخور اضطرب ووقع عليه الخوف «لو ١ : ١١ و ١٢» ، ولما خرج من الهيكل وهو لا يستطيع التكلم فهم اليهود انه قد رأى رؤيا «لو ١ : ٣٢».

٤٨

ويفهم من ذلك ان انفعال الطبيعة البشرية واندهاشها عند التجلي كان أمرا معلوما مقررا عند اليهود.

وفي العهد الجديدان المسيح بعد اعتماده من يوحنا ونزول الروح القدس عليه اصعده الروح وأخرجه الى البرية وصار يقوده فيها مع الوحوش أربعين يوما «انظر إلى مت ٤ : ١ ومر ١ : ١٢ و ١٣ ولو ٤ : ١» وراجع التراجم الفارسية وغيرها ، وتغيرت هيئة وجهه عند ما تجلى الله له بإرسال موسى وايليا «لو ٩ : ٢٩» واضطرب بالروح إذ اخبر ان واحدا من تلاميذه سيسلمه «لو ١٣ : ١٢» ولعل من هذا النحو كونه ليلة هجوم اليهود عليه في جهاد كما ترجم بالفارسية والتركية بالاضطراب حتى صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض «لو ٢٤ : ٤٤» مع ان الوقت كان باردا يحتاج فيه الى الاستدفاء والاصطلاء بالنار «انظر الى مر ١٤ : ٦٧ ويو ١٨ : ١٨» ، وان بطرس قد وقعت عليه غيبة وفسرت «به بيهوشى» وذلك حينما أوحى إليه حل جميع الحيوانات عند نزول الزنبيل «ا ع ١٠ : ١٠».

وكذا بولس حينما اوحى إليه بالخروج من اورشليم «ا ع ٢٢ : ١٧» بل وكذا عند ما عرج به الى السماء «٢ كو ١٢ : ١ ـ ٤».

وان يوحنا ابن زبدى سقط في رؤياه كميت «روء ١ : ١٧» وكم وكم تصرف به الروح وذهب به لا باختياره «انظر الى روء ١ : ١٠ و ٤ : ٢ و ١٧ : ٣ و ٢١ : ١٠».

هذا كله مع ان كتب العهدين لم تستقص ذكر هذه الحالات للأنبياء عند الوحي بدليل ان التوراة أهملت في شأن موسى ما ذكره استفانوس وبولس وان الأناجيل قد أهمل كل واحد منها كثيرا مما ذكره الآخر فضلا عن اختلافها الكاشف عن عدم اطلاع كتبتها على حقيقة الحال.

وان العهد القديم لم يذكر حالات اشعيا وارميا وهوشع وغيرهم من الأنبياء الى ملاخي ، وما يعرض لهم عند الوحي والتجلي ولا تظن انهم في ذلك أعلا شأنا وأحسن حالا من ابراهيم ويعقوب وموسى وحزقيال ودانيال وزكريا

٤٩

والمسيح وبطرس وبولس ويوحنا كلا.

نعم ذكر في العهد القديم لبعض أنبيائه عند الوحي والتنبي حالات يستغربها العقل ولا يدنو مضمونها إلى الفهم.

منها ان اليشع النبي لما أراد يهوشافاط أن يسأل به الرب قال : ائتوني بعواد ، ولما ضرب العواد بالعود كانت عليه يد الرب فتنبأ عن قول الرب «٢ مل ٣ : ١١ ـ ١٩».

ومنها ان صموئيل قال لشاول : انك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من المرتفعة وامامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبئون فيحل عليك روح الرب فتنبأ معهم ، ولما جاءوا الى هناك الى جبعة إذا بزمرة من الأنبياء لقيته فحل عليه روح الله فتنبأ في وسطهم «١ صم ١٠ : ٥ ـ ١١».

وليت شعري ما مداخلة العود والعواد والدف والرباب والناي في النبوة.

وأيضا لما ارسل شاول رسلا لأخذ داود في الرامة ورأوا جماعة من الأنبياء يتنبئون ، وصموئيل رئيس عليهم ، فكان عليهم روح الله فتنبئوا هم أيضا ، وكذا الذين أرسلهم ثانيا وثالثا ذهب هو فكان عليه روح الله فخلع هو أيضا ثيابه ، وتنبأ أيضا امام صموئيل وانطرح عريانا ذلك النهار كله وكل الليل «١ صم ١٩ : ٢٠ ـ ٢٤».

وليت شعري ما معنى هذا التنبي وحلول روح الله ، وما مداخلة خلع الثياب والتعري في النبوة ، وما معنى ذلك ، وهل يعدو هذا النحو ان يكون ضربا من الخلاعة والتجانن فاحفظ هذه المقدمة على ذكرك فإن بعض المباحثين للإسلام من النصارى كأنهم لم يطلعوا على ما فيها وإلا لما تفوهوا بما تفوهوا من الشطط إن كانت لهم نفوس حرة.

«تذييل» في بعض ما ذكر في العهدين من أحوال بعض الأنبياء في التبليغ عن أمر الله.

فمن ذلك ما في اخريات العشرين من اشعيا من أن الله أمر نبيه اشعيا أن يمشي عريانا وحافيا بين الناس ثلاث سنين ليبلغ الناس ويقول لهم : هكذا

٥٠

يسوق ملك آشور سبي مصر وجلاء كوش الفتيان والشيوخ عراة وحفاة ومكشوفي الاستاه خزيا لمصر.

وما في السابع والعشرين من أرميا من أن الله أمر نبيه أرميا أن يصنع له ربطا وانيارا ويجعلها على عنقه كما يجعل نير الفدان على أعناق البقر ليبلغ الناس ويقول : ادخلوا أعناقكم تحت نير ملك بابل.

وما في الرابع من حزقيال من ان الله أمر نبيه حزقيال أن يأكل كعكا من خبز الشعير الذي يخبزه امام عيون بني اسرائيل على الجزء الذي يخرج من الانسان ليبلغ ويقول : هكذا يأكل بنو اسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين اطردهم إليهم.

وما في أوائل الخامس من حزقيال أيضا من أن الله أمر نبيه حزقيال أيضا من أن يحلق رأسه ولحيته ويقسم الشعر أثلاثا يحرق ثلثا ويضرب بالسيف حوالي ثلث ويذرى الثلث الثالث إلى الريح ليبلغ ويقول ان ثلث أهل اورشليم يموتون بالوباء والجوع ، وثلث يسقط بالسيف ، وثلث يذريه في كل ريح ويستل سيفا وراءهم.

وما في الخامسة عشر إلى الثامنة عشر من الرابع والعشرين من حزقيال أيضا من ان الله كلم نبيه حزقيال بأنه يأخذ منه شهوة عينيه وهي زوجته ، وأمره أن لا ينوح ولا يبكي ولا يعمل مناحة ويلف عصابته ويجعل نعليه في رجليه ولا يغطي شاربه ولا يأكل من خبز الناس ليبلغ بني إسرائيل ويخبرهم انه هكذا يقع بهم.

وما في الثالثة من أول هوشع من ان الله أمر نبيه هوشع أن يأخذ لنفسه امرأة زنا وأولاد زنا ونتيجة ذلك تعليله بأن الأرض قد زنت تاركة للرب وموعظة بني إسرائيل بأسماء الذين ولدتهم له تلك المرأة وذكر زناها فراجع أول هوشع وثانيه فانه عجيب.

وما في ثالث هوشع أيضا من قول هوشع وقال لي الرب : اذهب أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة

٥١

اخرى ، ومحبون لاقراص الزبيب فاشتريتها لنفسي بخمسة عشر شاقل فضة وبحومر ولثك شعير وقلت لها : تقعدين أياما كثيرة لا تزني ولا تكوني لرجل وأنا كذلك ، لأن بني إسرائيل سيقعدون أياما كثيرة بلا ملك وبلا رئيس وبلا ذبيحة ، ومقتضى العهد القديم ان هؤلاء الأنبياء عملوا بما أمرهم به الله للتبليغ.

٥٢

المقدمة الخامسة

في نبذ من سيرة بني إسرائيل والملة النصرانية في ديانتهم نقلا من كتب العهدين مع اختصار ما ، ونقل بالمعنى في بعض الموارد.

أما بنو إسرائيل فقد ظهرت لهم من موسى الداعي لهم إلى التوحيد معجزة العصا واليد البيضاء والعجائب في مصر وانشقاق البحر لهم وعبورهم على اليابسة فيه ، والمن والسلوى واخراج الماء من الصخرة في حوريب وآثار عظمة الله وقدرته على جبل سيناء «خر ٤ ـ ١٩» وبلغهم عن الله قوله : لا تصنعوا معي آلهة فضة ولا تصنعوا لكم آلهة ذهب لا يكن لك آلهة اخرى امامي ، ولا تصنع لك تمثالا منحوتا في السماء أو في الأرض أو في الماء ولا تسجد لهن ولا تعبدهن.

فقالوا كلما تكلم به الرب نفعل فكتب موسى هذه الأقوال وغيرها وقرأها عليهم تجديدا للعهد ، فقالوا أيضا : كلما تكلم به الرب نفعل ونسمع «خر ٢٠ ـ ٢٤ : ٨».

وبلغهم أيضا لا تصنعوا لكم أوثانا ولا تقيموا لكم تمثالا منحوتا أو نصبا ولا تجعلوا في أرضكم حجرا مصورا لتسجدوا له «لا ٢٦ : ١» وبعد هذا كله لم تمض سنة منه حتى ارتدوا عن عبادة الله وقالوا لهارون لما أبطأ عليهم موسى في جبل سينا اصنع لنا آلهة تسير إمامنا ، فلما صنعوا العجل المسبوك من ذهب

٥٣

حليهم قالوا : هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من مصر فسجدوا له وذبحوا «خر ٣٢ : ١ ـ ٩».

ولما أقاموا مع موسى في شطيم صار الشعب يزنون مع بنات مواب فدعون الشعب إلى ذبائح آلهتهن فأكل الشعب وسجدوا لآلهتهن وتعلق إسرائيل ببعل فغور «عد ٢٥ : ١ ـ ٤».

وكفى في تمردهم على الشريعة انهم في مدة أربعين سنة لم يختنوا من ولد منهم وبعد ما عبروا الاردن في زمان يوشع صنع يوشع عن أمر الله سكاكين صوان أو حادة ، وفي العبرانية «صيريم» وختنهم بها «يش ٥» ، ولم تمض مدة كثيرة من موت يوشع حتى فعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وتركوه وساروا وراء آلهة اخرى وسجدوا لها وعبدوا البعل وعشتاروت «قض ٢ : ١١ ـ ١٤ و ٣ : ٧».

ولم يزل بنو إسرائيل في زمن القضاة يعاودون إلى عمل الشر في عيني الرب «قض ٣ : ١١ و ٤ : ١ و ٦ : ١ و ١٣ : ١».

وبعد موت جدعون رجعوا وزنوا وراء البعليم وجعلوا لهم بعل بريث إلها «قض ٨ : ٣٣».

وبعد موت بائير القاضي عادوا يعملون الشر في عيني الرب ، وعبدوا البعليم والعشتاروت وآلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة مواب وآلهة عمون وآلهة الفلسطينيين وتركوا الرب ولم يعبدوه «قض ١٠ : ٦» وحاصل شأنهم انهم اختلطوا بالامم المشركين وتعلموا أعمالهم وعبدوا أصنامهم وذبحوا بنيهم وبناتهم للأوثان وأهرقوا دما زكيا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوهم لأصنام كنعان وتدنست الأرض بالدماء «مز ١٠٦ : ٣٥ ـ ٣٩».

ولما مات سليمان انقسمت مملكة بني إسرائيل إلى قسمين فتبع رحبعام ابنه سبطا يهوذا وبنيامين ، وملكوه عليهم وانعزل عنه باقي الأسباط فملكوا عليهم يربعام فعمل لرعيته عجلي ذهب وقال : هذه آلهتك يا إسرائيل ووضع واحدا في بيت ايل والآخر في دان ، وكان الشعب يصعدون إلى أحدهما حتى إلى دان

٥٤

«امل ١٢» ، واستمر بنو إسرائيل هؤلاء وملوكهم على خطيئتهم وطريقة يربعام «امل ١٥ و ١٦» أي العكوف على عجول الذهب التي في بيت ايل ودان «٢ مل ١٠» حتى إذا ملك اخاب شاعت في أيامه عبادة البعل حتى انه كان للبعل أربعمائة وخمسين نبيا ، وللسواري أربعمائة نبي «امل ١٨ : ١٩» وقطعت ايزابل الصيدونية أنبياء الرب إلا من أخفاه عوبديا «امل ١٨ : ٤» حتى لم يبق للرب نبي غير ايليا «امل ١٨ : ٢٢ و ١٩ : ١٠ و ١٤» ، وحتى لم يبق من مئات الالوف العديدة من بني اسرائيل من لم يعبد البعل إلا سبعة آلاف أو أقل ، ولعلهم كانوا من الأطفال الذين لا يميزون هذه الامور «انظر الى امل ١٩ : ١٨» ، واستمر بنو اسرائيل على خطيئتهم وطريقة يربعام الى ان ملك عليهم هوشع بن ايله «امل ٢٢ : ـ ٢ مل ١٧».

وفي أيامه سباهم ملك آشور واسكن في ديارهم غيرهم ، وقد كانوا أخطئوا الى الرب إلههم ، واتقوا آلهة اخرى وسلكوا حسب فرائض المشركين وعبدوا الأصنام ورفضوا فرائض الله وعهده وساروا وراء الباطل وصاروا باطلا وتركوا جميع وصايا الله وعملوا لأنفسهم عجلين وسجدوا لجميع جند السماء وعبدوا البعل «٢ مل ١٧».

وأما سبطا يهوذا وبنيامين فلما تثبتت مملكة رحبعام بن سليمان ترك شريعة الرب هو وكل إسرائيل معه «٢ اي ١٢ : ١».

وعمل يهوذا الشر أكثر من جميع ما عمل آباؤهم ، وبنوا لأنفسهم مرتفعات وانصابا وسوارى من آثار الشرك على كل تل مرتفع وتحت كل شجرة خضراء ، وكان أيضا مأبونون في الأرض ، ففعل يهوذا حسب أرجاس المشركين «امل ١٤ : ٢٢ ـ ٢٤».

وفي السنة الخامسة لملك رحبعام نهب شوشق ملك مصر خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك وأخذ كل شيء «امل ١٤ : ٢٥ و ٢٦».

ثم ملك ابيابن رحبعام وسار في جميع خطايا أبيه التي فعلها قبله «امل ١٥ : ٣».

٥٥

ولما ملك آسا ابنه عمل ما هو مستقيم ، وأزال آثار الشرك ، وأمر يهوذا أن يعملوا حسب الشريعة والوصية «٢ اي ١٤ : ٢ ـ ٦» وأما المرتفعات فلم تنزع من بني إسرائيل «٢ اي ١٥ : ١٧».

ولإسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق وبلا كاهن معلم وبلا شريعة ، وفي النسخة العبرانية بلا توراة «٢ اي ١٥ : ٣».

ثم ملك بهوشافاط ابنه وسار في طريق آسا أبيه وعمل المستقيم والمرتفعات أيضا لم تنزع بل كان الشعب لم يعدوا بعد قلوبهم لإله آبائهم «٢ اي ٢٠ : ٢٢ و ٢٣».

ثم ملك بعده يهورام ابنه ، وبعده ابنه اخزيا ، وعملا الشر على نهج بيت اخاب «٢ اي ٢١ : ٦ و ٢٢ : ٣ و ٤».

وبعد اخزيا ملكت أمه الخبيثة المشركة عثليا بنت عمري ملك إسرائيل سبع سنين «٢ اي ٢٢».

وهدم بنوها بيت الله وصيروا كل أقداس بيت الله للبعليم إلى أن نهض يواش ويهوياداع الكاهن لتجديد بيت الرب وأقاموا بيت الله على رسمه على مقداره وثبتوه «٢ أي ٢٤ : ٧ و ١٢ و ١٣».

وبعد ما قتلوا عثليا ملك يواش بن اخزيا ، وعمل المستقيم في أيام يهوياداع ، ولما مات يهوياداع جاء رؤساء يهوذا ، وسجدوا للملك يواش فسمع لهم وتركوا بيت الرب إلههم ، وعبدوا السوارى والأصنام «٢ اي ٢٤ : ٢ و ١٧ و ١٨».

ورجموا زكريا ابن يهوياداع بأمر الملك وقتلوه في دار بيت الرب لأنه ليس روح الله فوعظهم ووبخهم وأراد إرجاعهم إلى الله فتركوا الرب إله آبائهم (٢ اي ٢٤ : ٢٠ ـ ٢٤».

ثم ملك امصيا ابن يواش وأتى بآلهة ساعير وأقامهم له آلهة وسجد امامهم وأرقد لهم «٢ اي ٢٥ : ١٤».

٥٦

وفي أيامه جاء يواش المشرك ملك اسرائيل ونهب كل الذهب والفضة وجميع الآنية الموجودة في بيت الرب «٢ مل ١٤ : ١٤».

ثم ملك بعد امصيا ابنه عزيا ، وبعده ابنه يوثام ، وكانا مستقيمين ، ولكن كان الشعب يفسدون بعد «٢ اي ٢٧ : ٢».

ثم ملك احاز وسار في طريق ملوك اسرائيل وعمل أيضا تماثيل مسبوكة للبعليم وهو اوقد في وادي هنوم ، وأحرق بنيه في النار حسب رجاسات المشركين ، وترك يهوذا الرب إلههم ، وأيضا ذبح آحاز لآلهة دمشق وقطع آنية بيت الله وأغلق أبواب بيت الرب «٢ اي ٢٨».

وأغلقوا أيضا أبواب الرواق وأطفئوا السرج ولم يوقدوا بخورا ولم يصعدوا محرقة في القدس «٢ اي ٢٩ :.».

واذ ملك حزقيا فتح أبواب بيت الرب ودخل الكهنة الى داخله ، واخرجوا كل النجاسة التي وجدوها في الهيكل ، واستمروا في تطهير بيت الرب ثمانية أيام «٢ اي ٢٩ : ١ ـ ١٩».

ولما ملك بعده ابنه منسى عمل الشر حسب رجاسات المشركين ، وبنى المرتفعات التي هدمها أبوه وأقام مذابح للبعليم وعمل سوارى وسجد لكل جند السماء وبنى لها مذابح في داري بيت الرب ، ولما ذاق وبال أمره من ملك آشور رجع إلى الله فلما أنقذه أزال الآلهة الغريبة والأشباه من بيت الرب ، وأمر يهوذا أن يعبدوا الرب إلههم ، ثم ملك بعده ابنه امون فعمل كل ما عمله أبوه أول الأمر ، ولم يرجع إلى الله كما رجع أبوه في الآخرة «٢ اي ٣٣».

وملك بعده ابنه يوشيا وكان مؤمنا ، وفي السنة الثانية عشر لملكه ابتدأ يطهر يهوذا واورشليم من السوارى والمرتفعات والتماثيل والمسبوكات ، وطهر يهوذا واورشليم وقطع تماثيل الشمس في كل أرض اسرائيل ، وهدم بيوت المأبونين التي عند بيت الرب ، وبعد أن طهر الأرض وبيت الرب توجه لترميمه وتسقيف البيوت التي أخربها يهوذا.

وعند إخراجهم الفضة المدخلة إلى بيت الرب قال حلقيا الكاهن لشافان

٥٧

الكاتب قد وجدت سفر الشريعة «أي التوراة» في بيت الرب ، فقال شافان للملك قد أعطاني حلقيا الكاهن سفرا وقرأ فيه شافان امام الملك ، فلما سمع الملك كلام الشريعة مزق ثيابه وأمر جماعة من خواصه قائلا : اذهبوا اسألوا الرب من أجلي وأجل من بقي من يهوذا واسرائيل على كلام السفر الذي وجد لأنه عظيم غضب الرب الذي انسكب علينا من أجل ان آبائنا لم يحفظوا الرب ليعملوا حسب كل ما هو مكتوب في هذا السفر ، وجمع الملك كل رجال يهوذا وكل الشعب من الصغير إلى الكبير والكهنة والأنبياء إلى بيت الرب وقرأ في آذانهم كل كلام سفر العهد التي وجد في بيت الرب ووقف على منبره وقطع عهدا مع الله على عبادته وحفظ وصاياه وفرائضه حسب كلام العهد المكتوب في هذا السفر «٢ مل ٢٢ و ٢٣ و ٢ اي ٢٤».

وان صريح هذا الكلام وفحواه وشواهده ودلائله لتوضح ان ارتدادات يهوذا وتقلباتهم في الشرك حتى جعلوا الأصنام في بيت المقدس ونجسوه وأخربوه وأغلقوه وبقوا أياما كثيرة بلا إله حق ولا كاهن معلم ولا شريعة توراة لم تبق سفرا للشريعة والتوراة بينهم إلى حد لم يقدر الملك عليه ولم يره ولم يسمع منه شيئا مدة اثنتي عشرة سنة من ملكه وهو مؤمن يطلب الله والشريعة فانه لو كان للتوراة حينئذ وجود لكانت عنده منها نسخة يقرأ بها كل أيام حياته من أول جلوسه على كرسي مملكته حسب ما هو الواجب في الشريعة على ملوك اسرائيل «تث ١٧ : ٨ ـ ٢٠».

ولكنه لما رأى ما ادعى حلقيا الكاهن انه وجده في بيت الرب وسمع ما فيه رأى شيء جديدا وسمع ما لم يكن معهودا له وحبسه هو والمؤمنون من يهوذا من الحقائق التي غفلت عنها الأيام وخبتها عن دواهيها زوايا الخمول حتى مزق الملك عند قراءته ثيابه واضطرب من أجل تضييعهم وجهلهم ما فيه ، وبذل العناية التامة في قراءته على جميع يهوذا واسرائيل ليطلعوا على ما أضاعه منهم الضلال ، ويعودوا الى ما ظفروا به من الشريعة التي لم يكونوا يعرفونها ولا يجدون كتابها.

فكانت نسبة هذا الذي وجدوه إلى الشريعة الحقيقية موكولة إلى أمانة

٥٨

حلقيا ولو كان لسفر الشريعة عندهم قبل هذا اسم أو رسم لما وقع أقل قليل من هذا الاحتفال العظيم والتنبه إلى الشريعة بما ادعى حلقيا انه وجده ، وهذا مما لا ينبغي أن يرتاب فيه من له حظ من الرشد والفهم.

قال المتكلف «يه ٤ ج ص ١٣٤» ان المراد بسفر الشريعة هاهنا هي النسخة التي كانت موجودة في الهيكل بجانب تابوت عهد الرب حسب الأمر الوارد «تث ٣١ : ٢٥ و ٢٦» وهذا لا ينافي وجود نسخ اخرى في أيدي الكهنة واللاويين والشعب.

أقول : إن أراد من هذه النسخة انها النسخة التي كتبها موسى وأمر بوضعها بجانب تابوت العهد فيدعى في تكلفه ان احتفال يوشيا بها من أجل كونها تذكارا لموسى ومن آثاره فليقل ، وان كان ما ذكرنا من أحوال يوشيا وأقواله أجنبيا عن هذا الاحتمال أين كانت هذه النسخة وأين صارت ، إذ نهب الفلسطينيون التابوت من بني اسرائيل ووضعوه بقرب صنمهم داجون في اشدود ثم نقلوه الى حث ثم الى عفرون ثم الى بيت شمس ثم نقل الى قرية يعاريم «١ صم ٨٤ ٧» ثم نقله داود الى بيت عوبيد الجتي ، ثم الى مدينته «٢ صم ٦» ثم نقله سليمان من صهيون مدينة داود الى محراب البيت قدس الأقداس تحت جناحي الكروبين «امل ٨ : ١ ـ ٧» ، فانه لم يجر لهذه النسخة في هذه المواضع والتنقلات ذكر ولا اسم ولا رسم مع ما لها من الشأن المهم.

فان قال : انها كانت إذ ذاك في جوف التابوت قلنا : لم يكن في التابوت حينما وضعه سليمان في قدس الأقداس إلا لوحا الشهادة «امل : ٩٨ و ٢ اي ٥ : ١٠».

وان قال : انها حين نهب التابوت كانت عند الكهنة ، قلنا : ينبغي أن يكون محلها بحسب الوظيفة في مكان التابوت تحت جناحي الكروبين في المسكن من خيمة الاجتماع انظر الى «خر ٤٠ : ١ و ٢ ـ وتث ٣١ : ٢٦».

وعلى هذا فلما ذا لم يجر لها ذكر عند تحويل سليمان لخيمة الاجتماع وما فيها ، مع أن هذه النسخة أهم وأهم وأولى بالذكر من سائر أدوات خيمة

٥٩

الاجتماع ، وفي ذكرها البشارة الكبرى وبيان نعمة الله العظمى بجمع شمل الشريعة المتبدد في جعل نسخة التوراة التي كتبها موسى على مقتضى وظيفتها الى جنب تابوت العهد الذي أنعم الله بإرجاعه من نهب المشركين الى بيته المقدس ففي ثاني الملوك الاول ٣ وجاء جميع شيوخ اسرائيل وحمل الكهنة التابوت وأصعدوا تابوت الرب ، وخيمة الاجتماع مع جميع آنية القدس التي في الخيمة «٢ اي ٥ : ٤ و ٥» فإن أبى المتكلف مكابراته إلا أن تكون النسخة المذكورة وضعت على وظيفتها في محراب بيت المقدس على عهد سليمان بجانب التابوت ، قلنا : ان الموضع الذي عينه سليمان لتابوت العهد الذي تكون هذه النسخة إلى جنبه هو المحراب قدس الأقداس تحت جناحي الكروبين «امل ٨ : ٦ و ٢ اي ٥ : ٧» ، وكانت مساحة هذا المحراب عشرين ذراعا في مثلها «امل ٦ : ٢٠» ، ومساحة جناحي الكروبين الملتقيين الذين يوضع التابوت تحت ملتقاهما عشرة أذرع «امل ٦ : ٢٤ ـ ٢٨» فيكون التابوت في وسط المحراب ومحل نسخة التوراة المذكورة إلى جنبه.

وعلى هذا فهل تركها شوشق ملك مصر الذي نهب الذهب والفضة من بيت الرب على عهد رحبعام ، وهل يترك المحراب مع ان عمدة الذهب فيه فرضناه تركها ، فهل يتركها بنو اسرائيل ويهوذا في الأيام الكثيرة التي بقوا فيها بلا إله حق وبلا كاهن ومعلم وبلا شريعة فرضناهم تركوها فهل يتركها المشركون أولاد عثليا المشركة إذ هدموا بيت الرب وصيروا كل أقداسه للبعليم حتى احتاج البيت الى تجديده واقامته على رسمه تمحلنا وفرضناهم تركوها ، فهل يتركها يواش المشرك إذ نهب كل الذهب والفضة وجميع الآنية الموجودة في بيت الرب على عهد امصيا ، فرضنا تركها فهل يتركها آحاز المشرك الذي قطع آنية بيت الرب وأغلق أبوابه ، وهل تركها قومه الذين وضعوا النجاسة في الهيكل وأغلقوه وأطفئوا سرجه عنادا للتوحيد والشريعة افترى هؤلاء كلهم يتركون هذه النسخة في محلها ويسمحون لها بالبقاء وهي أشد ما يكون مقاومة ومصادمة لشركهم وضلالهم وأصنامهم وتماثيلهم ، وقد بلغت في توبيخهم ولعنهم وذمهم وسب آلهتهم ، مبلغا لا يمكن في العادة أن يصبروا عليها ويتركوا لها وجودا وأثرا

٦٠